أدب الرعب والعام

الصمت !

بقلم : علي محمد فنير – ليبيا
للتواصل : [email protected]

كان لا يزال يسمع صراخ زهرة من بين القبور !

صمت …. صمت … صمت …لا شيء سوى الصمت يلفّ كل شيء في ذلك المكان ..و كيف لا ؟ و هو عبارة عن مقبرة قديمة تقع في اطراف القرية … حيث تناثرث القبور فيها هنا و هناك ….قبورٌ لأناسٍ رحلوا , و كفّوا للأبد عن الشكوى و الأنين من ظلم الأيام و الحياة .

و كان هناك في زواية منعزلة من المقبرة , قبراً شيّد حديثاً …. ينتصب وحيداً معزولاً , و كأن من فيه : عاش بعزلةٍ مُعذّبة , و دُفن وحيداً ! ….

كان ذاك قبر (زهرة) : تلك المرأة التي عاشت حياةً قاسية .. فلم يطرق الفرح بابها يوماً !…. مات والداها في حادث سير ..و عاشت في بيت عمّها , الذي ذاقت فيه الذلّ و الهوان , منه و من زوجته …..

حتى وافقت على أول شخص يطلب يدها للزواج …. حينها ارتسمت على وجهها أبتسامة فرح , لم تذقّ لها طعماً منذ زمنٍ طويل ….. سرعان ما تلاشت بعد زواجها !….

فكان زوجها رجلاً عنيفاً مُدمناً على الخمر ..و كلما حاولت ان تصلحه , قام بشتمها و ضربها ….. و هي كانت وافقت على الزواج منه , لتخرج من جحيم بيت عمها ..فأذا بها تستقرّ في أعماق الجحيم !… يأتي زوجها كل مساء مخموراً مترنّحاً …. تكون هي في أنتظاره , و قد اعدّت له طعام العشاء ….تستقبله بابتسامة , فيبادلها بالشتم و السباب ….

و عادةً ما يقوم بضربها كل مساء …. تصرخ و تصرخ !! لكن لا احد يسمع صراخها , أو يأتي لنجدتها .

و ذات ليلةٍ باردة , كانت الرياح فيها تعصف بقوّة …. عاد زوجها كعادته , طالباً احضار الطعام .. فقدّمته له .. و وقفت في زواية الحجرة , تنظر اليه بقلق …..

و فجأة !! نهض و اتجه اليها مسرعاً ..فأمسك بشعرها , و هو يردّد بغضب : الطعام مالح !! مالح , ايتها المشؤومة !!! …و أخذ يطرق رأسها بقسوّة في الجدار ..

صرخت !! و قاومته ..ثم انهارت قواها ….و استمرّ هو في طرق رأسها بالجدار , الى ان تهاوت و سقطت متكوّمة على بلاط الحجرة الباردة ..ركلها بقدمه آمراً ايّاها بالنهوض , لكنها لم تستجب !….

بل رأى طيف ابتسامة , ارتسمت على شفتيها ! فظنّ بأنها تسخر منه ..فقام بركلها مرة أخرى ..لكنها كانت قد رحلت الى عالمٍ أرحم من هذا العالم , الى حيث السلام و السكينة , حيث لا ظلم فيه بعد اليوم …. و قد ادرك اخيراً بأنها رحلت الى الأبد , بعد ان تركته مع ذنوبه و آثامه 

فأفاق من سكرته , و بكي بجانب جسدها الملقى على الأرض طويلاً ….
و لكمّ تمنى ان يعود الزمن الى الوراء , ليطلب منها ان تغفر له و تسامحه ….و بأن يترك من اجلها الخمر , كما كانت تطلب منه دائماً .. لكن حلمه هذا , صار المستحيل بعينه !

لم يثبت لأحد بأنه قتلها .. بل أخبر الجميع عن سقوطها العنيف الذي ادّى الى موتها .. و لم يلقي عمها بالاً بوفاتها !

فدفنها زوجها بصمت !

صمت ..صمت ..صمتٌ لا يقطعه سوى حفيف الأوراق , تتلاعب بها الرياح الشتويّة ..
و قطرات من مطر بدأت في التساقط فوق تلك المقبرة , لتربت بحنان فوق القبور : التي قد يكون بعض من فيها , قد عانوا في حياتهم كما عانت (زهرة) !

طيف رجلٌ محطّم يدخل المقبرة .. يتجهه الى ذلك القبر .. يجلس بجانبه طويلاً , يناجي طيف من فيه ..و الدموع تنهمر من عينيه ….

و فجأة !! يسمع انيناً ينبعث من قبر زهرة …. تحول رويداً رويدا الى صراخ ….

نهض مذعوراً ! و قد سدّ أذنيه بيديه … ركض هارباً !! تعثّر في احد القبور ….

سقط على وجهه و تلطّخ بالوحل …فأحكم سدّ أذنيه , و رغم ذلك لايزال يسمع صراخ ( زهرة ) بقوّة … 

أخذ يعدو و يعدو مُبتعداً , و هو يردّد كالمجنون :

-لن تسامحني ! … لن تسامحني أبداً !!!!

تاريخ النشر : 2016-01-19

علي فنير

ليبيا
guest
20 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى