أدب الرعب والعام

رحلة إنسان

بقلم : Naceryo – المغرب
للتواصل : [email protected]

رحلة إنسان
ولدت كما يولد أي طفل في اي منطقة من العالم

يقول صديقي معبرا عن نفسه ؛ بعد أن قرر الأصدقاء أن يجلس كل واحد منهم في كرسي الاعتراف ، ويحكي عن تجربته في الحياة و فلسفته :

ولدت كما يولد أي طفل في اي منطقة من العالم . صرخة مدوية أزعجت المحيطين بي ، وان كانت الفرحة بادية على ملامحهم ! إلى حد اليوم لا أدري لماذا نصرخ ؟! هل الخوف من قدومنا إلى هذه الحياة ؟ أم لرفضنا أن يرانا الناس عراة !! . ما تم إخبارنا به ؛ أن الشيطان هو السبب ، لنتألم ، فهو ينتشي كما اخبرونا بكل الم أو حزن يصيبنا ! .

اختاروا لي اسما و انا مازلت لا أعي ماذا يحدث ! ومن انا ومن هؤلاء الغرباء الذين يحومون حولي ! ومن هي تلك التي انام بجانبها !! . كبرت نوعا ما لكن مازلت لا أعي حقيقتي و لا حقيقة ما اراه من حولي . اسمع اصواتا لا أفهم معناها و لا افهم حتى معنى بكائي و صراخي ! . وعلمت أن الوسيلة الوحيدة لأخاطب هؤلاء المجهولون هو البكاء ! فكلما احسست بشيء يدغدغ بطني ، ادركت فيما بعد انه الجوع ، فأبكي ، وفهموا بحكم التجربة مرادي ، فترضعني المرأة التي تحضنني و علمت انها امي التي انجبتني وان الشخص الذي يلاعبني و يحملني احيانا هو ابي ، واكتشفت انفعال جديد وهي تلك القهقهة التي اصدرها عندما ارى حركات تهريجية يقوم بها المحيطون بي ، فعلمت انها تدعى الضحك وهي تعبير عن البهجة و الفرح . شعرت اني أنموا بشكل سريع ، وبدأت أتخلص أخيرا من المكوث في فراشي واحاول الحركة ، لكن لا تسعفني رجلاي و لا استطيع حمل جسدي ، فأخطو بركبتي ويدي كقط جميل ! .

كنت اريد ان اكتشف كل شيء عن طريقي فمي !. اريد ان اتذوق طعم الاشياء من لعاب و حديد و مفاتيح !! وكنت امنع من فعل ذلك و كان سلاحي البكاء . وتعلمت ان هناك حدود فيما يحيط بي .

كنت اتفرس تلك الوجوه التي تحاول التكلم معي ، واتسأل لماذا ينظرون الي هكذا ؟! من انا ومن هن و ما نحن ؟ والى اين خرجت ؟!! لكن اصراري على السير مازال قائما ، و اصراري على تخطي الحواجز و الممرات في المنزل لن ينتهي ! .

بعد المرور الكثير من الوقت ، تعلمت اخيرا السير بشكل غير. متوازن ، وكنت اصدر لغة خاصة بي ، لا أدري كيف اخترعتها ؟! لكنها على ما يبدوا آنذاك انها مفهومة للكبار و احسست بالفخر ، لقد ضربت عصفورين بحجر واحد وان كنت لا أدري ما العصفور و ما الحجر آنذاك !!! .

كنت اتسأل لماذا كل تلك الافواه التي تريد وضع شفاهها في خذي او جبيني !!! فعلمت انها القبلات ، وحاولوا تعليمي او إجباري على التقبيل !

و كنت اعتقد آنذاك أني يجب ان اتذوق تلك الوجوه ! واحسست بالحيرة ؛ كيف امنع من تذوق الاشياء واجبر الآن على تذوق الوجوه ، ولم اعلم آنذاك اني ايضا احمل وجها ، كنت اعتبر نفسي كائن اخر !! فلقد صدمت يوما وانا اشاهد شخصا صغير الحجم مثلي ، كنت اقترب منه وهو ايضا يقترب ، وكل حركة افعلها يقلدها هو ايضا ، اقتربت اكثر ووضعت يدي محاولا لمسه لكن منعني حاجز الفاصل بيني وبين ذلك الشخص وكان هو ايضا يفعل نفس الشيء !! وبكيت ، فعلمت ان تلك كانت مرآة ، وما شاهدته كان أنا ، واستوعبت ذلك بصعوبة ، وأخيرا عرفت كيف انا ؟ !!

إنجاز آخر حققته وهو اتقاني التلفظ بالكلمات بشكل صحيح ومفهوم ، و أصبحت أعي بما يدور حولي ، لكن المعضلة كانت تلك الفروقات الشكلية التي اراها بين امي وابي ، لماذا امي تملك شعرا طويلا ، وابي شعره اقصر !!

أحسست يوما بحاجتي لقضاء حاجتي ، وكنت اتساءل ما هذا الشيء المتدلي ، وكيف يخرج منه هذا الماء !!! وكنت احب ان العب به ، الى ان نهرتني امي ، واستغربت أليس هذا الشيء ملك لي ، هل هو أيضا ممنوع !!!

وبدأت اطرح الاسئلة على ابي وامي ، لماذا هما مختلفان ، وكان الجواب بسيطا ان امي هي امرأة ، وابي يدعى الرجل ، لم افهم لكن من مجهودي الشخصي خمنت ان الامر له علاقة بالشعر ، اي عندما تملك شعرا طويلا فأنت امرأة وعندما تملكه قصيرا فأنت رجل . هذا التخمين تغير عندما جاء ابن عمتي وكان شعره طويلا نوعا ما ومموجا ، واعتقدته امرأة وقلت : يا امرأة لماذا تلبسين ملابس رجل !!!

ضحك ابن عمتي طويلا ، وأحسست بالغرابة ، فأخبرني محاولا أن يفك اللغز ، إن الفرق ليس في الشعر بل في شيء أخر ، وأشار ناحية سروالي ، لم افهم !!

ذات يوم اصطحبتي امي الى الحمام ، وما أدراك ما الحمام .. كل النساء كن عراة الا ما رحم ربي !!! وكانت اشكالهن موحدة وتعجبت لعدم وجود من يشبه الرجل !!! كنت فريدا في ذلك العالم ، فانا الوحيد المختلف ، لكن شعرت بالاطمئنان اخيرا بعد ان لاحظت وجود ولدين مثلي ، يملكون ما املك ، وفهمت اخيرا الفرق ، لكن مازلت حائرا لماذا هذا الفرق ؟!! وطرحت السؤال مباشرة على امي ، التي كانت مشغولة بالغسل والحديث مع زميلاتها في الحمام ، اختلسن السمع وضحكنا لسؤالي ونهرتني امي ، وتعجبت لماذا تغضب امي كلما طرحت سؤالا عن الفروقات الشكلية !!! لكن امرأة اجابتني : انك رجل وهذا ما يحدد صفتك .

واحسست بعد الإجابة بالتميز .

يواصل صديقي الحديث قائلا : كبرت ووعيت ما يدور حولي ، وفهمت معنى الاشياء . وعلمت من انا . دخلت المدرسة و لاحظت وجود عدد كبير من اطفال في مثل سني ومن هم اكبر منا بأعوام قليلة ، احسست في بداية الامر بالرهبة و التخوف ، فهذا العالم لم ألفه بعد ، مختلف عن عالم البيت . ما يميز هذا العالم هو الصعوبات التي تواجهها ، وتلك الانفعالات من الغضب المستمر على أدنى خطأ و تلك الأوصاف و النعوت التي تغيرت من أيها الظريف ، أيها الجميل ، يا شاطر ، فاصبحت ايها الحمار ، أيها العاق ، يا أبله واللائحة طويلة …وتلك العصا التي لا تكاد تفارق يد المعلمة او المعلم ، وكأننا قطيع اغنام لا ينقصنا سوى كلب حراسة ، ليتهم اكتفوا بالعصا بل تفننوا في إحضار عصي مختلفة الاشكال ، غليظة ، قصيرة ، او سياط لتجلد بها ، و لم افهم لماذا كل هذا العنف ، كانت احيانا حصص الدرس تمر علينا كقطع عذاب متتالية ، ارجل ترتعش و بل منهم من تبول في سرواله ، ومن تسمر في مكانه تمثال ابو الهول من شدة الهول ، اما خارج المؤسسة تلاحقنا نظرات القاسية للمدير المدرسة ، وكأننا مجرمون ، وتلك المشاجرات التي تجبر أن تشارك فيها مع بعض التلاميذ المشاكسون !!! أو حتى ابناء الحي ، او ممن لا تعرفهم اصلا ، وقد تصادفك حجارة قادمة من مجهول ، تفلق راسك ، فلم يعد يجدي سلاح البكاء ! اما تلك الكلاب الضالة التي تطاردك احيانا و تطاردها انت احيانا اخرى ! وتلك القطط التي لا تسلم من حجارتك ! .

و اكتشفت انك كلما تكلمت مجيبا في الفصل يضحكون ، وان اخطأت تضرب بالعصا و ما أدراك ما العصا . ترى ما هذه الحياة ؟! .

كانت الاشكال مختلفة ، هذا سمين ذلك نحيف ، هذا طويل ذلك قصير ، هذه جميلة ، تلك قبيحة . و تلك الالقاب التي يطلقونها عوض أسمائنا ، فتكاد تنسى اسمك الحقيقي ! والاستهزاء من كل جانب ، والاشياء لم تعد تتحقق كما تتمنى ، وتدرك انك دخلت معترك الحياة من بابه الواسع . لكن كانت هناك فسح جميلة ، وهو اللعب و المرح ، ومشاهدة الكرتون ، وهنا بدأ يتكون الخيال وحب الجمال ، وامتشاق قدرات الذات ، والمهارات ، وكان ذلك العالم الوسيلة المتاحة للهروب من تعقيدات المدرسة و تحكم الاهل . وان كنا لا نسلم حتى اثناء اللعب او مشاهدة الكرتون من مطاردة الكبار لنا و نقدهم فذاك كله كما يزعمون مضيعة للوقت ! وسببا للتأخر المدرسي ! وان كان السبب الحقيقي هو العصا و الاسلوب العنيف للبعض المدرسين في التدريس . كنت اتسأل من اين اتيت ؟

كنت اتسأل من اين اتيت ؟ ولماذا ؟ ومن هو الله ؟ طرحت السؤال على أبي فأخبرني ان الله هو خالق الكون ، وأن من يطيعه يدخله الجنة ، ومن يعصيه يدخله النار . تسألت كيف هي الجنة ؟ وأجابني هي نعيم ، و فيها كل ما تشتهي الانفس . تمنيت ولو زرت الجنة ولو في الحلم ! أحببت الله كثيرا واعتقدت آنذاك ان الله يسكن في السماء ، كما نسكن نحن الارض ! كان تفكيري بريئا ساذجا . تسألت لماذا لا نرى الله ؟! اجابني ابي ان الله لا يرى ولكنه يرانا . تسألت كيف هو شكله ؟ منعني ابي من طرح مثل تلك الأسئلة ،. لان الله ليس مثله شيء و هو فريد متفرد صمد احد . وحفظني والدي سورة الاخلاص ، وشرح لي معناها .

كان موضوع الدين يشغل بالي ، وخاصة الخالق و الجنة والانبياء و الملائكة . وعلمت ان هناك من يتربص بنا ويتمنى لنا الهلاك وهو الشيطان ، وعلمت ان له شكل منفر. ، وانه سبب خروج ابونا ادم و امنا حواء من الجنة ، فكرهته وتمنيت لو تمكنت من الفتك به !

لاحظت جدتي ترفع يديها وتتمتم بكلمات لم افهم معناها . سألتها ماذا كانت تفعل ؟! اخبرتني انها تدعوا الله ، سألتها هل يستجيب لي الله بكل ما تمتت ؟ اجابتني بطبيعة الحال . ورفعت يدي ودعوت الله ان يدمر مدرستنا . ضحكت جدتي قائلة : الله لا يحب الادعية التي بها ضرر للاخرين، فصمتت.

إستيقظت ذات صباح واردت مناداة امي ، واصابني الهلع ما هذا الصوت الذي يصدر مني ! لماذا هو خشن هكذا ؟ هل انا مصاب بالزكام ؟ بدأت ألازم الصمت الى حين عودة صوتي المعهود ! فبمجرد ان اتكلم يخيل للأهل ان رجلا حل ببيتنا ، ليكتشفوا اني المتكلم ! فجأة وجدت شعيرات على ساقي و الابط ، يا إلهي ما هذه الغابة التي انتشرت على جسدي ! يا إلهي هل سوف أتحول إلى قرد مشعر ! فأحقق عكس نظرية داروين التي صدعوا بها رؤوسنا ! ام ان تلك القرود تنتقم مني فطالما سخرت منها !

بدأ طولي يزداد ، وكتفي يتسعان ، وبدأت احس بالخجل تجاه بنات الحي اللواتي كنا يشاركنا اللعب ! كل شيء تغير بعد احتلال هذه الشعيرات ، كما تغيرت الاحاسيس !. فانا لم اعد انا ! فياترى من انا ؟!

يتابع صديقي الحكي قائلا : رغم اننا درسنا في اواخر الابتدائية عن فترة المراهقة ، إلا اغلبنا لم يفهم بعد بشكل استيعابي عن تلك التغيرات التي تطرأ على اي انسان يدخل مرحلة المراهقة !! وبهذا علمت اني اصبحت مراهقا ، أي في بداية الشباب . ياه الآن اصبحت بالغا اصبحت رجلا ! اصبحت انتمي لعالم الكبار ! أيتها الطفولة الوداع ، ايها اللعب الوداع ! يا مسلسلات الكرتون الوداع ! ودعت كل ما يصلني بعالم الصغار و انتقلت لمرحلة جديدة من حياتي ، اصبحت اكثر اهتمام بالمرآة و لا اكف عن النظر إليها لأطمئن على شكلي وحسن هندامي ، واصبحت ابالغ في الاهتمام بتسريحة شعري و رائحتي ، فكل اهتمامي الآن على ان ابدوا في احسن هيئة ! وحتى اني اصبحت اصدر الاوامر على من هم اصغر مني سنا و اعتبرهم مجرد صغار السن و العقل ، ونسيت اني لم اتخلص بعد من طفولتي فانا بين الطفولة و الشباب ! او ما يقال عن تلك المرحلة قاصر .

بدأت أتمرد على اوامر اهلي و الاساتذة و اعتبر تلك الحواجز التي يقيدنا بها المجتمع او الاهل مجرد قيود لا ضرورة لها فنحن كبرنا !! فانا كنت اريد ان اعيش وفق حريتي ومزاجي !! وكنت اطالب بالاستقلالية وكأني كنت تحت سيطرة الاستعمار !!

كنت متقلبا لا استقر على حال وكنت اهفوا إلى كل ما هو جديد و ملفت ! كما نمى لدي حس رومانسي وشعور شياج تجاه فتاة وكان شعورا نبيلا قبل بالصد و النفور و ما أكثر الصدود !! وهكذا تعلمت ان الحياة سوف ترسل لي لكمات متتالية من جميع النواحي . وكان هذا درس تعلمته منذ بداية فترة المراهقة .

فكريا ساعدني اهتمامي بالثقافة في ان اعتنق الفكر التحرري الثوري وتوجهت لافكار و خطابات لزعماء و مفكرين و ثوار مروا عبر عالمنا كتشي غيفارا و غيره . وكنت مهتما بكتابات يوسف السباعي ونجيب محفوظ و توفيق الحكيم واشعار نزار القباني و رويات فيكتور هبجو و مسرحيات برناردشوا و افكار تولستوي ….وهكذا كلما كبرت في السن تغيرت افكاري و ازددت نضجا و اطلاعا و خبرة ببني البشر ، فما ا كثر ما عايشنا معهم و كم من صنف قابلنا !! وتتطور شخصيتي و تتغير قناعاتي ، اصبحت الآن اكثر إتزانا و اكثر هدوءا و تعمقت في ديني و بحت ودرست و فهمت ، وبعد ان خضت نقاشات مع كل المنتمين للتيارات المختلفة خرجت بنتيجة ايجابية و بمنهاج وسطي وان ديننا يتفاعل مع الحياة بل هو الحياة .

صمت صديقي وهو ينظر إلينا ، وابتسم قائلا : هذا هو جانب الذي عشته و تلك كانت تجربتي فحان دوركم لتحكوا .

———————————–

ملاحظة : أتمنى من الجميع زيارة مدونتي فيها العديد من المقالات والقصص : naceryo.blogspot.com

تاريخ النشر : 2015-10-26

Naceryo

المغرب
guest
30 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى