أشباح و ارواح

الروح البشرية في الميزان

بقلم : اياد العطار

مثلما لا تعمل أجهزتنا المنزلية بدون كهرباء .. فالجسد البشري أيضا لا يعمل بدون روح، ومتى ما غادرته هذه ‏الروح تحول إلى كتلة عضوية عديمة الفائدة .. أي مثل الأجهزة الكهربائية المعطوبة، لكن مع فارق بسيط، وهو ‏أن الأجساد البشرية الميتة ينتهي بها المطاف إلى المدافن وليس إلى مكبات النفايات .. طبعا هذا كلام جميل ‏ومنطقي طالما شنف رجال الدين به أسماعنا لتفسير لغز الموت الأزلي .. لكنه للأسف كلام لا يمكن أثباته علميا، ‏فالروح لا يمكن قياسها كما تقاس الكهرباء ولا توجد طريقة للاستدلال على وجودها .. لهذا .. وبدافع من العقيدة ‏الدينية، شمر طبيب أمريكي عن ساعده ليثبت بأن الروح يمكن أن تقاس أيضا ! ومن اجل هذه الغاية خاض غمار ‏تجربة اعتبرها البعض من أكثر التجارب غرابة – أو جنونا – في تاريخ العلم.‏

الروح البشرية في الميزان
منذ آلاف السنين والأنسان يفكر في الروح ويبحث في اسرارها

 

هناك العديد من الأمور التي يصعب على حواسنا إدراكها، لكن ذلك لا يعني بالطبع عدم وجودها. فمثلا نحن لا نستطيع رؤية الهواء الذي يملئ الغرفة لكننا متأكدون من وجوده طالما بإمكاننا التنفس، ونحن لا نستطيع رؤية ذبذبات الراديو والتلفاز والهاتف الخلوي لكن عمل هذه الأجهزة بصورة سليمة هو حكاية عن تردد تلك الذبذبات .. الأمثلة في هذا المجال كثيرة وغالبا ما يحتج بها المؤمنون بالحياة الأخرى لإثبات وجود الروح التي هي بالنسبة إليهم كالهواء والذبذبات .. قد لا نستطيع رؤيتها أو الإحساس بها لكنها موجودة حتما.

الجدل حول الروح ضارب في القدم، تناوله الفلاسفة ورجال الدين والعلماء لآلاف السنين.. ما بين مؤمن بوجود الروح وآخر جاحد لها مكذب بها كليا، ولكل من الفريقان حججه وأدلته التي لا تتعدى أطار الفرضيات والنظريات التي هي أقرب إلى الخيال وأبعد ما تكون عن المنهج العلمي السليم. لكن الطبيب الأمريكي دانكن ماكدوغال (Duncan MacDougall ) قرر الذهاب إلى ابعد من ذلك الجدل اللفظي العقيم وصمم على إماطة اللثام عن حقيقة الروح عن طريق التجربة والبرهان .. لكن كيف سيفعل ذلك ؟ وما هو السبيل إلى إدراك ما لا يمكن إدراكه ؟!.

– “سأقوم بوزن الروح البشرية”. قال الطبيب ماكدوغال بهدوء وثقة مخاطبا عددا من زملاءه وأصدقاءه خلال إحدى السهرات الاجتماعية المقامة في منزل احد أطباء مدينة هافر هيل الأمريكية في عام 1907.

– “لكن كيف ستفعل ذلك .. هل ستضعها على كفة ميزان ؟!” .. تسأل أحد الحاضرين بسخرية بينما ارتفعت من هنا وهناك بعض القهقهات الخافتة والضحكات المكتومة.

 – “بإمكانكم السخرية كما تشاءون”. رد الطبيب ماكدوغال وقد احمرت وجنتاه غضبا ثم أردف بحزم وهو ينتصب قائما ليغادر: “نعم أيها السادة .. هذا بالضبط ما انوي فعله .. سأضع الروح على كفة ميزان”.

سخرية المجتمع الطبي من فكرة ماكدوغال لم تفت في عضده ولا ثنته عما كان ينوي فعله. وقد زاد من عزيمته وإصراره تطوع أربعة أطباء شباب لمساعدته بعد أن شرح لهم فكرته بأسلوب مبسط :

– ” يجب أولا الحصول على أشخاص مصابين بأمراض عضال في مرحلة متأخرة من المرض لا ينفع معها العلاج وميئوس من شفائهم .. أي أنهم يحتضرون وسيموتون لا محالة خلال فترة قصيرة .. سنعتني بهم جيدا وفي ساعاتهم الأخيرة سنقوم بقياس أوزانهم بدقة ثم ننتظر مفارقتهم الحياة لنقوم بوزنهم مرة أخرى، والفرق بين الوزنين سيكون هو وزن الروح التي غادرت الجسد توا”.

يالها من خطة “عبقرية” !! .. التجربة بأكملها قائمة على معادلة رياضية غاية في البساطة :

وزن المريض قبل الموت  –  وزن المريض بعد الموت = وزن الروح البشرية

الروح البشرية في الميزان
الطبيب ماكدوغال .. هل كان مجنونا ؟

لكن وضع هذه الفكرة أو المعادلة حيز التنفيذ لم يكن بنفس البساطة .. فقد توجب أولا الحصول على ميزان يكون في غاية الدقة، وهذا الأمر لم يكن سهلا في ذلك الزمان، فلا تنسى عزيزي القارئ بأننا نتكلم عن عام 1907، حيث لم تكن التكنولوجيا متطورة كما هو الحال عليه اليوم. لهذا قام الطبيب ماكدوغال بتصميم وصناعة ميزانه الخاص الذي كان بإمكانه قياس الأوزان بدقة تصل إلى عشر الأونصة ( 3 غرامات ) ، وكان هذا الميزان العملاق يتألف من كفتين معدنيتين ضخمتين يوضع في إحداهما المريض وسريره وفي الأخرى توضع أوزان معدنية مساوية لوزن الكفة الأولى ثم تتم مراقبة الميزان باستمرار لملاحظة وتسجيل أي اختلاف يطرأ على توازن الكفتين.

بالنسبة للمرضى فلم يكن من الصعب على الأطباء مثل ماكدوغال وزملاءه الحصول على أشخاص يحتضرون في ذلك الزمان، فالأمراض والأوبئة كالسل والحمى الصفراء كانت متفشية آنذاك، وبسبب عدم توفر المضادات الحيوية والعلاجات المناسبة فقد كانت احتمالات شفاء المصابين ضئيلة جدا، كانوا في الحقيقة يعتبرون حالات ميئوس منها وغالبا ما كانوا ينبذون في المصحات والمستشفيات بانتظار مفارقتهم الحياة، وبالطبع لم يكن من الصعب أقناع بعض أولئك المساكين اليائسين من الخضوع للتجارب مقابل الحصول على العناية والرعاية الطبية.

أول تجارب ماكدوغال وزملاءه كانت مع رجل مصاب بمرض السل، وارى من الصواب هنا أن اترك الطبيب ماكدوغال يحدثكم بنفسه عن تلك التجربة كما وصفها لأحد صحفيي جريدة الـ “نيويورك تايمز” في  11 آذار / مارس عام 1907:

“أنا وأربعة أطباء آخرين تحت أشرافي قمنا بأجراء التجربة الأولى على مريض محتضر بمرض السل (كان مرضا قاتلا آنذاك)، هذا الرجل كان نموذجا للمزاج الأمريكي الشائع، لم يكن شديد الاضطراب ولا مطبوعا على البرودة واللامبالاة. قمنا بوضعه قبل ساعات قليلة من وفاته على كفة الميزان الذي قمت أنا بتصميمه وصناعته والذي ضبطنا توازنه بشكل دقيق. وبعد أربعة ساعات وبتواجد خمسة أطباء في الغرفة مات ذلك الرجل. وفي اللحظة التي فارق فيها الحياة هبطت الكفة المقابلة من الميزان بصورة مفاجئة وبشكل مثير للدهشة كأنما هناك شيء ما تم رفعه من جسد ذلك الرجل دفعة واحدة”.

الطبيب ماكدوغال وزملاءه اكتشفوا لاحقا بأن الفرق في الوزن قبل وبعد موت المريض يصل إلى حوالي الاونصة (28.3 غرام)، وقد شجعهم اكتشافهم هذا على المضي في تجربتهم مع مريض ثاني كان يحتضر هو الأخر بسبب الإصابة بمرض السل. ومرة أخرى وفي اللحظة التي غادرت الروح فيها جسد الرجل تحرك مؤشر الميزان بنفس القدر تقريبا كما حدث في التجربة الأولى.

تجربة الطبيب ماكدوغال الثالثة كانت مع مريض مصاب بالسل أيضا، لكن في هذه المرة كان الرجل المريض أضخم حجما من سابقيه وذو طبع تغلب عليه البرودة والكسل. وعلى عكس المتوقع لم يطرأ أي تغيير على وزن الرجل قبل وبعد موته، كان أمرا مخيبا للآمال بحق، الطبيب ماكدوغال وزملاءه راحوا يتبادلون النظرات اليائسة ولسان حالهم يقول : هل فشلت تجربتنا .. هل ذهبت جميع جهودنا أدراج الرياح ؟.
لكن فجأة ومن دون سابق إنذار.. بعد دقيقة كاملة على موت الرجل .. تحركت كفة الميزان كما في المرات السابقة وبنفس المقدار تقريبا. وقد أستنتج ماكدوغال بأن السبب في عدم حدوث تغير في الوزن في لحظة الموت كما في المرات السابقة ربما يعود إلى الطبع الكسول والبارد للرجل الميت مما جعل الروح لا تدرك موتها وتحررها إلا بعد دقيقة كاملة على مفارقة الحياة !.

تجارب ماكدوغال استمرت لمدة ستة أعوام وشملت ستة مرضى، خمسة رجال وامرأة واحدة، وفي جميع الحالات حدث تغير طفيف في الوزن بعد موت المريض، وهو الأمر الذي قاد الطبيب ماكدوغال إلى الخروج بنتيجة واستنتاج في غاية الغرابة ..

– “وزن الروح البشرية يبلغ 21 غراما” قال الطبيب ماكدوغال بهدوء بينما كان يقلب ناظريه في الورقة التي دونت عليها أوزان ونتائج تجاربه.

– “لكن كيف توصلت إلى هذه النتيجة الدقيقة يا سيدي ؟” تسأل الصحفي الشاب الذي كان يجري مقابلة صحفية مع الطبيب.

– “آه .. الأمر بسيط يا عزيزي .. لقد قمنا بجمع نتائج التغير في الوزن عن جميع التجارب ثم قسمنا المجموع على عدد المرضى فحصلنا على معدل وزن يبلغ 21 غراما” أجاب الطبيب ماكدوغال.

– “إنها نتيجة غريبة حقا أيها الطبيب !” ردد الصحفي بتعجب وهو يمط شفتيه بينما راحت أنامله تتحرك على عجل لتدوين تصريحات الطبيب.

– “ليس هذا فقط” .. أستدرك الطبيب بحماس ثم أردف وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة : “لقد توصلنا إلى استنتاجات أخرى تتطابق تماما مع المعتقدات الدينية التي تعلمناها منذ نعومة أظفارنا”.

– “وما هي هذه الاستنتاجات يا سيدي ؟” هز الصحفي رأسه متسائلا.

– “تجاربنا لم تشمل البشر فقط .. لكن أجرينا تجارب على الحيوانات أيضا .. على الفئران والخراف والكلاب .. وفي معظم الحالات لم يحدث أي تغير ملحوظ في الوزن عند موت الحيوان وهذا قادنا إلى الاستنتاج بأن الحيوانات ليست لديها أرواح .. وهذا يتطابق تماما مع معتقداتنا الدينية”.

– “هذا غريب حقا يا سيدي .. على العموم .. أظن بأن تجاربك ستثير الكثير من الفضول والجدل بين القراء” .. قال الصحفي الشاب وهو يلملم أوراقه استعدادا للمغادرة.

الروح البشرية في الميزان
21 غرام .. فلم عام 2003

في اليوم التالي نشرت الـ “نيويورك تايمز” مقتطفات عن المقابلة التي أجراها الصحفي الشاب مع الطبيب ماكدوغال، وسرعان ما انتشرت القصة وكتبت عنها صحف أمريكية أخرى، ثم بالتدريج وبمرور السنين نسى الناس أسم الطبيب ماكدوغال لكن النتيجة التي خلصت إليها تجاربه تحولت إلى إحدى تلك العبارات المتداولة على السن الناس من غير أن يعرفوا على وجه التحديد أصلها ومصدرها، لقد أصبح مصطلح “21 غرام” يشير إلى الروح البشرية حتى أن احد أفلام هوليوود لعام 2003 حمل هذا المصطلح كعنوان ( 21 Grams ).

لكن يا ترى ما هو رأي العلم في تجربة الطبيب ماكدوغال وزملاءه ؟ هل تم تقبل حقيقة أن وزن الروح البشرية يبلغ 21 غراما ؟ .. والجواب هو كلا بالطبع .. فالوسط الطبي والعلمي اعتبر التجربة مجرد هراء بدون أي معنى وأقل قدرا حتى من مجرد المناقشة .. وحتى القلة القليلة من الأطباء الذين محصوا التجربة بشيء من الجدية لم يتفقوا مع النتائج التي توصل إليها ماكدوغال، فبحسب هؤلاء، فأن الفرق في الوزن قبل وبعد الموت ناتج عن تبخر سوائل الجسم عن طريق التعرق، وهذا أيضا يفسر عدم تغير وزن الحيوانات بعد موتها على عكس البشر، فالحيوانات تخفض من درجة حرارة جسمها بطريقة تختلف عن البشر، الكلاب مثلا تخفض حرارتها بواسطة الهواء الذي تخرجه من رئتها عند الزفير وليس عن طريق التعرق. كما أن هناك بعض الأطباء عزا الفرق في الوزن قبل وبعد الموت إلى حجم الهواء الذي كان موجودا في الرئة قبل الوفاة.

رغم سخرية واستهزاء الوسط الطبي الذي رأى في ماكدوغال مجرد رجل مجنون يحاول أثبات معتقداته الدينية بأي وسيلة، إلا إن ذلك لم يفت في عضد الرجل الذي أصر على صحة تجربته ونتائجها ورد على منتقديه قائلا بأن التغير في الوزن كان يحدث دفعة واحدة وبصورة فجائية بعد موت المريض مباشرة، أي لا علاقة له بعملية التعرق وفقدان سوائل الجسم.

على أية حال، تجربة ماكدوغال طواها النسيان بمرور الزمان ولم يعد يتطرق إليها احد إلا لماما، ربما فقط عند الحديث عن أكثر التجارب جنونا في تاريخ العلم .. لكن هل كان ماكدوغال مجنونا حقا ؟ هل كانت جميع جهوده التي بذلها لمدة ستة أعوام مجرد عبث وأوهام ؟.. أم أن للروح وزن حقا ؟ .. الله أعلم .. لكن يقال أن بعض الموتى يصبحون ثقيلين جدا بعد موتهم .. ويقال إن سبب هذا يعود لكثرة آثامهم ..

في الختام .. أنا شخصيا موقن بأن الطبيب ماكدوغال قد عرف حقيقة الروح البشرية، أيا ما كانت هذه الحقيقة، في يوم ما من عام 1920 .. ففي ذلك اليوم فارق الرجل الحياة .. ويوما ما عزيزي القارئ .. سنعرف أنا وأنت الحقيقة أيضا ..

يدفن بعضنا بعضا و يمشي ** أواخرنا على هام الأوالي

هذه القصة نشرت بتاريخ 07 /12 /2010

guest
54 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى