تجارب ومواقف غريبة

لعنة البصارة

 
بقلم : المنسي من الربع الخالي – العراق

 

تشتهر بعض النسوة بقدرتهن على قراءة الكف والطالع

هذه قصة حقيقية حدثت معي عام 1999 في لبنان .

كان العراق يعيش تحت حصار اقتصادي خانق وكان البلد كالميت الذي رفض الطبيب توقيع شهادة وفاته ليس في عالم الأحياء ولا في عالم الأموات.

كنت كأي شاب عراقي قررت الهجرة من بلدي وكنت أفكر في ساعة عبور الحدود في معبر طريبيل الشهير حيث كانت تمثل الحد الفاصل بين الجحيم والجنة أو هكذا كنت اعتقد. اضطررنا للمبيت على الرصيف في نقطة الحدود لان سائق الباص رفض دفع الرشوة لحرس الحدود فكانت العقوبة جماعية وهي تأخير الخروج يوم كامل.

تحملت تلك الليلة برحابة صدر لأني صبرت قبلها سنين عجاف طوال وأنا اخطط لهذه اللحظة.

وفي اليوم التالي عبرنا الحدود وعندما رأيت الوطن وراء ظهري تدفقت الدموع لا إراديا وكأن جزء من قلبي قد اقتطع بسكين واجتاحني الحنين إلى الاهل والبيت وكل شيء حتى سنوات الشقاء صارت ذكرى عزيزة على القلب.

وبعد اشهر من المكوث في الاردن سافرت الى سوريا ثم وصلت الى لبنان بعد رحلة طويلة وكنت صرفت كل مدخراتي أثناء الرحلة وشرعت ابحث عن عمل في بيروت. لم أوفق في ذلك حتى بعد شهر من البحث المتواصل وطرقت كل الأبواب ولم أجد أي جواب.

كان شهر شباط باردا في بيروت وكنت اذرع بيروت مشيا على الأقدام حتى وصلت إلى شاطئ البحر وهنا بدأت القصة.

كان شاطئ البحر كئيبا مقفرا في الشتاء. كنت احس بضياع وغربة وانجذاب الى البحر بشكل غريب. كان الشاطئ مقفرا من البشر وحتى الطيور هاجرت ولا شيء سوى البحر وأحزاني. تمشيت الى البحر واختلطت في رأسي الافكار حتى خطر على بالي فكرة الانتحار لكني تماسكت وقلت لنفسي هذه اول مرة في حياتي ارى البحر فسأتذوق طعم ماء البحر وفعلا مشيت وغرفت بكفي منه وتذوقته وأثناء ذلك تفاجئت بعجوز تكلمت من ورائي وقالت باللهجة اللبنانية : “بدك تبصر” .

كان تلبس ملابس رثة سوداء ووجهها شديد السمرة وحول عينيها هالة سوداء وتحمل في حضنها طفل لم أرى وجهه المغطى. كنت في هم وغم واول ما خطر في ذهني انها تريد بعض المال. قلت لها ليس في جيبي غير فراطة ولا اقدر ان أعطيك اكثر من 500 ليرة لبنانية وأنا عاطل عن العمل.

كنت اتمنى ان تذهب عني وتتركني لكن الغريب انها قبلت فأمسكت يدي وراحت تردد كلام خافت سمعت بعضه وهي تقول انها من نسل الجيلاني وغير ذلك من الطلاسم فشعرت اثناء كلامها بسكينة وهدوء وكأني خرجت من عاصفة الى مرج اخضر يعمه السلام واحسست باسترخاء وخدر عجيب وكانت الدنيا كأنها صغيرة في كف يدي وخيل لي انني لو اردت ان امسك بغداد لمددت يدي فامسكت بها!!! .

بعد عشرة دقائق توقفت وقالت : ” انت معمول لك سحر فاذا قبلت افك عنك السحر سوف تجد عملا في اقل من ثلاثة ايام ” .

فقلت لها : ” ليس لدي ما اعطيه لك ” .

فقالت : ” اقبل 20 دولار من اول راتب سوف تستلمه” .

تفاجئت من ثقتها فقبلت لاني لم اكن لاخسر شيئا في وضعي الذي يرثى له. وكما يقال الغريق يتعلق بقشة.

اخرجت المرأة العجوز خيط اسود وعقدته مرتين واعطتني الخيط وقلت اغلق عليه قبضة يديك بقوة وسوف امسك يدك فاذا احسست ان الخيط يتحرك فاضغط عليه بقوة ولاتفتح يدك ابدا حتى اخبرك بذلك واصبحت تتكلم بصوت منخفض واصابني استرخاء عجيب وكأني يتساقط عني كل ما مررت به من غم وهم في حياتي وفعلا بدأت أشعر ان الخيط داخل قبضة يدي قد دبت فيه الحياة وصار يتحرك !!.

شيء لا يمكن ان يصدقه العقل ولا يمكن لغير التجربة الشخصية ان تجعلني اصدق ان شيء كهذا موجود في عالمنا.

كانت تتكلم بصوت منخفض مثل المرة الأولى لكني سمعتها قبل النهاية تقول لي : ” اذا لم تحظر لي 20 دولار من راتب اول شهر فسوف تنكسر يدك اليمنى!! ” .

كنت احاول مقاومة ذلك الايحاء ولكن العجيب ان ارادتي في وادي وعقلي في وادي اخر من السكينة والاسترخاء وكان كلامها يصل اعماق عقلي الباطن وبعد عشرة دقائق قالت افتح يدك فوجدت الخيط وقد انحلت عقده!! فقالت ارميه في البحر فقد ابطلت عنك السحر وسوف تجد عملا ولكن لا تنسى ان ترجع الي وتعطيني 20 دولار من اول مرتب تستلمه.

غادرت شاطئ البحر واحسست بالندم بعد ساعة واستغفرت الله على قبولي ما فعلت تلك العرافة والتي يسمونها في لبنان بالبصارة. وتبت الى الله وقلت قدر الله وما شاء فعل.

في اليوم الثاني ذهبت كالعادة للبحث عن عمل وذهب الى مكتب هندسي زرته قبل يومين واعتذروا عن وجود عمل لكني جربت ثانية ولدهشتي وجدت عملا في نفس اليوم وكنت اعمل ذلك النهار في ورشة البناء مشرفا على بناء سكني متعدد الطوابق.

كنت مرتاحا في ذلك العمل ومر شهر وقبضت اول راتب لكني قررت عدم الرجوع الى البصارة ولا الى البحر ومضى بضعة ايام وكنت أتفقد قالب الخشب لأرضية الطابق الاول قبل ان نصب الكونكريت (الباطون كما يسميه اللبنانيون) وفجأة وجدت الاخشاب هبطت بي إلى الاسفل ووقعت على الارض الكونكريتيه بشدة , نهضت ولم اكن اشعر بشيء من شدة السقطة لكن يدي اليمنى لم تكن تتحرك! .

اخذني ابن اخ صاحب الورشة الى المستشفى وتبين في الاشعة وجود كسر في ساعدي ورجعت ويدي ملفوفة بقالب جبس. فتذكرت لعنة البصارة التي هددتني بكسر يدي وكنت بين الم الكسر وصدمة الدهشة.

من حسن الحظ ان الورشة بها تأمين صحي وكان صاحب الورشة انسان طيب تكفل بالعلاج والذي دفعه التأمين واخبرني انه كان بحدود الألف دولار.

مرت سنة ورجعت الى العراق وتغير الحال والحمد لله ثم رجعت الى لبنان كسائح بعد تسعة سنوات وخطر ببالي ان ازور ذلك الشاطئ لكني لم اكن اتذكر بالتحديد مكانه وذهبت الى هناك ولم اجد اثرا لتلك البصارة.

 

تاريخ النشر : 2015-08-26

guest
32 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى