تجارب من واقع الحياة

لاجئ حبيس آلام الماضي

بقلم : حنين عبد الإلاه – بريطانيا

قضى واحدا و عشرين سنة في دهاليز المعتقلات

السلام عليكم قرّاء كابوس،

يطالبنا الجميع بنسيان الماضي، و البداية من جديد، في الكتب التّي نطالعها، في الأغاني التي نسمعها، في البرامج التي نشاهدها، و في أحاديثنا العابرة التي نفتحها مع غريب و نحن ننتظر دورنا في مقهى مزدحم.

و لكن ماذا لو أن ما ننساه لا ينسانا؟

ماذا لو أن الماضي الذّي نهرب منه، يركض وراءنا كحصان مجنون؟

ماذا لو أن ماضينا قضى على حاضرنا و مستقبلنا؟

سمحت لنفسي اليوم أن أتحدث على لسان رجل من بلد ما، قضى واحدا و عشرين سنة في دهاليز المعتقالات و أقبئة التعذيب. مرّت حياته بجانبه فلم يعشها، لأنه تجرأ و طلب أن يتنفس مع الهواء بعض الحرية.

لم يطالب بقلب نظام و لا بتولي الملوكية، فقط أن يعيش بإحترام و أن يأمن على نفسه نزوات أصحاب المقامات الرفيعة.

صحفيّ شاب، لم يتجاوز السابعة و العشرين من عمره، و لا السنة الثانية من زواجه. صدّق ما سمعه عن حريّة الأقلام و الإعلام و شعارات “لا لتكميم الأفواه”…

فسقط في الفخّ، و كان أوّل من رماه بالزندقة و الكفر، أولائك الذين شحذ قلمه دفاعا عن حقوقهم في الحياة.

ترك زوجة حاملا في أشهرها الأخيرة، طُلّقتْ منه بعد وقت قصير، حتى يحطموا رجولته كما حطموا حياته و قلمه. و أيّ وجع أقسى على رجل من إحساسه بأنّه عاجز عن الدفاع عن زوجته، عن ولده و عن مبادئه.

خرج بعد دهر، ذاق فيه من صنوف العذاب ألوانا، ففي النهاية..أليس سجين فكر؟

و من ألعن و أسوء و أخطر من سجين فكر في بلدان اللا عقل، و اللارأي و اللا مبدأ؟؟!!

خرج من سجن ليودع سجنا أعتى، الإقامة الجبرية، حيث يدفن الإنسان حياّ. فلا أحد سيقترب منه أو يمّر من أمام بيته، أو ينظر إليه.. فهو كموبوء يترقب موته الجميع، ليرتاح و خاصه يريح.

خرج من سجنه في الثامنة و الأربعين مثقلا بخيبات مائة عام، لم تعرفه إبنته التي لم تراه يوما واحدا في الواحد و العشرين سنة المنصرمة و بكته طليقته التي أدركت بأنّه الرجل الذي أحبته و تزوجته قد دفن هناك في إحدى الأقبئة العفنة، أما هذا الجسد المحمل بالأمراض، و بقايا روح معذبة تأبى النسيان فلا يعدو أن يكون درسا منهم لمن تسول له نفسه رفع الرأس..

لم يكن أمامه سوى الهرب، فهو لم يعد يجيد غيره، سافر لاجئا إلى بلدان الفكر الحرّ، حيث يضمن عيشا كريما لإبنته و موتا هادئا له.

و لكن هيهات، إندملت جراح جسده و صارت ندوبا تروي ما عاناه رجل أراد الحياة، فسقط فريسة الموت، رجل أراد الحرية فسجن، راد الكرامة فأهين، أراد القليل فإستكثروه عليه.

إلتأمت جراح الجسد و لكن جراح القلب تنزف بلا هوادة، يستيقظ كل ليلة صارخا، يوقظ أهله فزعين يتراكضون نحو غرفته يحتضنون قلبه المرتعش و يكففون بدموعهم دموعه.

يقضي يومه جالسا في الظلام صديق حبسه الوفي، صامتا يراقب نقطة وهمية في الجدار لا وجود لها.

يتحسس بين الفينة و الأخرى صدره بوجل و كأنه خائف أن يقتلعوا قلبه من بين أضلاعه، فقلبه كان عزاه الوحيد بعد أن فقد عقله.

هذه قصة رجل فقد كل شئ، حتى نفسه في سبيل كلمة حق في وجه الجائرين.

أرجو أن ترقد روحه في سلام

تاريخ النشر : 2015-12-16

guest
26 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى