أدب الرعب والعام

عودة المخلوق الأثيري 6 : المتخاطرون و أرض المسلوبين

بقلم : محمد فيوري – مصر
للتواصل : [email protected]

عودة المخلوق الأثيري 6 : المتخاطرون و أرض المسلوبين
تغيرت رؤية كوكبكم المميزة بالأزرق والأبيض ..

مرت مئة عام منذ زيارتي الأخيرة إليكم و إلى كوكبكم كوكب الأرض ، فمازال ضوء الشمس ساطعاً يضيء الكون ومازال القمر مَوجوداً و مازلت أنا باقياً بالجانب المظلم منه أتعبد وأسبِّح ربي الواحد الأحد خالقي وخالقكم وخالق كل شيء ..

مرت السنوات على أرضكم كالثواني في قانون أزماني ، فرأيتكم بمرور أيامكم تتقدمون و تقتربون إلى فضاء الكون الواسع وبجوار القمر ومن أمامي تمرون .. تحلقون بما صنعته أيديكم وما كان خيالاً من ذي قبل في عقولكم ، وانتشرت مراكبكم تخترق السحب ، تصعد و تحلق في الفضاء الشاسع مختلفة الأشكال والأنواع والأحجام ، تسافرون بها ملايين الأميال في دقائق معدودة ، ويوماً بعد يوم وعاماً بعد عام كانت رحلاتكم المستمرة تزداد ، ويزداد معها استعماركم للكواكب الأخرى المجاورة لأرضكم ، فأنتشر وجودكم سريعاً بكل أرجاء الفضاء المظلمة ، القريبة منكم و البعيدة . وبين ليلة وضُحاها تغيرت رؤية كوكبكم المميزة باللون الأزرق والأبيض وتحولت جميع ألوانه إلي نقطة سوداء ، فأصبحت أرضكم بالكاد ترى من الفضاء تحيطها وتحجبها غيوم وسحب كثيفة السواد ، واليوم و منذ دقائق فقط أصبحت رؤية أرضكم منعدمةً تماماً وكأنها مزجت وأذيبت بسواد الكون المعتم من الأعلى ، لكني مازلت أرى مراكبكم تحلق ذهاباً و إيابا وكأنه يومٌ عاديٌّ من أيامكم المعتادة ، فأنا الآن أصبحت بالفعل أريد أن أعرف حقيقة ما صنعته أيديكم وأنفسكم المريضة بأرضكم أرض الإنسان المدرك الواعي المكرم من ربه ..

انطلقت بسرعتي المهولة متجهاً إلى الأرض أخترق في طريقي الكثير و الكثير من المركبات المختلفة الأشكال و الأحجام ، وأسمع الآلاف من حوارات التخاطر المتداخلة ! أصبحتم تتخاطرون أيها البشر .. ؟!! أعبر الآن نقطة وجود الغلاف الجوي للأرض يبدو أنه دمر وتلاشى ، فأنا أرى أمامي فقط سحبٌ سوداء كثيفة ، تغطي الأرض بالكامل .. أعاصيرٌ و رعدٌ و برقٌ وأمطارٌ سوداء حمضية ملوثة ، أراها كخطوطٍ ثابتة تأتي أمامي لشدة سرعتي وأنا أهبط إليكم لأقترب أكثر وأكثر …

وأصبحت فوق أحد المحيطات ، الغيوم الكثيفة تحيط بي من كل الإتجهات ، نسبة الأكسجين تكاد تكون منعدمة ، لا توجد بواخر ولا سفن ولا مراكب صيد تعبر المحيط وتبحر كالسابق ، لا يوجد مخلوق أو كائن بحريٌّ واحدٌ يحيا خارج الماء أو داخله لا أرى غير مراكبكم وهي تمر سريعاً في الهواء ، وضوء البرق القوي يضيء الغيوم السوداء وأمطاراً ملوثة تتساقط بشدة ، يا إلهي !! أصبح ماء المحيط وكلُّ شيءٍ علی كوكبكم ملوثاً !! كل ذلك كان بسبب أطماعكم وحروبكم البيولوجية والنووية التي دمرت وأفسدت أرضكم ..

صعدت بسرعتي في الهواء أنظر للأرض بأكملها ، أرى من الأعلى الكثير من الحرائق المشتعلة بشدة منتشرة بكل مكان بعض الجبال صخورها تسيل كحمم البركان ، المنازل والبيوت والبنايات الشاهقة أصبحت كرماد الفحم المحترق الهش اليابسة ، أصبحت تماماً كالصحراء ، رمالها سوداء تملؤها الملايين من الهياكل العظمية البشرية والحيوانية ، لا طرق لا كباري لا مزارع خضراء لا أشجار يا إلهي لا يوجد مخلوق واحد حي وقد دمرت معالم الأرض بالكامل .. كما أصبحت لا أرى طاقات البشر الروحانية الأثيرية كما كنت أراها في السابق ، كنت أراها تشع نوراً حول أجساد المؤمنين المسبحين الذاكرين لربهم بالشكر والحمد فكانت تهبط عليهم الملائكة من السماء فرحين تحفظهم و يحرسون الأرض وما فوقها ، أما الآن لا أرى ضوءاً واحداً أثيرياً يشع لأي جسد حي ، وكأن الشيطان حاربكم و قاتلكم و قضى عليكم جميعاً ليمتلك هو الأرض بأكملها ..

سأختار مركبة وألحق بها لأنني بالفعل أريد معرفة الحقيقة ، أمامي الآن إحدى المركبات تقدر سرعتها بألف ميلٍ في الساعة ، أوقفت الزمن بها فأصبحت المركبة ثابتة في الهواء وسط الأمطار والسحب السوداء ، وأصبح ضوء البرق مجرد خطٍ ثابتٍ مضيء يشق الغيوم ، اخترقت نسيج المركبة ودخلت ، يوجد شخص يرتدي ملابس جلدية سوداء ملتصقة بجسده ، أليافها مصنوعة من الخلايا المناعية البشرية ، و مكتوب على ذراعه الأيمن باللون الأزرق والأبيض وبلغة جديدة لا توجد على أرضكم من قبل ولا أحد يعلمها كلمة ” وسط الكون عين ” وعلى ذراعه الأيسر كلمة ” المتخاطرون ” تحركت خلف جسده فأصبح رأسه من الخلف أمامي تماماً اقتربت بنظري ” زوم ” واخترقت رأسه وتخللت الأنسجة ، ووجدت الجزء المسؤول عن الذاكرة ورجعت بالزمن داخل ذاكرته بسرعة مهولة لسنواتٍ وصور ولقطاتٍ و أحداث كانت قد مرت في حياته ، ثم تقدمت مرة أخرى بذاكرته سريعاً إلى الوقت الحاضر و رجعت لموضعي الطبيعي خلف راْسه ، فذلك الشخص يدعى ” إل ” إنجليزي الجنسية وينتمي لجماعات تأسست جذورها منذ ثلاثمائة وأربعون عام ، كان يطلق علی تلك الجماعات في الماضي عدة أسماء منها اسم ” الكاملين ” ومنها ” المتنورين ” أما الآن فيطلقون على أنفسهم ” المتخاطرون ” ويقدر عدد الأشخاص الحاليين منهم بمائة ألف فقط .

تحركت حركةً دائرية حول رأسه ثلاث مرات سريعاً وتوقفت ببطء بناحية جانبه الأيمن و تركت كل شيء يعود للحركة فانطلقت المركبة بسرعتها المقدرة بألف ميلٍ في الساعة وهي تخترق الغيوم ، ومازلت أنا أراقب ” إل ” فهو ينظر إلي شرائح الكترونية دقيقة وصغيرة جدا بها أسنان رفيعة موجودة داخل صندوق مغلق به محلول يشع ضوءاً أزرق تتخاطر إذاعة الملاحة داخل المركبة الآن مع ” إل ” لتعطيه معلومات ، لكنها غير مسموعة كالسابق فهي ترددات وذبذبات تخترق أنسجة الرأس لتصل إلى المراكز المسؤولة عن السمع بمخ الإنسان .

إل .. يوجد جسم غير مرئي غير معرف يستقبل معك ، حافظ على الارتفاع أنت تمر بمنطقة شتاء نووي مشعة أمامك أربعة دقائق للوصول لمنطقة أمنة .. إل .. يوجد جسم غير مرئي غير معرف …. وهكذا أخذت رسالة التنبيه تتكرر ..

إنه ينظر باتجاهي تماماً وإلى مكان وجودي بجانبه الأيمن داخل المركبة ! . لكنه لم يرني ، ابتسم ابتسامة خفيفة ثم نظر أمامه ، زادت سرعة المركبة الآن و أصبحت تقدر بألفي ميلٍ في الساعة ، اقتربت من سطح الأرض لتدخل بفتحة يبدو أنها نفق دائري مظلم ، تزداد السرعة أكثر وأكثر فتتمايل المركبة مع اتجهات و منحنيات النفق يساراً و يميناً ثم أعلى و أسفل ، السرعة في ازدياد مستمر ليظهر ضوء بعيد يقترب كضوء النهار ، ثم يتسع النفق اتساعاً مهولاً ، أرى الآن سحباً بيضاء وطيوراً وأنهار وبحور ومزارع خضراء شاسعة وأشجار وطرق وأسواق وبنايات زجاجية شاهقة الارتفاع ، والكثير من المركبات تحلق حولنا ، يبدو أن الحياة بأكملها أصبحت في باطن الأرض وليست على قشرتها وسطحها الخارجي ، عادت مرة أخرى إذاعة التخاطر للملاحة الداخلية للمركبة

إل .. يوجد جسم غير مرئي غير معرف يستقبل معك ، تم تطهير الإشعاع بأمان ، أمامك ثلاث ثوان للوصول .. تتوقف المركبة تماماً عن الحركة أمام الطابق رقم 666 وهو الطابق الأخير لبناية زجاجية ضخمة مساحتها عدة كيلو مترات وأمام مدخل مكتوب عليه -الأحياء المسلوبون – ينزل ” إل ” من المركبة ويتجه للداخل و إلى غرفة زجاجية شفافة ، سقفها يطل مباشرة على السحب الاصطناعية ثم يجلس ، مازلت أنا معه أراقبه وأرى أمامي الكثير من المعلومات والرسائل تأتي باستمرار على زجاج الغرفة ، ورسومات وخطوط بيانية ونسبية وإحصائيات لعام 2116 ، أولها نسبة البشر الحاليين بباطن كوكب الأرض ، والتي تقدر بمليار واحد فقط ، وبدون الحروب البيولوجية والنووية كانت وصلت نسبة البشر الحاليين إلی عشرين مليار ، نسبة الشفاء من جميع الأمراض للبشر الحاليين أصبحت 95% ، نسبة المياه الصالحة للشرب 100%‏ ، نسبة الغذاء والإنتاج النباتي والحيواني 100% . . .

دخلت فتاة إلى الغرفة الآن ونظرت إلى ” إل ” تتخاطر معه الفتاة : تم شفاء ألف شاب وفتاة لا تتجاوز أعمارهم الثلاثون عام وهم جاهزون

يمسك ” إل ” بالصندوق الصغير ليفتحه ثم ينظر إلى الفتاة ليتخاطر معها : أحضري الأول منهم ..

خرجت الفتاة من الغرفة .. ودخلت فتاة أخرى بعمر العشرون ترتدي ثياباً شفافة بيضاء تظهر الجسد ، يبدو على ملامحها الخوف والتوتر .. وقف ” إل ” وهو ممسك بين إصبعيه بشريحة واحدة فقط واقترب من الفتاة وأصبح أمامها تماماً .. قال لها وهو ينطق الكلمات بفمه : ما هو اسمك ، وما هي جنسيتك ؟

قالت : سارافينا … إيطاليا .

أشار بيده لها وقال : انظري إلى الأعلى .. نظرت الفتاة بهدوء إلى الأعلى ، ثم نظرت إليه و قالت :

– نظرت

– هل رأت عينك أحداً بالأعلى أو بالسماء ؟

– لا … عيني لم ترَ أحداً

– هل يوجد خالق ؟ أو يوجد إله ؟

– لا … لا يوجد خالق … لا يوجد إله

– من يشفي من المرض ؟ ومن يحيي ؟ من يَرْزُق و يطعم الأفواه ؟ ومن يزهق الأرواح بيده ؟

– أنتم ….. المتخاطرون

– نصف إرادتك من اليوم ستصبح مسلوبة ، ستكون مع من ؟ وسيتحكم بها من ؟

– مع المتخاطرون … وسيتحكم بها المتخاطرون

– سأقوم بغرز تلك الشريحة الصغيرة خلف رأسك ليكون اتصالك و لغة التحاور مع من حولك هي لغة التخاطر , فهي لغة العالم الموحد الجديد ، و وظيفة فمك ستكون هي فقط للطعام والشراب ، لا للتحدث ونطق الكلمات ، ومراكز النطق بالمخ ستتوقف تماماً ، ونحن من سنراقب أفكارك وأفعالك و ندون أعمالك فولاؤكِ و إخلاصكِ يجب أن يكون لنا ، فنحن من نعطي الحسنات والسيئات ونحكم بالعقاب والثواب ، ونحن الآن من نخلق ونطور كل شيءٍ في الأرض و في السماء ونحن المبدعون . هل تعلمين ذلك ؟ وهل توافقين بوضعها ؟

– أعلم … و أوافق بوضعها

– استديري …

مازلت أنا موجود أراقب كل شيء ، استدارت الفتاة وقام ” إل ” برفع شعرها الطويل بيده إلی الأعلى و غرز الشريحة الصغيرة ووضعها بنقطة معينة وبعناية ما بين الرأس والعنق من الخلف ، ثم نظر لها وتخاطر معها لتخرج من الغرفة ، فاستجابت وتحركت وخرجت على الفور . دخل شاب آخر يرتدي ثياباً بيضاء شفافة . قال له : ما هو أسمك ، وما هي جنسيتك ؟

قال ألشاب : جاك .. أمريكي

و أعيد نفس الحوار الذي جرى منذ قليل .. هذه العملية تكررت مع المئات من الشبان والفتيات من مختلف الأديان والجنسيات ، جميعهم أنكروا وجود الله خوفاً من المتخاطرين ، والبعض منهم لقوا حتفهم مباشرة وذلك لتمسكهم الشديد بإيمانهم وعدم إنكارهم لمن يوجد بالأعلى وهو الله الخالق الجبار .

لكن .. أين هم عرب أرضكم ! .. أين من كانوا يتحدثون وينطقون العربية علی أرضكم ؟!! لم أرَ أياً منهم .. هل قاموا بإعدامهم وإبادتهم جميعاً أثناء الحروب التي دارت وتمت ، هل طحنت عظامهم ونثرت بكل مكان كالرمال لمحو آثارهم ووجودهم ، أم كانت دماء أجسادهم هي لإنتاج الخلايا المناعية للطفرة الطبية الشيطانية الملعونة لحماية أجساد من يطلقون على أنفسهم البشر المتخاطرون ، و لشفاء الآخرين المسلوبين من أمراضهم الناتجة عن الحروب و الإشعاع ! أين هي وجوه العرب ، ملامحهم لغاتهم وجودهم بكياناتهم وأجسادهم !! مرت مائة عام فقط مائة عام ، فبحق خالق السماوات السبع أين هم في الكون ؟

اخترقت أنسجة الزجاج ، و تركت الغرفة ، و انطلقت بسرعتي محلقاً في الهواء كي أستكشف المزيد عن عالم المتخاطرون الشيطاني وأرضهم أرض الشر المزيفة ، أرى أمامي ضوءاً كشعاع الشمس فهي علی ما يبدو شمساً اصطناعية ، وفي الأسفل بحوراً متفرقة ، مياهها زرقاء نقية أمواجها بيضاء ، غيرت اتجاهي لأهبط فوقها سريعاً ، اخترقت سطح المياه وأصبحت بالقاع تماماً ، الملايين من جميع المخلوقات البحرية الحية أراها تسبح بالماء من كائنات دقيقة جداً إلى أكبرها حجماً ، وكأن معظم مخلوقات الله البحريّة التي كانت تحيا داخل محيطاتكم وبحاركم وأنهاركم أصبحت تحيا جميعها هنا ، لكنها معدلة وراثياً و مستنسخة تتكاثر ذاتيا ، فهي ثروة سمكية تزداد باستمرار ، تصدر من أجسادها ترددات وذبذبات التخاطر ، لكي يحدد من لديهم صفة التخاطر أماكن تواجدها بقاع المياه ليسهل عليهم اصطيادها دون عناء .

تركت قاع المياه وصعدت إلى الأعلى منطلقاً في الهواء مجدداً ومبتعداً عن البحار ، لأرى من تلك الأجواء وأنا انظر إلى الأسفل مزارعا خضراء مسافاتها شاسعة تقدر بآلاف الأميال ، ومراعٍ لحيوانات ضخمة الأحجام منطلقة حرة ، فهي الثروة الحيوانية المعدلة وراثياً و مستنسخة ، تتكاثر الإناث ذاتياً دون ذكور عند إعطاء المتخاطرون أوامر لموجات تنطلق من داخل غرف عمليات خاصة لتلقيح بويضات الإناث عند انخفاض مستويات و نسب إنتاج اللحوم ، كما تصدر تلك الحيوانات من أجسادها ترددات وذبذبات التخاطر لتحديد أماكن تواجدها وإحصاء أعدادها المهولة بدقة متناهية ..

مازلت في الهواء بسرعتي الخارقة وأصبحت الآن فوق منطقة توجد بها الآلاف من البنايات ، زجاجها أسود و معتم مشيدة بدقة ، لها شكل وهيئة النجمة من الأعلى ، فكل مبنى مكون من طابق واحد فقط و أمامه مساحة خضراء ، غيرت اتجاهي في الهواء لأهبط سريعاً إلى تلك المنطقة لكي أتأكد ، نعم هي بالفعل بيوت زجاجية أنشئت خصيصاً ليسكنها البشر المسلوبون ، سأختار بيتاً عشوائياً لأدخله ، اخترقت النسيج الزجاجي لسقف أحد البيوت وأصبح وجودي بوسط السقف من الداخل تماماً ، بدأت النظر بحركة دائرية ببطء لاستكشف المكان ، إنها غرفة نوم .. أرى رسائل ومعلومات تأتي باستمرار علی جميع الحوائط الزجاجية للغرفة كالأرقام ، تتراجع بالعد العكسي مقسمة لثواني ودقائق وسعات وأيام وأسابيع وشهور : الوقت المنصرم ثلاثة أسابيع ، الوقت المتبقي أسبوع

مازلت بنقطة وجودي بسقف الغرفة ، أعدت الحركة الدائرية بنظري مرة أخرى ، فرأيت فتاة تجاوزت سن العشرين جالسة على سريرها و هي تتلفت بقلق وتنظر إلى الرسائل التي تأتيها ثم تبكي بشدة ، تركت مكاني بالسقف وأصبحت أمام وجهها تماماً ، فملامحها مزيجاً بين الغربية والشرقية ، تبكي بحرقة دون صوت واضعة يدها اليمنى علي عينها اليمني لتمسح دموعها المنهمرة وهي تقرأ الرسائل أوقفت الزمن بها ، فأصبحت الغرفة في هدوء تام ، وتوقفت حركة الرسائل المتتالية وأصواتها المزعجة ، وثبتت ملامح الفتاة الباكية وبقيت يدها ثابتة كما هي علي عينها اليمنی ، تحركت حركة دائرية بهدوء من أمام وجهها إلی يمينه ثم خلف رأسها ، اقتربت بنظري ” زوم ” واخترقت أنسجة الرأس ووجدت الجزء المسؤول عن الذاكرة ورجعت بذاكرتها إلى الماضي و لمدة ثلاثة أسابيع فقط ، لأجد تلك الفتاة تدخل غرفة ” المسلوبون الجدد ” يستجوبها أحد أفراد المتخاطرون لأخذ العهود عليها بجلسة الانضمام للعالم الموحد الجديد ..

– ما هو اسمك ، وما هي جنسيتك ؟

– اسمي ديانا .. أمي إنجليزية وأبي عربي

– انظري إلی الأعلى

– دون أن أنظر .. فأنا لا أؤمن بخالق أو إله مثل أمي تماماً .. أريد فقط الذهاب إلی أبي ..

– الذهاب إليه مُستحيل فهو يحيا علی سطح الأرض و يحميه من يحميه ، أنت الآن معنا ولن نتركك أبداً .

رجعت لموضعي خلف رأس الفتاة وتركت كل شيء يعود للحركة ، فعادت حركة الرسائل الرقمية و المكتوبة تأتي بكثرة علی زجاج الغرفة بصوتها المزعج ، وعادت ديانا تتحرك وهي تبكي ، ثم قامت وهي تتخاطر وتشير بيدها وكأنها تتوعد أحداً يتبادل معها الحوار داخل عقلها ، فهي منذ ثلاثة أسابيع ومنذ انضمامها ودخولها العالم الموحد الجديد الإجباري وأخذ العهود عليها وغرز شريحة التخاطر برأسها ، بدأت التفكير بوجود خالق للكون وإله واحد فقط هو الله عز وجل كما كان يخبرها الأب المنفصل عن الأم مُنذ أن كانت صغيره ، فهي الآن كسرت بتفكيرها المستمر بوجود خالق للكون عهودها ووعودها بولائها وإخلاصها للمتخاطرين الذين يراقبون ويتحكمون بأفكار البشر لينصروا الشيطان ، والوقت المتبقي لها بالعدول عن التفكير هو أسبوعاً واحداً فقط ، وإن لم تتراجع فمصيرها سيكون هو مصير الأم التي رفضت الانضمام و دخول العالم الموحد الجديد واختارت الموت .

سأذهب الآن لأتأكد من أمر هام ولو كنت أمتلك الإحساس والشعور من المؤكد كنت سأفرح بشدة . اخترقت النسيج الزجاجي لسقف غرفة ديانا وانطلقت بسرعتي المهولة إلى الأعلى متجها إلی فتحة النفق الدائري المتواجدة خلف سحب المتخاطرون الاصطناعية ، عبرته بسرعة وأصبحت فوق سطح الأرض من جديد .. طفت الأرض بأكملها في ثوان معدودات أبحث وأبحث ولم أرَ غير الرعد والبرق والأمطار والأعاصير والغيوم السوداء والنيران المشتعلة بشدة .. لكن بدأ يظهر لي و أراه .. ضوءاً بعيداً شديداً وقوياً ، لونه أبيض صاعداً من الأرض إلى السماء ، وسماء تلك النقطة و المكان من الأرض صافيةً نقية ، تحيط بها أضواء أثيرية إلهية ربانية ، فهي مساحة فوق سطح الأرض كمساحة قارة كاملة ، كنت أعبر بجوارها منذ دقائق معدودة لكن لم أرها ، سأذهب إليها مرة أخری لكي أتأكد .. يا إلهي ما هذا الكم الهائل من البشر !! ..

أرى أمامي الملايين من البشر أحياء … إنهم العرب … إنهم عرب الأرض جميعاً أحياء يرزقون باقون منتصرون متواجدون بجميع معتقداتهم ومذاهبهم ودياناتهم وجيرانهم ممن لا ينطقون العربية ويؤمنون بالله من مسلمين ومسيحين ، تحميهم الملائكة فوق تلك النقطة من الأرض ، وتحرق كل من يفكر بالعبور إليهم ويريد بهم سوءاً ، فهي أرض نقية طاهرة يذكر اسم الله عليها فتهبط عليها الملائكة ، تحميهم وتحفظهم بأمر منه فهو الله القادر على كل شيء ..

أيها الأنسان الواعي اللا واعي ، المدرك لكل ما هو مدرك ، أريد الآن لقانون أزماني أن يتغير ليصبح الأمس قادم والغد مضيء ، ويصبح مستقبلكم هو ماضي أيامي وماضيكم مستقبلي كي أهرب إلى أطهرها أزماناً بأرضكم وآمناً وسلاماً ، في ماضيكم الخير و في مستقبلكم الشر ، وحاضركم إنسانيته مشوهة ، ضمائركم معدومة هالكة لا تهتموا للتفريق ما بين الخير و الشر ، فأنانيتكم هي منبع شروركم وحروبكم ، وتشتتكم هو عقابكم في الأرض و في الحياة ، لا تعلمون ما أنتم ذاهبون إليه لا تعلمون ما هو آت .. أفيقوا تعاونوا تماسكوا بوحدة لا تميزها أعلاماً وحدوداً وخرائط ورايات .

تاريخ النشر : 2016-06-25

guest
60 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى