تجارب من واقع الحياة

عاش مظلوما.. ومات مبتسما

 
بقلم : دنيا – العراق

 

كان صامتا يبكي كثيرا ويخاف من الجميع

لطالما تساءلت.. كيف يشعر الإنسان حين يموت ضميره؟ .. كيف يشعر وهو يعيش بلا ضوابط اجتماعيه او قوانين تحكمه؟.. هل يشعر بالفخر؟ .. باللذة؟ .. ام بالعظمة والكبرياء؟.. لماذا لا يهنأ للبعض العيش إلا وهو يطأ بأقدامه علی عظام الضعفاء والمساكين؟ .. ولماذا يموت البعض بتهمة طيبة القلب؟..

قصتي تحكي عن إنسان عاش مظلوما في وسط مجتمع معاق تحكمه سلطة ظالمة , وفي أسرة يحكمها أب دكتاتور.

كان عمي(صفاء) طفلا هادئا , طيبا ذكيا يكره الضوضاء والصخب , يحب الطبيعة والحيوانات والرسم والشعر , كان نحيفا ذو ملامح هادئة مع ابتسامة لطيفة لا تفارق وجهه أبدا حتى لو كان حزين، من يتكلم معه يشعر بالأمل والطمأنينة، وكان بليغا في الكلام يختار ألفاظه بدقة بالغة مع انه لا يحب أن يتكلم كثيرا، كان يحب أخيه الأكبر كثيرا – أخيه الأكبر هو أبي – لأنه كان يحميه من الأطفال المشاكسين الذين كانوا يضايقونه في طفولته دائما لأنه كان طفل ضعيف البنية، ولطالما عاد للمنزل وآثار الضرب تملأ جسمه ولكنه كان كتوما يفضل السلام علی الحرب.

كم كنت أتلهف للذهاب إلی بيت جدي لأستمع إلی أشعاره المليئة بالأمل وكلماته وقصصه الجميلة حين كنت ابلغ من العمر 6 سنوات .

كان أبوه – أي جدي – رجلا صعبا ومعقدا جدا , شخصيته تشبه كثيرا شخصية (سي السيد) حين كان يدخل إلی المنزل فيعم الهدوء وتری الجميع في حالة خوف وذعر . وكان جدي كثيرا ما يضرب جدتي أمام أولادها , ويا ويله من يتكلم أو يتنفس أو حتى يبكي , كان عليهم الاكتفاء بالنظر والسكوت!.

في تلك الفترة اندلعت حرب في العراق , حدثت بعدها اضطرابات , ليجد الآلاف الشباب أنفسهم في غياهب السجون , كان عمي آنذاك يبلغ من العمر 18عاما ، أي في زهرة شبابه، حين زجوا به في السجن , أخذوه إلی سجون مجهولة لا أحد يعرف لها طريقا ، ظل أبي يبحث كثيرا ويسأل كل من يعرف ولكن لا فائدة .

مرت 3 سنوات بعدها تم إصدار قرار عفو عن السجناء الذين لم تثبت لهم أي صلة بالأحداث . ذهب أبي متلهفا لاستقباله بعد أن عرف مكان سجنه ، انتظر طويلا ولكن لم يخرج عمي مع السجناء المفرج عنهم . سأل عنه قالوا له بأن هناك سجناء نقلوا للمستشفی ، ذهب أبي للمستشفی ليجد عمي في العناية المركزة بسبب ضربة قوية علی رأسه جراء التعذيب في السجن . بقي أسبوع في المستشفی وبعد أن أفاق لم يتعرف علی احد ، كان هزيلا جدا ، شعره أشيب وكأنه بلغ الثمانين من عمره مع انه لم يبلغ الـ 25 من عمره ،  بعدها أخذوه للمنزل ، كان صامتا يبكي كثيرا ويبلل نفسه ويخاف من الجميع ، لقد تضرر عقله بسبب تلك الضربة القوية .

مرت سنتين علی خروجه من السجن وبعد خضوعه للعديد من جلسات العلاج بدأ يتحسن شيئا قليلا مع انه بقي صامتا لكنه كان يبتسم حين يری أبي وبدأ يتذكره .. لم يكن يعلم أن ما ينتظره كان اشد قسوة من عذاب السجن!.

في يوم من الأيام كان لدی جدي ضيوف فدخلت جدتي تحمل الشاي بيديها المرتعشتين فوقع منها الشاي عن غير عمد. غضب جدي لأنها أحرجته! فقام بضربها أمام الضيوف مع أنها كانت امرأة طاعنة في السن ، انهال عليها ضربا وكان عمي صفاء ينظر إليه إلی أن صرخ بأعلی صوته بعد صمت دام سنوات : ” اتركها ..اتركها.. أيها الظالم..” .

تجمد جدي في مكانه وحدق بغضب إلی عمي مستغربا. كيف لصفاء الهادئ الذي قضی سنوات عمره لم ينبس ببنت شفه أمام أبيه أن يصرخ بأعلى صوته هكذا ويحرجه أمام ضيوفه .. وكرد لاعتباره أمام ضيوفه سار جدي نحو عمي الهزيل المسكين وضربه كفا علی وجهه فارتطم بحافة الكنبة المدببة علی نفس مكان ضربة رأسه القديمة تسببت له بنزيف حاد نقل إلی المستشفی وبقي 3 أيام فاقدا للوعي وكان أبي بجانبه يبكي بحرقة..

بعد 4 أيام استيقظ أبي ليجد عمي قد فارق الحياة.. ولكن الغريب انه كان مبتسما!! .. نعم لقد مات مبتسما رغم كل الآمه وجراحه وكأنه يهزأ بالدنيا وكأن لسان حاله يقول: ( يا دنيا.. تركتك للذئاب البشرية .. لأذهب إلی رب رحيم لا يظلم عنده أحد) .

 

تاريخ النشر : 2015-09-01

guest
48 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى