أدب الرعب والعام

فتاة اسمها أحمد (الجزء الثالث)

بقلم : محمد القصراوي – المغرب
للتواصل : [email protected]

فتاة اسمها أحمد (الجزء الثالث)
هل هو موعد مع الذات ؟ أم أن هذه الرحلة هي رحلة البحث عنها ؟

كثرت الأسئلة على أحمد، كم هي صعبة ومريرة الأسئلة المرتبطة بالذات و المصير.

لكن عن أي ذات وعن أي مصير نتحدث ؟

أسئلة كثيرة ومعقدة ليس لها حل ولا جواب ، وهل الحلول والأجوبة تأتي بهذه السهولة ؟

أحمد لم يعد ينام إلا نادراً , و حتى عندما ينام لا تنام معه تلك الأسئلة والكوابيس، صارت ترافقه أينما حل وارتحل، باتت ترافقه في صحوته كما في منامه. لم يعد أحمد كما كان ,بات أقرب إلى حافة الجنون من كثرة الأسئلة التي لم يجد لها جواباً .

لما أحس بحر وتعب شديدين على الرغم من تخليه على أغلب الملابس التي تثقله و تخفي ملامحه الأنثوية ، ولما الوقت وقت ظهيرة وكانت الشمس فوق رأسه مباشرة تذهب معه أينما ذهب – كان يمشي تارة ويهرول تارة أخرى كما لو أنه تخلف عن موقع هام وضروري.

هل هو موعد مع الذات ؟ أم أن هذه الرحلة هي رحلة البحث عنها ؟

ما أغربها من رحلة ! إنها رحلة من المعلوم – منزلهم- إلى المجهول، يمكن أن نسميها رحلة البحث عن المجهول، وكم هي مجهولة تلك الوجهة التي سوف يذهب إليها أحمد .

من يعلم، ربما كان سبب هذه الرحلة هو نوع من الهروب، هروب من الواقع المزيف الذي وجد نفسه فيه وفرض عليه أن يؤدي فيه دور شخصية مزيفة إلى واقع حقيقي يبحث فيه عن شخصيته الطبيعية والحقيقية.

بدأ أحمد يحس بإعياء وتعب شديدين، كان الوقت وقت الغروب، وجد نفسه جالس قبالة حمام شعبي خاص بالنساء، استوقفه مشهد دخول النساء وخروجهم من باب الحمام، يدخلون في هيئة ويخرجون في هيئة أخرى، أليس هذا هو دور الحمام في الحقيقة ؟

تساءل في قرارات نفسه : لماذا حرم علي الدخول إلى هذا المكان رغم أنني امتلك صلاحيات الدخول إليه ؟ ألست امرأة مثلهم ؟ أوليس من حقي أن أدخل إليه أنا كذلك ؟

وفي خضم هذه التساؤلات، لم يعي أحمد حتى وجد نفسه قد تجاوز عتبة ومدخل الحمام الشعبي المخصص للنساء، نادته المشرفة على الحمام – تسمى في بعض الدول المغاربية بالجلاسة أو الطيابة – بعدما شكت في أمر هذا الوافد الجديد الذي تبدوا عليه أمارات الدهشة والاستغراب .

لما اقترب منها هذا الوافد نحوها رحبت به، ثم سألته عن اسمه.

وجد أحمد نفسه في مأزق لما وجه إليه هذا السؤال، فهو الذي طالما طرح أسئلة لم يجد لها جواباً، إنها لعبة الأسئلة من جديد، ولما طال انتظار “الطيابة” على الرغم من أن مثل هذه الأسئلة لا تحتاج إلى وقت وإلى تفكير البتة، عجل أحمد بالجواب لتدارك هذا الموقف بأن اسمه عائشة، هو نفسه لم يعرف كيف تلفظ بهذا الاسم ، ولا كيف خطر على باله .

ردت عليها “الطيابة” مرحباً بك في حمامنا ، اعطتها كرسياً، تفضلي، اجلسي، بعد فاصل صمت، انصتت وأصغت “الطيابة” للتي أمامها، حكت لها أنها هربت من منزلهم بسبب مشاكل عائلية لا تنتهي، لم ترد إخبارها بقصتها الحقيقية خوفاً من عدم تصديقها.

لما انهت المسمى عائشة كلامها ، شفقت على حديثها “الطيابة” – التي سوف تكتشف أن اسمها حفيظة فيما بعد – واقترحت عليها أن تقيم عندها في بيتها إلى أن تجد حلاً لوضعها هذا، فهي التي – حفيظة- لطالما كانت تبحث عمن يتولى رعاية أخوها الأعمى الذي تتركه وحيداً في المنزل عندما تتكلف هي بأمور الحمام، لقد كان يقاسمها البيت، لن يكون هنالك حرج إن هم صاروا ثلاثة .

غربت الشمس، قطعت حفيظة مع ضيفتها الزقاق المؤدي إلى المنزل، لما وصلتا، لم يكن شقيق حفيظة موجوداً في المنزل وقتها، لقد جعل من الخروج والتجول مساءاً عادة يكسر بها ذلك الصمت و العزلة اللتين كان يعيشهما، فحفيظة أخته لم تكن تشاركه المنزل إلا عندما يسدل الليل ستاره، لقد رعته منذ طفولته، لقد كانت طفولته صعبة، فهو الذي فقد البصر منذ طفولته، وماتت أمه وتركت وصية تربيته في عنق حفيظة، لقد كبر الآن وصار رجلاً، رغم ذلك لم يتراجع ذلك الحب والافتخار الذي تكنه نحوه، كيف لا تحبه وهو الغصن الوحيد الذي بقي من شجرة العائلة، كانت تسعى جاهدة أن توليه العناية اللازمة لكي لا يذبل هذا الغصن ويموت .

اعتبرت حفيظة أن هذه الضيفة جاءت في وقتها المناسب، فأخوها “علي” كبر و كثرت معه مطالب العناية والاهتمام به.

قامت حفيظة بجولة قصيرة مع ضيفتها في أرجاء المنزل، هنا المطبخ، وهنا قاعة الجلوس، وهذه هي الغرفة التي ينام فيها أخي، وهذه هي الغرفة التي سوف نتقاسمها نحن الاثنتين، مع شرط واحد هو الاهتمام بالمنزل وشؤونه والعناية بأخي “علي” .

من فرط تعبها من تابعيات هذا اليوم والأيام التي سبقته، نامت عائشة مباشرة بعدما لمس وجهها الوسادة، نامت ليلتها نوماً عميقاً كم اشتاقت إليه .

لكن، ما السبب الذي يكمن وراء هذا النوم العميق ؟

كان هذا أول شيء خطر على بالها مباشرة بعد استيقاظها، ربما كان سببه وضعيتها الجديدة . أتدرون كم كانت سعيدة ذلك الصباح، وكم كانت فرحة وهي تقوم بأشغال المنزل، إنه العقد المبرم بينها وبين حفيظة، لكنها لم تكن لتقرب تلك الغرفة التي يتواجد فيها “علي”، تساءلت :

ترى هل حدثته حفيظة عني ليلة أمس بعدما نامت؟

وهل سيتقبلني ويرحب بي كضيفة عندهم ؟

أثناء قيامها بأشغال المنزل ، سمعت صوتاً ينادي باسمها يصدر من الغرفة التي ينام فيها علي.

أجابت” أنا حاضرة”، برزت علامات الخجل بادية على محياها، فهي التي لم تعهد لها اسماً بهذا الاسم الأنثوي، و ما زادها خجلاً هو أن يتلفظ به رجل .

لما وقفت أمام باب الغرفة، قرعت الباب، جاءها صوت رجولي يأمرها بالدخول.

فتحت الباب، أمرها “علي” بأن تجلس على كرسي قبالته.

اجلسي، لقد حكت لي حفيظة ليلة أمس، و حكت لي عن قصتك و تأسفت لحالك، فأجبتها خير ما فعلتِ وجعلتها ضيفة عندنا، فمرحباً بك مجدداً في هذا المنزل المتواضع، من اليوم فصاعداً المنزل منزلك، ونحن عائلتك الجديدة.

عندما انتهى من حديثه، بادرته عائشة بتقديم كلمات شكر لما قدموه لها، لقد تركت كلمات الترحيب هذه وقعاً في نفسها، فهي التي كانت تخاف أن ترفض من طرف أخو حفيظة.

بعد برهة صمت، بادرها بالكلام ثانية، كما تعلمين من قبل، وكما تلاحظين الآن، فأنا رجل أعمى، أعتمد على نفسي طيلة تواجدي بمفردي، لكن على الرغم من هذه العاهة التي أحملها معي منذ طفولتي، لم أجعل من العمى عائقاً أمامي، كنت احضر وجبة الفطور والغذاء بنفسي .

قبل أن يكمل حديثه قاطعته عائشة – لأنها رأت الفرصة مواتية لتبادله الكلام – أنت تفعل كل هذا عندما تكون بمفردك، أما الآن فلديك ضيفة وخادمة تحت إمرتك، ومن الآن وصاعداً فأنا التي سوف أنوب عنك في تحضير وجبتي الفطور والغذاء وإعانتك في كل ما تحتاجه، فكما قلت لك أنا الآن صرت تحت إمرتك، هذا إذا لم يكن لديك مانع.

ضحك علي وقال: طبعاً ليس هناك أي مانع، لكن بشرط أن تنجحين في الامتحان الذي سوف أضعه لك.

أجابته عائشة بابتسامة، تفضل سيدي ما هو هذا الشرط ؟.

سوف أختبرك ، سأدعك تحضرين لنا وجبات اليوم، وإن أعجبني طهوك وما صنعت يداك، سوف تتكفلين بالطبخ والطهو.

لما وافقت على هذا الشرط، تفننت عائشة ووضعت كل خبرتها ومهارتها في طهو وجبة فطور ذلك اليوم، لقد كانت تريد أن تستميل ذوق علي .

لما انتهى من تناول وجبة الفطور قال لها مازحاً : لقد نجحت في الشق الأول من الاختبار، في انتظار الاختبار الثاني . فهمت عائشة من كلامه أن الاختبار الموالي هو وجبة الغذاء، أرادت أن تهيئ له “طاجين مغربي” من أرفع ما يكون، غذاء يلعق وراءه أصابعه .

أسرعت الخطى قصد الذهاب إلى السوق لشراء مستلزمات وجبة الغذاء من خضر وفواكه.. وبنفس الخطى المسرعة رجعت عائشة من السوق وهي محملة بكيسين ممتلئين عن آخرهما، لكن هذه المرة شكت في أن هناك من يتبع أثرها.

من يكون يا ترى؟

أجابت في قرارات نفسها أن من يتبعها إنها هو شخص يسلك نفس الطريق الذي تسلكه هي ليس إلا، ذلك ما خمنته ولم تعر الأمر أكثر من ذلك .

حل المساء، لم يخرج علي في جولته المعهودة، بل جالسَ ضيفته الجديدة على سطح المنزل، لقد كان الجو مناسب لهكذا جلسة، جلسة تفوح منها رائحة الشاي المغربي.

لقد بدأت عائشة ترتاح إلى هذه الشخصية على الرغم من أنها لم تتعرف عليه إلا منذ أيام معدودة، لعبة الصدفة دورها في الاتقاء بهذه الشخصية التي بدأت تتسلل إلى حياة عائشة رويداً رويداً.

الوقت وقت الغروب، إنه الوقت الملائم للتعبير عما يجول في خاطر الإنسان، لقد وجد علي الفرصة مناسبة ليبدأ الحديث عن نفسه، بدأ يسرد وفق تسلسل تاريخي منذ أن كان طفلاً وكيف ماتت أمه وهو صغير السن، وكيف بدأ يفقد بصره مع مرور الوقت، وكيف أعالته أخته وربته حتى صار رجلاً .

في المقابل، كانت عائشة تصغي إليه بانتباه شديد، إن الاستماع إلى دواخل ومشاعر الآخرين الصادقة في الحقيقة تحريك للمشاعر، إنه كلام من القلب إلى القلب، و أمام كل هذا لم تكن عائشة لتقاطعه، فهي التي تعلم أنه بمجرد الانتهاء من سرد أطوار حياته سوف يعطيها الفرصة لتتحدث هي عن نفسها.

لكن عن أي شيء سوف تحدثه ؟

هل سوف تصارحه بمن تكون ؟

هل ستحكي له عن قصتها ؟

لما أحست نحوه بشيء أقرب إلى الانجذاب، ولما أحست بطمأنينة وسعادة في شخصيتها الجديدة هاته، لم تشك في أنه سوف يتفهم وضعيتها إن هي صادقته وصارحته، لم تكن لتخون العهد الذي بنيت عليه هذه العلاقة ألا وهو الصدق.

كانت تخاطبه كمن تخاطب نفسها، لقد حكت له عن قصتها، من منكم الآن لم يعد يعرف قصتها، تحكي له والدموع تنزل من مقلتيها.

لم يتمالك علي نفسه أمام هذا الفيض الجارف من التعابير الصادقة الممزوجة بطعم الألم و المعاناة والدموع، لقد شاركها البكاء صامتاً، إنها أغرب وأحزن قصة سمعها، فهو الذي كان يقول أن لا شيء في هذه الدنيا يستحق دموعه الغالية، لكنه لم يكن يعلم أنه سوف يبكي على ذات أخرى ليست ذاته هو، ذات أصبحت قريبة جداً منه إلى درجة لم يعد يلمس فرقاً بينهما.

اعلمي أن من يريدك ,عليه أن يريدك أنت ، ومن يحبك عليه أن يحبك أنت كذلك، لقد أرادك الله أنثى، ومن أرادك كذلك فقد أراد مشيئة الله ، كان هذا رده وتعليقه بعدما انتهت عائشة من سرد قصتها .

ليلتها، لم يناما هما الاثنين، كان كل واحد منهم يسترجع شريط ذكرياته هو تتخللها في بعض الأحيان شريط ذكريات اٍلآخر، لكن القاسم المشترك بينهم كان الألم و المعاناة .

برز أفق يوم جديد، وفي حوالي الساعة العشرة صباحاً، سمع وقع دقات قوية على الباب، ذهبت عائشة مسرعة نحو الباب، لما فتحته كانت الصدمة، أتعلمون من كان خلف الباب؟

إنه عمها “المعطي” ومعه ذلك الشخص الذي كان يتبع خطواتها ويترصدها مساء أمس.

في ثورة غليانه خاطبها عمها : لقد كذبت علينا كما كذب علينا أبوك من قبل، والله لن أسامحكم أنت وأبوك .

لم تجد المسكينة بداً سوى الهرب، لكن إلى أين؟

لم تتوقف إلا في أخر ركن في المنزل -المطبخ- تبعها وانقض عليها بكلتا يديه نحو عنقها، لقد أراد أن يقتلها، خنقها، كادت تنقطع أنفاسها لولا ذلك السكين الذي وجد مكانه في صدر عمها، جثى على ركبتيه وسقط ميتاً وبقعة الدم تزداد اتساعاً.

نطق القاضي بعد أسبوع من هذا الحادث : حكمت المحكمة حضورياً على المتهم أحمد …

كانت مجرمة في أعين الجميع لكنها كانت بريئة في نظر علي، أتدرون كم بكى عليها ، أقسمَ أن لا يتخلى عنها مهما طال الزمن أو قصر، أقسم على أن ينتظرها حتى ولو وهو في القبر، فهو الوحيد الذي يعلم قصتها الحقيقية .

كان يزورها مرتين في الشهر وفق القانون المعمول به في السجن، لما كان يقابلها في أوقات الزيارة كان يتلمس وجهها لكي يحتفظ ويخزن ملامح وجهها، لقد أحبها كما لم يحب أحد سواها، وهي أيضا أحبته وبادلته إياه، فكيف لا تحبه وهو الشخص الوحيد الذي بقي بجانبها رغم كل ما حصل .

لقد أحبها حب الفؤاد وأحبته حب البصر، حب توطدت أركانه بأن طلب علي من المدير أن يتم عقد قرانهما داخل أسوار السجن .

انتهى .

تاريخ النشر : 2016-08-21

guest
29 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى