تجارب من واقع الحياة

كل الذي مات فينا.. كيف نحييه؟!!

بقلم : شام – تركيا

بدأت أعجب به أو لأكون صريحة لقد وقعت في حبه

هذه تجربة مررت بها منذ سنوات ظننت بأني سأنساها و أواصل حياتي و لكن الندم لم يفارقني يوما و تحول إلى غصة بقلبي أستشعر مراراته في حلقي كل يوم، قد يكون النصيب كما نقول دائما، و لكن أحيانا الندم الذي يرافق بعض مواقفنا يكون قاس حتى و إن إتخذنا القرار الصائب.

كان لقاءنا الأول في مكتب الهندسة الذي قبلت فيه لقضاء فترة التدريب النهائي، و بالرغم من أننا درسنا سوية إلا أني لم أكن أعرفه قبل ذلك اليوم.

كنا في الحقيقة أربع مهندسين متدربين نظرا لشهرة المكتب الهندسي، ليث و أنا و بنتين ٱخريين إحداهما كانت متزوجة و على وشك أن تضع مولودها الأول.

ليث كان شابا وسيما، وسامته كانت تنضح رجولة و وقارا رغم صغر سنه، و زاده الحياء جمالا فوق جماله.

كان ذكيا و لماحا و لكنه في المقابل متواضع و خدوم، كان لطيفا و طيب المعشر و لكنه لم يكن يتجاوز آداب اللياقة و الأدب و كان يعرف كيف يتعامل مع من يتجاوزهما ليوقفه عند حده دون عنف أو حدّة.

كان رجلا بأتم معنى الكلمة، لا يتبسط مع النساء أو الفتيات في الحديث و لا يكلمهن سوى في متطلبات العمل و التدريب. فكان من الطبيعي أن يثير شاب في مثل أخلاقه و خلقه الإعجاب.

فبدأت بعد بضعة أشهر أعجب به أو لأكون صريحة لقد وقعت في حبه و شغل تفكيري في وجوده و غيابه، و لكنني للأسف لم أكن فتاة جريئة كما كانت زميلاتي بل على العكس منهن كنت كثيرة الصمت، و كتومة إلى أبعد حد، حتى صرت ألقب بـ “الشابة العجوز” نظرا لترفعي عن المواضيع التي كانت تهم بنات جنسي في سن الشباب و المراهقة.

و فشل الحب في حل عقدة لساني، فأحببت ليثا في صمت كشأني في بقية أمور حياتي، حتى إن من يراقبني في تعاملي معه حينها لن يشك و لو للحظة في أنه ليس سوى زميل عادي لا غير. و لكن لين في المقابل لم تكتفي بالإعجاب و الحب في صمت كما فعلتُ، بل ضلت تحوم حول ليث كعقاب يتحين الفرصة للإنقضاض على فريسته.

كنت أراقب محاولاتها لإستمالته نحوها في رعب و أصاب بالهلع من أن تنجح في مبتغاها و مع ذلك لم أستطع و لو لمرة واحدة أن أعبر عن حقيقة مشاعري نحوه و لو تلميحا، كنت أتراجع في كل اللحظة الأخيرة و لا أعلم لم؟

كل ما أستطعت فعله كان العودة إلى بيتي عقب التدريب، و فرش سجادتي أصلي و أبتهل إلى الله بأن يدله إلى طريقي، و أن يفتح قلبه لحبي،… ففي النهاية لم يكن بمقدوري عمل شيء آخر سوى الدعاء علّ ليثا يستدل علي.

لقد كان ليث و لين على طرفي النقيض، و لم يكن تجمعهما أي صفة أو خصلة مشتركة، بينما كنتُ النسخة المؤنثة منه، كان تشابه طباعنا مخيفا حقا.

تصوروا بأننا قضينا شهورا في التدريب و لا أعرف ما هو لون عينيه؟!! إذ لم أكن قادرة على النظر في وجهه فكيف بتأمل عينيه. فيما عرفت لين عنوان بيته و عدد أفراد أسرته، و عادات أكله و نومه و ما لونه المفضل، و إسم صديقه المقرب و أين يقضي يوم الإجازة و ما مواصفات فتاة أحلامه، كانت تحيك حوله شبكة محكمة و عزلته عن الجميع عداها.

و يوما عن آخر إزداد ليث قربا من لين و إبتعادا عني، و بالرغم من إصرارها بأنهما مجرد صديقين مقربين إلا أنني كنت أتوجس خيفة من أنها تخفي أمرا، و تحول شكي إلى يقين، قبيل إنتهاء التدريب بثلاث أسابيع عندما أقبلت لين صباحا و لمع في بنصرها خاتم ليث و وزعت علينا “حلوان” الخطبة، باركتُ لهما و قلبي ينزف دما و إكتفيت كالعادة بالصمت. لطالما كنت هكذا أحب في صمت و أجرح في صمت و أبكي في صمت. و عزيت نفسي بأنه النصيب و كما يقال “شاء الله و ما قدر فعل”، هناك حكمة بالتأكيد في كل ما حدث.

و إنقضت السنوات و تفرقنا كل سلك طريقا، و إندلعت الثورات في العالم العربي و كان لسورية نصيب منها، فلجأت و عائلتي إلى تركيا حيث قدمت طلبا لمنحة دراسات عليا و قبلت بفضل الله و حمده بينما أسس والدي الأستاذ الجامعي السابق بكلية الشريعة مطعم “شاورما”!!

و كان يوم السابع عشر من نوفمبر 2015 يوما إستثنائيا، حيث كنت عائدة من كليتي على متن الحافلة المعتادة عندما توقفنا ككل مرة في موقف قريب من الجامعة و صعد بعض الركاب و كانت دهشتي شديدة عندما لمحت بينهم ليثا .. حبي الضائع

ما إن رأيته حتى عادت إلي كل ذكريات الماضي الموجعة و ألمني قلبي و كأنني أعيشها الآن و كأنه لم تمر ست سنوات كاملة.. أفقت من دهشتي و حاولت الفرار منه قبل أن يتعرف علي، و كأنه أدرك ما كان يجول بخاطري فأقبل نحوي على عجل و سلم مبتسما، و لكنه هذه المرة لم يغض بصره كما كان يفعل دائما كلما حدثني في الماضي، بل على العكس لقد كان يتأمل وجهي بإهتمام أربكني، فأخفضت عيني أتلهى بالنظر إلى بعض المراجع في يدي على غير هدى.

سألته عن زوجته، فأجابني بأنهما تطلقا بعد أشهر قليلة من الزواج، أحسست بسعادة كبيرة و أنا أتأمل إصبعه دون خاتمها، و لكنني عدت لرشدي قبل أن يغمرني سيل الأفكار المجنونة، و كرهت نفسي لأول مرة في حياتي كلها،

و إستنكرت فرحتي بخراب بيت لين .. ففي النهاية لقد كنت أمامه و لكنه إختارها هي، إذا لا داعي لأن أحملها ذنبا لم تقترفه.

و بينما أنا أقرع نفسي إذ فاجأني ليث بسؤال و طالعني في نبرة صوته شيء من الأمل أو ربما الرجاء : “و ماذا عنك.. هل تزوجتي؟”

خبأت يدي في جيب سترتي و أجبت مبتسمة: ” بلى لقد خطبتُ منذ فترة”

لم أعلم لم قمت بذلك، ربما هو الإحساس بالذنب نحو لين التي كرهتها منذ أن رأيت الخاتم يلمع في إصبعها

ربما هو إنتصار مني لكرامتي التي جرحت عندما إختار ليث لين بدلا عني

ربما هي عزة نفسي التي لم تسمح لي بأن أكون خيارا ثانيا لأحد، و خاصة إن كان هو دوما خياري الأول و الأوحد

أو ربما لأنني أدركت و لو بعد فوات الآوان بأنني منحت ليث و لين مكانة كبيرة في حياتي و بأنهما إستهلكا وقتي و جهدي لسنوات طويلة. و بأن ما كسره ليث في قلبي لم يعد بمقدوره هو بالذات إصلاحه مهما حاول.

تاريخ النشر : 2016-01-08

guest
42 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى