أدب الرعب والعام

حكاوي المساجين: الجزّار

بقلم : أحدهم – كوكب الأرض

في الليالي الباردة يجتمع السجناء يتسامرون في زمر ، الكل له قصة أدخلته السجن

السجن يحضن بين جدرانه الدرك الأبخس من معادن الناس ، قتلة ، مجرمون ، مغتصبون ، لصوص و جناة عتاة ، أمراض ترى سحنتها في الوجوه والأجساد ، تشعر من الوهلة الأولى بأن هؤلاء موبوؤون بداء عضال ينخر وجدانهم المريضة ، القوي يتسلط على الضعيف و الكبير يسحق الصغير بلا رحمة أو ضمير ، و من السخف أن تدير ظهرك لهم أو تصدق توسلاتهم أو عطفهم المصطنع ، مرضى مختلون ،  بلا معايير أخلاقية أو كلمة شرف ، برجماتيون إلى أبعد الحدود و بالتأكيد عقولهم ليست في جماجمهم وإنما تقبع في أعضاء دون ذلك ..

في الليالي الباردة يجتمع السجناء يتسامرون في زمر ، الكل له قصة أدخلته السجن ، يقصون قصة حياتهم باقتضاب حين يتذكرون لحظات جرمهم بتلك المشاعر المنتشية الحقيرة ، و كأنهم يعشون لحظتهم تلك في ساعتها فتظهر سكرات مرضهم في عيونهم وابتساماتهم الخبيثة ، لعابهم يسيل وهم ينهشون الكلمات التي تحكي ما جرى في رضى ..

يتقدم زعيم زمرة في زاوية من عنابر السجن البارد بالحديث عن قصته ، كان يحمل القميص رقم ١٣ ، شوارب كثة وجسد ممتلئ طولاً وعرضاً ، شكله يتناسب والعمل مع السكاكين والدماء النافرة في حياته اليومية خارج السجن ..

السجين ١٣:  كنت جزاراً فيما مضى يا إخوان و أملك محل لحوم خاص بي ، و كان يدر علي بالخير الكثير خصوصاً خلال فترة الأعياد ، و لما كان الطلب عالياً في مواسم الخصب كان عليّ أن أستعين بمساعد يعينني في البيع ونقل اللحوم بين المحل ومخزن الثلاجات في مسكني القريب ، وكانت لي زوجة حسناء ممتلئة ” شريتها ” من أبيها الفقير الذي حاصْرته بالديون التي كانت فيما بعد مهراً لتلك الزوجة بعد سنين من عدم السداد ، ورغم فحولتي إلا أننا لم نرزق بأولاد لسنين ، تلك قسمة القدير ، لكن الولد جاء متأخراً بعد عشر سنين من الانتظار ، الذي أرقني كثيراً أن مساعدي كان في سنواته الأخيرة يتأخر عندما كنتُ أرسله لجلب اللحوم من ثلاجات المخزن في سكني القريب ، بل كان أحياناً يختفي من المحل لساعات ، يغيب ويأتي ويتحجج بحجج أعلم أنها واهية من نظراته ، و كانت زوجتي تسأل عنه بفضول زائد وبصورة أزعجتني ، كنتُ غبياً لأفهم حقيقة ما كان يجري .. غبي !!

سجين آخر : علي الطلاق أنا فاهم الذي كان يحصل .. إن كيدهن عظيم ..

السجين ١٣: و أنا للأسف قد فهمته متأخراً يا أخوان ، عندما كنت أرجع البيت مساءاً كنت أسمع مناغاة زوجتي مع طفلها ذو ثلاث سنين تقول مداعبة له (بابا حُتة .. بابا حُتة .. بابا حتو .. بابا حتو).. ” حُتة ” هذا كان لقب مساعدي، و هنا لعب الفأر بصدري و برأسي ، كانت تغير مناغاتها ساعة تراني ، لكن هل كان ذاك الحقير يجرؤ ؟ هل يجرؤ أحد على …. ؟!؟  أبعدت الفكرة عن رأسي ، فأنا “سبع البرومبة ” و يا ويل وسواد ليل من يمس شعرة من شرفي ، في المساء كانت زوجتي بجسدها الممتلئ في السرير قربي وتحلم أحلامها وتهذي ، بقرة نائمة في حضني وتقول بصوت خافت مأكول الحروف (همم.. حتووو.. هممم.. حتوو).. و هنا عزمت أن أكشف الأمر وأنهي المسألة في الصباح الباكر ، سأقطع الشك بسكين اليقين غداً صباحاً ..

سجين آخر: يا ساتر .. و بعدين ؟!؟

السجين ١٣:  في الصباح لبست ملابس رسمية نظيفة ، وقلت لمساعدي في المحل ( حُتة ) بأني سأذهب للعاصمة لقضاء أمور وسأغيب حتى الظهر وطلبتُ منه أن لا يبيع شيئا من اللحوم اليوم ؛ لأن العيد قريب والناس ستدفع أسعاراً مضاعفة قُبيل أيام الأعياد إضافة إلى شح اللحوم مع اقتراب موسم ذروة البيع ، و طلبت منه نقل لحوم المحل المتبقية إلى ثلاجات المخزن في سكني ( خذ راحتك حُتة..  على أقل من مهلك .. لا تنسى أن تقفل المحل عندما تخرج منه) .. و هنا رأيت عيون حُتة تبرق بنشوة غريبة زادتني يقينا بحقيقة ما يجري في الخفاء،  تظاهرت بالسفر غير أني اندسست خلف عمارة بعيدة ، و ما هي إلا لحظات و رأيت حُتة من بعيد يخرج من المحل ويتجه صوب سكني ، انتظرت نصف ساعة ثم طفقت راجعاً ، وفتحت باب سكني بهدوء و قفّلته خلفي بالمفتاح ، كان البيت هادئاً ، لا أحد في المطبخ و لا غرفة المعيشة ولا حتى في مخزن ثلاجات اللحوم ، طفلي كان نائماً في غرفته ، و اتجهت لباب غرفتي و أنصت السمع ، سمعت القُبل المتفجرة من الشفاه المدورة وصدى الضحكات الأنثوية تنطلق من الداخل ، ( ليس هكذا يا حتو !!! هاهاها ، ليس هكذا ! ) ، وهنا انتشلت من بين ثيابي أجود سكاكيني و أطولها ، أغلى سكاكيني ، حادة النصل وتقطع بصيلات الشعر لأنصاف ، و فتحت باب غرفتي على مشهد أرقني طوال الفترة الأخيرة ..

سجين آخر : يا ويل الخائنة .. !!

سجين آخر : يا ويل الغادر حُتة .. !!

السجين ١٣:  فتحت الباب لأرى مصيبة شرفي على فراش نومي ، أنا الذي تخاف منه البلد كلها يُفعل بشرفي هكذا و من شخص أحقر ما يكون ، أقفلت الباب ورائي بالمفتاح الذي كان معلقاً في مسمار قرب الباب ثم دسسته في جيبي ، تصرخ الحقيرة : (ليس الموضوع هكذا يا معلم .. أنت فاهم خطأ ) .. ( أنا فاهم خطأ يا خائنة ).. و انطلقت الخائنة عارية من ملابسها في أرجاء الغرفة تصرخ طالبةً النجدة بعدما رأت نصل السكين الطويلة في يدي ، وهنا انطلقت وراءها عبر الغرفة لأذبحها ذبح الشاة من الوريد للوريد حتى لا يسمع صراخها الجيران في الصباح الباكر ، فيما كان “حتو” عارٍ من ملابسه يحاول فتح الباب عنوة من خلفي ، لكني تبعته و بادرته بالطعنات في ظهره ثم أسفل بطنه ( أنا آسف يا معلم.. والله أنا آسف.. سامحني) ، لكن شيطاني كان أكبر من أن أسمع توسلاته ، غرقت الغرفة بالدماء والأحشاء خارج أماكنها المعتادة ..

سجين آخر: يا ساتر !!

السجين ١٣:  كان من المؤسف أن ألقي بهذا اللحم الكثير بدون فائدة ، تلك البقرة لن يذهب لحمها سدى ، لن تضيع ثمن الديون تلك هباءاً ، الناس جياع واللحم قليل ، سحبت الجثث إلى المطبخ وبدأت بتقطيع الأوصال وعزل الجيد من الرديء ، و سحبت اللحوم من عظامها و من الجلود ، و وضعت الأحشاء في أكياس بلاستيكية وكذلك الأطراف ، كان اللحم كثير و الزبائن كانت ستسعد بوفرة اللحوم الرخيصة هذه ، و هنا رأيت ابني الصغير عند باب المطبخ يمهمه (حتو..  حتووو) .. و يشير نحو رأس (حُتة) المقطوع و المتموضع على طاولة المطبخ ،  و حينها رأيت بريق عيني هذا الابن تشبه إلى حد بعيد عيني ذلك الغادر ( حُتة ) .. (هذا الولد ليس من صلبي إطلاقاً ، هذا ابن حرام )

سجين آخر:  اذبحه هو الآخر ، ابن الزنا ذاك  !!

السجين ١٣:  ذبحته هو الآخر ، طرحت جسده الصغير على بطنه و ذبحته ذبح الأرانب الصغيرة ، لم استطع النظر في عينيه الصغيرتين ، وفصلت أجزاءه هو الآخر ووضعت رأسه بالقرب من رأسيّ أبويه بالحرام ، بدلت ملابسي المتسخة بالدماء ولبست ملابس العمل ونقلت اللحوم البشرية إلى محل بيع اللحوم الخاص بي ، و لم يكن محلي يشتكي من قلة اللحوم قُبيل أيام العيد ، و بعت الكيلو بأسعار تنافسية في فترة رواج في طلب اللحوم ، و أقبل الناس يشترون حتى من الشوارع البعيدة ، وقبل أن تنفذ الكمية ، أقبل أحدهم يشتري لحماً وقبل أن يدفع المبلغ أخذ يقلب قطع اللحم بعيون خبيرة تعرف نوعية اللحوم ، سألني: ( ما هذا اللحم ؟!؟ ) ، قلت : ( لحوم ماعز مستورد ، أصلي لا تخف) ، لكنه أخذ يقلب القطع من أسفل الكيس ، ثم أردف ( هذه لحوم غريبة ، هذه لحوم ليس للماعز و لا للأبقار ، أنا أعرف نوعية اللحوم هذه جيداً ، أخبرني وإلا .. )

سجين آخر : يا ساتر ، افتضح أمرك ؟!؟..

السجين ١٣:  بعد الصراخ والشجار بيني وبين الرجل تجمهر الناس والزبائن التي كانت على وشك الخروج بعد دفع الأثمان ، الزبائن تطلب إرجاع اللحوم واسترداد نقودها والناس التي تجمهرت فيما بعد تسألني عن ما أكلوا في بطونهم من لحوم البارحة ، أقسمت لهم أنها لحوم ماعز مستورد ، ربما هي جديدة على البلد يا إخوان ، جديدة حصرياً من أمريكا اللاتينية صدقوني .. لكن لا فائدة .. جاءت فرقة من الشرطة ، ثم بعد ذلك فريق من مختبرات الشرطة وحملوا معهم عينة من لحوم المحل ، و لم يتم إيقافي لكن طُلب مني غلق المحل والتوقف عن البيع حتى صدور نتائج الفحوصات الجنائية ، كان الكل يخشى أن تكون لحوم لدواب لا تؤكل ، كالحمير والأحصنة والبغال مثلا وهو أمر متوقع و يحدث بين فترة وأخرى ، لكن أحداً لم يتوقع أن تكون لحوماً بشرية ، و هنا انهالت عليّ فرق الشرطة عصراً في نفس اليوم بينما كنتُ على وشك الهروب نحو جهة مجهولة ، لكنهم ألقوا القبض علي ، وكانت بقايا ما وجدوه في البيت من أحشاء ورؤوس دليلا دامغاً على فادحة جرمي ، والآن أنا بينكم أقضي السجن المؤبد منذ أربع سنين ..

سجين آخر: وهل أكلت من ذاك اللحم؟

السجين ١٣: الصراحة أكلت من لحم تلك البقرة السمينة [يضحك بصخب] ، و الطعم كان شهياً ، أشهى من اللحوم الأخرى ، أنا جزار ولي ذوق رفيع في اللحوم ، لم أجرؤ على أكل بقايا ذلك الابن ولا أبوه ، لا أدري لم ، فقط لم أجرؤ ، علهم كانوا سبب مأساتي ، المسألة مسألة شرف يا إخوان ، و ليس برجل من يتنازل عن شرفه ، و ما كنتُ رويبضة حتى أدع شرفي يُهتك وأنا فاغر الفم ، هزُلت ، ما عشت و أنا سبع البرومبة ذاك من يدنَس فراش نومه ولا يفعل شيئا ، ماذا كان سيقال عني ؟ .. ما كانت نفسي لترضى المهانة والصمت ..

يتقدم سجين آخر يحمل قميص رقم ٥١ ليحكي قصة دخوله السجن .. لكن هذه قصة أخرى ليس وقتها الآن.. ربما في وقت آخر ..

تاريخ النشر : 2016-04-03

guest
41 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى