أدب الرعب والعام

القصر المرعب

بقلم : نوار – سوريا

القصر المرعب
قصر الرعب يقع أعلى التلّة في نهاية الغابة

التقى ثلاثةُ فتيانٍ عصر ذات يومٍ ليلعبوا عند أطراف إحدى الغابات لعبة ( الاستغماية ) ، وبينما هم مستغرقين في اللعب قفز أرنبٌ من خلف إحدى الحشائش فصرخ أحدهم برعب كاشفاً عن مكانه الذي كان مختبئاً فيه ، سخر منه رفيقه قائلاً :

– هكذا أنت دائماً يا سليم ، تخاف حتى من خيالك .

فأجاب سليم قائلاً وحمرةُ الخجل تصبغ وجهه :

– هذا غير صحيح .
– بل هذا صحيح ، إِنّك دائماً تعيش وهاجس الأشباح يطاردك ، ألا تذكر مرةً عندما خرجنا للتخييم في الجبل تلك الخيالات التي كانت تتراءى لك ؟ ألا تذكر عندما أفزعتنا في منتصف الليل بسبب ذلك الشيء الذي ادّعيت أنك رأَيتَهُ ؟
– رامي لا تسخر مني ، أنا لست جباناً .
– بل أنت جبان ، وكلُّ طلاب مدرستنا يشهدون على ذلك .
– رامي إخرس وإلا …
– وإلا ماذا ؟ ستضربني !!
– نعم .. سألقّنك درساً أيها المغرور

و بدآ يتعاركان بالأيدي ، و جاء صديقهما الثالث على صوت شجارهما فقد كان مختبئاً في مكان بعيداً نسبيّاً عنهما ، صرخ فيهما قائلاً :

– جلال : رامي ..سليم توقفا عن القتال
وفعلاً لقد توقفا وكلٌّ منهما يرتجف من الغضب

– جلال : ما الذي جرى ؟ لقد جئنا هنا لنلعب لا لنقتتل !!
– رامي :  لم أقل له شيئاً يا جلال سوى أنه جبان
– سليم : لا تقل جباناً
– رامي : هذه هي الحقيقة لماذا تنكرُها !!
– سليم : أصمت أيها الأحمق
– كفى .. صرخ فيهما جلال
– رامي : حسناً أنا عندي شرط إذا نفَّذتهُ أعدك بأنني لن أقول عنك جباناً بعد اليوم ، وجلال يشهد على هذا .
– سليم : ما هو سأفعله أياً كان .
– رامي : أن تذهب الآن وحدك إلى قصر الرعب وتدخله .
– سليم : قصر الرعب !!!
– رامي :  نعم
– سليم : حسناً ، أنا موافق سأذهب
– جلال : سليم انتظر ، رامي ما هذا الشرط ألا تعلم ماذا يعني قصر الرعب !!!
– رامي : هو من ادَّعى أنه شجاع ومن يدّعي الشجاعة يجب أن يثبت ذلك .
– جلال : لكن ..
– سليم : كفاك مناقشةً يا جلال ، لقد قبلت الشرط وسأذهب ، انتظروني هنا ريثما أعود .. وداعاً

ومضى مسرعاً في أعماقِ الغابة وغاب عن ناظريهما ..

كان قصر الرعب يقع أعلى التلّة في نهاية الغابة ، وقد أطلق عليه سكان المنطقة هذا الاسم بسبب ما يشاع عنه من قصص و حكايا ، فهو مهجور لأكثر من ثلاثين عاماً و يقال أنَّ صاحبه وُجِدَ مشنوقاً في إحدى غرفه و روحه تحرس المكان و لا تسمح لأحد بالاقتراب من القصر ، و كلَّ من حاول دخوله لا يعود ، و قد تناقل السكان قصصاً عن ظهور شبح صاحب القصر في المكان .

كلُّ هذه المعلومات كانت تدور في ذهن سليم وهو يمشي باتجاه القصر ، لقد كان غاضباً جداً من رامي و قَبِلَ التحدي حتى يغيظهُ ، لكنه الآن بدأ يراجع نفسه واكتشف أنه قد تسرع ، فمهما كان المرء شجاعاً فإنه لا يقبل الذهاب إلى قصر الرعب .

لكنه أيضاً اتخذ قراراً لا يستطيع العدول عنه ، إذا تراجع فإنه سيصبحُ موضع سخريةِ الجميع ليس رامي وحسب ، لذا قرَّر المضي قدماً وعدم الاستسلام وليحدث ما يحدث …
***
شارفت الشمس على المغيب ولم يعد سليم ، ولا زال جلال ورامي في انتظار عودته ، كانا جالسين بصمتٍ ووجوم ، وكلٌّ منهما يفكر بسليم .
صرخ جلال :
– لم أعد أحتمل الانتظار ، لقد تأخر سليم
– أنا أيضاً قلقٌ عليه
– أنتَ السبب ، لو لم تستفزُّه بكلامك لكان الآن بيننا .
– لم أكن أقصد ، لقد أعماني الغضب
– أنت أرسلته للموت ، ماذا سنقول لوالديه إذا عدنا من دونه
– من قال أننا سنعود !! سننتظره
– إلى متى ؟؟ لقد مضى على ذهابه أكثر من ساعتين
– عد لوحدك إذا شئت أما أنا فسأنتظره .
صمت الاثنان وعادا للوجوم لكن رامي بعد لحظات هب واقفاً وقال :
– سألحق بسليم
– إلى أين ؟ إلى قصر الرعب !!
– نعم ، ربما حدث معه شيء وهو محتاج للمساعدة
– رامي .. هل أنت جادٌّ فيما تقول ؟!
أجاب رامي بما يشبه الصراخ :
– نعم جاد ، لم أعد أطيق الانتظار ..أنا السبب ، لن أسامح نفسي إذا أصابه مكروه .
ومضى داخل الغابة لكن جلال ناداه قائلاً :
– رامي انتظرني .. سآتي معك .
وهكذا انطلقا إلى قصر الرعب بحثاً عن سليم وقد غابت الشمس وبدأ الظلام يرخي بسدولهِ على المكان ..
مشى الصديقان بخطواتٍ متردّدة نحو القصر وكانا يهتديان إلى طريقهما بما تبقّى من ضوء الشمس الآفلة وكلما اقتربا أكثر زادت ضربات قلبيهما .
ومن بعيد لاح لهما قصر الرعب رابضاً على التلة وحيداً تحيط به الأشجار كأنها حرّاسٌ من قرونٍ مضت ..
سأل جلال رفيقه فجأة :
– هل نكمل ؟
– نعم
– ألستَ خائفاً ؟
– كلا ، وأنت ؟
– أنا أيضاً لست خائفاً …
كانا خائفين بل يرتجفان من الخوف لكن لم يجرؤ أيٌّ منهما على إظهار خوفه للآخر .
وصلا أخيراً إلى القصر وقد حلَّ الظلام تماماً ، وقفا مترددين أمام بابه الرئيسي لا يعرفان ماذا يفعلان ، نظرا إلى بعضهما فقال رامي :
– يجب أن ندخل فلربما كان سليم بالداخل يحتاج إلى معونتنا
– ولكن رامي .. أنا أشعر بالوحشة دعنا نعد .
– ونتركُ سليم ؟ أنتخلى عن صديقنا بهذه البساطة !!
– ومن قال لك أنه بالداخل
– لو لم يكن بالداخل لعاد إلينا ، هو يعرف أنَّا بقينا في انتظاره ، على كلٍّ إذا أردتَ سأدخلُ أنا وانتظرني أنتَ في الخارج
– ماذا ..؟ تريدني أن أبقى وحيداً في هذا المكان المخيف ؟ لا.. إما أن ندخل معاً أو نعود من حيث أتينا…معاً .
مدَّ رامي يده وأدار مقبض الباب فوجده غير مغلقٍ من الداخل ، دفعه بهدوء لكنه أصدر صوتاً أشبه بصراخ شخصٍ يتعذب ، لقد كان باباً قديماً متآكل الأطراف ..
دلفَ رامي إلى الداخل يتبعه جلال ، كان الظلامُ دامساً في الداخل لذلك قرّرا أن يمسك كلٌّ منهما بيد الآخر حتى لا يتوهان عن بعضهما ، بقيا في مكانيهما فترة إلى أن اعتادت عيناهما الظلام ، كانا واقفيَن في صالة القصر الرئيسية والتي تفضي إلى باقي غرف الطابق السفلي ، كان الأثاث يتراءى لهما قطعاً حالكة السواد ، بدآ المسير بخطواتٍ حذرة وهما يناديان على سليم لكنهما لم يسمعا ردَّاً ، قرّرا أن يبحثا عن مفتاح النور لكي يشعلا الضوء ، تحسسا الحائط ووجداه لكن كانت أنوار القصر معطلةً ، أكملا طريقهما بأنفاس لاهثة ، قال جلال :
– ما رأيك هل سنعود ؟
– لكنا لم نجد سليم بعد ، ثم إن القصر واسع ولم نبحث بكل الغرف
– رامي بصراحة أنا خائف دعنا نعد
– خائف !! مما ؟ ها نحن دخلنا ولم يحدث لنا شيء ،هل هذا هو القصر الذي يدعونه بقصر الرعب ؟! … وأخذ يضحك ويقول : تخيَّل غداً عندما نخبر رفاقنا أنَّا دخلنا هذا القصر الذي يخافه الجميع ، كيف ستكون نظراتُ الإعجابِ التي سيرمقوننا بها .. تخيَّل .
لم يعجب جلال بكلام رامي لذا واصل المشي صامتاً وبينما كانا يسيران اصطدم بأحد المقاعد وكاد أن يسقط لكنه استند إلى يد المقعد وما كاد أن يلمسها حتى أطلق صرخةً مدويةً وأخذ يقول :
– لم ألمس يد المقعد .. لم ألمس يد المقعد
سأله رامي متوجساً :
– ماذا لمست إذاً ؟؟
– لمست يد رجلٍ كان جالساً على المقعد .. يد رجلٍ لزجةٍ وكأنَّ الجلد منزوعٌ منها .
– جلال ما هذا الوصف المرعب أنت أكيد تتوهم ، انظر إلى المقعد إنه خالي .
– لا لا .. أنا لا أتوهم دعنا نخرج من هنا أرجوك
– وسليم هل نسيته ؟ دعنا نبحث قليلاً وأعدك أننا سنخرج ، على الأقل حتى نريح ضمائرنا تجاهه .
وأمسك بيد صديقه وأخذا يتنقلان بين غرف الطابق السفلي وفجأةً سمعا صوت أقدامٍ فوقهما صادرةً من الطابق العلوي ، تسمرّا في مكانيهما وأخذا ينصتان ، قال جلال :
– لا بدَّ أنه سليم
ـ دعنا ننتظره أسفل الدرج فأنا أشعر أن صوت الأقدام يقترب .
وخرجا من الغرفة التي كانا بها متجهين إلى الدرج المفضي إلي الطابق العلوي و ما كادا يصلان حتى صرخ جلال قائلاً إنه هناك ..هناك وأخذ يشير بيده إلى أعلى الدرج
– من ؟.. سليم ؟
– لا .. شبح .. شبح ، لقد رأيته ، كان ينظر إليَّ بعينين ملتهبتين
– لم أرى شيئاً !!
– لقد اختفى ، لكني رأيته صدّقني ، دعنا نخرج من هنا قبل فوات الأوان ..أتوسل إليك
– حسناً ، لنخرج .
واتجها كما اعتقدا نحو باب الخروج ، لكنهما عندما وصلا لم يجدا شيئاً سوى الحائط .
صاح رامي :
– أين الباب أنا متأكدٌ أنه كان هنا ؟؟
– ربما أخطأنا الاتجاه ، دعنا نذهب إلى الجهة الأخرى
ولكنهما أيضاً لم يجدا الباب
قال جلال : دعنا نذهب إلى إحدى الغرف ونحاول الخروج من نافذتها .
وبينما هما يسيران باتجاه إحدى الغرف تدلّى من السقف حبلٌ غليظ التف حول رقبة جلال الذي صرخ قائلا ً : ما هذا ال.. لكنه لم يستطع أن يكمل جملته فقد سُحِبَ الحبل إلى الأعلى ساحباً معه جلال الذي أطلق صوتاً مكتوماً وانتفض جسده عدًّةَ انتفاضاتٍ ثم هدأ إلى الأبد …
فغرَ رامي فمه مصعوقاً مما رأى ، لم يعد يستطيع الحركة أخذ ينظر إلى جسد صديقه المتدلّي من السقف وبكلِّ توسل أخذ يناديه :
جلال ..لا تتركني ، جلال ردَّ عليَّ أرجوك ، أرجوك لا تمت ثم أخذ صوته يتحول إلى صراخ .. وبعدها أخذ يبكي وينتحب
بقي على هذه الحال عدة دقائق ، وفجأة فطنَ إلى أنه يجب أن يخرج من هنا ، هو لا يريد أن يواجه مصير جلال ، وربما سليم من قبله .
أخذ يهرول مصطدماً بالمقاعد وبكل ما كان أمامه من أثاث لكنه تسمر في مكانه فجأة فقد شاهد أمامه رجلاً يتشح بالسواد ، لم يكن يظهر منه سوى عينيه الملتهبتين ، تراجع رامي إلى الخلف بينما كان الرجل يتقدم نحوه ببطء ، أخذ رامي يهرول وهو يصرخ ولم يجد أمامه سوى أن يصعد الدرج و عندما وصل إلى آخره التفت إلى الخلف فلم يجد الرجل خلفه ، اطمأن قليلاً لكنه عندما استدار وجده أمامه ، جحظت عينا رامي من الخوف وأخذ يتراجع إلى الوراء وهو يقول أرجوك لا تقتلني ، أتوسل إليك دعني أخرج وأعدك أني لن أعود إلى هنا ولن أخبر أحداً بما رأيت ، فقط دعني أخرج .
وأخذ الرجل يقترب ورامي يتراجع إلى أن وصل إلى الحائط وعندها أقترب الرجل منه أكثر مادَّاً ذراعيه وأحسَّ رامي بيديه اللزجتين تلتفّانِ حول عنقهِ فصرخ وقاوم وبعدها أسلم الرّوح ….
***

جلس سليم في فراشه يفكّر كيف سيواجه غداً رامي وجلال .. كيف سيقول لهما أنَّه تراجع في اللحظة الأخيرة عن دخول القصر ، بالتأكيد سيسخر منه رامي ويجعله أضحوكة ، ولكن هذه هي الحقيقة، لماذا يغضب منها ..هو فعلاً جبان ، فبعد أن وصل إلى القصر بدأت قدماه ترتجفان وقلبه يخفق بشدّة وأحسَّ بأنه لا يستطيع الدخول ، لذلك قرّر أن يعود ويخسر الشرط ، وخجل أن يرى صديقاه فشلهُ فعاد من اتجاهٍ آخر ..

اندسَّ سليم في أغطيته محاولاً النوم وهو يتخيل الموقف غداً بينه وبين رامي ، أغمض عينيه  و هو لا يعلم أن جلال و رامي دخلا القصر من أجله ولن يراهما ثانيةً ، فمن يدخل قصر الرعب لا يخرج منه أبداً .. أبداً .

تاريخ النشر : 2016-04-30

نوار

سوريا
guest
54 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى