على قارعة الطريق
بائعة متجولة تبيع الحليّ المصنوع يدوياً |
تركت كل اعمالي المتراكمة على سطح مكتبي المُهمل , و خرجت للتنزّه وسط زحام القاهرة سيراً على الأقدام..
متأمّلاً المباني الفخمة و العتيقة التي عفى عنها الزمن , لترسم لوحةٍ زمرّدية للمحروسة لا مثيل لها..
و مدّدت ناظري للأفق , الى الناس و احوالهم..
تلك تثرثر بالهاتف , و هذا يتحدث مع ذاك , و تلك عائدة , و هذا ذاهب .. فرسم الزِحام بلونه الرماديّ في عيني بعض الأنس و السعادة..و مددّتُ عينايّ الى المحال المُتجاورة , حين يدخلها الناس و يخرجون محمّلين بالحاجيات !
ذاك متجرٌ للحلويات ، و هذا متجراً لبيع الدمى ، و هناك يقبع متجرٌ للأجهزه الكهربائية ..و على الصفوف الموازية الأخرى تقبع متاجر الملابس , و كل ما يشتهيه الإنسان من لوازم المعيشة..
نظرت الى السماء و قد زينتها الّلألىء , بعد ان نُثِرَت النجوم على بساطها الأسود القاتم .. و الى ذلك العرجون القديم الشامخ , الذي تحوطه الظلمات من جميع الجهات..
و رست قدمايّ على قارعة الطريق , بعد ان ابت ان تكمل المسير الاّ اذا استراحت .. فتوجهت للرصيف الإسفلتي المقابل ..
و جلست على مقرُبة من سيدة ذات ملابسٍ رثّة , تنساب من عينيها دمعتان شفّافتان بحجم قطرتا المطر, يتشقّق لهما القلب ..فهمِمّتُ سائلاً ايّاها :
-ماذا دهاك يا خالة ؟!
فقالت بحزنٍ بادي على وجهها :
-ابنائي جائعون , و ليس معي ما يسدّ الم بطونهم ..و لم ابِعّْ شيئاً يُعيننا..فكيف لي ان انظر لأعينهم المترقّبة , و يدايّ خاويتين ! و الله خيرٌ لي ان اموت , على ان اعود خالية الوفاض من ايّ طعام
فنظرت الى السلعة التي تعرضها ..فوجدتها قلادات قديمة , تبدو مصنوعة يدويّاً .. فاشتريتهم بسعرٍ يرضيها..
ففرِحَت , و جمعتهم لي في صندوق.. ثم انصرفتُ انا بعد التحيّة , مُتوجهاً الى منزلي ..فوضعت الصندوق فوق الطاولة , و تابعت تنفيذ اعمالي المتراكمة..
***
في صباح اليوم التالي , توجّهتُ لعملي .. و في اثناء دردشتي مع الزملاء , اثارت زميلتي موضوع :
-هل سمعتم بحادثة البارحة ؟
فقلت انا : ايّة حادثة ؟!
فأجابت : لقد انتحرت امرأة فقيرة في الطريق العام , لأنها عجزت ان تبيع ما تحمل من سلع .. و قد نشرت الجريدة هذا الخبر , اليوم صباحاً .. اظن ان هذه الحادثة ستتحوّل لقضية رأيّ عام.. المسكينة ! بعد ان عجزت عن اطعام ابنائها , فضّلت الموت على العودة اليهم خاوية اليدين ..
و قد عرفت الصحافة بالأمر من خلال رسالة كتبتها : تذكر فيها معاناتها و اولادها , و سبب اقدامها على رمي نفسها امام السيارات على الخطّ السريع .. راجيةً ان يتولّى احدهم رعاية ابنائها اليتامى الجائعين..
و انا كنت استمع لحديث زميلتي بدهشة ! بعد ان تذكّرت تلك السيدة التي قابلتها مساء البارحة.. فاستفسرتُ عن ما كانت تبيعه , فأجابتني زميلتي :
-لحظة .. الجريدة على طاولتي , سأقرأ لك الخبر
و عرفت حينها : ان السيدة كانت تبيع الحلى المصنوعة يدويّاً , و بأنها انتحرت بحدود الساعة التاسعة ليلاً
و هنا ! اتسعت حدقتا عينايّ , لأنني اذكر بأنه نفس الوقت الذي التقيت به مع تلك السيدة على الرصيف المقابل للطريق العام ..
فهمِمّتُ مُسرعاً للمنزل , مُفتشاً عن ذاك الصندوق .. و رغم انني قلبت المنزل رأساً على عقب , الاّ انني لم اجد ايّ اثرٍ له , و كأنه تبخّر !
-اين الصندوق ؟! انا متأكّد بأنني وضعته فوق الطاولة ….آه المال !! سأتأكّد من نقودي
ففتحت محفظتي و عددّتُ مالي , فوجدته كما هو قبل تلك النزهة , و لم ينقص منه شيء !
اذاً من قابلت ؟! و مع من تحدثت ؟! و هل كانت نفس السيدة التي انتحرت لاحقاً ؟!
انا متأكّد انني لم اكن اهذي , و متأكّد جداً من لقائي بها ..
و الى اليوم , مازالت تلك الأسئلة تحيّر خاطري !
تاريخ النشر : 2016-02-14