أدب الرعب والعام

فتاة اسمها أحمد (الجزء الثاني)

بقلم : محمد القصراوي – المغرب
للتواصل : [email protected]

فتاة اسمها أحمد (الجزء الثاني)
هل أنا رجل أم امرأة ؟

حقاً إنها ورطة كبيرة وقع فيها “الحاج العربي” ، لكن ماهي الحلول التي سوف يتخذها لحل هذه المشكلة التي باتت تلوح في الأفق؟ أحس الحاج أنه وقع في ورطة قد تكون نتائجها وخيمة إذا لم يحسن التصرف، كم مرة طرح هذا التساؤل على نفسه ، ومع انعدام وعدم توصل الحاج إلى حل يمكن أن يركن إليه ، قرر الانتظار ، وتقرر معه تأجيل حفل الختان إلى أن تأتي الفرصة المناسبة ويأتي معها الحل المناسب.

لكن إلى متى ؟ ربما إلى حين أن يجد “الحاج العربي” الطريقة التي سوف يخرج بها من ورطته هذه ، حقاً ! هو الذي رسم خطة هذه المغامرة منذ البداية ولذلك يجب أن يوصلها في النهاية إلى بر الأمان ، فعلاً إنها مغامرة ليست كباقي المغامرات ، مغامرة نوعية وجد “الحاج العربي” نفسه يعيش فيها .

بعدما خانه الليل في أحد الليالي ، وبعدما أحس أن زوجته التي تنام أمامه قد طار النوم من جفونها ، أستغل هذه الفرصة لكي يبادرها بالحديث قليلاً عن هذه الوضعية التي وجدا نفسيهما فيها، ذلك لأن المسألة تهمهما هما الاثنين .

سألها : ألم تنامي بعد ؟

أجابته : لم استطع أن أنام إلى حدود الساعة .

رد عليها الحاج : أتعلمين أنه منذ بدأت بوادر المطالب التي تدعونا إلى ضرورة التعجيل بختان الطفل أحمد بدأت أضطرب في نومي ولم أعد صافي البال، بحيث بت افكّر طيلة الايام في سبل الخروج من هذه الأزمة التي حلت علينا.

بعد برهة صمت أردف قائلاً : لقد فكرت ملياً وقد استعصى علي الأمر في إيجاد حل وطريقة لنختن بها طفلنا من دون أن ينكشف ذلك السر المكنون الذي يحمله معه .

أجابته زوجته : لماذا لا نستعين بخالك الذي يتخذ من الحجامة مهنة يعيش منها؟

لكن الحاج تساءل معقباً : هل سوف نطلعه على ذلك السر؟ وهل سوف يكتمه إذا اكتشفه في نظرك ؟.

ردت عليه قائلة : لا أظن ذلك، فخالك السيد “عبد السلام” غير مؤتمن المرة، قد يكشف سرنا وقد نقع في ورطة أكبر من التي نخشاها .

تساءل الحاج : فعلاً ، لكن لماذا لا نبحث عن حجام أخر يكون بعيداً عن هذه المدينة ونطلعه على السر ونعطيه مقابلاً من المال مقابل ذلك ؟

ردت امرأته : و ما الضامن على أن هذا الغريب لن يكشف سرنا؟ .

بعد فترة صمت

قال “الحاج العربي” : لقد خطرت في بالي فكرة ، لماذا لا أقوم أنا بدور الحجام وأختن الطفل بيدي؟ ، فليس في الأمر صعوبة كما تعلمين، هذا مع العلم أنني كنت أصاحب خالي “الحجام” في بعض المناسبات عندما كنت شاباً يافعاً، وعلى الرغم من أن الأمر سوف يثير بعض الشكوك و التساؤلات إلا أنني أرى في هذا الحل مخرجنا الوحيد من هذه الورطة.

و ذلك ما كان ، إذ بعدما أعلن الخبر “الحاج العربي” على جيرانه وأفراد عائلته ، وبعد أن اتخذ من يوم الجمعة يوماً لإجراء مراسيم الختان ومباشرة بعد صلاة الظهر اجتمع الأهل والأحباب و ألبس أحمد الطربوش الأحمر و الجلباب المغربي ، وتم طلاء كفي يديه ورجليه بالحناء استجابة للتقاليد المغربية في حفل الختان .

أتدرون كم كان أحمد مسروراً بهذه البدلة ؟، وما زاده سروراً ذلك الجو العائلي الذي انكشفت معه سمات الفرح والسعادة البادية على محيى الحاضرين جميعاً بون استثناء ، هذا دون أن ننسى الهدايا الكثيرة التي قدمت لأحمد بهذه المناسبة .

أدخل “الحاج العربي” أبنه وزوجته في أحد الغرف المنعزلة البعيدة عن أعين الحاضرين، أحكم غلق الباب، وقام بأخذ سكين وجرح جانباً من يده اليسرى، ورش بعضاً من الدم على سروال أحمد لكي يتيقن الجميع بأن أحمد قد ختن بالفعل، ومن ثم زغردت الأم إعلاناً بأن الطفل بالفعل ختن ، ضمد “الحاج العربي” ذلك الجرح الذي خلفه السكين، وخرج إلى الحاضرين يستقبل التبريكات .

كبر الطفل أحمد إلى أن تجاوز مرحلة الطفولة ودخل إلى عتبة الشباب ، بدأت تظهر عليه مظاهر الفتوة إلى درجة صار يعتمد فيها عليه أبوه “الحاج العربي” في تسيير المتجر المختص لبيع الزرابي، كان أحمد بجلبابه المغربي قد اكتسب مهارة وحنكة البيع والشراء والتجارة منذ طفولته التي عاشها بجانب أبيه الذي نادراً ما كان يفارقه .

لكن هذه المرحلة التي وجد أحمد نفسه فيها ويعيشها لم تخلوا بدورها من الصعاب، وخاصة تلك الصعوبة التي كان يجدها في إخفاء ملامح جسده الأنثوي في جلباب ذكوري ، ملامح ذلك الجسد الذي بدأت تبرز ملامحه الأنثوية تدريجياً كلما تقدم أحمد في السن، لقد كان هذا الأمر هو الذي يعكر صفوة المرحلة التي بدأ يحبها أحمد .

لقد بدأ يحب الرجولة فعلاً، كيف لا يحبها وهو بالكاد بدأ يشعر بطعمها وحلوها، لقد صار حلمه منذ الآن أن يصير رجلاً يهابه ويحترمه الكل .

لكن كيف السبيل إذاً إلى بلوغ هذا الحلم الرجولي وتحقيقه وأعراض الجسد الأنثوي بدأت تظهر عليه؟

لقد أراد أن يكون رجلاً، ولا يمكن لشيء أن يعرقل طريق الرجولة هذه .

لما بلغ أحمد سن العشرين سلم له “الحاج العربي” مفتاح المتجر ووكل له مهمة ومأمورية تسييره و حساب المداخيل التي تجنى منه كل يوم قبل قفله، كل هذا جراء ما بدأ يحسه باقترابه من مرحلة الشيخوخة ، لقد وضع “الحاج العربي” في أحمد الثقة بعدم لمح فيه عزم الرجال والفتوة، هذا ما جعل “الحاج العربي” لم يفقد اليأس وبقي مرتاح البال لأنه كان يرى أمامه من يخلفه من بعده ، فطالما كان هذا هو حلم حياته.

مرت الأيام والأشهر والسنون، لم يعد “الحاج العربي” يقدر على المشي ، بقي طريح الفراش بعدما أكل الدهر من جسده وشرب، بدأ يحس بدوار رهيب كلما حاول أن الوقوف أو أطال المشي.

مع هذا الحالة التي وصل إليها “الحاج العربي” وعلى الرغم من الخوف الذي بدأ يسكن دواخل أحمد، إلا أنه حاول أن يظهر عن مدى رجولته وعن مدى قدرته على تحمل المسؤولية التي سوف يتحملها عاجلاً أو آجلاً بعد وفاة والده، كانت هذه هي الوصية الوحيدة التي أوكله أبوه إياها، لقد كان أحمد عند حسن الظن طيلة هذه الفترة، لقد كان الأمر والناهي في البيت والمتجر، لقد كان حازماً في كل صغيرة وكبيرة، لقد صار رجلاً كما تمناه “الحاج العربي” .

توالت الأيام ولم يبرح “الحاج العربي” فراشه، بعدما بدأ يحس بدنو أجله في أحد الأيام الممطرة من شهر مارس، طلب من أحمد ألا يفارقه ، لقد سرد عليه مجموعة من التوصيات والنصائح كانت أهمها الحفاظ على شمل الأسرة من كل شر دخيل يمكن أن يفتك بها وأن يشتت كيانها.

بعد أذان الفجر بقليل، صمت “الحاج العربي”، ربما كان الصمت الأخير، لم يعد يتحرك من جسده إلا رموش عينيه اللتان مازالتا تراقبان سقف الغرفة .

علي أن أفعل شيئاً …. هذا ما ردده أحمد في نفسه بعدما لم يعد يجيبه أبوه، ذهب مسرعاً إلى إمام المسجد يستعجله بالذهاب معه لقراءة ما تيسر من الآيات البينات من الذكر الحكيم قبل رحيل أبيه إلى الدار الأخرى.

لما اقترب أحمد من بيته و هو برفقة إمام المسجد، تبادر إلى سمعه بكاء ونواح أفراد أسرته ، لم يشعر أحمد بنفسه إلا عندما ارتمى على جسد أبيه يعانقه.

كم بكى أحمد حينها .

لقد مات “الحاج العربي” ، أغمض أحمد عيني والده وغطى وجهه بكفن أبيض والإمام مازال يتلوا عليه بعض السور من القرآن الكريم.

لقد مات “الحاج العربي” وبقي ابنه أحمد خليفته في الأرض ، فهل سوف يأخذ أحمد بوصية أبيه ويكون نعم خليفة للحاج العربي؟

حزن أحمد كثيراً على فراق أبيه ، لقد كان يشاركه الحياة بحلوها ومرها، لقد كان أبوه وصديقة في الوقت نفسه، كان يشاركه الحياة في تفاصيلها وجزئياتها، لقد أثر فراقه في نفسية أحمد لدرجة أصبح يحس فيها بأنه وحيد وغريب في هذا العالم ، طالت عزلته وتجسدت في انحباسه في غرفته التي لم يعد يستطيع أن يفارقها حتى إلى قضاء شؤونه في المتجر الذي أوكل مهمة تسييره إلى أحد معاونيه ومساعده المقرب الذي يثق فيه كثيراً.

فهل الحزن والألم من شيم الرجال؟

لم يحس أحمد كهذا ألم وحزن في حياته، فهو الذي لم يطرق الحزن بابه إلا نادراً، على الرغم من أن الوضعية الصحية الحرجة التي كان يعيشها “الحاج العربي” في سنواته الأخيرة والتي كانت تنذر باقتراب أجله، إلا أنه لم يكن يتوقع أن تداعيات هذا الفراق سوف تطول وستكون على هذا القدر الكبير من الحسرة والألم.

كانت واحدة من بين المرات القلائل التي شعر فيها أحمد بأنه ضعيف ، ولما لم يكن الضعف من شيم الرجال ، أحس بأنه خان رجولته و الرجولة خانته، بدأ يتساءل..

هل جميع الرجال فعلاً يتأثرون – كما تأثر هو – بفراق أحبتهم ؟

لم تكن لتصمد هذه الرجولة في وجه أولى الاختبارات الامتحانات، بدأت الشكوك تجتاحه، بدأ يتساءل:

هل أستحق أن أكون رجلاً ؟

وهل فعلاً أنا في الحقيقة رجل أم أريد مني فقط أن أكون رجلاً ؟

هل أريد مني أن أؤدي دور رجل في هذه الحياة ؟

هل هذا هو قدري أم هو تجاوز لهذا القدر؟

أصبح تفكيره ينتقل داخل ثنائية الرجل والمرأة، لم يعد يرقد له جفن، يريد أن يعرف إلى أي جنس ينتمي، هل إلى جنس الرجال كما أراد أبي أم إلى جنس النساء كما هو مكتوب علي في قدري؟

توسعت دائرة تساؤلاته وجعلة من مسألة رجولته موضع شك وريبة، حقاً لقد وجد أحمد نفسه في موقف أقرب إلى الجنون، يريد أن يعرف من هو.

هل أنا رجل أم امرأة ؟

هل أنا امرأة أريد مني أن أكون رجلاً ؟

باتت هذه الأسئلة ترافقه في ليله ونهاره، يريد أن يحسم في شأن هذا الأمر، لم يعد يستطيع أن يؤدي دور الممثل الذي أنيط له، لم يعد يجيد أداء ذلك الدور ثانية بعد كل هذه الشكوك .

أين المخرج إذاً، كيف لي أن أثبت رجولتي الواهمة، وكيف لي في المقابل أن أثبت أنوثتي الطبيعية ؟ علي أن أختار، علي أن أختار أين أنا ومن أنا بالضبط .

هل أحتكم إلى في مظهري الخارجي أم إلى أصلي الداخلي؟

فكر أحمد جيدا، وجد نفسه بين وصية أبيه التي لا يمكن أن ينفذها إلا بقبضة رجل من حديد وبين ذلك النداء الطبيعي الداخلي، هل سيخون أحمد وعد الوصية و يستجيب إلى ندائه الطبيعي ؟

تاريخ النشر : 2016-07-31

guest
27 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى