أدب الرعب والعام

مخيّلة مجرم

بقلم : أسامة حواسي – الجزائر
للتواصل : [email protected]

أخرج سكينه التي عادةً ما يشحذها بعد كل جناية

كان ينظر بسكون إلى سطح المكتب المطلي بدماء ضحاياه .. و هو يردّد و يتفوّه بكلماتٍ بالكاد يستطيع أيّ مخلوق تفسيرها ..ثم أصبح يتنفّس بلهفةِ , كأنه ولِدَ محروماً من الهواء !

جدران غرفته كلّها مصبوغة بدهانٍ اسود , اللون الذي يحسبه يمثّل كل شيءٍ يهواه و يعشقه…

أخذ مارك ينظر من النافذة لعلّه يلمح أحداً , ليكون طبقه الرئيسي لهذا اليوم !

تنهّدَ قليلاً و اقترب ينظر بتمعّن من ذاك الزجاج البارد .. ثم رسم ابتسامة النجاة لروحه الشريرة , لأنه وجدَ اخيراً من يطفئ ولههُ ليومٍ إضافي .

أخرج سكينه التي عادةً ما يشحذها و يعتني بها , بعد كل جناية يرسمها على جبين ناصيته .. ثم همَّ بالخروج ..

عند اقترابه من الشخص المطلوب .. رسمَ مارك ابتسامته المزيفة , و ضمّنها بضحكةٍ خفيفة .. و برودة الأجواء تزامنت مع تجمّد شعوره الإنساني … فتقدّم من الضحيّة و بادره التحيّة , و سأله : إن كان غريباً عن الحيّ ؟

و فعلاً كان قادماً من مدينة بعيدة … لذا أكمل مارك تمثيليته الخبيثة على (فيلون) و هو يتفنّن بسحب ما تبقى من طيبته الملفّقة أمامه…و أستحسن فيلون بدوره عفويّة مارك , المشبّعة بكل سوءٍ و شرّ كان يجهله ….

و تابع الشابان حديثهما ..فطلب مارك من فيلون مرافقته إلى حفلٍ صاخب , جنوبَ المدينة .. لأن الحاكم قد رزق بمولود , و الحفلة هي اعلان فرحته بقدوم وليّ العهد …

فرافقت موافقة فيلون بابتسامةٍ قد تكون الأخيرة له على وجه الدنيا , التي عاش فيها أربعةٌ و عشرون عاماً …

اما نفس مارك الشريرة فهاجت بفرح لحصولها على ضحيةٍ جديدة , تُرضي اهواءه التي تعشق الأذى !

سحب مارك نفْساً عميقة , ممزوجة بخبث نيته ..ثم أخبر فيلون : أنه من المستحسن أن يذهب الآن , لأن غداً يومٌ طويل سَيُخلّد في ذهن فيلون…
طبعاً سيخلّد في ذهنه لأنه سيفقد روحه قريباً , لتذهب إلى بارئِها حبواً على نصف ساقِ .. لأنَ الساق الأخرى ستقطعُ حتماً !

افترق الصديقان المؤقّتان .. حيث وصل مارك إلى بيته المخيف , و باشر بتجهيز العدّة اللازمة لخطف روح فيلون المسكين…

أما في الجانب الآخر .. فقد كان فيلون يهيّىء ملابسه التي سيرتديها و يستعرضها في الحفلة الصاخبة , التي سيكون مفعولها عكسياً على حياته … هذا ان بقيَّ منها شيء !

ذهبَ المجرم إلى مخدعه و هو يقوم برسم مخطّطٍ في عقله , لتقطيع جسد فيلون : أيبدأهُ يا ترى من الرأس نزولاً , أم من الداخل تشريحاً ؟!

تعِبَ دماغ مارك من تحليل في طريقة تقطيع القتيل .. و أقتنع أنَ الأشياء القادمة قد تلزم المرء في اتخاذ إجراءات و تغيرات منوطة بظروفها…

أقبلَ الصباح الساكن , و تقاطيع نور الشمس بالكاد تخترق سحب مدينة لندن الداكنة .. ارتشف مارك كوب الشايّ الساخن..و خرج من منزله .. منادياً على فيلون الذي يبعد عنه أمتاراً , محسوبة على دقّات قلب مارك المشتاق إلى تجرّع الدماء !

خرج فيلون و سلّمَ على من سيدفع لروحه رحلةً مدفوعة التكاليف , على حساب سكينة مارك المشحوذة بالحقد و الغلّ , و فكره المرتبط بإِبادة الآخرين !

راحَ الشابان في طريقهما نحو الحفل .. لكل منهما نيّة مختلفة , و لكل نيّة هدف , و لكل هدفٍ حدود…

وصلاَ متأخّرين إلى حفلة الحاكم .. ذهب مارك إلى مقصورة المشروبات ..و نادى على فيلون كجزء من خطته , التي لم يدرسها جيداً من كثرة العشوائية التي راودته , عندما كان يحاول النوم الليلة الماضية ..

تقدّم فيلون نحو المجرم , و تسلّم كأسَ النبيذ من يده… كان مارك قد أشبع الكأس بمخدرٍ , يجعل الناس تظن أنَ فيلون قد بلغ مرحلة السُكر لا محالة .. و شرب ضحيته المستقبلية الكأس , كأنه لم يذق نبيذاً من قبل ! و كأن شهيته فاتحةً للموت بابها … و من بعدها , تبادل الطرفان أطراف الحديث..

و بعد مرور فترة من الوقت … كان فيلون يهمّ بمغادرة الدنيا شيئاً فشيئا ..و رفيق دربه يقهقه في نفسه , ولوّ سمع فيلون قهقهته الوضيعة , لما رافقه طيلة الأيام المنقضية .. خاصة لو عرف بأن صورة جثّته ستضاف قريباً الى بقيّة صور ضحايا مارك , التي زيّن بها حائط غرفته !

سقط فيلون و أخذت أنفاسه تدقّ الأرضية ..و تجمّع الناس من حوله يستخبرون أحواله .. و يحاولون جعله يفيق , لكن دون جدوى !

فقد تغلّبت النيّة الدنيئة لمارك على النيّة الطاهرة للجميع …و الذي صرخ بأعلى صوته , و أخذ يُبعد الناس المتجمّعين حول فيلون .. بعد ان اخرج من جيبه , هويةً مزيفةً لطبيب ..

ثم أخبرهم أن فيلون أفرط في الشراب , و عليه أخذه الى منزله بحكم الصداقة التي تربطهما ..
نعم !! صداقة تجمع السفّاح مع ضحيةِ لا حول لها و لا قوّة !

و اخيراً استطاع المجرم اخراج ضحيّته من الحفل.. و نادى سيارة أجرة…

فتوقفت السيارة ..و أدخل فيلون اليها , و جلس بجانبه .. و صار مارك يمدح نفسه على هذا الإنتصار .. رغم ان عينيه تحسبان المسافة أميالاً , رغم ان الحفل لا يبعد كثيراً عن منزله …

وصل المجرم اخيراً إلى بيته .. ألقى معطفه على الكرسي .. ثم أخذ يجرّ ضحيته إلى الحمّام , و وضعه داخل الحوض .. لأن تشريحه هناك سيكون اقل فوضى

ثم اقترب منه بسكينته المعدّة لإجرامه .. و قد مرّرها على عنق الضحية , قبل لحظات من استيقاظ فيلون.. ثم أبتعد ليرى دماء الحياة بحسناتها و سيئاتها تفور من عنق فيلون ! كان هذا من أجمل اللوحات التي رسمها مارك و أروعها على الإطلاق !!

بعد مدةٍ قصيرة ..أحسّ القاتل أنَّ أمراً مريباَ يسيطر على ضحيته ! أو أنَ هلوسة جالت في مخيلته : بأن فيلون لازالَ يتنفّس !

تقدّم مارك منه و وضع السكين مرّة أخرى على رقبته ..

و هنا !! حدثت المعجزة ! حيث مدّ فيلون يديه إلى عنق مارك , و صار يضغط على اوداجه بقوّة .. الى ان بدأ مارك يحسّ بالإختناق .. و فجأة ! أصبح كل شيء من حوله سواداً دامساً !

و هنا !! استيقظ مارك فزعاً من نومه , و راح يتلمّس عنقه بقلق ! ..

ثم هبّ قائماً من مكانه و اقترب نحو الزجاج , راسماً ابتسامة الناجية لروحه …

و صار يترقّب الشارع من خلال نافذته , باحثاً عن ضحيته الجديدة !

تاريخ النشر : 2016-01-19

أسامة حواسي

الجزائر
guest
18 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى