تجارب ومواقف غريبة

لمحات نورانية (تجربتي مع الموت الوشيك)

بقلم : إيهاب عبد الرحمن – العراق

لمحات نورانية (تجربتي مع الموت الوشيك)
أطفال أولاد وبنات بسن صغيرة يلعبون في الهواء فوق رأسي مباشرة

بداية أود أن أقول أن هذه القصة حدثت في طفولتي حوالي عام 1983 لكني أذكر تفاصيلها بدقة كما لو أنها حدثت البارحة فهي مطبوعة في ذهني ولها اثر كبير في حياتي من جميع النواحي .

كنت حينها في السادسة من العمر لكني لم أكن قد سجلت بالمدرسة بعد – الأطفال في العراق يتسجلون في المدرسة بسن السادسة – وكنت الطفل الوحيد لأمي وابي في ذلك الوقت ولهذا كانت امي تخاف علي بشدة لدرجة انها تمنعني من أن الخروج واللعب حتى في حديقة المنزل الواسعة إلا بوجودها . وللأمانة فقد كنت طفلا شقيا جدا غالبا ما أتورط في المشاكل كأن أكسر صحنا أو مزهرية مما يؤدي لشجار بين أمي وجدتي – أم أبي – لأننا كنا نسكن حجرة في الطابق الثاني من بيت أهل أبي الواسع الذي كان يقع في منطقة راقية اندثرت اليوم أو كادت بعد أن تحولت كلها بقدرة قادر إلى عيادات ومختبرات طبية ،، ومن بين البيوت التي اندثرت هو بيت جدي الذي كنا نسكن فيه حيث تم بيعه وهدمه قبل سنوات طويلة .

المهم كان هناك شرفة تطل من حجرتنا على حديقة المنزل بأرتفاع 3 أمتار أو ربما أعلى قليلا ،، واترك لكم تخيلها من خلال الوصف : حيث كانت مستطيلة الشكل بقياسات 1 * 2 متر وتوجد أسفلها باحة بعرض 2 متر تقريبا من الخرسانة تفصل ما بين المنزل وحديقة واسعة فيها أشجار حمضيات نسميها في العراق نارنج وكذلك أشجار برتقال وليمون وسندي وهناك أيضا بعض النخيل ونباتات وزهور جميلة عكفت جدتي على زراعتها والعناية بها ،، وكان للشرفة سياج بأرتفاع حوالي 30 سم يعلوه حاجز معدني مطلي باللون الأبيض فيه نقوش وتخاريم جميلة .

طبعا كان ممنوع علي الخروج إلى الشرفة لكن في أحد الأيام كانت أمي تنشر بعض الغسيل على حبل معلق في الشرفة عندما نادتها جدتي بإلحاح لشأن ما فخرجت أمي مسرعة وتركت باب الشرفة مفتوحا وبالطبع لم أفوت أنا الفرصة فخرجت إلى الشرفة وفورا تسلقت على الحاجز المعدني ومددت جسدي إلى الخارج محاولا أن امسك بأصابعي أطراف سعفة لإحدى النخلات القريبة من الشرفة وفيما أنا على هذه الحالة دخلت أمي الحجرة فجأة وصرخت برعب : “ايهاب!! .. انزل فورا” .. ففزعت من صراخها وافلتت يدي الحاجز وسقطت مباشرة نحو الباحة في الأسفل وآخر ما أتذكره هو صراخ أمي وبعدها غرق كل شيء في ظلام دامس.

بعد فترة لا اعلم طالت أم قصرت فتحت عيني لأجد أمي وجدتي وعماتي مجتمعات فوق رأسي وهن يبكين ويصرخن ويلطمن الخدود فنهضت بسرعة أقول لهم : “لماذا تبكون أنا بخير …. توقفوا عن الصراخ” .. لكن بلا جدوى كأنهم لا يسمعوني واستمروا بالنحيب وأنا في غاية الدهشة من عدم تمكنهم من رؤيتي والأغرب هو أصواتهم التي كانت ثقيلة جدا كأنها تأتي من تحت الماء أو كأنهم يتحدثون بالتصوير البطيء . وكنت أحاول أن احتضن أمي لأهدئها لكن بلا فائدة فهي لم تكن تنظر إلي أصلا بل تنظر إلى مكان آخر وحين نظرت إلى المكان الذي كانت تنظر إليه أصبت بالصدمة لأني رأيت نفسي ملقى على الأرض وعيني مغمضة والدم ينزف من رأسي بغزارة ،،، كنت مغمى علي وجسدي راقد على الأرض فيما أنا أقف على الطرف الآخر وانظر إلى نفسي !!!!! والغريب هو أني لم اشعر بالخوف من هذا المنظر ،،، بالعكس كان هناك سكون عجيب في داخلي … لا بل أن كل شيء حولي كان ساكن بطريقة غريبة باستثناء صراخ أمي وجدتي وعماتي الذي بدا بعيدا كأنه يخرج من بئر عميقة .

وبينما أنا على هذه الحالة أتلفت حولي بحيرة تناهى فجأة إلى سمعي صوت أطفال يضحكون فنظرت أبحث عنهم لكني لم أرى أي احد في المكان سوى النسوة اللواتي اجتمعن حول جسدي المسجى على الأرض . وبالتدريج أصبح صوت ضحك الأطفال أكثر وضوحا حتى غطى على صوت بكاء النسوة … لكن من أين يأتي الصوت يا ترى؟ .. نظرت يمينا ويسارا .. لا شيء .. ثم نظرت إلى الأعلى فرأيت منظرا يصعب تصديقه أو حتى تخيله .. كان هناك أطفال أولاد وبنات بسن صغيرة يلعبون في الهواء فوق رأسي مباشرة .. كانوا يحلقون كالطيور في السماء يمرحون وجوههم تشع نورا .. وكانت السماء أيضا نورانية بشكل غريب .

صخب الأطفال في السماء جعلني أنسى لبرهة الصراخ والعويل الذي كان يجري في الباحة حول جسدي المغمى عليه ثم رأيت رجالا ونساءا – من الجيران – يدخلون إلى منزلنا مسرعين ،، أحدهم كان جارنا أبو احمد وهو طبيب وكان يصرخ بالنسوة قائلا : ” لا تخافوا .. هو بخير إن شاء الله .. أفسحوا المجال قليلا لكي يستطيع التنفس ” .. قال ذلك وهو يحاول أن يسعفني ،، أو بالأحرى يسعف جسدي الملقى على الأرض وأخذ يضغط على صدري وينفخ في فمي وأنا لا ادري أصلا ما الذي يجري ولماذا أنا أقف هنا بينما جسدي مرمي على الأرض هناك ! لكني لم أكن خائفا .. فقط شعرت بالحزن على أمي وبقيت اصرخ فيها قائلا : “أنا هنا يا أمي .. أنا بخير .. لا تبكي أرجوكِ “.. لكن من دون فائدة فهي لم تكن تسمعني ،،، ولما يئست من أن تسمع صوتي أخذت أتطلع من جديد إلى الأطفال الذين يلعبون ويحلقون في السماء فوق رأسي فرأيت احدهم يحرك يده نحوي كأنه يقول لي : “تعال إلينا” فصرخت قائلا : “أنا لا أستطيع الطيران” لكنه استمر يلوح لي بيده لكي الحق بهم لكني لا أعلم كيف .

وفي هذه الأثناء رأيت امرأة شابة تدخل من باب المنزل الرئيسي ، كانت في غاية الجمال ووجهها يشع نورا ، وكانت وترتدي ملابس بيضاء بالكامل والعجيب أنها لم تكن تمشي بل كانت كأنها تسير على الهواء … المهم شعرت براحة شديدة في داخلي لرؤية هذه السيدة الجميلة ولشدة دهشتي فقد اقتربت مني وعلى وجهها ابتسامة رقيقة وقالت لي : “لا تخف عزيزي إيهاب” .

فقلت لها بلهفة : “أنا لست خائف لكني حزين على أمي ألا ترين كيف تصرخ وتلطم وجهها ” .

فقالت المرأة : “لا بأس يا حبيبي ستفعل ذلك لبعض الوقت ثم تتوقف ” .

فقلت لها بأستغراب : ” لكن كيف تستطيعين رؤيتي والحديث معي وهم لا يستطيعون ذلك ” وأنا أشير بأصبعي نحو الرجال والنساء المحيطين بجسدي الراقد على الأرض .

فقالت المرأة بهدوء : ” هم أحياء يا عزيزي ونحن أموات ” .

فتعجبت من كلامها بشدة .. أموات !!! .. طبعا أنا لم أدرك ما قالته كوني كنت طفلا صغيرا حينها ولا اعرف معنى وماهية الموت على وجه الدقة لكني سمعت أمي تقول مرة عندما مات أحد أعمامي وسألتها أين ذهب فقالت بأنه ذهب إلى السماء ليعيش سعيدا هناك إلى الأبد . فقلت لتلك المرأة ببراءة : ” لكن أليس من المفروض أن نذهب للسماء ” .

فقالت بلطف بالغ وهي تمسح على رأسي بيدها : ” ربما لم يحن موعدك بعد يا حبيبي .. ليس الآن .. لكن ربما بعد سنوات طويلة ستستطيع الذهاب إلى السماء والتحليق معهم ” قالت ذلك وهي تشير بيدها نحو الأطفال الذين يلعبون ويمرحون في السماء فوق رأسي مباشرة ثم تابعت قائلة : “لا تخف فالموت ليس شيئا سيئا” ثم انحنت على رأسي وطبعت قبلة على جبيني وقالت : “أريد منك أن تنقل سلامي ومحبتي لأمك” ثم استدارات ببطء ورحلت وأنا انظر إليها ولا ادري ماذا أقول لكنها كلما ابتعدت عني كلما بدأ المكان من حولي يصبح مظلما أكثر حتى لم اعد أرى ولا أسمع شيء وغرق الوجود كله في ظلام دامس .

حين فتحت عيني مرة أخرى رأيت أمي ومجموعة كبيرة من الناس يجلسون حولي وهم يبكون ويقولون بنبرة متوسلة : “يا رب .. يا رب ..” .. وأحسست فورا بألم شديد في رأسي فصرت ابكي وعندها سمعت الجميع من حولي يصرخون : “الحمد لله  .. الحمد لله .. هو حي” ثم حملوني ووضعوني في سيارة جارنا أبو احمد ونقلوني إلى المستشفى حيث قاموا هناك بتقطيب الجرح على جبيني ثم اجروا لي بعض الفحوصات والأشعة وكانت أمي معي لا تفارقني لحظة ثم أتى أبي وكان ملهوفا وعيناه تملئها الدموع واحتضنني بقوة حتى كاد أن يكسر ضلوعي ،،، وفي مساء ذلك اليوم أعادوني إلى المنزل بعد أن ربطوا رأسي بالشاش الطبي.

بعد مدة على تلك الحادثة تحسنت حالي وعدت إلى لعبي وشقاوتي . وكنت في احد الأيام ألعب بألعابي في المطبخ بينما أمي وجدتي تحتسيان الشاي وتتبادلان أطراف الحديث ، فجأة استدرت أنا نحو أمي التي كانت تجلس خلفي وقلت لها ببراءة الأطفال : ” لقد نسيت أن أخبرك يا أمي عن تلك الشابة الجميلة التي طلبت مني أن أبلغك سلامها ” . فنظرت أمي إلي بإستغراب وقالت : “أي شابة يا عزيزي؟ ” . فقلت : ” تلك الشابة التي أتت وتحدثت معي عندما كنتم تبكون وتصرخون حول جسدي في الباحة” . عندما قلت هذا انتبهت جدتي إلى حديثي أيضا وقالت بتعجب : “وهل كنت تسمعنا ونحن نبكي عليك عندما كنت مغمى عليك  ؟! ” . فرددت بحماس : “نعم كنت أسمعكم وصرخت عليكم أخبركم بأني بخير لكنكم لم تستمعوا لي حتى أتت تلك المرأة الشابة ذات الوجه النوراني وأخبرتني بأنكم لا تستطيعون سماعي لأنكم أحياء ونحن أموات” .

حين قلت هذه العبارة سقط كوب الشاي لا إراديا من يد أمي وتكسر على الأرض أما جدتي فقالت : “ما الذي تقوله يا حبيبي ؟ لعلك كنت تحلم ” . فقلت بعناد الأطفال : “لا لم أكن احلم  .. ولقد كان هناك أطفال يطيرون في السماء وهم يلعبون يمرحون” . فقالت أمي والخوف بادي على وجهها : “أكيد كنت تحلم عزيزي” . فقلت بعناد أكثر : ” لا لم أكن احلم .. حتى أني رأيت أبو أحمد جارنا عندما دخل وبدأ بإسعافي ” . هنا لم يعد لدى أمي وجدتي ما تقولانه وخيم صمت رهيب مشوب بالخوف والذهول وعدم التصديق وقد أنهت جدتي هذا الحديث وهي تقوم قائلة لأمي : “هو طفل ولا يدري عن ماذا يتكلم ؟ ” . لكن في مساء ذلك اليوم قبل أن اخلد للنوم وبينما كانت أمي تحتضنني في السرير همست في أذني قائلة : “كيف كانت تبدو تلك المرأة الشابة التي طلبت منك أن تسلم علي” . فأخبرتها بأنها كانت جميلة جدا ووجهها يشع نورا .. فظلت أمي متحيرة وسمعتها تهمس مع نفسها قائلة : “يا ترى من تكون ؟ ” .

ثم مرت السنين مسرعة ومترعة بالمصائب والحروب والفتن فنسيت في خضمها أو تناسيت تلك الحادثة الغريبة التي وقعت في طفولتي ولم يتبق من ذكراها سوى أثر باهت لجرح قديم على جبيني وأصبح لدي أخوة وأخوات وتوفيت جدتي مطلع التسعينات فقام الورثة ببيع المنزل الكبير وانتقلنا لمنزل آخر أصغر حجما . وفي نهاية عقد التسعينات غادرت أنا العراق والتجأت إلى إحدى الدول الأوربية واستقريت وتزوجت هناك لكن أمي وأبي بقوا في بغداد وقد مات أبي بعد بضعة أعوام .

وكنت بين الحين والآخر , كل سنة أو سنتين تقريبا أقوم بزيارة أهلي في بغداد . وفي سفرتي الأخيرة طلبت مني أمي أن أرافقها لزيارة منزل خالتها , وأنا بصراحة لم أكن قد رأيت تلك الخالة أبدا في حياتي , كنت اسمع عنها فقط لأن علاقتنا بهم كانت مقطوعة خلال فترة طفولتي وشبابي بسبب بعض الخلافات العائلية مع أمي حول مسائل الإرث وما إلى ذلك . وكانت خالة أمي امرأة طاعنة في السن تجاوزت التسعين من عمرها تسكن مع أبنتها وأحفادها في منزل بسيط في احد أحياء بغداد الشعبية .

كانت خالة أمي على عكس ما توقعت فعندما دخلت منزلها شاهدت أمامي امرأة عجوز ضئيلة الحجم لكنها ما تزال قادرة على المشي والحركة وتتمتع بذاكرة قوية . ولقد رحبت هي وأبنتها وأحفادها بنا كثيرا وكالعادة بدأنا الحديث بالسؤال عن الأحوال وعن أخبار من تزوج ومن توفى ومن أنجب ومن سافر من الأقارب الخ .. وكنت مسرورا جدا لتعرفي على أقاربي الذين لم يسبق لي رؤيتهم ، ثم تطرق الحديث إلى ذكريات الماضي السعيد فطلبت خالة أمي من ابنتها بأن تأتي بألبوم صور تحتفظ به في حجرتها لكي ترينا بعض الصور القديمة للعائلة فأتت ابنتها بالألبوم وجلست خالة أمي مع أمي تتصفحان ذلك الألبوم وأمي تسأل خالتها بين الحين والآخر عن هوية بعض الأشخاص الظاهرين في الصور .. كانت صورا قديمة جدا تعود لزمان دقيانوس !! .. وأثناء انشغالهما بتصفح الصور رحت أنا أتحدث مع حفيد خالة أمي وهو رجل يقاربني بالسن فتطرقنا لهموم البلد ووضع العراق وإلى ما ذلك من أمور . ثم أتت أمي نحوي وهي تحمل ألبوم الصور وتشير بأصبعها إلى صورة قديمة جدا وتقول : ” أنظر إلى جدك كم كان وسيما وأنيقا في شبابه ” . وكانت تشير إلى رجل “أفندي” يرتدي بذلة أنيقة ويعتمر قبعة نسميها نحن في العراق “سدارة” وأظن الصورة تعود لعشرينيات القرن الماضي . وكان هناك صور أخرى كثيرة راحت أمي تريني إياها وتعرفني على أصحابها الذين لم أكن قد رأيت معظمهم فكما قلت علاقتنا مع عائلة أمي لم تكن قوية خلال فترة نشأتي وشبابي .

وبينما أمي تقلب صفحات ذلك الألبوم أشارت لصورة وقالت : “انظر لجدتك كم كانت جميلة في شبابها ” . فنظرت إلى الصورة وشعرت فورا كأنما أحدهم لطمني على وجهي لأن تلك المرأة الشابة الظاهرة في الصورة كانت هي نفسها المرأة التي رأيتها حينما أغمى علي في طفولتي .. أعني تلك المرأة الشابة الجميلة النورانية ..

أخيرا عرفت من تكون .. لقد كانت جدتي أم أمي .. ولم أكن قد رأيت صورة لها في عز شبابها لأن جميع الصور التي كانت بحوزة أمي عنها كانت في شيخوختها وقبل موتها , وكانت قد ماتت حين كنت أنا رضيعا في عامي الأول .

أمي لاحظت ارتباكي الشديد فقالت : “ما بك يا عزيزي ؟” . فقلت : ” لا .. لاشيء تفاجأت فقط لكون جدتي كانت بهذا الجمال في شبابها ” فردت أمي ضاحكة : “ومن أين برأيك أتينا بالجمال في العائلة ” .

مساء ذلك اليوم عدنا إلى المنزل ولم أخبر أمي بشيء , لا أدري لماذا , ربما شعرت بأنها لن تصدقني , لكني قررت أن اخبرها خلال اليوم الأخير من سفرتي أي قبل رحيلي عن العراق . كنا نجلس نشاهد التلفاز أنا وهي حينما التفت إليها وقلت لها : ” أمي هل تذكرين حينما سقطت عن الشرفة في طفولتي وأغمى علي” . فردت قائلة : ” وهل استطيع أن أنسى تلك الحادثة التي كدت أن أفقدك خلالها ” . قلت لها : ” هل تذكرين ما أخبرتك به بعد الحادثة عن رؤيتي لامرأة شابة جميلة بينما كنت مغمى علي وقد طلبت مني أن أسلم عليك ” . قالت لي : ” نعم اذكر ذلك عزيزتي لكن أظنك كنت تتخيل فقد كنت طفلا صغيرا ” . فقلت لها : ” أقسم لك يا أمي بأن تلك المرأة الشابة الجميلة التي حدثتك عنها هي نفسها جدتي التي اريتيني صورتها اليوم وهي في عز شبابها في ألبوم الصور الخاص بخالتك ” . فنظرت أمي نحوي باستغراب وقالت : “ربما التبس عليك الأمر يا عزيزي .. لقد كنت طفلا صغيرا جدا حينها ” . فقلت لها : ” لا أنا متأكد بأنها هي ” . فقالت أمي : ” ليرحمها الله ويتغمدها بواسع رحمته ” ولم تقل شيئا بعدها لا ادري لماذا ؟ أظنها لم تصدقني .

في اليوم التالي سافرت وتركت العراق وكانت تلك للأسف آخر مرة أرى أمي فيها فلقد توفيت رحمها الله بالسكتة القلبية أثناء نومها بعد شهرين . وبسبب بعض الظروف القاهرة لم استطع القدوم إلى بغداد لحضور تشييعها ودفنها ومجلس الفاتحة على روحها فشعرت بتأنيب ضمير وأسى كبير بسبب ذلك لدرجة أني كنت أستيقظ أحيانا في الليل وأنا أجهش بالبكاء حتى أن زوجتي وأطفالي انتبهوا لحالتي ونصحوني بالذهاب إلى طبيب نفسي .

وفي إحدى الليالي بعد عدة أسابيع على وفاة أمي نمت مبكرا وأنا أفكر فيها وفي ذكريات الماضي وكنت اشعر بحزن شديد حتى أن الدموع انسابت من عيني ولم أشعر بنفسي إلا وقد غفوت وبدأت أحلم .

في الحلم رأيت نفسي في منزل جدي الذي كنا نعيش فيه خلال طفولتي وكنت أقف في الباحة في نفس المكان الذي سقطت فيه من الشرفة حينما كنت طفلا . على يساري كانت نفس الحديقة الواسعة والجميلة وعلى يميني تمتد الباحة الرئيسية للمنزل لحوالي 30 مترا وصولا إلى باب المنزل الرئيسية المطلة على الشارع , وتماما كما حدث عندما أغمي علي في طفولتي فقد كان كل شيء من حولي ساكن بشكل عجيب ثم سمعت صوت الأطفال وهم يلعبون فنظرت فورا إلى الأعلى ورأيتهم من جديد يحلقون في الهواء وهم يضحكون ويمرحون لكنهم هذه المرة لم يلوحوا لي لكي اذهب معهم . وبينما أنا أقف أنظر إليهم إذا باب المنزل الرئيسية ينفتح وتدخل منه امرأتان شابتين في غاية الجمال والنورانية .. إحداهما كانت أمي .. نعم أمي كما كانت في عز شبابها وكما أذكرها في أيام طفولتي أما المرأة الأخرى فكانت جدتي التي رأيتها أثناء الإغماءة في طفولتي وكلتاهما كانتا ترتديان ملابس بيضاء ناصعة ووجههما يشع نورا كالشمس في رابعة النهار . كانتا كأنهما شقيقتان توأم وليس أم وأبنتها , أردت أن أركض نحوهما لكني لم استطع كأنما جمدت في مكاني , وعلى عكس المرة السابقة فقد توقفت جدتي عند الباب فيما استمرت أمي بالسير حتى وصلت عندي وعلى وجهها أجمل وأرق ابتسامة رأيتها في حياتي , وأخذت أنا أصرخ كالطفل وهي تقترب مني وابكي بشدة قائلا : “أمي هل عدتِ ؟! .. أنا آسف أمي .. أنا احبك كثيرا أمي ” . فأقتربت مني والابتسامة لا تفارقها وطبعت قبلة على خدي ثم قالت بصوتها الحنين الدافئ : “أعلم يا حبيبي .. وأنا أيضا احبك كثيرا ولست غاضبة منك أبدا .. لقد عدت لأخبرك بذلك .. لا تحزن يا نور عيني ولا تقنط لأني في مكان رائع جدا ومعي جميع أحبابي .. أمي وأبي وشقيقي كامل – وكان قد مات في صغره – ” . فقلت لها بلهفة : “وأبي كيف حاله أمي .. هل هو معكم ؟ ” . فلم تجب على سؤالي واكتفت بالقول : ” لا تحزن يا حبيبي .. أريدك أن تتوقف عن البكاء والجزع ” ثم طبعت قبلة على خدي مرة أخرى واستدارات عائدة نحو أمها التي كانت تقف عند الباب وهي تبتسم وتلوح لي بيدها , فصرخت وأنا أراها ترحل : “أمي لا تذهبي أرجوكِ .. هل سأراكِ مرة أخرى ؟ ” . فالتفتت نحوي وقالت : “طبعا يا مهجة فؤادي ستراني .. جميعنا سنكون بأنتظارك .. حتما سنلتقي في يوم من الأيام .. كن طيبا كما أنت الآن وأحسن إلى عائلتك وإلى الآخرين وستأتي عندي يا حبيبي ” . ثم أمسكت بيد أمها وخرجتا من باب المنزل فبقيت أنا وحدي في الباحة وأنا أصرخ باكيا : ” أمي لا ترحلي أرجوك .. أمي ! .. أريد أمي ! ” . وبينما أنا اصرخ على تلك الحالة أحسست بيد تدفعني وتهزني بقوة لأجد نفسي في حجرة نومي وزوجتي وأبني البكر يجلسون بالقرب مني على حافة الفراش وعلامات القلق بادية على وجهيهما وزوجتي تقول : “إيهاب .. إيهاب استيقظ ما بك لماذا تصرخ وتبكي في نومك؟ ” . كان وجهي مبللا بالدموع وأتاني أبني بكوب ماء بارد ومسح على وجهي.

بعد ذلك الحلم شعرت براحة كبيرة لم أشعر بمثلها في حياتي . لقد أنقذتني أمي .. الله على قلبها الكبير .. لم تنقذني من الحزن العميق فقط .. لا .. لكنها أرتني أيضا الخط والسبيل الذي يجب أن أسير عليه لكي أصل إلى السعادة في هذه الحياة وفي الآخرة .

أنا أعلم بأن الكثيرين ممن سيقرؤون هذه القصة سيتساءلون : “طيب لماذا يحدث لك هذا ولا يحدث لغيرك ؟ ” .. فأقول أنا لا أعلم لماذا ؟ .. الله أعلم .. ربما للأمر علاقة بالحادثة التي وقعت في صغري , أو هو قضاء الله يجريه كما يشاء فيتيح لبعض خلقه رؤية ما لا يراه سواهم .. وقد قرأت على النت الكثير من تجارب الاقتراب من الموت فأحببت أن أترك بصمتي واروي حكايتي لعلها تغير نظرة الآخرين للموت والحياة كما غيرت حياتي بأسرها .

تاريخ النشر : 2015-11-21

guest
80 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى