اساطير وخرافات

أساطير…(نسائية) 2 / ليليث

بقلم : د. مؤمن احمد عباس

أهلا بكم
كنت قد عقدت العزم عن الكتابة عن (أم الدويس) الإماراتية أو (عيشة قنديشة) المغربية أو (كوشيساكي أونا) اليابانية..ولكني وجدت أنهن كلهن صور كربونية من (النداهة) اللهم إلا من بعض الفوارق الشكلية البسيطة التي تتوافق مع بيئة كل أسطورة منهن..مما كان سيصيبكم بالملل مني أكثر وأكثر (قال يعني أنتم ناقصين) لذلك رحت أفتش في دهاليز عقلي عن أسطورة جديدة ..بشرط أن تكون نسائية طبعا كي تنضم للسلسلة..حتى أضاء عقلي بأسطورة رائعة..لا لا لم أكن بالطبع وقتها آخذ حماما دافئا في البانيو لأجري عاريا صارخا (أوريكا..أوريكا) أو (وجدتها..وجدتها) كما فعل أرشميدس عندما اكتشف قانون الطفو..فلم أصل لتلك الدرجة من الجنون بعد..فضلا عن أني لا أفقه حرفا من اللغة اليونانية القديمة
المهم أن الأسطورة التي سأرويها لكم اليوم هي أسطورة من الروعة بمكان بالفعل..
أسطورة تحكي عن امرأة..ولكنها ليست امرأة عادية أبدا..أتعلمون لماذا؟؟
لأنها امرأة متمردة..
قد يقول قائل :(وما الجديد في ذلك؟؟..فكل النساء جبلن على التمرد)
وانا أقول له :(صدقت ولكن لا تجاهر بذلك فنحن لا نريد عداوات لا قبل لنا بها)
ولكن تمرد تلك المرأة يختلف بالتأكيد..ربما لأنه فاق التصور بالفعل..أتعلمون ماذا فعلت؟؟
تقول الأسطورة أن الله خلقها لتكون زوجة لآدم قبل (حواء)..ولكنها تمردت على سيطرة (آدم) عليها وهربت منه لتصبح معشوقة الشيطان..
فبم عاقبها الله؟
هذا ما ستجيب عنه السطور القادمة
فقط أعيروني أسماعكم واشحذوا لي انتباهكم كالعادة وأنصتوا لما سأقول

أساطير...(نسائية) 2 / ليليث

ليليث .. مخلوقة شريرة قديمة

أصل التسمية:
…………………

برزت شخصية (ليليث) للمرة الأولى حوالي عام 3000 ق.م كشيطانة أو روح مرتبطة بالرياح والعواصف فعرفت باسم (ليليتو) لدى (السومريين) باللغة الأكادية في حين أن لفظ (ليليث) قد ظهر للوجود حوالي عام 700 ق.م في المعارف اليهودية باللغة العبرية..حيث ظهرت في طبعة الكتاب المقدس(العهد القديم) الخاص بالملك (جيمس) باعتبارها شيطان الليل واتخذت شكل بومة نائحة..وقد أشار لها النص باعتبارها روح أو ريح حاملة للأمراض..
وكلتا الكلمتين تردان إلى الأصل (ليل) (Lyl ) وتعني الليل وتترجمان حرفيا بمعنى (كيان ليلي أنثوي)
للفظ (ليليث) جذر لغوي في الفصيلة السامية والهندو-أوروبية ..
فالاسم السومري (ليل) نجده ممثلا في اسم إله والرياح والعواصف (أنليل) وكذلك زوجته سيدة الهواء(نينليل) وهي ربة الرياح الجنوبية الحارة التي تعطي الحرارة للنساء أثناء الولادة ما يؤدى لقتلهن مع أطفالهن (المقصود هنا هو حمى النفاس)
ومن المعروف أن آلهة الشر في الحضارة السومرية ثلاثة :
(ليلو)- (ليليتو)- (أردات)
………………………………………….

نشأة الأسطورة:
……………………

أساطير...(نسائية) 2 / ليليث
ليليتو السومرية

(ليليث) : شيطانة عواصف بلاد الرافدين..ترافق الريح..وتحمل معها المرض والموت…
ظهر اسم (ليليث) في قرص طيني سومري من مدينة (أور) يعود إلى سنة 2000 ق.م
وتحكي الأسطورة أن إله السماء أمر بإنبات شجرة صفصاف على ضفاف نهر (دجلة) في مدينة (أورك)
وبعد أن ترعرعت الشجرة اتخذ تنين من جذورها  بيتا له بينما اتخذ طائر مخيف من أغصانها عشا له في حين كانت (ليليث) تعيش في جذع الشجرة..وعندما سمع (جلجامش) ملك (أورك) بهذه الشجرة حمل سيفه ودرعه وقتل التنين واقتلع الشجرة من جذورها بينما هربت (ليليث) مع الطائر إلى البرية..
لذلك تعد شجرة الصفصاف بالنسبة ل(ليليث) كالتابوت بالنسبة لمصاصي الدماء في المعتقدات الشعبية
وفي المعتقدات السومرية القديمة تسمى (ليليث) ب(يد أيناندا) وهي الآلهة الأم التي كانت ترسل (ليليث) إلى الطرقات لإغواء الرجال وإحضارهم إلى المعبد حيث تقام حفلات الإخصاب المقدسة
………………………………………………

(ليليث) في الكتاب المقدس:
………………………………

أساطير...(نسائية) 2 / ليليث
لوحة من عصر النهضة تصور ليليث – على شكل ثعبان – مع آدم وحواء

ذكر في الإصحاح 1و2 من سفر التكوين في قصة بداية الخلق ما يلي :
(المرأة الأولى المخلوقة التي لا اسم لها(من باب التحقير ويقصد (ليليث)) يزودها (يهوه)* بأجنحة تمكنها من الهروب من جنة عدن لتفارق (آدم) إلا أنها لم تتوقع أن يقتفي أثرها ثلاثة من الملائكة هم (سينوئي) و(سنسنوئي) و (سامينجيلوف) فيجدونها عند البحر الأحمر ويطلبون منها العودة لكنها تأبى ذلك وترتبط بالشيطان وتلد منه 100 طفل في كل يوم فتتوعدها الملائكة بقتل أولادها فتحقد على (حواء) وذريتها وتقتل أبناء حواء من البشر لأنها غارت منها لأن (حواء) خلقت من طين لتكون بديلا لها مع (آدم))

وصفها :
………..

أساطير...(نسائية) 2 / ليليث
جميلة جدا ومغرية للغاية

ورد في الكتاب المقدس وصف (ليليث) في ثلاث نصوص:
1-وصفت بأنها جميلة جدا ومغرية للغاية وكانت تتجسد ليلا أمام الرجال لإغوائهم ومن ثم تقتلهم
2-وصفت بأن لها أجنحة ومخالب وكانت تأتي ليلا لقتل الأطفال ولقبت ب(قاتلة الأطفال)
3- وصفت (ليليث) أيضا على أنها الحية التي أغوت (آدم) و (حواء) للأكل من الشجرة المحرمة

مأواها :
…………

1- ذكر في العهد القديم-كتاب الرسل-إشعيا-الإصحاح 34 :
(في نهاية (أدوم) التي تتحول بفعل غضب (يهوه) إلى كتلة نارية من القار والكبريت وقبل أن تصبح مكانا قفرا لا يستطيع أحد اجتيازه إلا البجع والقنفذ وطائر البوم والغراب وكلها ستتخذ من هذا الخواء مأوى لها كي تجد الهدوء برفقة القطط المتوحشة والضباع والساتير* والأفاعي السامة والنسور تتخذ (ليليتو) منها أيضا مأوى لها)
2- ذكر في كتاب (الزوهر)*- أشعياء 34:14 :
(عندما كان الشخص المقدس المبارك الذي جلب الدمار ل(روما) الشريرة وحولها إلى خراب ليصل للحياة الأبدية فإنه سيقوم بإرسال (ليليث) هناك ويجعلها تستقر في هذا الخراب لأنها خراب العالم وهذا ما يشير إليه العدد وهناك سوف تستقر (ليليث) وتجد لنفسها مكانا للراحة)
ومن هنا يتضح لنا أن (ليليث) تسكن الخرائب والقفار لذلك اتخذت في أساطير الأقدمين شكل (البومة)
…………………………………………………………..

معتقدات ارتبطت بأسطورة (ليليث)
………………………………………..

أساطير...(نسائية) 2 / ليليث
درجت الامهات على وضع الحجب والتمائم لأطفالهن لحمايتهم من المخلوقات الشريرة كليليث

ظلت أسطورة (ليليث) شائعة بين الناس حتى نهاية القرن الثامن عشر قبل أن تنحسر تلك الأسطورة وتتوارى في غياهب الكتب العتيقة مع بداية خروج (أوروبا) من عصور الظلام ..
وقد ارتبطت بتلك الأسطورة العديد من المعتقدات أذكر منها على سبيل المثال

  1. كانت الأمهات يصنعن تمائم لأطفالهن وخصوصا حديثي الولادة منهم تحوي أسماء الملائكة الثلاث المذكورين في الأسطورة لاعتقادهن أن (ليليث) تخاف من هذه الأسماء من ثم تهرب دون إيذاء الأطفال
  2. القابلات كن يصنعن نفس (الحجاب) للأمهات المقبلات على الولادة لحمايتهن وأطفالهن من شرور (ليليث)
  3. إذا حدث إجهاض كان الكل يجزم بأن الأم غير طاهرة بل ممسوسة بروح (ليليث) الشريرة فيتحاشاها الناس وتحرم عليها دور العبادة ..
أساطير...(نسائية) 2 / ليليث
تتسلل خلسة لتؤذي الأطفال

في حين كان يعتقد أن الجنين الساقط طفلا مجنحا لأنه ابن (ليليث) لذلك كان يتم التخلص منه بدفنه في الخرائب ..
حدث في (سيموني) أن امرأة أجهضت وعرض الأمر على القضاء فأقر القضاة أنه بالفعل طفل ولكن له أجنحة

  1. كان الناس يرسمون دائرة حول سرير الأم ورضيعها –خصوصا لو كان ذكر- وفي وسط الدائرة يرسمون النجمة الخماسية ويكتبون فيها أسماء الملائكة الثلاثة المذكورين إضافة إلى (آدم) و (حواء) مع الكثير من التعاويذ في الأركان الأربعة للمخدع
  2. كان الاعتقاد أن الطفل إذا ضحك أثناء النوم فهذا دليل كاف على أن (ليليث) موجودة لذلك يسارع أحدهم بضرب الطفل على شفتيه بإصبع واحد لترحل (ليليث)

6- صورت (ليليث) على شكل بومة كما أسلفت ولذلك كانت البوم دوما نذير شؤم وخراب في معتقدات الأقدمين

……………………………………………………………………………………..

(ليليث) في الأدب :
…………………….

صور الأدب (ليليث) في صورتها الصحيحة وهي باختصار :
*امرأة متمردة تضيع نفسها في التأكيد على حقها في الحرية واللذة والمساواة مع الرجل
*امرأة شهوانية مدمرة تطمح إلى التفوق والقدرة

وقد تناولت العديد من الأعمال الأدبية (أسطورة ليليث) أذكر منها على سبيل المثال :

  1. مسرحية  ألمانية بعنوان (جيتا) عام 1565
  2. رواية (الفردوس المفقود) ل(ملتون) عام 1667

وقد أشار إلى (ليليث) مستخدما اسم (الحية الساحرة)

  1. رواية (نهاية الشيطان) ل(فكتور أوجو) عام 1886

وقد مزج بين (ليليث) و (إيزيس) كابنة الشيطان أو امرأة الظلام الكبرى حيث يقول:
هذه (ليليث) التي نسميها (إيزيس) على ضفة نهر النيل..
إنني (ليليث)(إيزيس) الروح السوداء للعالم)

  1. مسرحية (بيت الحياة) ل(دانتي جابرييل روسيتي) وعرضت ما بين 1870 و 1881 كما أن (دانتي) رسم ل(ليليث) لوحة خالدة طبقت شهرتها الآفاق في زمانها
  2. مسرحية (ليليث) ل(ريميه دوجورمو) عام 1892
  3. رواية (ليليث) ل(جورج ماكدونالد) عام 1895
  4. رواية (الإله يخلق أولا (ليليث)) ل(مارك شادورن) عام 1937
  5. رواية (لوليثا في لوليثا) ل(جاليمار) عام 1959
  6. رواية (البابوية جان) ل(لورانس دورال) عام 1983
  7.  مسرحية (مثلث في مصنع الذخيرة) ل(أوديل إيريت) عام 1983وكذلك تحولت تلك المسرحية إلى رواية برؤية جديدة ل(بيير جون جوف) عام 1985
  8.  رواية (البابوية) ل(كلود باستير) عام 1983

………………………………………………………………..
الجدير بالذكر أن الطبيب النفسي النمساوي د.(فريتز ويتلز) ابتكر عام 1932 عقدة سماها (عقدة (ليليث))..
ولكن الغريب إنها ليس لها علاقة ب(ليليث)!!..
حيث إن المغزى من الأسطورة كالعادة هو إزاحة الرجال من طريق الشهوة المحرمة بتحذيرهم ببيان خطر الموت المحدق بهم
ولكن د.(فريتز) يفاجئنا برؤية مختلفة حيث قال إن المغزى من الأسطورة هو تحذير النساء اللاتي لا تتبعن قانون (آدم) من مصير الهجر والحزن والضياع الأبدي
………………………………………………………………………..
وأخيرا ..

أساطير...(نسائية) 2 / ليليث
معتقد ديني ام مجرد اسطورة خيالية

مما لا شك فيه أن أسطورة ليليث تعرضت لقضية الخلق فهي أفكار ومعتقدات تنعكس على حياة الشعوب رغم أنها مجرد وهم يتعارض مع إدراكنا الحسي..
و يبقى السؤال :
هل (ليليث) بالفعل (معتقد ديني) أم مجرد (أسطورة خيالية) أم أنها لعبت دور الوسيط بالنسبة للعقل البشري في الربط بين الأحداث الخارقة المستعصاة على الفهم والمعتقدات الدينية؟؟
…………………………………………………………………..
وختاما أجد لزاما علي أن أقول أني أعتبر ما كتبته مجرد دراسة تاريخية لا يؤخذ منها سوى معرفة دقائق التفكير الإنساني في تلك الفترة دون ربط ذلك بواقعنا الحالي..
ذاك أن تلك الأسطورة هي مجرد وهم يتعارض مع مفهومنا عن قضية الخلق والذي ذكرته وبينته بوضوح الأديان السماوية جمعاء والتي جاءت كنبراس من الله محا كل تلك الاعتقادات والأباطيل الزائفة..
……………………………………………………………………….
في المقال القادم سأحدثكم بمشيئة الله عن أسطورة نسائية جديدة
اسمها (بانشي) أو (سيدة التلال) أو (الغاسلة)..
ولكن أيا ما كان الاسم فهذا لا يعنينا وإنما ما يعنينا هو أن وجودها في مكان ما يعني شيئا واحدا فقط
الموت…
ولكن هذا مقال آخر إن شاء الله

هوامش :
……………..

*(يهوه) : اسم الرب عند العبرانيين
*(الساتير) : ذكر الماعز ذو اللحية
*(الزوهر) : كتاب في التصوف اليهودي يتناول فكرة (الكالابا)

المصادر:
………………

  • موقع (ما وراء الطبيعة) للأستاذ (كمال غزال)
  • الموسوعة الحرة (ويكيبديا) (Wikipedia )

هذه القصة نشرت لأول مرة بالعربية في موقع كـابوس بتاريخ 07 /08 /2011

guest
96 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى