أدب الرعب والعام

جار المقابر

بقلم : ياسين أحمد سعيد – مصر
للتواصل : [email protected]

فهل يوجد اوعر من ان يكون طريقك الى منزلك , هو طريق المقابر ؟!

– لا أحد يختار أن يمرّ فوق أعناق الموتى يومياً .. القدر هو من اختار ، فلا تلوموني أنا .

*******
فى قصص الحكايات ، تحجز دائماً صفحاتٌ مميزة عن بطلٍ يتيم.
لكن مضى زمن الأبطال ، و بقي الأيتام فقط !
كان اسمه مهدي !!
هو ممّن تستطيع القرية أن تميزهم عن بعد ، من قعقة عربته الكارو .. لمعة الشمس على الصلع الخفيف الذى زحف ساحة رأسه .. و طيبته التى تنحدر إلى درجة البلاهة ..
بينما يرفع صوته قائلًا :
– سلامو عليكو يا حُجيجة !!
تصغير كلمة حاج .. لا يستعمل غيرها لمناداة الآخرين عندما يكون منبسط الأسارير ..
و لأسبابٍ خاصة به ، يُصر أن يجمعها (حُجيجة) ..

لكنه لم يعد يستخدمها منذ زمنٍ طويل !
فمن يملك البال الرائق , بينما زوجته فى بيت أهلها .. و فى حوزتها حبّة عينه , ابنه الوحيد ؟
و قد أرسل كل وسطاء الخير ، ينقلون تصميمه على :
– أنا متمسكٌ بكِ !! لا يمكن لولدي أن يكبر بدوني كما ….
و ذبلت عيناه ، مع إضافته :
– كما حدث لي !
المفارقة العجيبة أن زوجته تكنّ له نفس التشبث .. ما العلة إذاً ؟!

كان ياما مكان .. ولدٌ صغير اسمه مهدي , ولِدَ دون أن يعرف كلمة “أب”..فقط كلمة “عمّ”.. و بمرور الوقت , زاد عليها كلمتا (حاضر) و (نعم).
تستطيع القول أنه من كان يحمل وحده نصف أعباء العائلة .. و الأعجب أن قلبه النقي يستقبل كل ذلك بمنتهى التصالح !

حتى بعد أن ذهب لخطبة , من صارت فيما بعد عروسه .. وجد نفسه جالسًا أمام أبيها وحده.. و في أزمة الزفاف و مصاريفه لم يساعده احد .. يعني لو كان يعمل خادماً لدى عائلة آخرى ، لوجد فيهم خيراً أكثر من أولئِك الأقرباء !
و هذا هو سبب تعامل أهل القرية مع (مهدي) على أنه أبله ! كيف لا ؟ و قد استمر بعدها على نفس محبته لهم ، و أن يظلّ يدعوهم بـ (أعمامي) !

ثم مرّت الأيام .. و بنى على زَوْجِه فى بيت أبيها ، و أنجب منها .. حتى جاء الوقت الذى تذمّر فيه شقيق زوجته (و هي لحظة كانت قادمة لا محالة) و سأله عن الوقت الذي سينتقل فيه مع عائلته الى منزلهم الخاص بهم .

و كان الحلّ الوحيد امام مهدي : هو أن يطلب نصيبه فى منزل العائلة الكبير.
فأجابته العائلة ببساطة : اذاً تعال و خذه.
اطمأن قلبه لهذه ” السهولة ” ! و نسي أنه فى عالمٍ لا يترك براح لمثل هذه الكلمة.
و عاش فى مياه البطيخ ، حتى حضر القسمة.

البيوت فى الصعيد تُبنى من أحجار الجبل ، تحت أسقف من جريد النخيل فوقها طبقة الطين .. هذه السابقة هى الوحيدة القادرة على امتصاص أكثر صهد الصعيد ، لكنها لا تستطيع تخفيف صهد القلوب من تحتها !

قالوا له : قطعتك محجوزة ، و يمكنك ان تبني فيها بأي وقتٍ تشاء .. تلك التي في أقصى ظهر المنزل ، و تطلّ على… المقابر .
تطلّ على المقابر هو تعبيرٌ خاطئ ! لأنه بين الجدار و المقابر أقل من ربع متر ..
و للدّقة نقول : هى تقع في المقابر !!

جالَ بخاطر مهدي أن يسّتسمحهم فى منحه منفذّ أو ردّهة إلى الشارع الجانبي ، لكنه استحى .. فأبلغهم طلبه هذا , من خلال الأقارب المشتركين .. فردّوا عليه مسبقاً بنظراتٍ مرثية .. يعني إن كانوا لم يعتبروك يوماً , واحداً منهم .. و لم يسألوا عنك و عن احوالك .. فهل سيمنحوك متراً واحداً من أرضهم ؟!

زوجته البطلة تقبّلت الوضع .. و عاشت في ذلك المنزل .. محاولةً تخيّل الواقع بصورة اخرى , ايّ من قبيل : أن جوار الأموات خيرٌ من الأحياء !
عائلة رضوان قبالته ، أتت بالجرّافات و سوّت المقابر لتوسّع لها شارعاً .. و قد قالوا له الفكرة , على سبيل الإقتراح .. فاقشعر جسده لمجرّد تخيّل الصورة .

*********
-آآآخ يا عمو !… عمو !! لقد صدمتنا أثناء مرورك !
كبح مهدي خطواته .. و التفت إلى الصوت المباغت الذى استوقفه ، بصيحاتٍ طفولية لحوحة.

و ما إن أكمل استدارته , حتى انتبه : أنهم طفلان.. لا بل ثلاثة..
صبيّان و فتاة بملابسٍ نظيفة و بإطلالة ملائكية ! شيءٌ مختلفٌ تماماً عن دأب أطفال القرية , الذي كادوا يقدّسون الإتساخ !
-ماذا تقولون يا أولاد ؟! لقد كنت مُنتبهاً جداً ، و أثق أن هذا لم يحدث..
قلَبَ (أطولهم قامة) شفتيه بحزن ، و كرّر و كأنه لم يسمعه :
-صدمتنا , و آلمتنا كثيراً..

و قد كانت كتفيّ مهدي (قبل رؤيته لهؤلاء الأطفال) ترسمان رقم ثمانية ، من جُبلى الهموم التي تراكمت عليه.
اما بعد حديثه معهم : فقد استقامت كتفيه قليلًا .. عندما مسح هذا الموقف , الكثير من عنائهما.
سَمَتَ الملائكي الذى ينسكب من ملامح الأطفال , مسّ الوتر الحسّاس لديه .. فعبثت أنامل مهدي داخل جيبه ، تصطاد بعضاً من الحلوى التى كان يدّخرها لإبنه فى المنزل.
-إذاً !! حقكم عليّ , يا عمو
و دسّ الحلوى فى أيديهم ..ثم انصرف على عجل

فبانتظاره طريقٌ أوعر من الشوك ، و يرغب فى التعجيل بهذا البلاء بدلًا من انتظاره ..
فهل يوجد اوعر من ان يكون طريقك الى منزلك , هو طريق المقابر ؟!
-ما الذي أجبرك على هذا المرّ ؟!
-الذي أمرّ منه !
هذا كان جوابه دائماً , لمن يستغرب عيشته هناك ..

و بعد ان أودع عربة الكارو فى حظيرة أعمامه .. دار خلف المنزل من الناحية الأخرى .. لأنه حان موعد قشعريرة كل يوم ، بحسب التوقيت المحلي لمدافن القرية !
عشر خطوات تفصله عن منزله.. قبرٌ كبير : يدلّ على أنه لرجلٍ ضخم الجثة.. و بعد سبع خطوات.. بقايا شاهد قبر : يدلّ على أنه ربما يكون لأمرأة .. فهو غير متأكّد !

تبقت أخيراً المرحلة الأصعب.. قبورٌ مُبعثرة بغير ترتيب , في خطوطٍ مستقيمة لا يزيد طولها عن المتر.. فتبدو بوضوح أنها لأطفال..

و هنا !! لاحت لمهدي تفصيلة أخيرة , جمّدت الدمّ فى عروقه !
ثلاثة قطع حلوى مغروسة و موزعة على ثلاثة قبورٍ صغيرة ..
نفس ألوان القطع التى أعطاها للصبية قبل قليل !

الآن فقط علِمَ مهدي , لما لم يتعرّف على اولئك الصبّية .. فصغر القرية جعلت اهلها يحفظون بعضهم البعض , صغاراً و كباراً ..كما فهم قصدهم عندما اخبروه : بأنه صدمهم أثناء مروره !
فتحدّرت دمعتان على وجنتا الرجل ، حتى أخذتهما الجاذبية فى رحلة سقوطٍ حرّ ، إلى أن وصلتا و قبّلتا الأرض.

انحنى عنق مهدي وهو يطرق برأسه إلى الأسفل بحزن ، ليلاحظ على الفور ! كتابةٌ خُطّت قرب قدميه , بحروفٍ ساذجة ! كطريقة صبي فى أول سلّمة من تعلّم الكتابة ..
هي بالتحديد بضعة حروف تقول :
– لا تؤلمنا !! و اعبر برفق.

تاريخ النشر : 2016-01-02

guest
22 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى