أدب الرعب والعام

اللوحة الخامسة عشر

بقلم : شخص ما 222 ( أ. عزيم ) – المغرب

اللوحة الخامسة عشر
أخرج حرفيتك كلها في الفرشاة .. على اللوحة أن تكون قطعة فنية

لوحة مهمة ينبغي إنهاءها قبل السادس من آذار…. المشكلة هي كيف أنهيها هكذا، كيف وكل شيء ضدي؟

لا أريد أن أخذل أحمد بعد أن وضع كامل ثقته بقدراتي ، أحمد صديقي الأوحد و الأعز ، الذي لم يتخلى عني حتى في أحلك المواقف و أشدها مرارةً ، محال أن أخيب ظنه الآن .

“أخرج حرفيتك كلها في الفرشاة … على اللوحة أن تكون قطعة فنية … زبوننا هذه المرة بالغ الأهمية … أؤكد لك أن هذه اللوحة ستخرجنا من الفقر ملوكاً.. انس كل شيء عن سجلك لأنها ستمحوه “

صدى كلماته يتردد في ذهني ، و شبح الخوف يلوح من بعيد … مكيلاً عبارات الوعيد… بالويل و الفشل..

***

لا فائدة ، وقفت .. جلست .. مشيت .. أطلت التحديق … أخذت فترات راحة لا أدري من ماذا !! و أنا لم أنجز شيئاً حتى الآن ، أدرت رأسي متحاشياً النظر إلى اللوحة المحكوم عليها بالابتذال حتى و هي فارغة . 

الإلهام نصاب كبير ، كيف لا و هو يغدق عليك بالأفكار حين لا تبالي بها ، و يهجرك بلا رحمة و أنت في أمس الحاجة إليه؟

عقل غبي و تافه … عقل أحمق عديم الفائدة … عاجز عن ابتكار فكرةٍ واحدةٍ ، كل ما أطلبه هو فكرة واحدة إبداعية أرضى بالعيش ذليلاً تحت ظلها لما تبقى من حياتي ، فكرة واحدة عبقرية لم يسبقني إليها أحد ، فقط لو لم يكن محكوماً علي بهذا السجن الذي وضعني أحمد فيه ، فقط لو يترك لي أحمد جرائد أو مجلات تكون قاعدة أسند عليها أعمالي ، فقط لو يسمح لي بالخروج أو حتى استراق نظرات خاطفة عبر النافذة ، فقط لو لم أختر أسوأ توقيت ممكن ، لو لم تلتقي أعيننا في تلك اللحظة .

– ألم آمرك بترك الستائر وشأنها ؟
– آسف ..
– افترض أن أحدا رآك ، أتعرف ما معنى هذا ؟
– آسف..
– سيبلغ عنك الشرطة ، أتستوعب ما أقول؟ سيقبضون عليك ، ويودعونك السجن ، أتسمع؟ السسسسجن … و أؤكد لك أنك لن ترسم هناك.. لولاي أنا لدخلته منذ زمن ، أنا ، و فقط أنا من يحول دون ذلك . أنا من دعمك عندما لم يقف أحد بجانبك ، أتذكر؟ أنا من تحمل خطر العار و جازف بسمعته و حياته لإحضارك إلى هنا ، و هكذا ترد إلي الجميل؟ أهذا جزاء أن أكون إنساناً صالحاً ؟
– آسف….

ثم لاحظ اللوحة الخالية و صاح في انفعال:
– أنت لم تبدأ برسم اللوحة بعد !!
– أ..أنا أعمل عليها
– بعد كل ما ضحيت به من أجلك ، بعد كل ما قمت به من أجلك ، لا تستطيع أن تسدي إلي صنيعاً واحداً ؟!
– آسف..
– هذا كل ما تجيده آسف …آسف …آسف ! أريد أفعالاً لا أقوالاً ، يستحسن أن تنهي اللوحة المرة القادمة التي آتي فيها إلى هنا
– سأفعل لا تقلق
– سنرى ..

من حقه أن يغضب و هو يرى مغفلاً مثلي يعرِّض كلينا للخطر ، ثم أنا لم أرد أن أطل من الأساس! ما الجيد بالخارج أصلا ، أنا منفر كالطاعون خارجاً ، وحيد كالموتى ، على الأقل هنا أحمد معي.. لا يوجد ما هو أسوأ من أن تكون فناناً مطلوباً لدى العدالة ، يدفعك خوفك حينها إلى ملازمة منزلك.. تعيس أنا ، محروم من العالم الخارجي .

***

لا أفكار لدي!

لا شيء على الإطلاق ! كل ما أفكر به رُسِم ألف مرة ، و كل ما أجده فاتناً سبق و أن جاء به عبقري ما من عصر النهضة ، أحتاج لفكرة ، و لا سبيل لذلك إلا عبر الخروج ، أعرف أن أحمد لن يرضى بهذا ، لكنني سأخرج… أحتاج -حتما- لذلك..

***

نعم سأفعلها ، نعم سأخرج ، سأفتح الباب و سأمشي في الشارع ، ستلفح الريح الباردة وجهي ، و سأتسمر في الطريق أنتظر الحافلة … و سينظر إليَّ الرجل الجالس بجانبي ، و يطيل التحديق ثم يقرر التحدث أخيراً فيقول :
– أنا أعرفك …
– أ..أ.. أنا لست من هنا … ع..ع..علي النزول … ه..هذه محطتي .

وسط المدينة ، بين الناس… مشهد جميل ، يخلب الأفئدة حتماً ، لكن هذا ليس وقته ، عليَّ العثور على … ما هذا المكان؟ معرض اللوحات العالمية؟ إنها لأسعد مصادفة ممكنة …
مشيت بين أروقة المتحف أطالع اللوحات في شغف ، كلها محاكية للأصلية في جمالها و تقنيات رسمها الفريدة ، مؤسف أن الناس لم تعد تقدر الفن هذه الأيام و إلا لكان المعرض قد امتلأ بأكثر من أربعة أشخاص دون عددي أنا .

لوحة مونش الجذابة و البسيطة ” الصرخة” لم تعد تحمل للرائي اليوم ما حملته سابقاً ، حتى رائعة دافينشي ” الموناليزا ” لم تنج من خفوت بريق الاهتمام الذي لازمها لخمسة قرون خلت ..
تابعت جولتي إلى أن صفعني سواد مجموعة اتشحت بالعزلة و كأنما تحاول الانزواء وحدها في الركن مكتفية بذاتها ، اقتربت أكثر لمعاينتها والتعرف على الرسام…فرانشيسكو دي غويا ، من هذا الرجل؟ و كيف استطاع أن يحول هكذا مشاعر إلى لوحات !! لم أستطع منع نفسي من الانبهار ، تمتمت في انفعال :
– عبقري
– أتجده كذلك؟

قالها رجل جاء لتفحص اللوحات بدوره ، ثم أردف :
– أتعرف الرسام؟
– اسمه “فرانشيسكو دي غويا”

قال في ظرافة :
– ما الذي تعرفه عنه أيضا؟
– اسمه فقط للأسف … بالإضافة إلى امتلاكه لموهبة فذة جعلته يبدع لوحات خرافية ، أنظر إلى هذه ، “سبت الساحرات”
– لا داعي للسؤال عن رأيك في لوحاته إذن
– خلابة، أعرف أن العمل الخلاق غير قابل للمقارنة ، لكن هذه اللوحات … هذه اللوحات تمثل شيئاً لا يمكن التعبير عنه بالكلمات.. إنها لا تستطيع أن توفيها حقها

ابتسم في رفق ، و قال :
– ليس كل الناس تقدر هكذا أعمال
– إنه فعلا لأمر مؤسف
– يبدو أن لديك عيني فنان ، أخبرني : هل أنت رسام؟
– أجل ، لكنني أخشى الاعتراف بذلك أمام لوحات كهذه .
– إذن فهذا يوم سعدك ، أنا رسام أيضاً …كنت على وشك التخلص من عدتي القديمة لكنها لك الآن
– هذا لطف منك يا سيدي ، لكن أمتأكد أنك لن تحتاجها بعد اليوم؟
– أجل طبعاً ، لقد انتهت أيامي مع الرسم منذ زمن بعيد …أثق أن شخصاً مثلك سيهتم بها ، لذا رجاء ، رجاء اقبلها … إنها تجلب الحظ
– شكراً لك سأفعل

تمتم مبتعداً بعد أن سلمني عدته :
– لكنني لا أضمن لك أي واحد …

***

كلُّ شيءٍ واضحٌ الآن ، كيف لم تخطر لي هذه الفكرة من قبل ، إنها هي ، إنها ما أحتاج إليه ، غادرت المعرض جرياً حاملاً العدة بين يدي ، بينما تعالى إلى سمعي صراخ أحد الزوار المرتعبين : “إنه هو ..! إنه غويا نفسه ! لقد مر من هنا ، لقد مر من أمامي…!

***

وصلت إلى المنزل و شرعت في رسم اللوحة ، هنالك شيءٌ يريد الناس رؤيته بشدة… إنه البؤس ، والمعاناة…إنهم ينتشون بالألم ، لكم يشعرون أنهم رائعون و هم يتشفون في البائس المضرج بدمائه و بؤسه ساقطاً على الأرض بعدما قوبل بالخذلان ، إنه أمر يصعب عليَّ وصفه بالكلام ، فأنا لست شاعراً أو أديباً ، أنا مجرد فنان عرف ما يرسمه .

استعملت العدة الجديدة في الرسم ، كانت رثة ، تشي بالكثير الكثير من أكواب القهوة التي استعملت لطمر انهيارات عصبية أكسبتها -بطريقة ما- مرونة و سهولة استعمال .

رسمت و رسمت ، و تابعت الرسم ، تخفت الإضاءة فأنير الغرفة ، و تعود لما كانت عليه ، فأطفئ الأنوار ، مرة و اثنتين و ثلاثة ، يأتي أحمد فلا ألقي له بالاً ، ثم يرحل و يأتي من جديد ، و يرحل كما جاء… ثم يأتي ليجدني منشغلاً بالرسم فيقول :

– غدا هو السادس من اذار ، هل اللوحة جاهزة؟
– ممممم ، ماذا ؟ أجل ، أجل ستجهز قريبا…
– تبدو مرهقا .. هل نمت جيداً مؤخراً ؟
– ن..نعم ، نعم ، فقط دعني أنهي اللوحة ….
– كما تشاء يا “فنان”

هل قال للتو أن غداً هو السادس من آذار؟

***

لسبب ما شعرت بأنني لست من رسم اللوحة ، إنها – حتى الان -متقنة جداً ، عبقرية جداً … أفضل آلاف المرات مما أستطيع أنا عمله ، لو كنت أكثر دقة لقلت أن اللوحة تحمل لمسات غويا نفسه ، أيكون هذا بفعل انبهاري به ؟!

مصيبة ! بل كارثة ! نفد مني الطلاء الأحمر ، و اللوحة كلها مبنية على هذا اللون ، لماذا لم يحضره لي أحمد ؟ كيف يتوقع أن أرسم في ظل هذه الظروف ؟ هل أخرج ؟ ربما يكشفني.. لن أخاطر بترك لوحتي لوحدها … اللوحة يجب أن تنتهي…
يا لي من مغفل ، لا داعي للقلق..

لدي هنا شيء أفضل بكثير من الطلاء الأحمر ، لدي دماء حمراء قانيةً وطازجة ، خمسة لترات كاملة تنتظر الاستعمال ، يكفي أن أجرح نفسي لأحصل على ينبوع طلاء ، لكن ماذا أصيب؟ حتما لن تكون اليدان هما الهدف ، سأحتاج إليهما لإنهاء اللوحة، ربما … العين؟ و لمَ لا ؟ لدي اثنتان على كل حال ، بالإضافة … فعلها فان كوخ مرة بجزء من أذنه ، ما أسوأ ما قد يحدث لي؟

***

ألم رهيب، لا يمكنني تحمله، لكن اللوحة يجب أن تكتملللللللللل ، لم يك…يكن هذا سهلاً …لكنني فعلتها …لدي الآن م..محجر من الدماء ، على اللوحة أن تنتهي ، لا يهم لو نزفت قليلا ، على أن أتحمل من أجلي و من أجل أحمد ، بالإضافة إلى هذا … أن تكون اللوحة مخضبة بالدماء … ستبدو أكثر بؤساً…

أخيراً انتهيت… إنها هي… أفضل لوحاتي ، إنها فخري و حياتي… أحدهم فتح الباب ، أهذا أحمد؟ إنه هو … لديه نظرة غريبة على وجهه ، توجه نحو اللوحة محاولاً تجنب دوس الدماء التي لوثت الأرضية و قال :

– أحسنت يا فنان
– ش..ش.. كراً
– ماذا نسمي هذه اللوحة ؟
– ف..فكرت …و..وادي ال..دماء”
– ممتاز ، ممتاز

قالها ثم حمل اللوحة و انصرف تاركاً الباب مفتوحاً ، الألم يقتلني بلا توقف ، لكنني لا أطيق صبراً رؤية ملامح الزبون عند تسلم اللوحة ، لا بد أنه سيصافحني بحرارة لو كنت هناك ، لا شك في أنه سيقدمني للصحافة كفنان العصر ، محال ألا تسقط تهمي كلها بعد هذا العمل…

و عندها سأخرج ، و لن أكون عبئاً على أحمد… لذلك يجب أن أذهب ، يجب أن أكون حاضراً لحظة استلامه لها ، و قفت متحاملاً على نفسي ومشيت محاولاً اللحاق بأحمد ، هو لم يبتعد كثيراً ، لقد دخل تلك البناية آخر الشارع …. همس بشيء للحارس ثم تابع سيره ، تبعته و قدماي لا تكادان تحملانني ، الألم … الألم زائل … الألم لا يدوم ، لذا ينبغي تحمله .

تعثرت ، ليت أحمد يلتفت ليساعدني ، لكن لا بأس ، لن أكون أنانياً ، سأنهض و ألحق به… لقد دق الباب و دخل … فتبعته ، و رأيته بعيني الوحيدة ، يقدم اللوحة لرجل نهض للترحيب به :
– مذهلة
– إنها أفضل أعمالي ، أسميتها وادي الدماء .
– مبدع كعادتك يا أستاذ أحمد (يلحظ الشخص الواقف على الباب) من هذا المقرف ؟ أهو معك يا أستاذ أحمد؟
(يحرك أحمد رأسه نافيا) !!!!

أنا من رسم اللوحة ، لما أنكر أحمد معرفتي؟ ألست أنا من…رسم … اللوحة؟

أحمد لا يكذب …. أحمد وقف معي طوال حياتي … أحمد لم يخدعني ، صحيح؟ هو لم يحبسني خدعة ، صحيح ؟ أنا مطلوب للعدالة … مؤكد أني مطلوب… لا أعرف ما تهمتي لكنني مطلوب…. أنا يائس … أنا فنان … أنا فننننان! … أنا ف..ن..ان … أنا تعيس … أنا أغادر الغرفة …أنا أصعد الدرج … أنا وصلت السطح … أنا عند الحافة …. أنا أقفز…

——————————————-

هوامش موقع كابوس : فرانسيشكو دي غويا هو رسام اسباني مشهور (1745 – 1828) عكست لوحاته المشاكل والاضطرابات والحروب التي طبعت عصره واتسمت لوحاته في اواخر حياته بالسوداوية والكآبة المفرطة التي تعكس خوف وتخبط الانسان , ولذلك عرفت تلك اللوحات وعددها 14 لوحة بأسم “اللوحات السوداء” وقد رسمها غويا على جدران منزله (اللوحتين الاخيرتين ضمن الصورة المرفقة ادناه هي من بين اللوحات السوداء) .. واظن أن هذا يوضح لك عزيزي القارئ لماذا اطلق الكاتب أسم “اللوحة الخامسة عشر” على قصته هذه .

اللوحة الخامسة عشر 

تاريخ النشر : 2016-07-30

شخص ما 222

المغرب
guest
20 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى