أدب الرعب والعام

عالم مزدوج (ج2)

بقلم : شيطانة منتصف الليل – كوكب الظلام

عالم مزدوج (ج2)
كلما نظرت لخصلات شعري البيضاء أتذكر ماضيَّ الذي عشته ..

كنت أحدق بنفسي في المرآة ، لقد ارتديت ملابسي الملكية و و وضعت تاجي كما يجب … لكن هذه ليست أنا بالتأكيد ليست أنا …
كلما نظرت لخصلات شعري البيضاء أتذكر ماضيَّ الذي عشته ، كنت أخاف الجن كثيراً و أخشى أشكالهم المرعبة ، و الآن أنصب عليهم و أحكمهم …. فعلاً أمرٌ غريب !!..

دخلت عمتي و رأتني ، شعرت بفرحة كبيرة عندما نظرت إلي ، عندها أول ما خطر ببالي هو أن أسألها سؤال بقي في خاطري ، قلت لها :
– عمتي … إذا كان الجن يكرهون البشر ، إذاً كيف استطاع أبي أن يتزوج أمي ؟؟
صمتت قليلاً ثم أجابت :
– نحن الجن نكره البشر كثيراً و لا نخالطهم .
والدك المرحوم تزوج رغماً عنا ، رفضنا أنا و جدتك و جدك المرحومين زواجه ، لكنه أصر على الزواج من بشرية ، أخذها إلى قصر بناه لها بعيداً عنا ، حاولنا كثيراً التخلص من أمك فلم نستطع ، كان والدك متكفل بحمايتها جيداً بحيث لم نقربها ، و بالآخر استسلمنا .

بعد أن حملت أمك بكِ كان شرطنا عليها أن نأخذك عندما تكبرين ، لم ترضَ أبداً إلى أن حدثت حروب كثيرة وصل الأعداء خلالها للقصر ، أخذوك من والدتك عنوة فأتت أمك إلينا للحماية ..
بحث والدك عنك كثيراً ، كلنا يئسنا من إيجادك ، عندها جهز والدك جيشاً كبيراً للثأر ، لكن في تلك الأثناء جاءنا ساحر من البشر عثر عليك و أعادك إلينا ، فرضخت أمك و وافقت على إعطائك لنا عندما تصبحين في الثامنة عشر من عمرك كي تعتلين العرش .

بعد وفاة أبيك أمرنا أن تعود أمك إلى عالمها و أنت تبقين ، و لكنها غدرت بنا و سرقتك ، لم نعرف إلا بعد فوات الأوان .. ومن وقتها لم نرك .
لم يعلم أي أحد من الجن بأن أخي السلطان ” آيزامارد ” قد تزوج بشرية ، بقي الموضوع سراً بين العائلة الملكية حتى لا تكتشف الفضيحة التي تسبب والدكِ بها ، لذلك لا أحد يعرف أبداً أنك نصف بشرية ، و هذا سيكون سرك الكبير .
عندما خطفتِ قلنا أن الساحر الذي أعادك هو من أخذك مرة أخرى لأنه تعاون مع أعدائنا ، لذلك أنت الآن مكلفة بحفظ هذا السر طوال حياتكِ .

جهزي نفسك جيداً فعمك الأكبر ” اوسلايماس” و عمتيك ” اورشاليسيا ” و ” هاديريا ” قد جاؤوا لرؤيتك .

خرجت عمتي و تركتني حائرة ..
بعدها نزلت للأسفل و دخلت لغرفة صفت بها طاولات عليها ما لذ و طاب من الطعام … هذا الطعام الذي لطالما حلمت أمي بتذوقه ، كنت أحدق بكل شيء والدموع تملأ عينَي ، أتمنى فقط لو أعود لرؤية أمي لمرة أخيرة ، كنت أشعر بحرقة في قلبي ، أنا حبيسة قصر من ذهب لي خدم و حشم لكن تفكيري كان عند أمي التي لم أعرف حتى ماذا حل بها ..

التقيت بعمي و عماتي ، فرحوا لرؤيتي ، بعدها مضت بي السنوات و أنا أكبر في هذا العالم ، تعلمت كل ما يجب تعلمه ، أصبحت المرأة و الرجل في نفس الوقت ، أصبحت بعمر السابعة عشر و طوال هذه السنين بقلبي غصة … غصة قتلتني شوقاً لرؤية والدتي .
اقتربت كثيراً من اعتلاء العرش ، كنت أشارك في الحروب إلى جانب عمي ، لطالما سخرت من الجن الذين يقولون نحن أفضل من البشر ، و هم يسفكون الدماء و البشر يقولون نحن أفضل من كل المخلوقات … و هم أيضاً يسفكون الدماء ، هكذا أصبحت حياتي مليئة بالدماء .. كنت مكلفة بحفظ سري و هو نصفي البشري ، و أيضاً بحماية عماتي السلطانات ، خضت حروباً كبيرة و كلها كسبتها لحماية عرش والدي …

أما الآن .. فهي الحرب الأخيرة مع عدو عائلتي الملكية الذي تسبب بمقتل والدي …إنه ” يوردفاردا” عدوي اللدود ، إنه إبليس بعينه ، إنه الشيطان الأكبر كما يسمونه .
لكنه لن يستطيع التغلب علي أبداً ، بيننا عرش ” آزيزيف” جدي الأكبر .. حاكم سلالتي ، إن أنا اعتليت العرش سوف أحكم عالم الجن بأكمله ، أما إن حكم ” يوردفاردا ” العرش فسوف يسود الفساد و القتل و الحروب الدامية في عالم الجن ، لذلك أعددت لمعركة كبرى ستكون الحاسمة .
قاتله جميع أسلافي و لم يستطيعوا التغلب عليه ، لكني أنا السلطانة ” مريم ” سوف أغلبه و أقتله و أعتلي عرش ” آزيزيف ” … سوف يرى .
فأنا من سلالة ” آزيرزاقاش” السلالة الحاكمة و الاقوى في عالم الجن ، و هو من سلالة ” تاراقوديا” و هي أضعف السلالات هنا في عالمي .

***
حضرت جيوشي من جنودي المخلصين ، و ودعت عماتي الثلاثة على أمل أن أعود إليهن منتصرة ..
قدت جيشي و نزلت إلى أرض المعركة .. جاء موكبٌ من بعيد ، جيوش كبيرة من الشياطين و المردة و العمالقة ، أشكالهم كانت مرعبة ، أعادتني إلى أيام طفولتي عندما كنت أرى هذه الأشكال و أفزع منها ، أما الآن هم من يجب أن يفزعوا ، و يجب أن ترتعد فرائصهم مني .

اصطفوا أمامنا .. لكن ” يوردفاردا ” لم يكن موجوداً ، جاء أحدهم على صهوة فرسه ، كان بشعاً و شكله أقرب إلى إنسان ممسوخ .. جاء إلي بكل ثقة قائلا :
يوجد لديك فرصة للتراجع قبل أن يطلق صوت البوق إعلاناً ببدء الحرب ، لكن إن أصريتِ أن تكوني مثل والدك السبع الذي قتل ، فستقتلين مثله أيتها .. السلطانه المدللة .

ابتسمت في وجهه و تقدمت منه و قلت :
أنا السلطانه ” مريم ” ، جمعت بين خصال أبي و أمي ، اكتسبت القوة و العزيمة من والدي السلطان ” آيزامارد” ، و كسبت الصبر و الكيد العظيم من والدتي ، سوف أقاتلكم و لن تستطيعوا هزيمتي .. أبلغ ” يوردفاردا ” تحياتي ، و قل له أن ينتظر الموت على يدي ، و لو كان رجلاً لقاد هو المعركة بنفسه .

بدأت المعركة بيننا .. كان جنودي حقاً شجعان ، قاتلوا بكل ما أوتوا من قوة ، كانت الأرض تشتعل ناراً ، و كانت الدماء تجري كالأنهار ، بعد خمس ساعات متواصلة من القتال قضينا على نصفهم ، و توقفت الجولة الأولى بعد ان انسحبوا ..
استمرت المعركة تقريباً لسبعة أشهر ، نقصت خلالها أعداد العدو بشكل ملحوظ ، لكن “يوردفاردا ” لم يظهر بعد ..

و أنا في مخيمي أتاني حارسي يحمل لي خبراً نزل علي كالصاعقة ، قال بالحرف الواحد أن ” يوردفاردا ” أمسك بوالدتي ، و أعطاني عنواناً للقاء ..
ذهبت إلى غابة كانت جداً كثيفة بأشجارها ، مشيت إلى أن وصلت لفسحة .. يا إلهي .. رأيت أمي مربوطة على شجرة .. نعم إنها أمي !!
ركضت نحوها فانطلق سهم أصابني بيدي ، ثم هجموا عليَّ من كل مكان ، قاتلت و أنا أصرخ : أريد أمي …
سقطت أرضاً ، فجاء عليَّ حارس عملاق يحمل فأساً أراد ضربي ، فانطلق سهم ناري و اخترق رقبته ، كان السهم صادراً من فارسٍ يرتدي الأسود كان ملثماً .. آخر ما رأيته قبل أن أفقد الوعي هو أنه كان يقاتلهم ..

استيقظت و رأيت نفسي في كوخ ، و هناك كان هذا الفارس يعالجني ، كان شاباً أشقراً طويل القامة ، عريض الكتفين ، و له ملامح حاده .
كنت أتألم كثيراً ، أردت الخروج و البحث عن أمي فمنعني ، بقيت عنده إلى منتصف الليل ، خرج و جلب لي حصانا و أخذني .
عدت لموقع المعركة ، و كان جنودي قلقين جداً علي ، و بعد أن اطمئنوا ، نظروا إلى الفارس المجهول باستغراب و كأنهم يعرفونه !!
تقدم حارسي مني و سألني :
مولاتي .. منذ متى و أنت تعرفينه ؟؟ إنه ابن الساحر .. إنه الفارس مرجان ..
لم أفهم شيء ، فتقدم ذلك الفارس و قال :
نعم مولاتي … اسمي ” مرجان” ، و أنا قد عزلت من سلالتي و لم يسمح لي بالاختلاط لا بالجن و لا بالبشر ، أبي كان ساحراً و أمي جنية ، و لأني نصف جني لم يرغب بي البشر ، و نصفي الآخر بشري لم يرغب بي الجن ..
أبي أعادك قديماً إلى والدك السلطان ، لذلك سمح لنا والدكِ بالبقاء هنا ، لكن كانت وصيته إلى والدي أن يحميكِ لأنه كان صديقه المقرب جداً ، و أبي عند وفاته طلب مني ذات الشيء … مولاتي اسمحي لي بالبقاء معك لأنفذ وصية والدي …

قبلت ببقاء ” مرجان ” معي ، كان المقرب إلي لأنه مثلي حائر بين عالمين ..
استمرت المعركة إلى أن استطعت الوصول إلى قصر ” يوردفاردا ” لكنه لم يكن موجوداً به ، أمسكنا بخادمته المخلصة ” كوشقازدا” و سألناها عنه فقالت و الشرر يتطاير من عينيها :
إن مولاي ” يوردفاردا ” في عالم البشر ، لقد جندهم له .. هههه ، لن تستطيعي غلبه أبداً ، أما والدتك العزيزة فهي خادمته المخلصة الآن ..
ماذا أمي أصبحت خادمه له ؟! أمي مع شيطان مريد إن رفضت له أمراً يقتلها .. غضبت كثيراً و من شدة غضبي أحرقت تلك الخادمة اللعينة .

ثم جمعت كل جنودي و قلت لهم الآن سوف نذهب لعالم البشر ، و هناك سوف أقضي على هذا الشيطان المريد ، أرسلت رسولاً لعماتي يخبرهن بوجهتي و انطلقت بجيوشي إلى عالم البشر ..
و عندما وصلت رأيت دماءً و جثثاً في كل مكان .. طرت إلى أن وصلت إلى قصر حوله جنود ، أخذت الجن الطيار كلهم و ضربوا القصر بأحجار من نار كانت هذه بداية المعركة في عالم البشر

***
رمينا الحجارة النارية على القصر و تحطمت البوابة ، و عندها هب جنودي للقتال ، ظهر ” يوردفاردا ” أخيراً و ظهرت أمي معه و الدموع تملأ عينيها ..
كانت النيران تتطاير من كل مكان ، و الدماء تسفك و تجري كالأنهار ، و قد جند ” يوردفاردا ” البشر للقتال في صفه إلى جانب أتباعه من الجن ..

استمرينا بالقتال لمدة ، و طالبته بإرجاع أمي إلي لكنه لم يقبل و تحداني ، و من شدة غضبي أطلقت طاقةً رهيبةً جعلت حولي هالة من النار ، وحملت سيفين ضخمين و طرحت جنوده و حراسه أرضاً ، قتلتهم و حرقت جثثهم ، حتى العمالقة لم يستطيعوا الوقوف في وجهي ، عندها لم يبقَ أمام ” يوردفاردا ” سوى الهرب ..

طار بأجنحته و بين يديه أمي ، طاردته فأقدم على رمي أمي في الهواء لكن الفارس مرجان استطاع التقاطها و هرب بها عن ساحة القتال ، و تفرغت أنا لقتال ” يوردفاردا ” ، حاربته بكل قوتي …
في تلك اللحظة مر شريط حياتي كله أمامي ، تذكرت كل ما كنت أعانيه منذ طفولتي و حتى الآن .. تذكرت فقرنا و حرماننا من الطعام الفاخر كبقية الناس ، تذكرت معاناة أمي معي و تربيتها لي رغم الظروف ، تذكرت قسوة خالي و ضربه المستمر لأمي ، تذكرت كل الكلام الذي سمعته عن والدي و كيف قتل .. غضبت كثيراً و اشتعلت بقلبي رغبة الانتقام ، غبت عن الدنيا و لم أعي شيئاً إلا بعد أن سقط ” يورفاردا ” جثةً هامدة ..

نزلت بين جنودي الذين قتلوا كل جنود ” يوردفاردا ” ، ثم بعدها توجت سلطانة و اعتليت العرش .. عرش ” آزيزيف ” و مع ذلك لم أكن سعيدة .. كنت أفكر بأمي لذلك عدت لعالم البشر و بحثت عنها و وجدتها بعد سنوات طويلة من الفراق ، و قد شاب شعرها ، عدت بها إلى عالم الجن ، و أمام الكل جمعت جنودي المخلصين و أردت أن أريح قلبي فقلت لهم :
أنا السلطانة مريم ، نشأت و تربيت في عالم البشر منذ طفولتي ، لم أعرف شيئاً عن أبي ، لم أعرف من هو أو كيف كان شكله أو صوته و حتى أسمه .

نشأت في عائلة فقيرة شبه معدمة مع والدتي و أخوالي الثلاثة الذين لم تعرف قلوبهم الرحمة أبداً ، كنت أنا و أمي نتعرض يومياً للضرب و السب ، إلى أن جاء يوم عرفت فيه حقيقتي … عرفت أني نصف جنية و أني الوريثة الوحيدة لعرش جدي و والدي … التقيت بعمتي ” يوقاترا” بعد أن طردني خالي من بيتي ولم يسمح لي بالعودة أو حتى توديع أمي ، و جلبتني إلى هنا .. و منذ ذلك الوقت و أنا حبيسة هذا القصر ، حافظت على سري و هو أني نصف بشرية تجنباً للعار و لحكم العرش ، حرمت من رؤية أمي لسنوات طويلة ، حكم علي أن أقاتل عدو سلالتي و أن أتخلص منه ، و فعلاً استطعت قتله و القضاء على أتباعه ، و استرجعت حق الحكم لسلالتي ..
توقفت عن الكلام و رأيت الصدمة التي ارتسمت على ملامح جميع الحاضرين ، لذلك تنازلت عن العرش لعمي الأكبر ” اولفاغتراس ” الذي لطالما ساندني في المعارك ، و رحلت و سكنت بقصر منعزل يصل بين عالم البشر و عالم الجن ..

بقيت هناك لسنين توفيت خلالها أمي .. و في إحدى المرات قام ” مرجان ” بزيارتي ، هو الوحيد الذي لم يتخلى عني .. في الحقيقة طلبني للزواج و وافقت فكلانا تائه بين عالمين ، و لا يعرف لأي عالم ينتمي ، وجدت معه الأمان و الحنان اللذان افتقدتهما طيلة حياتي السابقة ، و رزقنا بعدها بطفلين .. ولد و بنت ، أسميتهما ” آيزامارد ” و” إيزام ” على اسمي أمي و أبي .. هذه هي حياتي المغتربة ، و هذا هو عالمي المزدوج ، الذي تهت فيه منذ طفولتي و سأبقى تائهةً فيه حتى .. مماتي .

تاريخ النشر : 2016-08-09

guest
60 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى