اساطير وخرافات

لا أحد يسري في جبل (مَدَر)

بقلم : أحدهم – كوكب الأرض

لا أحد يسري في جبل (مَدَر)
ما هو سر هذا الجبل الغريب ..

يقولون أن الحاجة أم الاختراع، ولكن الفضول هو أبوه الشرعي، هو ملهمه.. هو وقوده ومحركه.. اتفق معك بأن هذا الفضول المعرفي لا غبار عليه ولا طين.. لكن هناك ضروب أخرى منه سُمْعتها سيئة وقد تكدس عليها الطين وغبار السنين.. هناك فضول سمج، وآخر وقح ، وأخر ساذج وبليد.. هناك فضول الغيرة، هناك فضول الحسد.. لكن هناك ضرب آخر من الفضول يأسرك، يعذبك، يستعبدك، يسكنك ويسجنك.. ثم يقتلك.. فضولي أنا كان من هذا النوع.. يقولون أن الفضول قتل القطة، وفضولي ينهشني ويقتلني.. مهما تحاول أن تفلت بجلدك منه، فهو لك كالقرين.. كظلك.. كالأكسجين في أنفاسك وعروقك.. فضول يخدعك ويمنّيك بعبارته الآسرة (ماذا لو كان.. وماذا إذا.. هب أن.. وماذا لو.. ولو.. ولو …).. عباراته تفتح لك أبواب الجحيم المغلقة.. تحبسك في شرنقة من جدائل الشَعَر الناعم الفاحم.. تسقيك أنواع السقوم والهموم.. تمتص دمك وروحك ببطأ.. لتودّع من تحب في صمت صاخب.. في عالم آخر.. في بعد آخر.. فتموت شهيد إغواءه ونداءاته.. يقولون أن الفضول قد قتل القطة، وفضولي كقط حبيس بين ضلوعي ينهشني، يعذبني، يقتلني..

مرحباً.. أسمي أحمد.. عفواً.. قصدت كان إسمي أحمد.. لن تجدني في أرض الواقع، بل أنا في الواقع طيف يهيم بين عالمين، كشرارة برق بين سحابتين، حياتي برزخية، لكن كان يُؤذن لي أن أسبح بين العوالم لأرى أمي وأبي وأُخْيِّ.. لأرى مدرستي، ودفاتري وألواني، وأصدقاء الطفولة، ودراجتي الهوائية.. كم أفتقد ملمس الأشياء، ودفء الصيف، ورائحة الطين الرطب وحديث البشر.. كم أفتقد الركض حتى الإعياء، وعراك الأشقياء، وثجلات الأصدقاء، وزخات المطر، والسمر والسَحَر.. كم أحنُّ لرؤية القمر هلاله وبدره، وتفّتح الزهور وعلى أوراقها حبات الندى كالدرر، والنظر لألوان قوس قزح بعد المطر.. كم أهيم لرؤية نجوم الغسق في الليالي الصافية، وسماع صياح دِيَكَة الفجر تنادي حي على الصلاة، وضحكات الصبية الثجلى عند الشفق، وتلاطم أمواج البحر، وحفيف الشجر.. وخرير الماء من فوق الأغادير.. كم أشتاق لخفقان القلوب، وعزف الحنايا ودفء المشاعر.. كم أشتقت للحنان والحنين، والثجل والشجون، والفرح والترح، والحزن والكدر.. إحساس المشاعر والجمال هذا لا نستشعره.. فقط نفهمه ونتذكره.. ونشتاق إليه..

إليك قصتي أرويها لكم من حيث لا ترونني، لكني أبصركم فردا فردا بعيون لست كالعيون، من فوق سماء ليست كسماؤكم، من فوق وجود علويّ لا تحكمه قبضه الأبعاد الثلاثية للمكان ولا الجريان الرتيب للزمن في إتجاه واحد.. ما زلتُ أذكر أيامي مع ذاك الجسد، كنتُ منه أشم العبير العطر، وأحس به إحساس نسيم البحر على وجهي ورئتاي.. وأتنفس بحواسه الوجود بألوانه الزاهية، وأصواته النديّة العذبة.. ما زلت أذكر طعم الآيس كريم على لساني، وهديل الزاجل حماميِّ، كانت لي ألعابي وشقاواتي، كان لي أصدقاء، كان لي قبل كل شيء عائلة أحبها وتحبني.. كنت ببساطة كأي مخلوق حي آخر من بني البشر.. لكن رحلتي تلك لم تكتمل سوى عند عامها الخامس عشر.. قضاء وقدر..

لا أحد يسري في جبل (مَدَر)
قريتي كانت عند سفح جبل طيني كبير

قريتي كانت عند سفح جبل طيني كبير.. كلؤلوة صغيرة في كف عفريت.. أو كضرسٍ صغير يتيم في فم مارد عملاق.. في قريتي كانت لهم أساطير كحال كل القرى النائية، في قريتي كانت لها أسطورة ليست ككل الأساطير، أسطورة تناقلتها أجيال بعد أجيال، زمان بعد زمان، أناس تختفي بصورة غامضة ومفاجئة عند ذلك الجبل المسكون، ذاك الجبل الذي يقال له جبل (الطين) أو جبل (مَدَر) بلهجة قومي الدارجة، يختفون ليس بوتيرة كل يوم ، لكن بين جيل وجيل، حينما تتناسى القلوب أوجاعها، وتلملم الثكالى جراحها.. عندما يقرر أحدهم على حين غفلة أو سهوة كسر القواعد وتخطي قوانين وعهود قديمة أُبرمت بين العوالم، في صيرورة طاعنة في القدم، ربما كانت البداية بعُيد بدايات الخلق.. عندما تنفس الوجود بالحياة لأول مرة.. عندما كانت تجوب الأرض كائنات ليس كالكائنات.. كائنات أسطورية عاقلة مُدرِكة ولها إرادة حرة كالبشر.. وعلى حين غرة من الزمان كانت تخشى الشمس لسبب ما، لعل ذلك بسبب طفرة خَلقية مفاجئة أو لعلةٍ أخرى.. بعدها قررت أن تدفن نفسها تحت الجبال.. وكان جبل (مدر) من بين تلك الأماكن الموبوءة بهم.. كان الجاني يُخطف خطفا بلا عودة نحو المجهول، كان الجبل يبتلعه، أو قل على وجه الخصوص من هم في الجبل يخطفوه، فقط قلة من الناس كانت تعلم حقيقة هذا المجهول، لعله إرث قديم تتوارثه الأجيال كما تتوارث الألقاب.. حينما تنسى قبائل القرية منابت ألقابها، كانوا كذلك ينسون بداية هذا الأرث المشؤوم، بل هم ربما يتناسوه عمداً، يتناسون معه جراحهم وآلامهم.. أرث سحيق غائر في أحقاب قديمة.. كان الجميعُ يحذر الجميعَ من الاقتراب من الجبل في “الوقت المحرم” عند سويعات الأصيل وحتى أذان الفجر.. أمور غامضة كانت تحدث عند وديانه وفجاجه وغدرانه في الليل، أناس تحكي عن أصوات وأضواء، وهمسات وخفقات من لا مكان، حيوانات تُطاردها فتختفي في العدم.. صراخ وعويل وحشي لمخلوقات لا ترى.. فمنذا الذي يجرأ على رؤيتها سوى المصروع..؟ أطياف طائرة وضحكات غادرة.. ببساطة -شئت أم أبيت- الجبل مسكون..

لا أحد يسري في جبل (مَدَر)
يقال بأن الجبل مسكون ..

مسكون بمن؟ من هم؟ كان هذا أحد الأسئلة المحرمة والأمور المسلَّمة التي لن تعثر على جواب لها ولو ركضت خلف الأجوبة المحرمة تلك ركض الوحوش، غير الصمت والوجوم لن تحوش.. والجواب كان يأتي بالعتاب والتوبيخ والتخويف الذي قد يصل للعقاب عند الإلحاح، كان يُمنع البوح والحديث عن الموضوع لسبب كنا نحن الصغار نجهله، نشعر بقداسته في سحنتهم وسوانحهم، الواجمة الواجفة، نعلم بأنه حتما جديّ ومرعب وخطير، لكن فضول الأطفال هو كفضول القطط.. فضول ينهش حيرتنا وتساؤلاتنا، ستقرأ وتتحدث -وبكل حرية- عن الجان والمردة والأشباح، لكن الحديث في هذا كله مسموح ومسموع.. لكن عندما يأتي الحديث عن ماذا يدور عند جبل (مدر) ليلاً، كان الكل يصمت في شرود ووجوم كما لو أنك كسرت أحد قواعد الكياسة بأكبر عيب ممكن إحتماله، كان السؤال ككلمة بذيئة يقولها الصغار دون أن يعوا معناها القبيح.. لا أحد يتحدث عن جبل (مدر) وعوالمه الليلية، إن لم يكونوا كائنات ماورائية كالتي نسمعها ونقرأ عنها فمن يكونون…؟ ولماذا يختفي من يختفي هناك؟ وأين يذهبون؟

أسئلة لن تجد له جوابا عند الكبار، ولو أشبعتهم بالسؤال ليل نهار، في البكور والأسحار، هو كأحد الأسئلة “الساذجة” كما يرونها هم، هو كسؤالك لماذا القمر ليس مربعا؟ ولماذا لا نسقط للأعلى؟ أو لماذا الملح مالح؟ والليل كالح؟ أو لماذا أنا هو أنا ولستُ أنا هو أنت وأنتَ لستَ أنا؟.. أسئلة ساذجة يرونها ونراها نحن بفطرتنا البريئة وبعقولنا الطرية – التي لم تعكرها ترهات وأباطيل الواقع وأساطيره – مشروعة بل جِديّة وسجية… لكن سؤالك عن هذه الأسئلة لا يقابل بذلك الوجوم والعيون الواجفة والصمت المقدس كما حين يكون سؤالك عن تلك (الأسئلة المحرمة).. حينها تكون قد تجاوزت الحدود، وتخطيت السدود.. يقال أن الفضول قتل القطة.. وقط الفضول كان يقتلني إن لم أقتله..

لا أحد يسري في جبل (مَدَر)
في النهار يبدو الجبل وادعا ترعى النعاج على سفوحه بأمان ..

في النهار كان الجبل كحال أي جبل آخر.. الرعاة كانت ترعى نعاجها في جروفه، وتسقي دوابها عند غدرانه، والحكماء يفتشون فيه عن أعشابهم الطبية بين فجاجه، وفي جحوره كان القناصون يصطادون الذئاب والثعالب التي تغِير على أغنامهم ودواجنهم ليلا على حين غفلة .. ويصطادون من سهله وقممه الأرانب والوعول.. وآخرون يضربون في كهوفه وفيوفه يبغون خلايا العسل.. حتى الصغار كان مسموح لهم أن يلعبوا بالقرب منه نهاراً.. لكن ساعات العمل فيه تنتهي بغروب الشمس بل دون ذلك بسويعات.. والويل كل الويل لمن يتأخر.. لا أحد يجرأ على التأخر لأي سبب كان.. فيه النهار للناس والليل “لأناس”.. ومن يتأخر لأي سبب كان، كان المصير المشؤوم هو مصيره، والرحيل إلى حيث يذهبون به هو قدره.. ببساطة كان يختفي في المجهول.. ثم تأتي بعد الإختفاء طقوس الوساطة والمقايضة التي لن تجدي رشدا ولن تُرجع شاردا، لكنها كانت طقوس يجب أن تتم لسبب ما.. طقوس يمارسها “العارفون” الذي ينحدون من نفس سلسلة عائلة بعينها.. “عارفون” مختارون يقال أن لهم مناعة قديمة ضد من يكونون في الجبل ووفق شروط وأحكام متعارفة لكنها غير معروفة عند سواهم.. كأنه ميثاق شرف قديم بين العوالم أُبرم في سحيق الزمان.. بصماتهم الوراثية هي من تحدد هويتهم “كعارفين”.. ويقال في الأثر أن في جبل (مدر)، في وقت السحر سِحرٌ ليس كالأسحار، وإن ليس كل البشر على هذا القدر من الصمود ضد إغواء وإغراء نداء الجبل ليلاً، لذا كان الحذر هو عنوان الخبر.. لا أحد يسري في جبل (مدر)..

لا أحد يسري في جبل (مَدَر)
كهف السحرة .. زعموا بانه مسكون بالجان ..

عندما يُخطف أحدهم كانت طقوس الوساطة والمقايضة تقام عند فم كهف بعينه يقال له (كهف السحرة).. كهف ظاهره البراءة كأي كهف آخر تجده في الجبل أو في أي جبل آخر، لكن في باطنه ما لا يعلمه الجميع.. كان الكهف هو أيضاً من المحرمات عن الحديث عنها، وكانوا يروجون أكذوبة بأن به جان ضار، يصيب سقمه كل من ينتهك حرمته، ولا يجب الإقتراب منه.. لكن الحقيقة التي يعلمها الجميع في صمت بأنه هو عين الجبل ومنبت حرمته، لا أحد يجرأ على الاقتراب منه نهاراً، حتى لو اقتربت أحدى مواشيهم أثناء رعيهم أو ضاعت فيه.. لا أحد يجرأ على الاقتراب من بؤرة الشر تلك .. كهف ضيق لكنه طويل كالسحاب، ضيق بحيث لو تجرأت على دخوله يجب أن لا تكون من ذوي الأحجام العائلية، وعليك أن تحشر جسدك فيه وتمشي على جانبيك إلى أغواره، لتغدو كقطعة سجق صغيرة تحشر نفسها ببطأ بين كفي خبر (باجيت) فرنسي كبير.. ولتنتهي عند مدخل منخفض تدخله دخول القرفصاء ومن ثم لتلج أخيرا قاعة الكهف الرئيسة بجدرانها الصماء بلا فتحات “ظاهرة” أو منافذ “مرئية” .. لن احكي لك عن أطياف وتخيلات لبقايا العظام البشرية البالية المترامية هنا وهناك خلف الجدران، وتحمل في تموضعها آهات معذبة قديمة تسمع تأوهاتها في أعماقك.. لكنك في الواقع لن ترى شيئا.. الكل يعلم بأن الكهف هو بوابة الجحيم للعالم الآخر.. ومنه تخرج العوالم ليلاً وتهيم حتى بزوغ الفجر.. لتعود كالخفافيش إلى أوكارها وتختفي داخله في العدم عند السويعات الأولى من بزوغ الفجر.. أو هكذا كنا نظن..

طبعا الكبار لم يخبرونا بكل ذلك ولا يتوجب عليهم بل لا يجب عليهم كما هو المفروض و”مفروض”، لكن تلك أخبار تتداول سراً في سوق سوداء الصغار، حيث الكل يطرح مزاعِم غير مرخصة وليست معتمدة، الكل يزعم فيها بأنه سمع ذلك من أخوته أو أمه أو جدته أو خلسة من حديث المجالس.. لكن تبقى تلك أشلاء أجوبة مُسكّناً للواهيب الفضول وإن كانت تميل بين أكف اللاممكن والمعقول.. بعضنا كانت تموت فيه شعلة الفضول تلك مع الوقت، وتصبح أشلاء الحكاوي بنهاياتها المرسلة عصية الكشف والإثبات، وتغدو الأسئلة المحرمة صماء بلا إجابة شافية كمثل مسلمات الحياة التي لا تَقبل ولا يُقبل فيها نقاش.. أنت لا تسأل عن سر شروق الشمس، ولا عن غروبها في مغربها، ولا عن تبدّل الليل والنهار، أنت لا تسأل لماذا لا نطير فوق السحاب كالجوارح ولا نغوص في البحار كالدلافين، أنت لا تسأل لماذا نشرب الماء ولا يشربُنا هو، ولا لماذا نأكل النعاج بدل أن تأكلنا هي.. أنت لا تسأل عن ما يدور في جبل (مدر) ليلا.. ما هو السر الدفين فيه.. ؟ وأين يختفي من يختفون؟.. من الحمق أن تسأل أسئلة كهذه.. هي كالمسلمات الأولية التي لا تقف على مسلمات أُخَر أعمق منها ضحالة، وقعر ما بعده قاع من التجريد المجرد.. فقط عليك التسليم والعيش في ظلام جهل الأسئلة المحرمة، بل قل في نعيمها.. فقط لا تسأل.. لكن يقال بأن الفضول قتل القطة.. وفضولي يقتلني..

لا أحد يسري في جبل (مَدَر)
كنا نهوى قيادة دراجاتنا الهوائية فوق التلال والكثبان ..

كنا نحن صبية – بدمائنا المتدفقة ومرحنا الذي لا ينتهي – نهوى قيادة دراجاتنا الهوائية فوق التلال الصغيرة والكثبان عند سفح الجبل، نتسابق ونطارد باستماتة بعضنا الآخر ونعيش حياة الصبا بكل وهجها وعنفوانها.. نطارد الأرانب البرية في حلقات قنْص مثيرة ونحن نمتطي دراجاتنا الهوائية كأنها أحصنة الغرب الأمريكي تضرب بحوافرها أديم الأرض في ملحمة غبارية، وصيحاتنا صيحات النصر المنتشية بغمرة الفرح تدوي في كل فج عميق كصيحات رعاة بقر حقيقيين يطاردون الخيل الوحشية، لكن غالبا ما ينتهي كفاحنا العابث المستميت عن إمساك أرنب شقي هازيء يهرب ويلج في جحور لا قعر لها.. ثم لا ننفك نطارد الزوابع الترابية المتراقصة التي نسميها (رقصة الجان) من فوق التلال والكثبان.. لكن عندما يحين وقت النذير، يعلم الجميع بأن عليهم المسير.. نطارد الزمان ونطوي الأرض تحت عجلات درجاتنا الهوائية طيا.. فلا أحد يبقى في الجبل عند سويعات الأصيل عندما تنذر الشمس الجميع في شحوب بوقت الغروب.. فمن الجنون أن تبقى في جبل (مدر) في المساء.. فقط لا تسأل لِمَ.. لكنه هو ذاك الفضول ينهشني.. كسنورٍ بري محبوس بين ضلوع صدري يقرقر..

في ذلك اليوم المشئوم، ذهبتُ أطارد الأرانب والزوابع وحدي، أصدقائي لم يأتوا بسبب “الإمتحانات” .. كم كنتُ أكره المدرسة بجمودها وقيودها وتكاليفها المملة، لم أكن أحمقاً ولا بليداً دراسياً، فقط كنت أكره الواجبات المنزلية والإمتحانات.. أولئك المجانين يتقصدون تعذيبنا في المدرسة وخارجها، ألا يكفيهم أن نأتيهم إلى مدرستهم “الموقرة” كل صباح كسالى جياع لنسمع في صبر أيوب ترهاتهم ونتحمل صرخاتهم وعويلهم بين حيطان أربع كالحة كالسجون حتى الظهيرة؟ وفوق ذلك يكون كل هذا التعب بالمجان.. أين حقوق الإنسان؟.. ويزيدون من تفننهم في تعذيبك حتى أوقات الفسحة وفي الطابور وعند إنتهاء اليوم الدراسي لا مناص تحت هراء يسمونه “الضبط والربط” المدرسي وهي نوع من التعذيب والتفريغ السادي يمارسونه بانتشاء مريض خلف قناع من النفاق المهني.. ثم يمطرونك بالتكاليف والامتحانات والمذاكرة المنزلية والتحضير وكأنه لا يكفينا أن ضاع أثمن وقت من يومنا سدى بلا فائدة.. لأكثر من نصف ساعات اليوم بكثير في المدرسة وخارجها يمارسون علينا أعتى أنواع السادية الحضارية باسم “التربية والتعليم” في حين أن القانون الدولي يدين “الاستعباد الوظيفي” لأكثر من نصف ساعات اليوم.. الذي يعزّيني هو أن “أنشتاين” نفسه كان يكرههم.. المهم بأني توجهت نحو الجبل بعد الظهيرة لوحدي أطارد الأرانب والزوابع.. ويا ليتني لم أفعل..

لا أحد يسري في جبل (مَدَر)
لمحت ارنبا وبدأت المطاردة ..

بين الفجاج التي تعودت ولوجها، والدروب الملئ بأثار إطارات دراجاتنا الهوائية كنت أدحرج دراجتي الهوائية لوحدي، ثم لمحت أرنباً وبدأت المطاردة، طويت المسافات وتوغلت أكثر عن المطلوب، ثم اختفى الأرنب في جحر من الجحور، وقبل أن أقرر العودة رأيت أرنب آخر غر صغير، وتعشمت أن يكون صيداً سهلاً، فأطلقت عنان دراجتي الهوائية من جديد.. ومن جديد توغلت في العمق، وكان علي الرحيل .. فالغروب قد أشرف، والخروج من حرمات الجبل كان من البقاء فيه أفضل وأشرف.. لكن تأتي مصيبتي في غير وقتها المرغوب، بعدما فقدت توازني لبرهة كانت كافية لأن يتدحرج جسدي ودراجتي من فوق منحدر صغير، لم تكن السقطة مؤذية كثيرا سوى من جروح صغيرة دامية ورضوض متفرقة مبعثرة، ولم يتضرر هيكل الدراجة كثيرا، لكن المصيبة كانت أن سلسلة الجنزير إنقطعت من خط التروس، والشمس قد شارفت المغيب.. المسافة كانت فلكية بيني وبين القرية، ولذا كانت فكرة الرجوع عدوَاً فكرة سيئة بالمطلق.. وحينها اتخذت قراري على محمل الجد والسرعة في أن أصلح الجنزير، وأعيد تثبيته في التروس، ثم أبدا سباق الموت نحو القرية.. فقد دقت ساعة الخطر.. ولا أدري عن كُنة الخطر الذي ينتظرني في فجاج الوادي، فهو كما لكم أن تعلموا بأنه ضمن نطاق الأسئلة المحرمة تلك..

وبين سحْب وجذب، وبين شد وطرْق، تمكنت من إصلاح وإعادة تثبيت سلسلة الجنزير في مكانها، وبدأتُ رحلة ضرب الدواسات الأولمبي في مهب الريح نحو القرية.. لكن الوقت كان قد نفذ أصلا، فقد غاب قرن من الشمس تحت الأفق، والشمس المكفهرة في لهفة تدفن نفسها فيه، ولم أبه بتلك الطقطقات المتقطعة القادمة تحتي من صحن التروس.. كنت أخشى أن ينقطع الجنزير للمرة الثانية، لأنها ستكون نهايتي، والليل قد أسجى سدوله، والشفق شرع يصبغ السماء المخملية بلونه القاني المخيف.. لكن خفقان القلب المليء (بالأدرينالين) كان يبعث الأمل فيّ، وينسيني جراحي ورضوضي وهلعي، كنت على ثقة بأني سأصل لقريتي لولا ذلك الرنين المتصاعد والرنيم الرتيب الذي أسمعه من خلف التلة التي كنت أعبر سفحها بسرعتي الجنونية..

لا أحد يسري في جبل (مَدَر)
لحن شجي يدعوك للوقوف ..

لحن شجي يدعوك للوقوف.. ضحكات عذارى تصدح في مكان ما خلف التل.. أعلم بأنهم “هم” وما كان لي أن أتوقف.. لكنه صوت ليس كالأصوات.. الصوت الندي يأسرني كأنشودة قديمة بلغة منقرضة لكنك تفهم عمق كل كلمة فيها.. كلمات ليست كالكلمات.. وحروف من عالم آخر.. كل همسة.. كل زفرة.. كل تنهيدة.. تأتيك من صدر مفعم بشجون آسرة ومشاعر فياضة بكر لم يختبرها بني البشر .. كنت من فوق دراجتي المسرعة أصاب بالجنون.. لا أدري لكني كنت أتذوق “طعم” تلك الألحان الحلو على لساني صدقاً .. وعبير موسيقاها الزاكي يزكم أنفي حقاً.. ثجلات آسرة مجنونة تنسيك نفسك وتنسيك من تكون لتسبح معها في عالم علوي بلا آلام.. بلا أحقاد.. ولا ضغائن.. قلبي يلّح عليّ أن ألقي نظرة من خلف تلك التلة حيث كنت على دراية بتواجد غدير واسع بحوض شاسع يسقى الرعاة منه نعاجهم نهارا، كنت متأكداً بأن تلك الأصوات تنبع من نفس المكان.. قلبي يطلب نظرة عابرة.. مجرد نظرة عابرة.. فقط نظرة.. أعلم بأنها نظرة محرمة عُرفاً.. عقلي يحثني على المسير.. كنت أعلم أنهم “هم”.. لكنه قط الفضول ينهشني.. الفضول قتل القطة.. وقط الفضول ينهشني..

على غير هدى أخفف سرعتي، ثم اترجل من على دراجتي.. وامشي الهوينا بخفة نحو الجانب الآخر من التلة وبهدوء وسكينة أجر دراجتي على جانبي.. قلبي ينبض بالشوق نحو المايكون.. وعقلي يبئُني بالموت المحقق.. لكنه قط الفضول الغادر ينهشني.. يطلب الأجوبة المحرمة.. أدحرج عجلات دراجتي ببطأ وروية مخافة أن أوقض طيف رضيع نائم من تحت الحصى تحتي أو طيف شيخ هرم أمر بجانبه.. أمشي نحو حتفي.. تحملني الترانيم الشجية وكلمات العذارى الآسرة عند الغدير.. أوقف دراجتي بعيدا عن مرمى نظر من يكون عند الطرف الآخر.. وأمشي على أطراف أصابعي بين الحصى وبين أغصان أشجار النبق والسدر.. ومن خلف غصن نبق يتيم لا يستر سوى ما فوق صدري أراهُن كالملائكة.. على ضفة الحوض قعدن ثلاث إناث من تلك الكائنات.. وقد أسدلن قوائمهن المتماهية في قلب حوض الغدير.. وبقاماتهن كالنخل أطلقن طلعه عنان السماء وبسطن جماله نحو الغدير.. عمالقة.. كأنهن من بقايا عاد وثمود.. بشعورهن الطويلة المنسدلة على أكتافهن التي لو ممدت يدك على امتدادها للأعلى نحوها لن تصلها..

لا أحد يسري في جبل (مَدَر)
صورة يبدو فيها جبل مدر وحيدا في الافق ..

كنت أعلم أن خلف ذلك الجمال الموت.. كنت أعلم بأن خلف ذاك الحسن أفعى ناعمة بألوانها الزاهية.. لكن ذلك الجمال حقاً يأسرك.. يناجيك بصمت.. يعذبك.. يمزقك.. يقتلك ببطأ.. تعلم أنه ليس لك.. تعلم أنه الموت المحقق.. لكن النظر في وجوههن يغريك.. وينسيك وحشة الليل.. تمسك الغصن الذي يسترك وتصنع منه فجوة لترهف منه السمع.. ثجلات عذبة تصدح من هناك وتمنح الوادي الحياة.. ويمنح القلب الخافق الأنس المخيف، ويمني النفس بالمزيد والمزيد.. لكن الوقت ينقضي وعليك المسير.. تعصر الغصن الغضيض في يدك لترهف السمع ولتسمع الحديث الساحر الذي لا تفهمه ولا تفقهه لكنه بلهفةٍ يعصُرك.. كموسيقى تدغدغ مشاعر الطفولة فيك.. تصغي إليها بسكون لكن لا تفقه شيئا منها.. لكن عليك الرحيل.. فقد رويت بعضاً من فضولك.. وهدأ ذلك القط الخبيث في جوفك.. عليك الرحيل.. لكن فجأة وبدون مقدمات يتكسر غصن النبق من يدك فيمزق حرمة السكون.. قعقعة خافتة مكسورة تشرخ جدار الصمت.. تنتهك الحرمة.. وتنبأ الجميع.. وتفضح الدخيل.. يقشعر بدنك من هول الحدث.. عيونهن الخاوية تنظر إليك.. تخترقك.. تدرك بأنك مكشوف.. ثم تسير نحو دراجتك كأن لا شيء يخصك، كأنك عابر سبيل في درب عامة.. تسير بخطى واسعة وتنظر بطرف عينك على من هتكت سترهم.. تسرع الخطى على وقع خفقان قلب واجف وأطراف ترتعد.. ثم تهب بالصعود فوق دراجتك.. وفجأة..

وفجأة تسمع خفقان الأجنحة من وراءك.. هن يطلبن الدخيل.. يطلبنك أنت.. فتختلس النظر وراءك في رعب.. بأجنحة كأشرعة الصواري يأتينك.. وعيون تقطر شراً تلاحقنك .. تطلق صرخة رعب وتترك دراجتك مكانها وتطلق الريح لقدميك الواجفتين في ظلام الوادي من حيث أتيت بعيداً عن القرية.. تسمع خفقان الأجنحة أقرب وأقرب.. تطلق صرخة تمزق صمت وديان جبل (مدر) وفجاجه.. ثم بلا مقدمات تُسحب للأعلى كما لو أنك تسقط في شلال صاعد.. تطلق صرخة تعلم يقينا أن صداها سيصل إلى قلب الغالية أمك.. القلب المتوجس قلقاً عليك.. أمك التي وجف قلبها ساعة “خطفك”.. تصرخ المفجوعة بولدها فجأة وتكسر رتابة البيت بصراخ أقرب للنحيب : (ولدي أحمد.. ولدي أحمد..).. وأنت من فوق سماء الجبل فزعاً تصيح.. تصرخ.. ترى القرية بأنوار شوارعها وبيوتها.. ترى المصلين يخرجون من مساجدهم بُعيد صلاة المغرب.. القرية تصغر وتصغر فتبدو كلؤلوة صغيرة في كف عفريت.. أو كضرسٍ صغير يتيم في فم مارد عملاق.. رويداً رويداً تغيب عن الوعي.. وتتلاشى الرؤية فلا ترى شيئا.. لا القرية ولا الجبل ولا دراجتك التي ركنتها خلفك تحت شجرة سدر في سفح ذاك التل..

لا أحد يسري في جبل (مَدَر)
اهل القرية اتوا يبحثون ..

تعلم أنهم جاؤوا للبحث عنك.. زرفات وراء زرفات من أهل قريتك يأتون يبحثون عنك.. ينيرون فجاج وديان الجبل بمصابيحهم كأنها جثوات مشاعل متناثرة لجيش عرمرم.. ينادوك باسمك فلا تجيب.. يقلبون كل حجر وكل مدر فلا يجدوك.. يتفقدونك في الفجاج والشراج.. يسبرون الكهوف والفيوف.. يبحثون عنك تحت الأشجار والجحور وفي الغيران والغدور.. فلا يجدوك.. يقترب الفجر وهم قد بح صوتهم طلبا عنك.. فلا تجيب.. ثم يرحلون بخفي حنين لمساجدهم وبيوتهم.. في الصباح تأتي فرقة من الشرطة لتساعد الأهالي في البحث عنك من جديد.. يأتون بهيلوكوبتراتهم وبكلابهم البوليسية.. يمشطون السهل والجبل، يسألون ويحققون وهدير طائرات الهيلكوبتر ترجّ جنبات الجبال بحثا عنك.. ثم يعثرون على دراجتك الهوائية مسجاة عند تلك التلة.. يدب الأمل في العثور عليك .. تطوق الشرطة المكان لكي تحافظ على صفاء الأدلة الجنائية ونقاءها من أقدام الفضول.. يأتي خبراء تقفي الأثر .. وتأتي الكلاب فتشم ما تبقى ما رائحتك عبر المسار الذي وطأت فيه قدميك.. تبدأ من الموضع حيث ترجلت فيه عن دراجتك.. وتمشي الكلاب على أطرافها كأنها تتقمص طيفك لتلك الليلة.. ثم تتوقف عند دراجتك عند المكان الذي ركنتها فيه لبرهة.. ثم تذهب إلى موضع الغصن المكسور في ببطأ وسكون.. ثم تنتظر كأنما تحترم فيك ذلك الوقوف الخاشع نحو الغدير.. ثم فجاءة تتقافز بخطى سريعة كأنها خائفة نحو دراجتك.. وتلتفت للوراء لبرهة.. ثم تعدوا بسرعة في الإتجاه آخر كأنها فزعت من شيء غامض.. ثم تتوقف عند نقطة ميتة.. نقطة صماء لا أثر لك بعدها.. لا الشرطي المدرب ولا خبير الأثر يفهمون شيئا.. فيعيد الكرّة.. فيعود الكلب عبر مسارك بنفس الخطى وينتهي عند النقطة الميتة حيث لا أثر لك بعدها.. مرة تلو المرة.. والمسار هو هو.. والنقطة الميتة هي هي.. يحكي الشرطي ما “يقوله” الكلب وخبير الأثر.. ولا أحد منهم يفهم الذي جرى.. غير أن الأهالي يعرفون السر الدفين.. فيرسلون “للعارفين” أن تعالوا..

يأتي “العارفون”.. ويرسل الجميع صغارهم وصبيتهم إلى بيوتهم وسط حنقهم وفضولهم.. لكن الأهالي يعلمون شيئا لا يجب على أطفالهم سماعه أو ربما “رؤيته”.. ثم زرفات يذهبون لذاك الكهف اللعين.. تبقى الناس على مسافة “آمنة” من مدخل الكهف.. ويلج إلى أغواره أحد العارفين فيما يبقى إثنان منهم عند مدخل الكهف مباشرة.. لبرهة صمت لا يسمعون شيئا.. يصغون.. تتراقص عقارب الساعات في انتظار ممل.. ثم بدأو يغمغمون ويتحادثون.. فيشير لهم العارفان من بعيد أن اصمتوا.. لبرهة صمت.. يسمعون صياح مخيف من داخل الكهف.. صياح بهيمي اقشعرت له أوصالهم.. في أعماقهم يدركون الشر الدفين في تلك الصيحات المعذبة والعويل المخنوق.. عويل يتصاعد كصوت صياح البشر رقيق النغمة في أوله ثم ينتهي بخوار بهيمي وحشي مفخم نابع من حنجرة ليست بشرية إطلاقا.. صوت تقشر منه الأبدان وتعلم في كينونتها أنه لا يمت إلا إلى مخلوقات مخيفة خفية.. ثم تتصاعد أصوات صياحات أُخر مخنوقة وخوارات كعويل الكلاب الخائفة.. وقلوب الناس واجفة خائفة في صمت وذهول..

لا أحد يسري في جبل (مَدَر)
الشرطة تفحص دراجة الفتى احمد ..

ثم يخرج العارف من بطن الكهف، وتهدأ صراخات العويل المبحوحة.. ويطلب النعاج والمواشي للمقايضة .. ليست أضاحي ولا قرابين كما ظنها بعض رجال الشرطة الغرباء عن المنطقة.. بل كانت من أجل المقايضة.. يأتي ذوو المفقود يسألون العارف عن ما رآه هناك.. (هل أحمد بخير؟.. هل أخونا بخير؟) .. في وجوم لا يجيب.. يصرون عليه.. ثم يشيح وجهه عنهم نحو الرعاة يعجّل فيهم طلب النعاج والمواشي.. يطلب المزيد والمزيد منها.. يتساءل الجميع ويسألون ذوي المفقود عن ماذا قال العارف..؟ فيعبّرون في ملامح وجوههم الواجفة بصمت بأن لاشيء.. ثم تؤتى النعاج وتذبح على مدخل الكهف.. فيدخل العارف في أغوار الكهف للمرة الثانية.. لبرهة صمت، ثم تتنفجر الصيحات البهيمية المخنوقة من الداخل.. وترتج لها جنبات الوادي .. ويحوقل الناس ويهللون ويكبرون ويسبحون في رعب صامت ورجفة خوف تتراقص عبر عمودهم الفقري .. تتزايد الصرخات البهيمية حدة وصخباً وعدداً كأنها ُتعذب.. يخرج العارف، ثم يطلب المزيد من النعاج للذبح عند مدخل الكهف..المزيد والمزيد.. ثم يلج في أغواره زاحفا على جنبيه.. فترتفع صيحات العواء وتتفجر في عذاباتها كأنها هي قادمة من الجحيم.. الكثير من الأهالي والشرطة لم تحتمل هول الموقف فينسحبون نحو القرية.. فلا يبقى هناك غير نفر قليل مع ذوي المفقود والرعاة أصحاب النعاج.. ثم يخرج العارف من قعر الجبل ويلّح في المزيد من النعاج المذبوحة والمزيد والمزيد والمزيد عند مدخل الكهف.. ثم يلج للمرة الرابعة، وتتفجر الصيحات المعذبة المرعبة وكأنها تشوى على الجمر تأبى الخروج منه.. فتُسمع الصيحات المدوية في القرية..صيحات العويل الحيواني المخيف، وخوار البهيمة الشيطانية.. فتبكي النساء ويبكي الأطفال خوفاً وجزعاً.. والناس تحوقل في وجل.. وفجأة وفي تواتر سريع تضمحل الصراخات، وكأنها تغوص في عنق الجبل.. ويسكن الوادي بعد عذاباته من تلك الصرخات المخيفة..

لا أحد يسري في جبل (مَدَر)
الجيش يشارك في البحث ..

ثم يخرج العارف هذه المرة، وكان الرعاة يمسكون بالمواشي استعداد لموجة ذبح أخرى.. لكن العارف يرفع كفه أن كفى.. ثم أخذ يقلب كف فوق كف.. ثم ما قاله بعد ذلك شاب رؤوسهم من هول المصيبة والفاجعة.. وكان يوجه كلامه للأخ الأكبر :(أخوك في الداخل.. لكنه لا يستطيع الفلات.. إحداهن تربطه بين جدائل شعرها كالشرنقة).. ثم أردف :(حاولت وحاولت.. لكن القوم غاضبون.. ولم يقبلوا بالمقايضة.. ).. يصمت في أسى معلن فشله، ثم تتشحرج كلماته :(لا جدوى.. لنصلى صلاة الغايب على الفقيد.. ).. وفي لحظة ذهول تجرأ أحد الحاضرين السذج عن السؤال المحرم :(أيها العارف.. من هم؟ ولماذا هم خاطفيه؟) .. علت وجوه العارفون تقطيبات الغضب الصامت.. والوجوم للحظة كانت كالدهر.. تكلم العارف الآخر في وقار :(لا أحد يسأل تلك الأسئلة المحرمة إياها..) .. ثم أخذ الجميع يواسون أهل الفقيد بالأحضان والتعازي والدعاء .. ثم دلفوا نحو القرية تتبعهم أحزانهم وأوجاعهم وذكريات كانت ما يزال صاحبها يدب على وجه الأرض يوم أمس.. يذهبون نحو قريتهم في صمت خاشع ووجوم على وجوه مكفهرة أرهقها هول التجربة.. وألم الفراق المفجوع..

خبر فقدان الطفل احمد في التلفزيون العماني ..

ستأتي فرقة من الجيش في حملة تفتيش أوسع.. سيقلبون الجبل بحثاً عني.. لكنهم لن يجدوني.. ببساطة لأنهم لن يستطيعوا لي طلبا.. بعد ثلاثة شهور أو أربعة سيجد متقفوا نحل العسل ما بقى مني صدفة عند جرف عميق، صعب الوصول، ذو صخور نافرة، على مسافة هائلة من موضع دراجتي الهوائية، وسيبلغون السلطات.. سينقلون ما تبقى مني إلى مختبراتهم ومشارحهم.. لن يجدوا ما هو مريب.. بقايا ميتة.. هم لا يعرفون.. هم يخمنون.. هم لم يكونوا معي ليعوا ما وعيته.. أهل القرية ستقول بإستحالة وصول ما بقى مني إلى هذا المكان الغائر.. لا تصدقوا الغدر أو المطر.. هم لا يعرفون.. هم يخمنون.. هم لم يكونوا معي ليشهدوا ما شهدته.. ستتناقل وسائل الإعلام خبر وفاتي، وسيروّجون لكم تفسيراتهم “المنطقية”، وأسباب الوفاة “الحقيقية”.. لا تصدقوا ترهات التمنطق ولا التعقل الأعور.. هم لا يعرفون.. هم يخمنون.. هم لم يكونوا معي ليروا ما رأيته.. لا تنتظروا مني أن أخبركم شيئاً.. فلن أفعل.. فهي أسئلة محرمة.. وأجوبتها محرمة.. فقط لا تجعلوا قط الفضول ينهش صدوركم.. اقتلوه قبل أن يقتلكم.. اذبحوه قبل أن تذبح لأجلكم النعاج..

فقط لدي طلب صغير قبل أن يرحل طيفي عنكم.. أقرّوا الغالية أمي مني السلام، وادعوا لها بالمغفرة والصبر والسلوان.. أقرّوا السلام على الغالي أبي وأهلِ وناسِ وجيران.. واطلبوا منهم الصفح والغفران عن أي ذنب مني قد كان.. والآن.. دعوا روحي ترقد بأمان.. نسيت أن أقول لكم: (لا أحد منكم يسري في جبل مدر..) .. أعلم بأن ذلك سيكون حتى تُنسى قصتي.. حتى يُنسى إسمي.. وينسى الناس أوجاههم.. حتى يسري ذاك الدخيل الساذج الجديد في الوقت المحرم وينتهك حرمة الجبل.. في وداعة الرحمن..

خبر العثور على جثة احمد ..

المصادر :

اتهام نساء الجن بخطف شاب عماني بمغارة جبلية يثير ضجة
جبل مدر بولاية المضيبي

تاريخ النشر 31 / 01 /2016

guest
208 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى