اساطير وخرافات

بَهلاء .. مدينة الأساطير

بقلم : قصي النعيمي – سلطنة عُمان

بَهلاء .. مدينة الأساطير
استترت بحجاب الغموض فشغلت العقول و الظنون ..

اهتز غصنها الميّاد فأنبت زهرة الحضارة و الجمال ، و شاع أريجها الأَخَّاذُ فأطلق العقل في فلك الخيال . تباهت بِحُسنِ طبيعتها فَخَلَبَتِ الأبصار و العيون ، و استترت بحجاب الغموض فشغلت العقول و الظنون . إنها أرضُ عُمان ، حيث اختَزَلَ الزمان ألف قصةٍ و قصة من عالم الغيب في ثناياها . حكايا لا تنتهي و أسرارٌ حُبلى بالإِثارة و السِّحر . و لا تُذْكَرُ فرائد عُمان إلاّ و تتفجر الألسُنُ بغرائِبَ مدينتها المشهورة و حكاياها المغمورة . بَهْلاء ، واحة الصحراء و الدرة الخضراء . في هذا المقال سوف نفتح أبواب هذه المدينة على مِصْراعَيْها و نَشدُّ الرِّحال إلى أعتابها لنبعث أسطورة الجزيرة من جديد و ننير دهاليز تاريخها المَجيدْ .

السور السحري :

يمتد حول مدينة بَهْلاءَ لسبعة أميال . سورٌ مُحْكَمُ البِناء ، دقيقُ الإنشاء . نَدُرَ وجود مَثِيلٍ لهُ في تلكم البَوادي و البِقاعْ ، فطال الحديث عن عجائبه في النَّوادِي و الرِّقاعْ . دَجَّجَهُ بانوه بمرامي السَّهام و الأبراج و كأنهُ جُندِيٌّ يُطَوِّقُ بذراعيه تاريخا مُثْقلاً بالأساطير و الأحداث . و في سبيل معرفة من بناه و متى ، تذبذب العلماء و احتار أهل التجربة و الخُبراء . فَتارةً ينسِبونَهُ للفُرْسِ الذين استوطنوا عُمانَ في العصور الغابرة ، و تارةً أُخرى يرجعونه لعَصر الدولة النّبهانية . و بعيدا عن هذه التفسيرات المتضاربة تظل قصة الأختين غيثاء و ميثاء هي الطاغية على ألسن الناس ، فمن هما ؟ ، و ما هي قصتهما ؟ . 

بَهلاء .. مدينة الأساطير
سور بهلاء ، يا ترى من قام ببنائه ؟ ..

منذ زمن طويل ، حيث تلاشت الحقيقة تحت سياط الشمس الملتهبة . عاشت الأختين غيثاء و ميثاء بين أحضان مدينة بهلاء ، تعلمتا مَعاً عُلوم الجِنِّ و خفايا السِّحْر و استعملتاهُ في مُساعدة أهالي المدينة في جميع أمورهم ، فَكَسبتا حُبَّ الناس و نَالَتا مَودَّتَهُم . و غير بعيدٍ من بَهْلاء كانت مملكة جديدة تأخذ بالتَّمدُّدِ و الاتساع ، كان حاكمها المُتجَبِّرُ يرى في بهلاء صَيْداً ثمينا له و لجيشه الغاشم ، فكان ما كان ، و اجبر والي بهلاء على دفع خَراجٍ له مُقابِلَ ترك مدينته بِسلامْ ، و في غِمارِ هذه الأحداث كانت غيثاء و ميثاء تنظران إلى ما آلَتْ إليه مدينتهما من شظف عيش و ما خَلَّفه دفع الخراج من الشِّدَّةِ و الضّيق . و في إحدى الليالي المُقمِرات قررت غيثاء أن تجد حَلاًّ نهائيا لِما تعانيه المدينة . و اشرقت شمس اليوم التالي ليصطف مئات الناس و قد انتابهم الذهول و العَجَب ، نعم لقد كانت غيثاء التي سَخَّرَت قُواها لتشييد أعجوبة بهلاء الباقية و شعلة قوتها الحامية ، سورها السحري. لم تعد بهلاء تدفع الخراج لذلك الحاكم و امتنعت بالسور عن كل غازٍ و طامع.

قلعة الجِن :

تَجَلَّت هُناكَ تُباهي قُرصَ الشَّمس البَهي ،  و تناطحُ الجِبالَ بِقَوامِها العَتِي . فوقف الزمان أمامها و قد أبهرَهُ طولُ العهد بها ، فسائلها عن أسرارها ، فحار في جوابها و تاه في غمرةٍ من زهوها . إنها قَلعَةُ بَهلاء . بدأ تشييد أركانها في عصور ما قبل الإسلام . لم تتوقف الدُّوَلُ و الممالك من الزيادة فيها و الإنشاء، حتى غدت على ما هي عليه من الجلال و البهاء . روي الكثير عنها خصوصا خرافات جِنِّها الذي تكَفَّل برعايتها بعد أن جعلها مسكنه الخاص ، فلا يقترب أحدٌ منها إلا و أصابه شيء من الضُّر و الخوف . بل شاع في الآونة الأخيرة خَبَرُ الأثريين الذين كانوا لا يُرمِّمون منها جزءاً أو رُكناً إلا عادوا في وقت آخرٍ ليجدوه كما كان خرابا و كأنهم لم يصنعوا شيئاً . و كم سمعنا عن الزائرين الذين أرادوا أن يكسروا حاجز الخوف بدخول هذه القلعة و تسليط الضوء على خباياها فمنعهم حُراسُها و أصروا عليهم بالرجوع عَمّا عزموا عليه .

بَهلاء .. مدينة الأساطير
قلعة بهلاء المسكونة بالجن ..

قلعةٌ يسكنها الجان و يَألَفُها السُّحّارُ و الشيطان ، هكذا رسخت صورة قلعة بهلاء في النفوس و الأذهان ، كل هذا رغم قِلَّة القصص عنها و النزر اليسير الذي وصلنا عن غرائبها . اختلف الناس في سبب تلكم الحكايات التي تحوم حول قلعة بهلاء ، البعض يربطها بسليمان بن داود عليهما السلام ، و آخرون يعتقدون أنها تمتلئ بأعمال السحرة و طلامسهم . و على الجانب الآخر ، فهي محض صُدَفٍ و خرافات شعبية بالنسبة للكثيرين . و لكنها تظل لغزا محيرا خصوصا و أنها مركز بهلاء القديمة و قلبها المتوقد .

السُّوق المَسكون :

سوق بهلاء ، حيث يجتمع أهل هذه البلدة و روادها من الآفاق ، فلا عجب أن يحظى بنصيب وافر من الأساطر و الحكايات ، و هو كغيره من الأسواق المركزية في المُدُنِ العُمانية ، ركنٌ هام من أركان المدينة الحيوية و التي لم تقل أهميته رغم مرور مئات القرون عليه .

بَهلاء .. مدينة الأساطير
السوق المحاط بالغموض ..

ربما هو أكثر الأجزاء غموضا في بهلاء ، فالناظر للقلعة و السور مثلا يجد تصريحا بأساطيرهما و القصص التي تتعلق بنشأتهما ، بينما سوق بهلاء يظل مغلقا بأبواب الصمت و الوُجوم . ربما لأنه مَقْصِدُ الناس اليومي و بعبارة أخرى والوجهة المحتمة لهم لقضاء الضروريات ، فلا يريدون أن يتعكر صفوه بالذعر و الرعب و لا أن يتدنس نقاءه بالهلع و الخوف . و بعيدا عن ذلك ، فكثير من أهل بهلاء أنفسهم يعتقدون أنه مسكون بالجن و انه ربما يكون أكثر الأماكن امتلاءاً بهم ، و لربما كان ذلك السبب في هجر الناس لأجزاءٍ منه مع تقادم العهد به .

قَصَصُ السَّحَرَة :

خضعوا لإرادة الشر الأبدي ، و تجردوا لفعل كل خارق غرائبي . أصبحوا رمز هذه المدينة الحافلة بالظواهر ، بل باتوا شرارتها التي أوقدت لهيب رواياتها المخيفة . لطالما كانوا ديدن العمانيين لدهور ، و كم هي كثيرة أخبارهم التي بلغتنا . لعل من أعجب ما بلغنا عنهم حكايات الذين يَتَنَقَّلون من مكان لآخر بلمح البصر ، فقد قرأت أن رجلا كان يسير في طريق صحراوي و صادف رجلا مسنا في طريقه ، ثم أنه تجاوزه و بلغ مَوْضِعاً غير قريبِ فوجد المسن هناك قد سبقه إليه ، و سمعنا عن ساحرٍ ببهلاء كان يخط في الأرض خطا ثم يتلوا كلمات مخصوصة فينتقل بسرعة البرق إلى أي مكان أراد .

بَهلاء .. مدينة الأساطير
أرض بهلاء مخط السحرة ..

و من الطريف ما يُروى عن قصة الساحر الذي قدم من مدينة الرُّستاق إلى بهلاء ليس لشيء إلا لينافس أقوى سحرتها بقدراته و ملكاته ، فَيُقال أنه دخل المدينة و معه دِيكٌ يحمل أكياسا مُثْقَلَةً بالتمر ، فتعجب الناس و اجتمعوا حوله ثم أنه سئلهم عن أمهر السحرة في بهلاء فدلوه على داره ، و لما طرق الباب خرجت إليه ابنته و أخبرته أن أباها مسافر ، لكن الفتاة ما أن رأت الديك و هو يحمل تلكم الأحمال حتى أدركت مراده ، فدخلت لبرهة و ما لبثت أن خرجت ببقرة من عِلِّيَّةِ الدّار ، أمرت البقرة أن تمشي على حبل دقيقٍ قد رُبط لتعليق الملابس ، فسارت طَوَعاً لرغبة البنت ، حينها رجع ذلك الساحر و هو يقول : إذا كانت ابنته تفعل هذا فكيف به هو ؟ .

ذاع صيت سحرة بهلاء في الشرق و الغرب ، و سارت الركبان بأخبار نوادرهم الفريدة ، و كانت بذلك قبلةً الراغبين و منية الطالبين لمعرفة رموز السحر و علومه الدفينة ، فيُحكى أن الكثيرين كانوا يتهافتون من ربوع الجزيرة العربية إليها طلباً لكُتُبِ الشعوذة و الخِداع . كل هذه الحكايات عن السحر في بهلاء و عُمان عموما جعلت الناس يُرجِعونَ أصوله إلى أبعد من الأفق المنظور . يسرد البعض أن السحرة في عُمان تلقوا أسرارهم من أهل شرق إفريقيا ، إذ ان العمانيين استقروا هناك منذ زمن طويل بل كانت لهم فيها دولة و مُلك ، فلا تستغرب عزيزي القارئ إذا وجدت مُدنا كزنجبار و دار السلام و قد زينها رَونق المدن العربية و جَلَّلَها الطابع الإسلامي .

ختاما ..

و أخيرا لا يسعني إلا أن أقول أن عُمان سوف تظل كنزا مغمورا ينتظر من يزيلُ الغبار عن زواياه و ينير تفاصيله فينفي العتمة عن ثناياه . و لكن عُمان ليست بهلاء فقط كما ان بهلاء ليست الخرافات فقط ، ففيها جوانب أخرى تحكي ملحمة الوطنية و الإيباء ، و أخرى تبسط لنا أخبار التقدم و الرخاء بل ثورة عِلْم و ابتكار انجبت للأجيال أمثال الخليل الفراهيدي و ابن دريد و ابن ماجد .

تاريخ النشر : 2015-06-12

قصي النعيمي

سلطنة عُمان
guest
36 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى