أدب الرعب والعام

المشرحة

 
بقلم : سامي ميشيل – مصر
للتواصل : [email protected]

 

يقال بأن هناك أمورا سيئة تقع للموتى داخل المشارح حول العالم ..

استيقظ من نومه أثر ألم شديد في منتصف رأسه جعله يفيق من غيبوبته.. مشي مترنحا بخطى ثقيلة قد سادها الإرهاق ويدان ترتجفان كلما جال بخاطره ما فعله بالأمس. دلف إلى الحمام حيث وقف أمام الصنبور ينظر إلى المرآة يتأمل فيها الخصلات البيضاء التي بدأت تغزو شعره .

قام بفتح الصنبور ثواني قليلة وشرعت المياه في السقوط .. مد يديه التي مازالت ترتجف واغترف القليل من قطرات الماء وقبل أن يصوبهما تجاه وجهه أحس بأنفاس ساخنة .. التفت سريعا لكنه لم يجد شيء .. نظر للمرآة مرة أخرى ليرى انعكاس الصورة خلفه ففتح فمه على آخره ووقف متيبسا بعيون شاخصة يفكر في ذلك الكيان المرعب المرتكز في ركن الحمام الأيسر. شيء لم يره من قبل أسود داكن عريض المنكبين أهم ما يميزه كانت عينان بيضاء لامعة.

نظر خلفه بحذر لكنه لم يجد شيء .. لقد اختفي أو كما يقول المثل الشعبي : (انشقت الأرض وبلعته) .

وقف لبعض الدقائق يجول بخاطره ذلك المشهد الذي رآه , لكنه عاد مرة أخرى للصنبور , غسل وجهه سريعا وأدلف مسترسلا

إلى غرفته ليرتدي ملابسه حيث قد تأخر على عمله..

ما سبب تلك الهواجس الغريبة التي تطارده؟ هل هي مرض نفسي أم بسبب ما يفعله كل ليلة داخل المشرحة ؟ .

في المستشفي كان يجلس على مكتبه الخاص يتجرع كوبا صغير من القهوة , وبعد أن انتهى من قهوته مد يده قسرا إلى كتاب كان يرقد أمامه بعنوان : ((نيكروفيليا)) .

ولمن لا يعرف فالنيكروفيليا : هي الانجذاب الجنسي نحو جثث الموتى ويعد من اخطر الاضطرابات النفسية التي تواجه الإنسان .

اختلس النظر حوله ليتأكد من عدم وجود شخص معه حيث فتح الكتاب بشغف وبدأ في التهامه بحثا عن معلومة يريد أن يعرفها .. بتر قراءته صوت طرقات على الباب فأنتفض من مكانه وسقط الكتاب من بين يديه كأنة جمرة مستعرة , انقبضت ملامحه وتحدث بغضب قائلا : ” ايوة مين ؟ ” ..

انفتح الباب ليدخل منه شاب في منتصف الثلاثينات يرتدي الروب الأبيض وتحدث باقتضاب : “آسف لو كنت هعطلك يا دكتور ” ..

أزاح حبات العرق التي نبتت فوق جبينه بمنديل وتنهد : ” خير في حاجة ؟ ” ..

– ” كنت بس عايز حضرتك تمضيلي علي الورق دة بتاع ” ..

التقط الورق منه مسرعا قبل أن يكمل جملته .

واخذ يقرءاه حتى ارتسم على وجهه شبح ابتسامة بغيض ..حاول أن يقهر غرائزه أمام ذلك الطبيب لكنة لم يقدر فتلك الأوراق خاصة بجثة فتاة صغيرة السن جاءت اليوم إلى المشرحة , اخرج قلمه الخاص ومضى على الأوراق ثم أعطاها له وأشار بيده بمعنى (انصرف) ..

عاد مرة أخرى إلى كرسيه ينتظر ميعاده المقدس الذي تتدلي وتسقط منه أحاسيسه المتبلدة حينما يذهب إلى المشرحة ويلتهم الجثث بطريقته الخاصة .

مر الوقت عليه ببطء , فالدقائق بالنسبة له في ذلك التوقيت كالشهور والسنين. أصبحت الآن الساعة هي الواحدة بعد منتصف الليل . خرج من مكتبه بهدوء حتى لا يصدر صوتا. مشي بخطوات هادئة مغلفة بالثقة. حتى وصل إلى مكانه المفضل الذي يهواه أكثر من أي شيء .

فتح باب المشرحة فشعر بلسعة برد أحاطت بجسده وعانقته بقوة حتى اهتزت أطرافه. جيوش بل ملايين من النمل تسربت من جوف جسده حتى قدميه. أكمل سيره بشغف وأغلق الباب خلفه جيدا ثم اخرج من جيبه قداحة وأشعل بها شمعة كبيرة ووضعها في منتصف الغرفة حيث بدأت ملامحها في الظهور فقد كانت مشرحة على قدر عالي من التجهيزات تمتلئ بالعديد من الثلاجات الضخمة .

بدأ في البحث عن حوريته التي وصلت اليوم بسلام , تفحصهم جميعا عدا واحدة التي كانت تحمل رقم 512 اتجه ناحيتها وبدأت نبضات قلبه في الظهور . اعتلي العرق جبينه حتى سلخ فروة رأسه. ازدادت ضربات قلبه حتى أصبح الآن أمامها , مد يده بحذر وفتحها حيث ارتسم على وجهه شبح ابتسامة لعينة تحمل الكثير من المعاني ولمعت عيناه. فقد كانت جثة فتاة في العقد الثاني ومن الواضح انه لم تظهر عليها آثار الموت بعد. فجسدها سليم.

أزال الغطاء الذي كان يسترها حيث انكشف أمامه الآن عالمها السري التي طالما كانت تحصنه حتى أصبح جسدها الآن عاري وقف يرمقها لثواني عديدة يبتلع ريقه عيناه شاخصة لا تتحركان يتأمل كل ذرة في جثة الفتاة , لا فرق الآن بينه وبين الحيوانات , فعدم القدرة على كبت غرائزك الجنسية كرجل هو اعتراف صريح منك بأنك مثل الحيوان.

مد يديه يتحسس جثتها الدافئة , بتر ملابسة بعنف حتى أصبح كما ولدته أمه. مد يده يداعب أذنها واقترب بأنفة يشم رائحة شعرها الخلاب ثم وضع يده عليه يتحسسه وراح يتخيل الفتاة الآن في نظره وهي تصرخ وتبكي وتحاول أن تتجنبه لكنه يجبرها على ذلك . قوة غريبة اقتحمت فؤاده , دقات قلبه تتسارع كأنها داخل ملحمة تاريخية لا رحمة فيها. بحار من الماء المالح تدلف من مسامه لكثرة جهده رغم انخفاض درجة حرارة الغرفة .. جسده الآن أصبح يرتعش كالمصاب بالصرع , فالنيكروفيليا تأتي خاصة لمنعدمي الشخصية , فالهدف من ممارسه النيكروفيليا هو الحصول على شريك لا يقدر على المقاومة أو الرفض , فجثة الفتاة لا تتكلم ولا تتألم.

وبعد أن افرغ شهوته بها ابتعد عنها ومال على الأرض ليلتقط ملابسه , ارتدى سرواله وقميصه وجلس على الأرض من اثر الإرهاق الوطيد الذي حل عليه ..

سمع صوت من خلفه لكنه لم يكترث , ثم انتزعه فجأة مشهد تجلى أمامه , كان لأم تنهر ابنها بعنف ليكف عن أفعاله الخاطئة .. نعم إنه هو ذلك الطفل.. شرعت دموعه تنهمر حينما تذكر أمه , هي السبب .. هي من أضعفت شخصيته , لم يقدر يوما على الزواج أو حتى الارتباط , والنيكروفيليا تصيب ضعيف الشخصية الانطوائي الذي يخاف حتى أن يحدث ظله..

قام من مكانه ومسح دموعه بيده اليسرى وقبل أن يتوغل في الغرفة انطفأت الشمعة ومن ثم ابتلع الظلام الغرفة كلها وقد أعلن الصمت سيطرته على المكان , تجمد في مكانه من الخوف , هناك من يقف أمامه الآن.. يشعر بأنفاسه .. أصوات صراخ مفزعة انطلقت من جميع أركان الغرفة , تجمد الدم داخل عروقه , تلفت مرعوبا حوله في الظلام لأنه يشعر بأنه ليس بمفرده بل أن هناك من معه .. وفجأة امتدت يد من الظلام وأطبقت بكل إحكام على رقبته تعتصرها بشدة وتمنع عنه احد مسببات الحياة .. وهو الهواء .. يريد أن يصرخ .. يريد أن يتكلم .. لكنه لا يقدر .. حتى انطفأت شمعت حياته الأخيرة .

 

تاريخ النشر : 2015-07-14

guest
25 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى