أدب الرعب والعام

سيزيف (2)

بقلم : Seeba – سوريا

إنجراف التربة في المزرعة كشفت عن قبور

جلستُ أنتظر عودة والدي من المخفر إلى أن غفوت على أريكة الصالون ، فانتبهت إليّ “أم سليم” مربيتي الأخيرة , فأقبلت توقظني و أقنعتني بالخلود إلى النوم , فيما تنتظر هي عودة أبي.

استيقظت في اليوم التالي , و انا فزعة ! بعد أن راودني كابوساً مريع.. غيّرت ثيابي على عجل , و نزلت مُسرعة إلى الطابق السفلي من المنزل .. فوجدت والدي جالساً إلى مائدة الأفطار , يترشف قهوته برفقة المحامي ..

تنفّست الصعداء و حيّيت المحامي الشاب , و قبّلت والدي ..و جلست قبالتهما مُستفسرة :
-ما الذي حدث معك ليلة الأمس , يا أبي ؟ و ما سبب قدوم الشرطة إلى منزلنا ؟!

فأجابني أبي مُطمّئِناً :
-لا داعي للقلق , عزيزتي .. حصل أمرٌ ما في المزرعة ، و حللنا المشكلة .. لا تشغلي بالك

و أمام تكتّم والدي الغريب على الموضوع ! إلتفتُّ إلى المحامي مُستنجدة به .. ففهم الأخير قصدي ، و إبتسم قائلاً :
-آنسة “سارة” .. لقد تسبّبت الأمطار الغزيرة في إنجراف التربة في المزرعة , فكشفت عن بقايا بشرية , مما دفع الشرطة إلى فتح تحقيق في الموضوع ..و قد إتصلوا بالسيد “سليمان” لأنه مالك المزرعة لا غير ..لا داعي للقلق ، فموقف والدك سليمٌ تماماً

فسألته بدهشة :
-و ما الذي تقصده ببقايا بشرية ؟!
-أعني بذلك.. جثثاً و هياكل عظمية

فوضعت يدي على فمي من الصدمة , و تمّتمت : يا إلهي !
فقاطعني والدي مُتبرّماً :
-أنهي فطورك بسرعة ، و لا تفكري بالأمر .. من المؤكّد بأنها مقبرة قديمة

***

طوقت الشرطة محيط الكوخ , بعد اكتشاف تلك القبور و الهياكل العظمية .. كما اُغلقت كل المنافذ و المعابر من و إلى مزرعتنا , حتى ينتهي محققوا القسم الجنائي من نبش كل الأراضي المتاخمة للكوخ , بحثاً عن المزيد من الضحايا أو أدلة من شأنها أن توقع بالجاني.

***

و ذات يوم .. كنت اجلس برفقة والدي في الحديقة ، و كان منهمكاً في تدخين سيجارته و قراءة جريدته على مهل .. بينما تجاهلت انا الكتاب الذي كنت أطالعه , و إستسلمت للتفكير في تلك الحوادث الغريبة التي تحصل في مزرعتنا و كوخها المهجور.. ففي البداية , كانت قصة شبح والدتي .. و الآن ! القبور و الجثث .. فمالذي يحصل هناك بالضبط ؟!

و عندها !! أقبل المحامي “كريم” .. فرحّب به والدي , و أجلسه بقربه .. و ما لبث الشاب أن أخرج من حقيبته الفاخرة ، ورقة قدّمها لوالدي قائلاً :
– سيد “سليمان” ..هذا إستدعاءً لك من مخفر الشرطة للمثول أمامهم غداً , للتحقيق معك

وضعت الكتاب جانباً .. فيما قال أبي مُستنكراً :
-و ما علاقتي انا بالموضوع ؟! ألم تقل بأنني سأكون في منأى عن المشاكل , بعد ان منحتهم التصريح بتفتيش المزرعة و الكوخ ؟!
-بلى سيدي , و لكن..

-(مقاطعاً و بعصبية) : لكن ماذا يا “كريم” ؟!! الجميع يعلم بأنني هجرت المزرعة و كوخها منذ وفاة زوجتي , هذا عدا عن شائعة الشبح , التي ابعدت الجميع عن المكان .. فكيف يكون لي علاقة بما يجري الآن ؟!!

ـو انا أدرك تماماً ما تقول , و أؤكّد لك بأنك لست مُتّهماً يا سيدي .. كل ما في الأمر بأنك ستقصد المخفر لتخبرهم بما تمتلكه من معلومات حول الموضوع .. اقصد بما أنك مالك المزرعة , و المَعني الأول بما يدور فيها .. كما أنك الأدرى بالعمّال و الفلاّحين الذي يعملون في أرضك…يعني ستذهب للمخفر بصفتك شاهد فقط

-كريم !! ألا تعلم خطورة ما تقول ؟ … إنّ مجرّد ورود إسمي في سجلاّت التحقيق , هو كفيل بأن يسبّب لي خسائر كبيرة.. ألا يكفي ما خسرته بسبب اكتشاف تلك القبور ؟
-لا داعي للقلق .. سأحرص على أن لا يتّم المساسّ بسمعتك و لا تلويث إسمك.. ثقّ بي , سيدي

فرمى والدي جريدته في غضب على الطاولة و رحل .. و تركني وحيدة برفقة المحامي ، الذّي أصيب بالحرج من كلام أبي…

فحاولت تخفيف وطأة الموقف , و بادرت “كريم” بالقول :
-هل من جديد في قضية المزرعة ؟

-لقد أنتهى المحققون من حصر عدد الضحايا و رفع الأدّلة ، و هم يقومون الآن بمحاولة تتبّع خيوط القضيّة.. لكن يبدو بأنّها ستكون قضيّة طويلة .. فهم لم يتوصلوا إلى الآن إلى مشتبهٍ به ، و هو ما دفعهم إلى إعادة إستجواب بعض الشهود و إستدعاء اشخاص آخرين كوالدك

-طيب كم وصل عدد الضحايا ؟
-حتى الآن ..89 .. بعضها وُجد في القبو , بينما دُفنت معظمها في قطعة الأرض المحيطة بالكوخ

فصمتّ برهة محاولةً إستيعاب هذا الرقم المخيف ! لكنني عجزت عن ذلك .. بل لم أستطع أن أتخيّل أيّ سبب عدا الكوارث الطبيعية أو الحروب , قادراً على أن يُودي بحياة هذا العدد من البشر.

تردّدت قليلاً , ثم قلت للمحامي “كريم” :
-أليس من الممكن أنها بقايا لضحايا مجزّرة ما , أو كارثة ربما وقعت منذ فترة طويلة في المنطقة ؟

-هذا مستحيل يا آنسة .. فالتحاليل و الإختبارات على رفاة الضحايا , أثبتت بأن بعضها تعود إلى 25 سنة خلت كأقصى تقدير , و أحدثها تعود إلى ثماني سنوات تقريباً.. و لديّ صديق يعمل ضمن محققيّ هذه القضيّة , و قد أعلمني بأنّها كلّها قد خضعت لنمطٍ واحد من التعذيب و القتل

– تعذيب ؟!!
-نعم .. مع الأسف !

***

في اليوم التالي .. عاد أبي من التحقيق .. و قد لاحظت عليه : بأنه كان أكثر راحة و هدوء , و ربما أكثر ثقة .. و قد أثار ذلك حيرتي !

سرعان ما إنتشر خبر إستجوابه كالنار في الهشيم ، و بدأ الجميع في التهامس و القول بأنّ “سليمان صادق” مشتبهٌ في جرائم الكوخ .. بل أخذ معظم أصدقاء العائلة في تفادينا ، و لم يكن أصدقائي بأفضل حال من أصدقاء والدي ! فبعد أن كانوا يطاردونني للخروج معهم , أصبحوا يتظاهرون بالإنشغال و يتعلّلون بالمرض و غيره من الأعذار الواهية , ليتهرّبوا من مرافقتي و الظهور معي في الأماكن العامة.

كانت تلك الفترة صعبة على الجميع ، و خاصة عليّ .. لكنها في المقابل , قدّمت لي درساً لم و لن أنساه ما حييت.

و لم تمضي أسبوعان حتى أقبلت عليّ “أمّ سليم” بوجهٍ شاحب , كمن رأى لتوّه شيطاناً أو مسخاً .. و وقفت قبالتي تفرك يديها في قلق ..

فسألتها : ماذا هناك ؟!
-لقد قبضوا على سفّاح الكوخ
-أحقّا ؟! .. هذا جيد
-طيب ما شعورك ان علمتِ , بأنّه العم “محمود” ؟
-العم “محمود” ؟!! … هذا لا يُعقل !

و بهذه اللحظة .. كان ابي قد خرج من مكتبته , بعد ان امضى فيها ساعته المعتادة .. و قد سمع حديثنا بالصدفة , بينما كان يمرّ من امام غرفتي .. فدخل علينا , و قال :
-فعلاً !! إنه لأمرٌ مُربك .. من كان يظن بأن ذلك الرجل الطيّب , قادرٌ على اجتراح هكذا مجزّرة ؟! لكن علينا أن نعترف جميعنا بذكاء ذلك العجوز.. فقصة الشبح تلك , كانت حجّة ذكيّة لإبعاد الجميع عن مدفنه الخاص !

فبادرته بالسؤال : و كيف علمتَ انت بالأمر ؟
-لقد إتصل بي المحامي “كريم” .. و أعلمني بأنّ الشرطة قد ألقت القبض عليه , ليلة الأمس..

ثم همّ أبي بالمغادرة , فعاجلته بالسؤال : طيب ماذا كان ردّ العم محمود , هل إعترف ؟

فأجابني و هو يطالع ساعته ، مُتهيّئاً للخروج :
-لا أظن بأن الأمر سيطول قبل أن يفعل.. لكن ترديده في التحقيقات : بأنّ شبح والدتك هو الفاعل ، يثير أعصابي فعلاً .. ياله من ناكرٍ للجميل !! كيف استطاع استغفالنا جميعاً ؟!

***

لم يدم التحقيق طويلاً .. فعمّ “محمود” الشيخ الوقور , ذو الثلاثة و الستين عاماً ، إنهار اخيراً أمام إصرار المحقّقين .. و إعترف في النهاية بكلّ جرائمه المروّعة ، و التي كان كوخ المزرعة و الأرض المحيطة به مسرحاً لها .. بل انه كما أبلغنا المحامي “كريم” : اعترف بتعذيب ضحاياه ! و إختتم إعترافه المُخزي : بأنّه كان تحت سيطرة قوى خارقة مجهولة ! بل انه رجّح ان يكون كل هذا , بسبب شبح السيّدة “مريم” ، أو لعلّه الشيطان ببساطة… و قد نُقلت قضيّته إلى أروقة المحكمة ، ليقول القانون كلمته الأخيرة في حقّ “سفّاح النساء” : العمّ “محمود” !

***

و بعد أن أنتهى هذا الكابوس المريع .. قام والدي بإقامة حفلٍ صغير ، على شرف بعض المستثمرين و أصدقاء العائلة .. و إن كان هدفه الأساسي : هو أن يُعلم الضيوف من شركائه , بأنّه لا يزال “سليمان صادق” رئيس مجلس إدارة أقوى الشركات في البلاد ، كما كان دائماً .. و أن فضيحة الكوخ و جرائمه ليست سوى كبّوة , نهض بعدها الجواد أقوى و أسرع و أنجح.

لكن هذه لم تكن نهاية المحنة , لأن القادم اسوء … اسوء بكثير !

… يتبع

تاريخ النشر : 2016-02-07

Seeeba

سوريا
guest
33 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى