أدب الرعب والعام

أميرة القصر

بقلم : آلين بن حسين – قيصر الرعب – امل شانوحة
للتواصل : https://www.facebook.com/groups/464125697092607/

قصر يبثّ الرعب في نفس كل من يراه

في ليلةٍ مُظلمة كئيبة ، اكتمل فيها القمر ليُشكّل بدراً قبع في منتصف السماء .. غابةٌ واسعة تشابكت أشجارها مكوّنة سقفاً كبيراً ..  و فوق تلك التلّة , وقف قصرٌ غريب بكل شموخ يتوسّط الغابة الموحشة , بشكلٍ يبثّ الرعب في نفس كل من يراه .. ذلك الهدوء القاتل , و صوت احتكاك ورق الأشجار يُخلّفان رهبةً قاتلة !

و في مكانٍ ما .. جالت الأم في الغرفة , و هي بالكاد تستطيع حمل طفلتها بيديها التي ترتعشان بقوّة .. و دموعها تنساب على خدّها , و هي تشتمّ حماقتها التي ورّطتها مع هؤلاء المجانين .. لكن لا شيء مما فعلته , اوقف بكاء ابنتها المستمرّ لأكثر من ساعة , و كأن الصغيرة تشعر بما يُحضَّرُ لها في قبو ذلك القصر !

فهمست الأم : 

– لا تخافي يا صغيرتي .. سأنقذك من هذه الورطة .. هذا وعد يا حبيبتي ..

ثم شردت الأم قليلاً و هي تتفحّص وجه ابنتها , قائلة بقلق :

– أخشى أن تُشبهي والدك … لا , لا هذا مستحيل !! فهذا الوجه الجميل لا يمكن ان يشبه ذلك القذر ! .. (ثم تنهّدت بحزن) .. أتدرين يا هوتشليت !! أتمنى أن لا تشبهيني أنا ايضاً , فأمك اخطأت كثيراً في قرارات حياتها ..(ثم مسحت دموعها) ..آه يا ربي , ساعدني … و أنتِ حبيبتي , رجاءً توقفي عن البكاء .. فأمك لم يعد بإمكانها تحمّل المزيد !

ثم سمعت صوت قفل الباب و هو يُفتح (من الخارج) .. و دخلت عليها شابة (في مثل عمرها) و هي تحمل زجاجة الحليب

– امسكي !! أطعميها لتسكت !! مع أني لا أرى ضرورة ذلك , فقد جهزنا كل شيء في الطابق السفلي 

صرخت عليها الأم بغضب , و هي تحتضن ابنتها بقوة

– اخرجي من هنا !! …قلت اخرجي !!

فأنّتبها الصبية :

 -يالك من غبية !! لقد اختارك القائد بنفسه , ليزوّجك أحدَ أبنائه ..  فلمَ حاولت الهرب منه , و منّا جميعاً ؟!

– انضمامي إليكم , كانت اكبر غلطة في حياتي

– و لهذا استحقيتي العقاب !! فرصةٌ أخيرة ….هل تتراجعين عن تهوّرك الأحمق , و تعودي الى رشدك ؟

– مستحيل !!!

 -لا تنسي .. فالطفلة ستكون الضحية ! و سيلاحقك عذاب الضمير..

– لا تحاولي !! لن أرضخ .. هيا اخرجي من هنا !!

 -فكّري ملياً .. فلم يعد امامك الاّ القليل من الوقت ..

قالتها بلؤم  .. ثم خرجت , و صفقت الباب خلفها ..

و هنا انتبهت الأم بأنها لم تقفل الباب عليها (كما كانوا يفعلون لأكثر من ثلاثِ أسابيع !)

فهمست الأم بشيء من الغيظ و الضيق الممتزجان بالسعادة

 -الغبية ! نسيَّت إقفال الباب .. سأستغل هذه الفرصة لأهرّبك من هنا .. لكن عديني أن تكوني هادئة يا ابنتي , كيّ نخرج من هنا احياء !

و بعد دقائق .. و بحذرٍ شديد .. خرجت الأم و هي تحمل طفلتها بين ذراعيها .. و بخطواتٍ خافتة سريعة , نزلت بها لأسفل الدرج .. صريرُ بابٍ يُفتح .. لتنطلق بعدها بكل ما أوتيت من قوّة , متوغّلة تلك الغابة الموحشة .. قبل ان تختفي في الظلام

***

في صباح اليوم التالي…

حملت جوانا الطفلة من داخل السلّة صغيرة .. و كانت ما تزال نائمة بكل وداعة و رقّة , و قد لُفّت بعناية بالغة .. و ملامح الصغيرة البريئة , جعلت الإبتسامة ترتسِم على وجه السيدة 

و في هذه اللحظة ..خرج زوجها جورج من الداخل , لكنه تجمّد (عند باب منزله) بعد ان رأى زوجته تحمل هذه الطفلة

 -جوانا ؟!

التفتت جوانا له بحماس

 -جورج ! انظر !! لقد وجدتها عند عتبة منزلنا , كانت موضوعة في هذه السلّة

 -و من تكون ؟!

 -لا أعلم ! يبدو أن شخصاً ما وضعها هنا …. (ثم تنهّدت بحزن) ارأيت يا جورج .. لقد ارسل الله لنا بهذه الطفلة , ليُخفّف عنا الم فقدان طفلتنا ماري

 -جوانا ! أجننتِ ؟! هيا دعينا نذهب حالاً لأقرب ميتم , و هم سيتكفلون برعايتها..

 -لا ارجوك جورج !! لقد أحببتها ..و اودّ أن اربّيها بنفسي .. رجاءً !!

 -لكن جونا..

 -لا تحاول يا جورج , لن اقتنع ….(ثم سكتت قليلاً) …. حبيبي رجاءً , لا تكسر بخاطري .. فمنذ وفاة ماري و انا ..(و تمسح دمعتها)

 -حسناً جوانا ! اهدأي قليلاً …. (ثم يتنهّد بضيق) .. طيب .. ما باليد حيلة .. افعلي ما يحلو لك

 -أحقاً ؟! اشكرك عزيزي .. انا مُمتنّة لك بحقّ !!

و عاد و تنهّد جورج بعدم ارتياح..

 -هيّا ادخليها للمنزل , فالجوّ البارد .. و انا سأذهب للعمل .. اراكم عند المساء

و على الفور !! ادخلت جوانا (بحماس و فرح) الطفلة الى المنزل , و هي تحملها بحنان و تتأمّل وجهها الطفولي الجميل..

 -من يصدّق انك ابنتي الآن ؟ جيد انني لم ارمي اغراض المرحومة ماري .. آه يا لك من مسكينة ! من تلك الأم القاسية التي استغنت عن طفلة بهذا الجمال و الوداعة ؟! .. لكن لا يهمّ !! المهم أنك من اليوم , اصبحتي ابنتي  .. فهيّا يا ملاكي !! لأعرّفك على اخيك مايكل ، هو يُكبرك بأربعة أعوام .. انزوى كثيراً بعد وفاة اخته , لكنه حتماً سيتغير بوجودك .. و ربما يعود مُشاغباً و مُثيراً للمتاعب كما كان …..

و اختفى صوتها تدريجياً مع صعودها لغرفة مايكل في الطابق العلوي (من المنزل)

و في الخارج ..شعورٌ غريب جعل جورج يترجّل من سيارته ليعود ناحية باب منزله , مُتجهاً نحو سلّة الطفلة .. ثم صار يبحث فيها بين كومة من اللحف الصغيرة , إلى ان وجد قصاصة من الورق ..

فظهرت على وجهه بعض علامات الحيرة ..              

و على الفور ! تسلّلت مشاعرٌ غريبة إلى داخله .. نوعٌ من الخوف مع دهشة مُزجتا بكمية من الفضول .. ففتحها بهدوء و تردّد , ليرى ما كُتب بداخلها.. لكن ما قرأه كان اغرب مما توقعه !

و كانت جملة واحدة مُريبة :

(( في حال اتعبتكم كثيراً ! فأعيدوها الى الملاعين في القصر الأسود ))

و هنا ظهرت علامات الإرتباك و التوتّر على وجه جورج .. فطوى الورقة و دسّها في جيبه , ليذهب الى عمله , محاولاً تناسي شكوكه !

***

بعد مرور ثمانية أعوام..

و في مساء احدَ الأيام ..

اقتربت جوانا من ماري الصغيرة , التي كانت مُنهمكة في لعبها :

 -ماري !! اتذهبين معي للسوق ؟

فتركت العابها على الفور , و قفزت الى والدتها في سعادة :

 -بالطبع !!

نظرت جوانا لإبنها مايكل , الذي كان مُندمِجاً في اللعب على جهازه الإلكتروني

 -مايك !! هل ترافقنا ؟

 -لا .. لا اريد 

و بعد ساعة .. خرجتا من السوبرماركت (حاملتان بعض الأغراض) , و سارا في طريق عودتهما الى المنزل .. و هنا قالت الأم لأبنتها بقلق :

– أتدرين يا ماري .. اخوك مايكل صار يقلقني كثيراً في الآونة الأخيرة ، انه لا يفارق غرفته ..و ان خرج , يظلّ اسير الأجهزة .. هادئٌ بشكلٍ يُؤرقني !

أومأت ماري موافقة , و علّقت :

 -نعم امي ..اصبح (مايّ) غريبٌ حقاً !

و قبل ان تقطع جوانا الشارع برفقة ماري , مرّت سيارة فارهة من امامهم , سائقها شابٌ عشريني يبدو عليه الطيش و الشغب , كاد في ثواني ان يودي بأرواحهما ..و رغم خطئه , الاّ انه اطلق للسانه العنان ليبدأ بنعت جوانا بأقبح الألفاظ !

فتمتمت الأم بغضب :

 -ياله من شخصٍ مزعج !

ردّت عليها طفلتها ببراءة :

 -لقد أزعجك كثيراً , اليس كذلك .. الا يجب أن يموت ؟!

و ما إن أتمّت عبارتها , حتى انقلبت سيارته (على بعدٍ قريب منهما) بين دهشة الأم و خوف الصغيرة , التي اتسعت عينيها لتعبّر عن مشاعر مختلطة اجتاحتها : من خوف و دهشة ! صمت و رهبة , كلّها اجتمعت بداخل كيان الصغيرة في آنٍ واحد .. و امها لم تكن بأفضل حالٍ منها !

و بسرعة …اجتمع الناس حول السيارة المقلوبة , و عمّ الصخب و ارتفعت الأصوات .. بينما شدّت جوانا قبضتها على يد ماري , لتُبعد طفلتها عن ذلك المكان الكئيب .. و في داخلها صراعٌ عنيف عما حدث للتوّ .. حيث حاولت الأم اسكات ضجيج افكارها , و هي تردّد في نفسها : 

 – انها صدفة يا جوانا.. مجرّد صدفة !

و ما إن خطّت قدمها المنزل , حتى نسيت .. او بالأصح : تناست كل ما حدث !

و في مساء احد تلك الأيام الهادئة..

دخلت ماري و صديقتها (اليس) الى المنزل , و ضحكاتهم تملأ المكان

– خالتي !! احزري ما الذي حصل اليوم ؟ .. كنّا في حصّة العلوم , و كانت المعلمة تشرح , و في يدها زجاجة تحوي محلولاً كيميائي .. و حينها همست لي ابنتك : بأن في امكانها كسر الزجاجة , بمجرّد النظر إليها .. فتحدّيتها !! فصارت ماري تعدّ .. و بعد الرقم ثلاثة ..

فأكملت ماري الكلام , بحماس :

 -انكسرت الزجاجة فعلاً !! لكن لا تقلقي امي , فلم يتأذّى احد .. المهم في الموضوع : انني فزت بالتحدّي !!!

 -لا تفرحي كثيراً يا ماري .. كانت مجرّد صدفة ..  اليس كذلك , خالتي ؟!

و حينها كانت عينا ام مارى متسعتان بذهول :

 -ماذا ! … آه نعم ! كانت صدفة , عزيزتي .. (بصوتٍ خافت) .. مُجرّد صدفةٌ اخرى !

و مرّة اخرى حاولت جوانا إخفاء تعجبها .

في هذه الأثناء ..انتبهت الأم الى بقعة دمّ على كتف ابنتها

 -ماري ! ما هذا ؟!

ففتحت ماري ازرار قميصها , و كشفت عن كتفها ..لترى الأم جرحاً عميقاً ينزف بغزارة.. فصرخت بفزع :

 -ماري !! ما الذي حصل لكِ ؟! هل سقطتي ؟!

فهزّت ماري رأسها يُمنة و يسرة نافية

فقالت اليس :

 -آه ! اظنك جرحتي نفسك , عندما عبرنا من بين تلك الأسلاك .. اتذكرين ؟! وقتها علِقَ قميصك ..

 -آه نعم , تذكّرت !! لكني حقاً لا اشعر بأيّ الم !

قاطعتهم الأم جوانا , بعد ان احضرت الضمّادات :

 -ايّاكم ان تذهبا من تلك الطريق ثانيةً , افهمتم !! .. ماري .. سأقوم بتضميد جرحك الآن .. لكن ان بقي ينزف , فسآخذك للعيادة

و في تلك الليلة .. و بعد ان نام الجميع .. استفاقت ماري مفزوعة , ثم ركضت بسرعة ناحية غرفة اخوها , و حاولت هزّه بقوّة لإيقاظه .. و بعد ان فشلت في ذلك .. اسرعت ناحية غرفة والديها , و سحبت يد والدتها , و هي تلهث برعب :

 -امي تعالي بسرعة !! مايّ اصابه مكروه !! مايّ ليس بخير!

 صوتها المتهدّج المتوتر .. انفاسها المتقطّعة و كلماتها الغير مرتّبة , اثارت الخوف في نفس والدتها..
بهذه الأثناء , استفاق جورج :

 -ماري ! ما به مايكل؟!

 -لا أعرف ابي ! لكنّه سيموت ان لم تسرعا !!

و بسرعة انطلقا ناحية غرفة ابنهما , ليريا وجهه مُزّرق لدرجة مخيفة ..فحمل جورج ابنه , و انطلقوا فوراً الى المستشفى .

***

في تلك الليلة …

اخبرهم الطبيب بأن مايكل يعاني من مشكلة في جهازه التنفسي .. و رغم ان حالته استقرّت , الا انه ما زال يحتاج الى بعض الفحوصات لمعرفة السبب , لهذا سيرقد هذه الليلة في المستشفى ..

لذا بقيت والدته برفقته , بينما عاد جورج و ابنته ماري إلى المنزل .

و هناك و قبل موعد النوم .. نادى الأب ابنته , و بيده حقيبة الإسعافات الأولية :

 -ماري !! تعالي يا ابنتي

فأتت من فورها و هي تقفز بنشاطها المعتاد , و ابتسامتها اللطيفة التي لا تفارق شفتيها :

 -نعم ابي !!

 -امك اوصتني : ان اغيّر لك الضِماد ..

ثم صار يخرج من الحقيبة : المعقّم و الشاش , و هو يقول لأبنته معاتباً :

 -يال عنادك يا ماري ..لما لم تسمحي للطبيب ان يرى جرحك , طالما اننا كنّا في المستشفى

 -لأنه لا يألمني اصلاً !

و صار يفكّ ضمّاد كتفها , و عقله مشغول بصحّة ابنه .. لكن قطع تفكيره موضوعاً اهم و اغرب بكثير …

فالجرح الذي بكتف ماري اختفى تماماً و كأنه لم يكن !

 -لحظة ! لقد غيّرت لك الجرح بنفسي , قبل ساعات .. فهل معقول انني ضمّدت الكتف السليمة ؟! هيا ارني كتفك الآخر

 -ما بك , ابي ؟ كتفي الآخر سليم ! هل نسيت مكان الجرح ؟

فما كان من الأب الاّ ان اعاد لفّ الضمّاد على الكتف الذي تعافى ! ثم ارسلها للنوم .. بينما ظلّ حائراً (يحدّث نفسه) :

 -قبل ساعات , كان جرحٌ غائر ! .. و الآن , و لا خدش فيه ! كيف يعقل هذا ؟!

 

و قبيل الفجر .. استيقظ الأب ليرى ماري مازالت تلعب بدماها في غرفتها

 -ماري !! الم تنامي الى الآن ؟!

 -اصلاً انا في حياتي لم اشعر بالنعاس , لكنكم دائماً تجبرونني على النوم ! و لا ادري لماذا ؟

فابتسم الأب :

 -تتكلمين و كأن النوم من الكماليات .. طيب تعالي .. فطالما انك لا تشعرين بالنعاس .. فلنذهب الى الصالة , فقد قارب شروق الشمس 

و هناك .. ظلّت الصغيرة تلهو و تلعب في ارجاء الصالة بكامل نشاطها و حيويتها (رغم استيقاظها طوال الليل) بينما والدها مُستلقي على الكنبة بتعبٍ و خمولٍ شديد .. و عيناه تُعلنان الحرب و تلحّ عليّه للأستلام مُجدّداً للنوم .. لكنه ظلّ يراقب ماري ببصره , و هي تجري يُمنة و يسرة حيث بدت كفرسٍ تستعرض خفّة حركتها و رشاقتها , بشعرها الأسود الذي ربطته ليتدلى و يصل إلى بداية ظهرها , و جسدها النحيل و الرقيق , و ملامح وجهها الطفولية الهادئة ..

 -طفلةٌ جميلة للغاية ..

هذا ما قاله جورج (و هو يتمّتم بصوتٍ خافت)

فاقتربت ماري منه , و سألته :

 -أبي ! من تقصد بالطفلة الجميلة ؟

فصحى من غفوة افكاره على سؤال طفلته

 -ايّ طفلة ! عن ماذا تتكلمين ؟

 -لقد قلت للتو :(طفلة جميلة للغاية) .. هل كنت تقصدني ؟

 -ماذا ! اسمعتني ؟!

فأومأت موافقة .. فقال بدهشة :

 -ربما قلتها بصوتٍ مسموع !

ثم عاد و سألها بقلق :

 -ماري ..حبيبتي .. اجيبيني بصراحة .. كيف عرفتِ بأن أخوك مريض ؟

 -لقد رأيته يموت في المنام ….. لا !! اقصد .. سمعته يختنق 

و صارت تحدّث نفسها : (لا لن اخبره مُجدداً عن كوابيسي بشأن قصر الغابة , كما عن رؤيتي لصاحب القصر البارحة , و هو يخنق اخي .. لأنه اساساً لن يُصدّقني , كما فعل بالمرّات السابقة!)

فأرادت ماري تغير الموضوع :

 -ابي ! لما كنت تقول لأمي البارحة : بأنك تظن ان اخي لديه اعراض التوحّد .. أبسبب قلّة اصدقائه ؟ او لأنه يُلازم دائماً غرفته ؟ فالمعلمة اخبرتنا عن ذلك المرض ..

 -لحظة ! هل كنت تتنصتين علينا , يا ماري ؟!

قالها بحزم و بنبرة تأنيب .. فسارعت الصغيرة بالنفي :

 -لا ابداً !! كنت حينها ادرس في غرفتي , و لم اقترب اصلاً من غرفتكم .. احلف لك !!

 -صدقيني لن أغضب منك إن قلتِ الصدق ..هل كنت تتنصتين ؟

 -قلت لا !! يعني ما الغريب ان اسمعكم و انا في غرفتي .. فأنا دائماً اسمع حوارات الطلاب بالصفّ الآخر

فلوى جورج شفّته مُتعجباً

 -يبدو ان لديك حاسّة سمعٍ قوية ! المهم يا ماري .. لا تدعي امك ترى الجرح .. و دعي موضوع تغير ضمّاداتك لي

 -لماذا ؟!

لكنه لم يُجِبها .. بل اكتفى بإرسالها لغرفتها كيّ تستعد , فحافلة المدرسة  قاربت على الوصول

***

بعد شهر ..

كانت ماري تلعب في حديقة منزلها مع صديقيها .. و اقترحت أليس ان تتسابق ماري مع ديفيد إلى أعلى الشجرة ..

و بالفعل عدّت أليس : واحد …. اثنان …. ثلاثة .. انطلقا !!!

فتسلقا بسرعة , وعينيهما تتقدان حماسةً و سعادة .. و وصل ديفيد قبلها , و اطلق ضحكةٌ عالية , و قال بفخر :

 -الأولاد هم الأقوى !!

فعلّقت ماري بغيظ (و هي في منتصف الشجرة) :

 -أحقاً ؟!! سألقنك درساً الآن .. فقط انتظرني

ثم وصلت ماري إليه , و تشاجرا مُزاحاً .. الى ان انهكهما التعب , فجلسا يستريحان على غصن الشجرة .. بينما ذهبت اليس لتجيب على اتصال والدتها (بعد ان نادتها جوانا) .. و قبل ان تتدخلا المنزل , قالت ام ماري :

 -ماري !! ديفيد !! انتبها جيداً , و لا تطيلا اللعب , فقد قاربت الشمس على المغيب 

 -حاضر امي !!

دقائقٌ قليلة , و هاهي السماء تتلوّن باللون البرتقالي , والشفق بدا واضحاً .. الشمس اختبأت بين الجبال البعيدة تهمّ بالغروب , لتُنهي تفاصيل هذا اليوم

 -ديف .. انظر هناك !!

 -أين ؟

 -أمامك !! ما ابعد شيء تراه ؟

 -الغابة

 -نعم هي .. الا تشعر برغبة في الذهاب اليها ؟

 -بلى .. لكني سمعت بعض الناس تتحدّث عن امورٍ غريبة تحصل هناك !

 -تقصد في ذلك القصر الأسود ؟

و اشارت بإصبعها نحو الغابة

 -أين ؟ انا لا ارى ايّ قصر !

 -كيف لا تراه ! انظر جيداً ..هناك رجلين يتحدثان على شرفة القصر

 -انا لا أرى سوى أشجار كثيفة , و هي بعيدة جداً !

 -لا يهم .. اتعلم يا ديف .. انا ارى تلك الغابة كثيراً في منامي .. إنها مخيفة للغاية , و التوغّل داخلها يرعب النفوس ! بالأخصّ ذلك القصر , لطالما رأيت نفسي مسجونة في ……..

قاطعت حديثهم صوت اليس (من اسفل الشجرة) :

 -أيّ غزل هذا الذي يدور بينكما ؟

فقال ديفيد بغيظ ..

 -ايّ غزل ؟! فقط انتظريني لأنزل , و سأشكوك لأمك !!

و بينما همّ ديفيد للنزول , زلِقت قدمه .. فحاول التمسّك بكتف ماري , الاّ انها هي الأخرى فقدت توازنها .. ليسقطا معاً 

 

و بعد مرور بعض الوقت ..

فتحت ماري عينيها , لترى نفسها مُستلقية فوق الكنبة في منزلها

فقالت بدهشة :

 -ما الذي حصل ؟!

فجلست اليس بقربها (على طرف الكنبة) و أجابتها :

 -لقد سقطتِ انتِ وديفيد من اعلى الشجرة , و فقدتما الوعي !

 -و اين هو ديف ؟

 -لقد أحضره والدك للتوّ من المستشفى .. و هو يجلس هناك

فنظرت الى حيث اشارت , لترى ديفيد (في مكانٍ آخر من الصالة) واضعاً قدمه المُجبّرة على الطاولة التي امامه ..

 -و لمَ كُسرت قدمه ؟! هل كان سقوطنا بتلك القوة ؟!

فقالت اليس :

 -انا اصلاً أتعجب لعدم إصابتك بمكروه ! فالشجرة عالية جداً ، كما ان ديفيد سقط فوقك .. حتى منظر سقوطك كان مخيفاً جداً ! ظننتك حقاً , ستفارقين الحياة !

و في هذه الأثناء ..خرجت الأم جوانا من المطبخ , و بيدها طبق كعك

 -و اخيراً استيقظتِ يا ماري ! حمداً لله على سلامتك , لقد اخفتنا عليك كثيراً .. الم اقل لكم اكثر من مرّة ان تنتبهوا ؟ ..              على كلٍ , اتصلت بأهاليكم و هم على وشك الوصول .. اتمنى ان لا تلمّني والدتك يا ديفيد عما حصل معك !

ثم تحوّط الأصدقاء الثلاثة لتناول الكعك (في انتظار قدوم والدة اليس و والد ديفيد) حيث اكملوا الجلسة بتبادل الضحكات البريئة , و الأحاديث المثيرة لأعمارهم الصغيرة

***

بعد ستة أعوام..

ها هي ماري بشعرها الأسود الطويل , و ملامحها الناعمة الجميلة .. تلك الطفلة الصغيرة , اصبحت اليوم : صبيّة في غاية الجمال .. و قد وقفت هناك بجسدها النحيل , الذي صار ينتفض رُعباً و رهبة !              

فعلى بعد خطوتين منها , استلقى طفلٌ صغير فوق مهدٍ حجري .. و حوله مجموعة من الأشخاص المُتخفييّن خلف عباءات تشبه ثياب الكهنة , بقبعاتهم المخروطية .. و هم يتلون تراتيل مُتناغمة مع لحنٍ يثير الرعب في النفوس … كانت حينها ماري تلبس ثوباً حريري كثياب الأميرات في العصور الوسطى , و بيدها شعلة النار

لكن الحفل توقف فجأة !! بعد ان صرخت ماري بقوّة , طغت على بكاء ذلك الطفل .. قبل أن ترمي الشعلة على الأرض (بغضب) :

 -توقفوا جميعاً !! هذا خطأ ! لا يمكنني فعل ذلك ..رجاءً دعوني اخرج من هذا القصر الكئيب !! فأنا لا أنتمي إليكم !

فقام القائد من على عرشه المخملي , و اقترب منها بغضب ..

سكوتٌ تام و ترقّب من جميع الحضور , يتخلّله بكاء الطفل

 -هوتشليت !! كم أتعبتنا يا فتاة .. متى ستفهمين أنك ابنة شيطان ؟

 -لكن أمي كانت منكم .. يعني بشرية !

 -أمك خانتنا جميعاً !! و لم تُقدّر أن ابليس اختارها زوجةً لأحدَ ابنائه ..لذا عاقبها : بأن تُحرقين انتِ بذنبها , ليحرِق قلبها و يُربّيها..  لكنها أخذتك بعيداً , و عصت اوامره ثانيةً ! و الجيد اننا وجدناها سريعاً , لتموت تلك الحقيرة شرّ موتة ..

أووه !! مازلت اذّكر ذلك اليوم جيداً .. كم كانت دماءها لذيذة .. اتذكرون يا شباب !! الم يكن لحمها النيء , الذي تشاركناه جميعاً طيباً ؟!!

فثارت الجموع بحماس .. فصرخت ماري و الدموع تنساب فوق خديها :

 -توقف يا مجرم !! انا لا اريد سماع هذا الكلام ..

 -إذاً لا تكوني غبيّة كأمك ! فإبليس اعطاكِ فرصة جديدة .. فهيّا لا تتعبينا اكثر .. و قومي بمهمّتك الأولى , و احرقي هذا القربان المزعج !!

 -قلت لن افعل !! انا لست من عبّاد الشياطين … دعوني اذهب , رجاءً !!

فسكت قليلاً (و هو يفكّر) ..ثم قال بابتسامة لئيمة و ساخرة :

 -حسناً , حسناً .. طالما أنكِ مُصرّة هكذا .. فيمكنك الذهاب

 -أحقاً ؟!

 -طبعاً !! لكن هناك بالتأكيد من سيدفع الثمن .. فمن يا ترى اختار ليُعاقب مكانك ؟ (صمت قليلاً , ليتابع بسخرية و لؤم) .. هل أختار مثلاً : الماما جوانا ؟ ..ام البابا جورج ..ام أخوك مايّ , كما تحبين أن تناديه ؟.. أتدرين ماذا .. لمَ لا نقتلهم جميعاً ؟ .. ماما و بابا و اخوك الأحمق… ما رأيكم انتم ؟!!

فعادت و ثارت الجموع من جديد , مؤيدين اقتراحه المُنّصف !           

فصرخت ماري بفزعٍ شديد , و هي تبكي :

 -لا , ارجوكم !! دعوهم و شأنهم .. الم تقولوا أنهم غادروا المنطقة , بعد ان يأسوا من إيجادي ؟!

 -هذا صحيح .. فقد كنت اراقبهم من نافذة العليّة .. المساكين ! بحثوا عنك في كل شبرٍ من الغابة .. حتى ان أباك وصل إلى هنا , و وقف على عتبة قصري .. لكن الجبان .. ذهب قبل ان يجرؤ على طرق بابي .. لكن لا تقلقي عزيزتي , فنحن بإمكاننا إيجادهم بكل سهولة

 -لا أرجوك .. هم لا ذنب لهم …

ثم سادت لحظات صمت .. جعلتها تعود بذاكرتها للوراء..

و تحديداً .. قبل خمسة أعوام :

))كانت نهاية السنة الدراسية .. حين خرجت عائلتها أخيراً إلى تلك الغابة لينفذوا لها طلبها , الذي سئمت تكراره بإصرار !

و بعد يومٍ مليء بالسعادة و اللعب .. خيّم الظلام .. لينشغل الوالدان بنصب الخيمة , فلم يلاحظا ابتعاد الصغار عنهما .. ليتفاجآ بعد قليل , بصراخ ابنهم مايكل (من بعيد)!

فركضا باتجاه الصوت , ليريا مشهداً غريباً !

فماري كانت تمصّ قدم اخوها التي كانت تنزف بغزارة !

و هنا .. دارت صورٌ كثيرة متتالية في ذهن الأب :

الرسالة الغريبة التي وجدها في طيات لحافها قبل تسعة أعوام ! القصر الأسود في الغابة و شكله المهيب ! الشائعات الكثيرة التي دارت حوله , عدا عن القصص المخيفة التي كان منبعاً لها ! كما تذكّر موضوع حادث السيارة الذي وصفته له الصغيرة بكل عفوية .. كما معرفتها بمرض اخيها .. و شفاء جروحها بسرعة .. و ندرة مرضها .. كما دقّة سمعها وحدّة بصرها ! الكثير الكثير من هذه المواقف ، التي بدأت منذ شهورها الأولى , و بقيت مستمرة الى تلك اللحظة ! جميعها تزاحمت في عقل الوالد المكتظّ بغرائب الصغيرة ! و شريط الذكريات صار يلفّ بثوانٍ معدودة في رأسه !

و هنا !! و بغير وعيٍّ منه .. شدّ ماري من ثيابها , و قذفها بعيداً عن ابنه .. صارخاً في وجهها :

 -ابتعدي عن ابني !!

 وسط ذهول الجميع !

فقالت الصغيرة بدهشةٍ و خوفٍ شديد , و بصوتٍ بدا مُرتعشاً , و قد اغرورقت عيناها بالدموع

 -كنت أسحب منه سمّ الحيّة ! لقد شاهدت ذلك في الفيلم

وأشارت بيدها (التي كانت ترجف) نحو حيّة صغيرة , كان مايكل قد قتلها بالحجر (بعد ان لدغته)

فاتسعت عينيا جورج بذهول .. و قد شُلّ تفكيره و انعقد لسانه .. فهو لم يعد يعرف الصحّ من الخطأ .. و لم يعد يدرك ما عليه فعله .. صراعٌ داخلي عنيف .. افكارٌ عشوائية و غير مرتّبة .. كلماتٌ ليست في محلّها تهمّ بالخروج ! بينما قلبه بدأ يخفق بقوّة , فقد أحسّ بشعورٍ غريب .. شعورٌ موجع و كئيب ! شعورٌ بشع ! أخبره بأنه : سيفقد ماري للأبد !

و بالفعل !! لم يدم جلوس ماري مكسورة النفس طويلاً .. فوقفت بثبات و نظرت لوالدها نظرة عتاب , ثم ركضت بكل قوتها تغالب دموعها متوغّلة اكثر في الغابة , غير أبهة بنداءات اهلها .. الى أن اختفت تماما ))

 

لقد تذكّرت الصبية ماري كل شيء عن ذلك اليوم الكئيب !

ألمٌ تملّكها .. مشاعر خوف سيطرت عليها .. ندمٌ شديد و عتب !

و هنا !! لم يكن امام القائد لكي يُنهي جمودها المقيت , الا ان انحنى بنفسه و التقط شعلة النار(المطفأة) من على الأرض , ثم اخرج ولاّعته من جيبه .. و اوقدها من جديد , قبل ان يعيدها لماري .. وهو يقول لها بنبرةٍ مخيفة  و صارمة :

 -أنت وحدك يا هوتشليت , من تقرّري مصير عائلتك

فما كان منها الاّ ان امسكت بالشعلة بيديها المتعرّقتين لكثرة الخوف .. و لكن قبل ان تقترب من ذلك الطفل , اذّ بجسمها ينتفض فجأة !! بينما صار نظرها يتنقّل بسرعة في أرجاء السقف و زوايا الصالة ..

فابتسم القائد و سألها باهتمام :

 -هآ يا هوتشليت .. ماذا ترين ؟

فأجابته بصوتٍ مُرتجف :

 -ما هذه المخلوقات المخيفة , التي خرجت من بين الجدران ؟!

و هنا نادى القائد بصوتٍ عالي (مُرحّبا) :

 -أهلاً و سهلاً بالشياطين في حفلتي المتواضعة !!

فثارت الجموع , و صاروا يرفعون أصواتهم بالتراتيل , المترافقة مع عزف البيانو الكئيب

ثم قال القائد لهوتشليت :

 -يا لك من فتاةٍ محظوظة !! جميعنا نتمنى أن نراهم , لكنك وحدك تفردّتي بهذه الميزة ! ربما لأنك نصف شيطانة .. كم احسدك , يا فتاة ! .. و الآن اقتربي من القربان .. فصراخ الطفل أتعبنا جميعاً .. هيا !! أنهي عذابه , و ارسلي روحه الى …

و فجأة !! التفتت ماري خلفها , لترى (وحدها) رجلاً عجوزاً بقرون تيس و أرجل حصان يقترب منها و يقول :

 -هيا يا ابنتي .. نفّذي الأوامر , و اجعلي والدك فخوراً بكِ

 و هنا !! اقتربت ماري من الطفل , و رجلاها بالكاد تستطيعان حملها .. قلبها يكاد يُقتلع من مكانه من شدّة الخوف .. يداها ترتعشان بقوة , لا بل جسدها كلّه .. أغمضت عينيها , و هي تتذكّر أخوها مايكل الذي لطالما أزعجه نداءها له (بمايّ) .. كلمات والدتها الحنونة التي تنساب إلى داخلها بهدوء .. و عطف والدها و ابتسامته المطمئنة ، الذي جعلها تغفر له تلك الإساءة العفويّة .. و تذكّرت ايضاً ضحكات أصدقاءها التي لا تفارق مسامعها ..همساتهم , كلماتهم ..صراخهم و إزعاجاتهم ..

و لأجلهم جميعاً , كان من الصعب عليها ان تتصوّر : أن تصيب التعاسة ايّاً من تلك الوجوه البريئة و النقيّة !

و بدأت رعشة يديها تزداد و هي تمشي خطوة .. ثم تقفّ لثانيتين .. لتتبعها بخطوةٍ أخرى .. و هاهي الآن تقف بجانب الطفل .. صراخه يؤلمها و يزيد من مواجعها .. لكن ما باليد حيلة ، فهذا الصغير ميتٌ لا محالة .. على يدها أو بيد غيرها .. لكن المفارقة : أنه لو مات على يدها , فسيسلم من تحبّ .. أما لو قتلوه هم .. فسيتبعه الكثيرون !

أغمضت عينيها بقوّة ، و انسابت دمعة رقيقة على خدّها الناعم .. ثم رفعت يدها , و قالت بصوتٍ مُتألّم ضعيف :

 -آسفة ..ارجوك سامحني !

ثم القت الشعلة على جسده الصغير , لتنهار فوراً على الأرض ببكاءٍ هستيري .. واضعة يديها على أذنيها , لئلاّ تسمع صراخ الطفل الذي صار يتلوّى من شدّة الألم ! قبل ان يختفي صوته تماماً .. و للأبد ! وسط تصفيق الجميع و صراخهم العالي :

 -تحّيا أميرة القصر !! تحّيا أميرة القصر !!

ثم تعلو الترانيم المُترافقة مع الألحان المخيفة ! و مازالت ماري جاثية بقرب جثة الصغير المُتفحّمة….. مصدومة !… خائفة ! .. مُتألمة !  تواجه برعبٍ و قلق … مصيرها المجهول !

تاريخ النشر : 2015-12-18

guest
58 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى