أدب الرعب والعام

سجينة القصر

بقلم : بائع النرجس – مصر
للتواصل : [email protected]

ابان نور القمر ملابسها الحريرية الفضفاضة

حمل حسين فأسه على كتفه و ركب حماره .. و إنطلق بين الأراضى الزراعية , قاصداً أرضه ..فقد حان دوره فى ريّ الأرض في حدود الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ..

و رغم تأخّر الوقت , الا انه لم يخافّ أو يطرف له جفن .. كيف و هو صاحب الجسم الأضخم , و القلب الأقوى , و الشارب الأكبر بين كل رجال القريّة ..

اما زوجته (غالية) فقد رجَته بقلق : بأن تذهب معه , أو ان يتنازل عن دوره لأحدٍ آخر .. لكنه رفض , و قال لها : أنه طوال عمره كان يذهب الى حقله ليل نهار , و لم يخيفه شيء على الإطلاق .. لكن حدس زوجته كان يخبرها بشيءٍ آخر , فعادت و توسّلت اليه : بأن لا يذهب !! .. لكنه لم يبالي بقلقها , و تحجّج : بأنه لو ترك دوره فى الريّ هذه الليلة , فأنه سيتأخّر دوره الى خمسة ايامٍ قادمة ..

ثم تركها و ركب حماره .. و أخذت هي تراقبه , و تدعوا الله : أن تمرّ الليلة على خير , و أن يعود لها بسلام ..
ثم إختفى حسين في ظلام الليل ..

و في أثناء سيره و على حين غرّه , لاحظ شيئاً ما من بعيد .. و اذّ بحماره يقف فجأة ! رافعاً أذنيه ..لكن حسين ضربه بعصاه بكل قوّة , فسار الحمار مُرغماً .. بينما أخذ صاحبنا يدقّق النظر في هذا الشيء الأبيض , الذي وقف في منتصف الطريق ..

صحيح أنه سمع حكايات كثيرة مخيفة عن الجن و العفاريت و الأشباح , لكن لم يحدث له شيء طوال حياته.. و دائماً ما كان يظنّ أن كل هذه الحكايات مبالغة من الفلاحين ضعاف النفوس , و هي عبارة عن جهل لا أكثر ..

و إقترب اكثر حتى لاحظ أنها أنثى , تبدو و كأنها في العشرين من عمرها , جميلة الشكل بوجهٍ وضّاء.. رأى كل ذلك على نور القمر الذى كان بدراً , كشف الكثير من تفاصيل وجهها ..حتى لون عينيها الفيروزتان , و أنفها الدقيق , و رقبتها الطويلة , و جسدها الممشوق .. و ملابسها الحريرية الفضّفاضة , التي كانت تتطاير و كأن يداً خفيّة تتلاعب به .. و فمها ذو اللون الأحمر القاني ..و خدّيها الموردّين ..و شعرها الذى انسدل الى ان تعدّى ظهرها بكثير , بلونه الأحمر و كأنه شعلةُ بركان مازالت ملتهبة ..

توقف الحمار ثانيةً ! فضربه صاحبنا بقسّوة ..لكنه ثبتَ في مكانه .. فرماه بالشتائم , لكنه ايضاً لم يتحرّك ..

و ما ان نزل عن ظهره , حتى اسرع الحمار هارباً .. و إختفى في الظلام ..

و مع ذلك ! لم يلحقه صاحبنا , لأن فضوله اخذه نحو تلك الفتاة ليتبيّن أمرها ..كان قلبه يدقّ و كأنه يعلن خوفه ..لكنه لم يتوقف , حتى إقترب منها أكثر ..

و وقف أمامها , ثم قال لها بخشونة :
– ما أمرك يا امرأة ؟! لم تقفين هنا في هذه الساعة ؟! هل أنت غريبة ؟

ردّت عليه بصوتٍ و كأنه قيثارة ملائكية :
– أبحث عن شخصٍ أحبه .. غاب عني , و لم أعلم بأخباره منذ مدّة طويلة ! فهل رأيته , أو تعرف عنه ايّ شيء ؟

رفع حسين حاجبيه الى أعلى , و تساءل :
– طيب من هو ؟ فأنت لم تذكري لي إسمه
– إسمه …

ثم نظرت خلف حسين , و قد جحظت عيناها .. ثم صرخت بفزع :
– أهرب !!!!

دبّ الرجل فى قلبه الرعب ! و أنتفضت كل خليّة فيه , و إستدار بسرعة !! و اذّ به يلمح رجلاً قبيح المنظر , قد إحمرّت عيناه بشكلٍ غريب و كأنه مارد ! و الذي مرّر سيفه بسرعة باتجاه رقبة حسين , التي خرجت منها على الفور : دماءً ساخنة حارّة , و كأنها بركان مندفع يخرج حمَمه بلا توقف ..تحشرجت الكلمات في حلقه ..ثم وقع على الأرض , و أخذ يتنفض و كأنه دجاجة مذبوحة … ظلّ كذلك لفترة , ثم همد تماماً !

و في عصبية .. جذب الرجل القبيح تلك الفتاه بقسوّة , و أخذها معه .. و إختفيا داخل الحقول !

* * *

كثيراً ما نقف أنا و أقراني لننظر الى ذاك القصر , بنوافذه الضخمة و زجاجه الملوّن بألوانٍ زاهية ..و قد تساقط بعضها , و لم يبق منه الاّ القليل , ليذكّر جميع من يشاهده : بمدى ثراء من بناه في هذه القرية البعيدة

انظر كيف تنتشر التماثيل الرخامية البيضاء لتقف هناك , و كأنها تراقب المكان في صمت .. و قد انتصب بعضها و تساقط الآخر بين محطمٍ , او راقدٍ على جنبه في الأرض ..بينما إختفى بعضها بين الأشجار التى ليس لها مثيل بالقرية , أو بأيّ مكان قريب منها ..كما يبدو هناك بحيرة صغيرة قد جفّ ماؤها , و نبتت فيها الفطريات التي طمست بعض ملامحها .. و ذاك السلم الرخاميّ للقصر , لقد تهدّمت بعض درجاته , و نمى مكانها بعض الحشائش الصغيرة ..

كنّا دائماً نقف فى حيرة و نحن نشاهد جمال القصر المحطّم ! لم نستطع ان نلعب بداخله او نزوره , فقد كان يحيط به سوراً عالياً يمنع أيّ متطفّل من الدخول ..و رغم شغفنا به , لم نرى احداً من اصحابه داخل القصر .. فقد كبرنا في هذه القرية و القصر مهجوراً خاوياً ..

و قد كان يأتي الصيف و الخريف ثم الشتاء و الربيع , و لا أحد يدخل او يخرج من القصر !.. و مع الوقت , سمعنا الكثير من القصص عنه ..و قد انشهر بيننا بإسم (قصر الحب) ..و قالوا : بأن الجن هو من بناه و سكنه ! فلم يجرؤ أحد على دخوله حتى اللصوص !.. و في احد الأيام ..تجرّأ احدهم و اقتحمه , الاّ انه لم يخرج منه بعد ذلك ! و من بعد اختفائه , تضاخمت الإشاعات حوله .. لكننا لم نعرف الحقيقة ابداً , و قد…

و هنا سكت جدي , بعد ان لاحظ نظراتي المطوّلة الى ذلك القصر العجيب , بينما كنا نقف أمام بوابته الحديديّة ..
و كانت النسمات تلاعب خصلات شعري الناعمة ..و تلاصق جلبابي القصير بساقيّ , التى تشبه ساقيّ الكتكوت الصغير ..و انا امسّك بكفّ جدي ..

فقال لي بصوته العذب , بينما تلوح شبه ابتسامة على ثغره :
– هلمَّ يا بنيّ !! سنتأخر على القطار ..و بهذا لن نزور سيدنا الحسين اليوم .. و في الطريق سأقصّ عليك بقيّة قصّة (قصر الحب) ..فقد وصلتني قصص من كبار السن عن هذا القصر , عندما كان يضجّ بالموسيقى و الضحكات العالية , و الحفلات التى لا تنتهى ليل نهار

فصرت أقفز من الفرح .. و هتفت بحماس :
– أحقاً يا جدي !! اذاً سأسمع كلامك ..و سأذهب الى الحقل كل يوم ..و لن أعذّب امي ابداً .. لكن ارجوك اكمل لي حكاية القصر !!

فابتسم جدي أكثر , حتى ظهرت انيابه و أسنانه المحطّمة ..و أخذ يحثّ خُطاه ..و أخذت انا اقفز بجانبه و اهرول .. بينما هو يستند على عصاه .. حتى وصلنا للقطار ..

و ما انطلق بنا .. حتى راح جدي ينظر من نافذة القطار بصمت , و كأنه يتذكّر شيئاً ما ..و أنا اتابع النظر الى عينيه و شفتيه , و اتمنى ان يكمل كلامه عن القصر ..

و مرّت الدقائق ثقيلة كالدهر , و طال انتظاري .. ثم فاجأني بقوله :
– قريتنا بعيده عن القاهرة !! ..(ثم تنهّد تنهيدة طويلة , و اكمل القصة) .. في يومٍ من الأيام .. أتى الينا رجلاً من الحبشة , أخذ يشترى الكثير من الأراضي .. ثم بنى في وسطها قصراً ضخماً ..و كان القصر تحفةً فنيّة بكل المقايس ..و اهتم كثيراً بحديقة القصر , حتى اننا سمعنا : ان من صمّمها كان مهندساً بارعاً من خارج البلاد !

و أكتمل بناء القصر و حديقته و بركته , التى عاشت بها اسماكاً ملونة من كل شكلٍ و لون ..و سمعنا ان هذا الحبشي قد بنى القصر لزوجته , التى تزوجها بحيلةٍ خبيثة ! و خاف عليها من الناس ..لهذا بنى لها هذا القصر المنيع ..

و من أجلها أقام الحفلات , رغم انه كان محرّماً عليها ان تشارك فيها !..و كانت المسكينة تتابعها من خلال شباكٍ حديدي يطلّ على البهو , من أعلى أحدى الحجرات !

و ما ان ينصرف المعازيم , حتى يفكّ أسرها .. و قد حاولت كثيراً الهرب , لكنها فشلت ..

و في يومٍ .. شاهدها أحد الفلاحين تطلّ من النافذة , فعشقها و عشقته ..و صارا يتحدّثان كل يوم .. و اخبرته عن حياتها التعيسة.. لكن الحبشي عرِفَ بالأمر , فجنّ جنونه بعد ان رأى الفلاّح يحدّث زوجته من حديقة قصره ! فقتله على الفور ..

و لم تمضي ايام , حتى انتشر خبر انتحار زوجته حزناً على حبيبها .. ففقد الزوج عقله !! و اشعل النيران في قصره .. و لم يره احداً من بعد ذلك !

و من يومها , صرنا نسمع الحكايات الكثيرة : عن شابةٍ جميلة , تطلّ من نافذة القصر ليلاً , و هي تشاهد المارّة في صمتٍ حزين !

بل حتى سمعنا : أنها في الليالي المقمرة , تقف في الطريق و تسأل المارّة عن حبيبها ..و ما ان يقف أحد ليحدّثها , حتى يظهر روح زوجها الحبشي , و يقطع رقبته !

و هكذا انتهت قصّة جدي مع صفّارة القطار , معلنةً وصولنا الى المحطّة

تاريخ النشر : 2016-01-19

guest
46 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى