أدب الرعب والعام

شبح الانتقام

بقلم : محمد حمدي – مصر
للتواصل : https://www.facebook.com/profile.php?id=100010845377675

لقد انتهت مهلتك يا فتى ، حان وقت ردك لجميلي !!

عندما كنت طفلاً تصورت الحظ على أنه الطعام الذي يوزع على الفقراء ، يقف الناس في طابور طويل بالترتيب ليحصلوا على البعض منه ، فمنهم من يناله الكثير ومنهم من يناله القليل ، ولكن عندما حان دوري كان الحظ قد نفذ تمامًا ولم يتبقى سوى النحس وسوء الحظ.

من أنا ؟ لا تهتم يكفيني اسمي البائس ، قد يقول البعض أني أبالغ لكن ما إن تراني وترى حياتي ستغير رأيك تمامًا ، فأنا فقير ، يتيم ، ضعيف ، أحمق ، لا أجيد فعل أي شئ مهما كان بسيطًا ، قصير القامة ، منعزل ، انطوائي ، مصابٌ بالاكتئاب وما زاد الطين بلة أني مكروهٌ من قبل الجميع .

كل هذه العوامل سببت حياة مشوهة لي في دار الأيتام ؛ فالجميع يكرهني ويحاول إيذائي والأمر سيان في المدرسة فلا يقتصر الأمر على تنمر الطلاب علي بل والأساتذة أيضًا ، أنا مجرد خادم بالنسبة لهم ، مهمتي باختصار هي تحمّل إهاناتهم وشماتتهم بي وتنفيذ جميع طلباتهم من إحضار طعامهم إلى حل واجباتهم .

باختصار حياتي كالجحيم، وما زادها بؤسًا أكثر من بؤسها أربعة أشخاص، سامر وحامد و توفيق و إسماعيل ، زملائي الأكبر سنًأ مني في صفي ، لطالما شعرت أنهم يتلذذون بتعذيبي و إهانتي أمام الجميع ، و ترسخ في عقلي أنهم سبب بؤسي وشقائي ، ولكن ما باليد حيلة كان علي التحمل والصبر .

لقد احتقرت نفسي وتمنيت الموت ، و كثيراً ما فكرت في الانتحار ، وكلما حاولت ذلك كان جبني وخوفي يمنعانني من فعلها ، تولد في نفسي كره عميق لشخصيتي الضعيفة وكل ما يحيط بي وبالأخص أسباب معاناتي الأربعة.

في أحد الأيام وبعد أن تم إشباعي ضرباً من قبل الملاعين الأربع ( هكذا صرت ألقبهم ) أغمي علي ، و نتيجةً أنّي ولدت بقلبٍ ضعيف اشتبهوا في كوني مت ، فارتبكوا وخافوا ولم يدروا ما الذي عليهم فعله ؛ ولكنّ زعيمهم الحقير سامر فكر بسرعة ، واجتمعوا على أن يلقونني قرب مكب النفاية فلا دليل يثبت ما فعلوه ، حسنًا ، هذا ما أعتقد أنه حدث لأني استيقظت لأجد نفسي مغطىً بأكوامٍ وأكوامٍ من القمامة.

أزلت القمامة عنّي بعدما كدت أختنق بسببها ، ثم تحاملت على نفسي و بدأت المشي بصعوبة نحو بيتي (دار الأيتام ) ، كان الطريق مظلماً بشدة ، فعلى ما يبدو أن الوقت كان منتصف الليل ، بدأت ألقي الشتائم واللعنات في سري على كل من أعرفهم من الأطفال في دار الأيتام والمدرسين والطلاب والطالبات في المدرسة ، ولم أنسى نفسي طبعاً.

فجأة سمعت صوتاً من خلفي يقول : يبدو أن حياتك مأساة يا فتى ؟ .. ثم شرع بالضحك .

نظرت لمصدر الصوت بخوف فلا أعرف من و لماذا قال مصدر الصوت هذا الكلام ، هل سمعني ؟ مستحيل ! فأنا كنت أحدث نفسي .
فسألت متردداً: من أنت ؟ وما الذي جعلك تقول هذا الكلام ؟

و بدون سابق إنذار ظهر شخص من العدم برداءٍ أسود طويل ، يغطّيه من شعر رأسه لأخمص قدميه ثم قال بمكر : مجرد عابر سبيل يريد مساعدتك على تخطي ما أنت فيه .
فصرخت فيه قائلاً : ما الذي تعرفه عني بحق الجحيم؟
لم أكد أكمل جملتي فقد تجمد الدم في عروقي عندما رأيت عينيه تشعان بلونٍ أحمر قاتم ثم وضع يده على رأسي وقال : أعرف عنك أكثر مما تعرفه حتى ؟ .. ثم قهقه بشدة.

بدأت أشعر بالخوف حقاً فحاولت التراجع ببطء ، ثم أطلقت ساقي للريح ، وركضت بأقصى ما لدي من سرعة ؛ لكنه ظهر أمامي بدون أي مقدمات و قال : لماذا تهرب مني يا صديقي الصغير ألم أقل لك أني أحاول مساعدتك لا أكثر؟ اسمع ألا تريد الانتقام من الملاعين الأربعة … أليس هذا لقبهم الذي أطلقته عليهم أم أنا مخطئ ؟

جحظت عيناي و بدأت أنفاسي بالتسارع و قلبي صار ينبض بقوة حتى شعرت أنه سيتوقف ، و ضغطت بأسناني على شفتي حتى سال الدم من فمي وأنا أردد داخلي : كيف عرف بهذا اللقب و من أخبره ؟؟ أًصلاً أنا لا أجرؤ بأن أخبر أحدًا عنه.

فقال الرجل الغريب : أوه يبدو أنك لا تريد الانتقام من سبب بؤسك !! من الواضح أنك أكثر جبناً مما أعتقد ، حسنا لا داعي لتضييع الوقت إذًا ، إلى اللقاء أيها الأحمق وبالتوفيق في حياتك البائسة .

بدأ الغريب يمشي مبتعدًا عني ببطء وبخطوات ثابتة ، و بين خوفي وترددي ويأسي بدأت أتذكر كمّ المعاناة التي سببها لي هؤلاء الحمقى من ضربٍ وسبٍ و إهانةٍ أمام الجميع ، فصرخت دونما وعي منّي وقلت له : انتظر أرجوك .. انتظر ! .. ثم أضفت :  انتقام .. صحيح ؟ كيف أنتقم ؟ .. هل ستساعدني؟

ارتسمت ابتسامة لم أرى أخبث منها قط على وجه الرجل فجعلتني أندم حقًا على ندائي له مرة أخرى ، ثم أخرج عدة دمى ورقية من جيبه على شكل إنسان ، و قال لي : كل ما عليك هو كتابة اسم الشخص على الدمية الورقية وتخيل صورته في دماغك ثم ابدأ بتعذيب الورقة كما تشاء ، لن تتخيل كمّ الراحة التي سيسببها هذا لك .

نظرت إليه بذهول ثم انفجرت غاضباً : أتسخر مني يا هذا ؟ أتعتقد أني أحمق؟ .. ثم صدرت عني ضحكة استهزاء بنفسي وقلت : و لماذا استغرب هذا منك ؟ أليست هذه هي العادة ؟ فالكل يعاملني هكذا ما الجديد ..  ثم شرعت في بكاءٍ شديد وغير متوقف.

اقترب الرجل مني و قال : و من قال أني أمزح ! ، كل ما عليك هو أن تجرب لترى النتائج ..  ثم وضع الورق أمامي ، مسحت دموعي ثم رفعت رأسي لأنظر إليه ، ولكنه قد اختفى ، لا أفهم كيف فقد كان أمامي منذ لحظات ، فنظرت حولي علّي أراه ولكن لا شئ فقط ظلام .

أمسكت الأوراق الأربعة ثم توجهت إلى دار الأيتام والأفكار تعصف برأسي جيئةً وذهاباً .. هل هذا الرجل مجنون ؟ هل كان يقول الحقيقة ؟ هل هو ساحر ؟ هل هو شخص آخر يسخر مني ؟ أصلا من أين جاء وإلى أين ذهب ؟ .. لكن كل هذا بلا فائدة فلم استطع التوصل لنتيجة.

دخلت غرفتي التي يأبى أن يشاركني فيها أحدٌ من أطفال الملجأ الآخرين ، فهم يعتقدون أنّ سوء حظي معدٍ ، لا يسعني إلا الضحك على مدى غبائهم الذي فاق غبائي ، أمسكت الأوراق الغريبة الأربعة ثم قلت في نفسي أن تجريب الأمر لن يضر أبدًا ، فكتبت اسم قائدهم الحقير سامر أولاً ، ثم تذكرت يوم أجبرني على خلع ملابسي كلها أمام طلاب وطالبات صفي و بعدها بدأ في ضربي .
كان هذا كفيلاً ليجعلني أمسك دبوساً ثم بدأت أثقب الورقة في كل مكان بحقد وغضبٍ شديدين في عينيه وفمه ويديه وصدره ورئتيه وقدميه وظهره حتى جعلت الورقة كالإسفنجة مليئة بالثقوب .

أراحني هذا قليلاً و هدأ من غضبي وحنقي ثم تذكرت حامد ” الدلدول ” فهو كالضبع يرافق توفيق وسامر وإسماعيل أينما ذهبوا ، ولا يتوانى أبداً عن ضربي فقط لينال رضا القائد ، و تذكرت كيف بصق على وجهي ، وحاول إغراقي في النهر بعدما أمره سامر بذلك لأنه يريد رؤيتي وأنا أتألم فقط .

تذكرت شعور الماء وهو يملأ جوفي ، وعجزي عن أخذ أنفاسي ، وشعوري باقتراب أجلي ، لولا أنّ توفيق خاف من أموت على يدهم ويتورط في الموضوع ، فأمر حامد بالتوقف ،  تملكني الغضب مرةً أخرى فكتبت اسم حامد و تخيلت صورته ثم أغرقت ورقته في حوض الاستحمام ثم سحبت سدادة الحوض فأفرغت الماء ومعها ورقة حامد في المجارير حيث ينتمي .

نظرت إلى ذراعي لأرى آثار الحروق على يدي اليسرى التي سببها لي إسماعيل ذاك الحقير السادي عندما قام بسكب بعض الزيت على ذراعي ثم ألقى علي عود ثقابٍ مشتعل ؛ ليشاهدني وأنا أصرخ ألمًا ، أقفز يمينًا ويسارًا كالقرد محاولاً إطفاء نفسي قبل أن أموت محترقاً ، مما أسفر عن حروق خطيرة من الدرجة الثالثة والثانية في ذراعي ، لم أتحمل غضبي فأمسكت ثالث ورقة وكتبت اسمه وتخيلته في رأسي ، ثم انتزعت ذراعه وقمت بإحراق ورقته حتى صارت رماداً .

لم تتبق أمامي سوى ورقة واحدة ، نظرت إليها بتمعن وفكرت في توفيق ،  و قلت: إن كان سامر قائدهم هو الأسد فإن إسماعيل هو الذئب والحقير حامد هو الضبع فما أنت يا توفيق ، نعم نعم أنت خنزير ، خنزير حقير بدين بشع برائحة نتنة، لن أنسى كيف قطعت لي أحد أصابعي بالسكين لأني أخذت شيئًا من طعامك كما أنك طعنتي فقط لتأخري عن جلب العصير لك ، و لكن لكونك قاصراً و أباك يملك المال لم تصب بأي ضرر وخرجت من المشكلة كالشعرة في العجين ، بينما كان علي البقاء في المشفى لأسابيع وأسابيع .

أمسكت آخر ورقة وكتبت اسم توفيق وصورته لا تفارق عقلي ثم بدأت بتمزيق الورقة قطعةً قطعة ، ففصلت الذراع الأيمن ثم الأيسر والرجل اليمنى ثم اليسرى ثم الرأس ثم جمعت كل القطع وبدأت أسحقها حتى خمد بركان غضبي تمامًا .

جمعت بقايا الورق ثم ألقيتها في القمامة وخلدت للنوم شاكراً ذلك الرجل الغريب ؛ فأنا الآن أشعر أنّي أفضل حتى وإن بقى الوضع كما هو عليه في الغد.

ليلتها راودني حلمٌ غريب ، فقد رأيت ذاك الرجل في الحلم وهو يضحك بهستيرية ثم قال : لقد فتحت على نفسك أبواب الجحيم ، لتحتمل العقاب ، غداً هي ليلتك الأولى .. ثم اختفى .. استيقظت في الصباح مستغرباً من موضوع الحلم فقد كان عجيباً وغير واضح لذا لم ألقِ له بالاً وتناسيته .

ارتديت ملابسي ثم توجهت إلى المدرسة ، متوقعاً تفاجؤ الملاعين الأربعة من كوني على قيد الحياة ومتوقعاً المزيد من العقاب منهم ، لكنهم لم يحضروا اليوم ، شعرت براحة كبيرة حقاً فاليوم سيكون مريحًا قليلاً ، لكنهم غابوا كذلك في اليوم التالي ثم جاء بعض أفراد الشرطة إلى المدرسة و بدؤوا يستجوبوننا عن آخر مرة رأينا فيها أحد الملاعين الأربعة.

اعتقدت في البداية أنها صدفة وأنهم مختطفون أو أنهم خائفون من كونهم قد اكتشفوا ظناً منهم أني مت، لكن الشائعات حول موتهم غزت المدرسة ، و لأني لا أملك أصحابً ولا أتوقع أن يخبرني أحد بما يحدث بقيت في حيرة من أمري ،
و لكن بينما أنا أسير في المدرسة سمعت فتىً يكلم أصحابه و يقول : تعلمون أن أبي يعمل في مركز الشرطة صحيح ؟ أتعلمون ماذا قال لي؟ أن الطلاب الأربعة ليسوا مفقودين بل أنهم جميعًا وجدوا مقتولين في نفس الليلة.

بدأ المحيطون به بقول: هذا مستحيل ، كيف يمكن لهذا أن يحدث ، هذا غريبٌ حقًا.

جحظت عيناي وبصعوبة ابتلعت ريقي ثم اقتربت بهدوءٍ لأستمع للفتى الذي أكمل قائلاً: ليس الغريب هنا بل الغريب في طريقة موت كلٍ منهم ، يقول أبي أنهم وجدوا سامر غارقًا في دمائه ، وجسده ملئٌ بالثقوب من رأسه إلى قدمه ، مقتلع العينين ، ومقطوع اللسان .

كما أن حامد وجد ميتاً على سريره ، جسده منتفخ وأزرق ، وعينيه تكاد تخرج من مقلتيهما ، كما أنّ جسده وسريره كانا مبتلين بالماء ، كأنه غرق ومات في البحر ثم نقله أحدهم لسريره .

و إسماعيل ذاك الفتى الطويل تعرفونه صحيح ؟  لقد مات محترقاً تماماً ، لم يجدوا منه سوى رماد دون أي أثر على حدوث حريق في أرضية الغرفة ، وما كانوا ليعرفوه لولا وجود إحدى ذراعيه بالقرب من الرماد .

وفي الأخير والأعجب هو توفيق البدين الذي أصبح كالعجينة بمعنى الكلمة ، يقول أبي الذي رأى الجثة بعينيه أنها كانت ..
فقاطعته دونما وعي  و قلت : مسحوقة !!
فنظر لي الفتى بتعجب وقال: كيف عرفت هذا ؟؟

حينها شعرت أن أحدهم وضع حبل المشنقة حول رقبتي ثم تركني أتدلى من السقف ،  فقلت متلعثماً وبصعوبة : ل … ل .. لدي قرر … يب يعمل شرطياً..  وقد أخخ .. برني بما حدث.

لم يلقِ الفتى بالاً لما قلت ثم أكمل : اعتقده والدي لحماً مفرومًا في البداية أتصدقون هذا ؟ ويقال أن جميع أطرافه مزقت أولا ثم جمعت وسحقت معه .

بدأت أشعر بالغثيان وبالدوار وبدأت افقد سيطرتي على جسدي فركضت إلى غرفتي في دار الأيتام ثم بدأت بالتقيؤ ، فلا أعلم حقاً ما الذي يحدث هنا بحق الجحيم ؟ فهل مات الملاعين الأربعة حقاً ؟ من قتلهم ؟ هل هو أنا حقاً من قتلهم ؟ هل فعلاً كانت للدمى الورقية قدرة خارقة ؟ دماغي سينفجر حقاً لا استطيع التحمل ، بدأت أشعر بدقّات قلبي العنيفة وكأن عروقي ستنفجر. وفجأة أظلمت الدنيا في عيني وفقدت وعيي .

بدأت أحلم بكوابيس متعددة عن الملاعين الأربعة فقد كانوا يظهرون لي على هيأتهم وقت موتهم وهم يصرخون ويقولون : أنت من قتلنا أيها الحقير ، لا تعتقد أنك ستفلت بفعلتك ، سننتقم أتسمع ؟ سننتقم لن نتركك ترتاح ولو يوماً واحداً .. ثم هجموا علي مرةً واحدة .

استيقظت مفزوعاً من الكابوس ، وشعرت بصداعٍ شديد يكاد يثقب دماغي من الألم ، ثم شعرت بشعورٍ غريب ، وكأن أحد ما يراقبني ، فبدأت أركز في الظلام علّي أرى شيئاً ما، وبالفعل كانت هناك عيون تلمع في الظلام ، وتراقبني بصمت ، قمت مفزوعاً لأضيء المصباح وكأن المسافة بيني وبين مفتاح الضوء لا تنتهي ، حتى أني تعثرت أكثر من مرة ، رغم أنها لا تبعد سوى بضع خطوات عن سريري، وعندما أضأته لم أجد أحداً ، نعم كانت الغرفة فارغة تماماً .

بدأت أحاول تهدئة نفسي ومحاولة إقناعي أن كل هذا ما هو إلا وهم نتيجةً للصدمة التي تعرضت لها ، لكن لا فائدة فالشعور بأن هناك شخصاً يراقبني و لم يفارقني أبدًا.

باءت جميع محاولات الشرطة في حل غموض قضية موت الملاعين الأربعة بالفشل ، فلم يجدوا أي دليل على الفاعل ونسبت إلى مجهول .
ومن يومها صارت تطاردني كوابيس كثيرة عن الملاعين الأربعة لكن لسبب ما كان إسماعيل غير موجود في كل أحلامي فقط سامر وحامد وتوفيق .

وفي أحد الأيام استيقظت من نومي مفزوعاً من أحد كوابيسي الكثيرة فرأيت زوجان من العيون يراقبانني وكأن الشرر يتطاير منهن ، كما سمعت بعض الأنفاس لأشخاصٍ غيري في الغرفة ، اعتقدته مقلباُ من أحد الأطفال في الدار ، فذهبت لأضيء النور وليتني لم أفعل ، فقد كانوا هناك ، أعني حامد بوجهه الأزرق المنتفخ وعينيه الجاحظتين ، وسامر المليء بالثقوب الذي ينظر إلي بمحجر عينيه الفارغين ، وتوفيق المسحوق تماماً كأنه علبة عصيرٍ فارغة .

صرخت بشدة وجاء كل من في الدار إلى غرفتي على صوتي فقلت لهم : لقد عادوا توفيق سامر وحامد لم يموتوا ، إنهم هناك في زاوية الغرفة ، إنهم ينظرون إلي و يريدون قتلي أرجوكم أنقذوني ..  بدأ الكلّ ينظرون إلي باستغراب وتعجب كأني مجنون ، حينها أدركت أنّي وحدي من يستطيع رؤيتهم ، فالتزمت الصمت وقلت أنه كان كابوساً ، انهالت علي الشتائم من الجميع وخرجوا من الغرفة متأففين مني ومن تصرفاتي.

أعدت النظر للأشباح الثلاثة وقلت لهم : ماذا تريدون مني ؟ فردوا بصوت كأنه قادمٌ من أعماق الجحيم : نريد .. نريد حياتك أيها اللعين .. نريد انتقامنا .. نريد قتلك كما قتلتنا .. و لن نتركك حتى نقتلك ، لم أستطع الرد، تجمدت من الخوف ثم فقدت وعيي مرة أخرى.

لم تفارقني تلك الأشباح من يومها فكأنهم قد انتقلوا من أحلامي إلى أرض الواقع ، دائمًا أمامي أراهم ينظرون إلى بنظرات حقدٍ وكره ، و بدأ الأمر بالتطور فصاروا قادرين على إيذائي جسدياً كقذف الحجارة علي ، أو دفعي على الطريق لأصطدم بسيارة ما و لكن كنت دائماً أنجو بأعجوبة.

كان الأمر يستمر بالتفاقم ويزداد خطورة ، فصرت أستيقظ لأجد حبلاً مربوطاً حول رقبتي يمسكه أحد الأشباح  وهو يحاول خنقي ، كما كنت سأسقط من الشرفة بعدما دفعني أحدهم من عليها، فصرت مضطرباً لا أغمض جفنًا ، أي صوتٍ كفيل بإفقادي صوابي ، حتى كدت أسقط ميتاً من التعب والإرهاق.

بدأت أفقد سيطرتي على نفسي وبدأت اشعر أنّي على حافة الجنون ومهما حاولت تفسير ما يحدث فلا أحد يصدقني ،
وبعد 29 يومًأ في هذا العذاب قررت الذهاب إلى مشعوذٍ ما علّه يساعدني في مصيبتي فمن المستحيل أن تقوم الأشباح بالانتقام من قاتليها وإلا لما كان هناك أي قاتلٍ على وجه الأرض .. أم ماذا؟

زرت منزل أحد السحرة المشهورين في مدينتي الذي ما إن رآني حتى صرخ بي وقال:  أيها الفتى البائس الملعون ما الذي فعلته ؟ ، لقد ذهبت بقدميك إلى الجحيم !! ..  في الواقع هو لم يكن ينظر إلي بل لتلك الأشباح التي ورائي فصحت قائلا : أنت تراهم صحيح؟ تلك الأشباح التي تتبعني؟ أليس كذلك؟

نظر إلي نظرةً حادة ثم قال : أخبرني بكل ما حدث؟ لم أتمالك نفسي وبدأت بالبكاء وأخبرت الساحر كل شئ من لحظة التقائي بالرجل الغريب حتى الآن.

رأيت نظرة شفقة في عيني الساحر الذي قال : من قابلته ليس شخصاً عادياً يا فتى ، إنه جالب موت ، شيطان من العالم السفلي، يتغذى على أرواح البشر المعذبين الناقمين والكارهين لحياتهم ، لقد اقترفت خطأ جسيماً يا فتى، إن هذه الأوراق عبارة عن لعنة تصيب المستخدم والضحية ، فبعد أن تستخدم الدمية ، تطارد الأرواح المقتولة الفاعل حتى تضمه معها في نيران الجحيم الأبدي وتستمر في الظهور على مراحل لمدة 30 يومًا وفي اليوم الأخير تقتله .

جف حلقي و شعرت بقشعريرة تجري في جسدي ، فقلت له: أرجوك أسعفني ماذا أفعل ، هذا آخر يومٍ لي؟

قال: يجب عليك إحراق جميع الأوراق لتتحرر أرواح زملائك فهم عالقون بين عالم الأحياء وعالم الأموات بفعل الدمية الورقية .
قلت له: ولكني رميت إحدى الأوراق في المجاري و ما تبقى ألقيته في القمامة ولن أستطيع الحصول عليهم أبداً ، أرجوك ساعدني ما الحل؟

فقال بسخرية وقد تغيرت نبرة صوته ولمعت عيناه بنفس اللون الأحمر للرجل الغريب وقال: إذًا ما عليك سوى انتظار الموت أيها المنحوس الصغير ، لا تقلق  فسآتي لآخذ حياتك البائسة فقط انتظر.

و فجأة بدأ جسد الساحر بالاشتعال فخرجت هارباً بسرعة من بيته وبدأت السير بغير هدى ولا أستطيع التوقف عن البكاء ، وتلك الأشباح اللعينة تأبى تركي ، تضايقني وتصرخ في وتقول: استعجل ومت أيها الحقير .. وفجأة وجدت الرجل الغريب يظهر من العدم وعلى وجهه نفس الابتسامة الخبيثة وشرع في الضحك وقال: هل حصلت على انتقامك أخيراً يا فتى؟ هل قتلتهم؟  الملاعين الأربعة.

نظرت إليه نظرةً واهنة وقلت له: بل أنت من قتلهم أيها اللعين.

فقال باستهزاء : أنا ؟ أتمزح معي؟ لا أتذكر أنّي من ملأت الدمى الورقية بالثقوب ، أو أغرقتهم في الحوض ، أو سحقتهم ، أو حتى أحرقتهم ، لقد انتهت مهلتك يا فتى ، حان وقت ردك لجميلي.

فجأة انشقت الأرض لتكشف عن حفرة تشع بلونٍ أحمر مهيب ، وتصدر منها صرخات أشخاصٍ يعذبون وضحكاتٌ شيطانيةٌ مستمتعة ، وشعرت بسلاسل من نارٍ تقيدني ، فنظرت خلفي لأرى شبح سامر وحامد وتوفيق يمسكون بتلك السلاسل ، ويسحبونني إلى القاع في تلك الحفرة حيث يقبع عالم الشياطين، فهناك مثواي الأخير، حياتي كانت كالجحيم أمّا الآن فهي الجحيم بعينه.

تاريخ النشر : 2016-05-03

guest
73 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى