أدب الرعب والعام

عن الحرب

بقلم : البراء – مصر
للتواصل : Baraa.wri@gmail

عن الحرب
سأحكي عن الألم.. و عن الحرب

تعال يا هورد..

تعال اجلس و دعني أحكي لك شيئاً مختلفا اليوم.. لطالما صدع جدك العجوز رأسك بالحكايات الزائفة عن المثالية الكامنة في الخير و لطالما كرهت أنت هذا الأمر.. لذا اليوم سأحكي لك شيء أكثر واقعية.. سأحكي عن الألم.. و عن الحرب .. أنت تعرف أن الحرب انتهت منذ زمن بعيد.. حرب استمرت أعواماً طويلة و خلّفت ورائها قتلى بالملايين.. كنا أقوياء نجتاح العالم.. لم يصدّق أي أحد ما فعلناه آنذاك.. العالم كان يهتز لإنجازاتنا.. الدول جميعها كانت تخافنا.. على عكسنا نحن.. لم نخف من أي أحد.. لازلتُ أذكر الأمر جيداً.. ذلك اليوم.. العلامة الفارقة في تاريخنا.. الثلاثين من أبريل عام ١٩٤٥ .. لن أنساه أبداً ما حييت….

كان هذا اليوم الذي مات فيه قائدنا.. أدولف هتلر.. و لكني لم أنسى هذا اليوم بسبب هذا فقط.. بل لسبب آخر.. في هذه الأيام كنا نحاول بكل قوانا جاهدين دفع السوفييت خارج برلين.. لكنهم كانوا كالجراد يأتون من كل صوب.. و برلين كانت تحترق.. يقولون أن دخانها قد غطى السماء كلها.. أنا كنت هناك و دعني أخبرك الحقيقة.. الحقيقة هي أن برلين لم يغطي دخانها السماء فقط.. بل غطى دخانها كل شيء.. كانت عبارة عن كتلة عملاقة من الدخان.. في كل إنش كنت ترى و تستنشق دخانا.. أضف إلى هذا أصوات القذائف و الانفجارات المختلطة بأصوات الصراخ المختلط بالألم..

لم نكن نظن أبداً و نحن في قمة مجدنا قبل أشهر أن يأتي هذا اليوم الذي سنضطر فيه للانسحاب و الدفاع عن مدينتنا.. من المؤلم أن تتلقى الخسارة.. لكن من المؤلم أكثر أن تكون أنت الفائز و الاقوى ثم تخسر خسارة شنيعة.. لم أنسَ وجه قائد كتيبتنا و هو يقول بوجه غاضب “لا تدعوهم يدخلون.. لا تدعوا فأراً يدخل”.. كان هذا في بداية أبريل قبل أن يكونوا قد توغلوا بشكل مرعب داخل برلين.. صديقي هانز كان هناك أيضاً.. هانز أه يا إلهي!.. من هو هانز.. يمكنني ان أصفه لك..

هانز كان شعره أصفر كمعظم الألمان آنذاك.. لديه عين واحدة فقط.. فقد الأخرى.. كان من ذلك النوع الصامت الذي لا يتحدث كثيرا.. تجده دائما يراقبنا بصمت…. لا أعرف لماذا كنت أنا الوحيد الذي يعامله بلطف هناك.. ربما لأنني رأيت أنه طيب أكثر من اللازم.. و ربما لأن باقي الزملاء كانوا متحجري القلب.. كنا في حرب و هذا كان يجبرهم على أن يكونوا كذلك.. الحرب لا ترحم الرحماء.. جملة قالتها لي أمي قبل أن ينتزعوني منها انتزاعاً كالطفل الصغير.. أرادت أن تخبرني أنني حتى و لو رحمت الأشخاص فالآخرين لن يرحمونني أبداً.. و سواء كنت طيباً أم لا تأكد من أنك ستتعرض للإهانة هناك و بأبشع الطرق.. مزاحهم كان قاسياً بحق.. كانوا دوماً يقولون لهانز أشياء من نوع..

يا رجل أنا أحسدك على هذا بعينك الواحدة هذه لن تضطر إلى إغماض الأخرى كي تصيب الهدف.. و هل كانت عينك اليمنى زرقاء مثل اليسرى.. و الكثير الكثير من هذه الأشياء التي من المفترض أن تكون مزاحاً و ربما نكاتاً يضحكون عليها حتى الاختناق كذلك.. لكني كنت أرى أن ما يفعلونه ليس آدمياً.. لكن يا هورد أنا أضحك حينما أتذكر هذا.. لأن ما كنا نفعله بالآخرين آنذاك كجنود لم يكن آدمياً أبداً و لكن مشاعرنا كانت تنجرح لمثل هذه الكلمات.. أما هانز فكان يسمع فقط.. ماذا عساه أن يفعل.. يبدو عليه الضيق و لكنه لا يرد.. تعرفنا أنا و هانز في يونيو عام ١٩٤٢ ..

كان الأمريكيين حينها قد بدأوا بالتحرك.. و كنا نحتاج لكتيبة شجاعة تقاوم هجماتهم الجوية.. لذا أعطونا كتيبة الشجعان.. و لو أنني كنت أفضل اسم كتيبة الحمقى الذين لا يعرفون أي شيء.. هكذا أعطونا كتيبة لا تهاب الموت ليس لأنهم شجعان بل لأنهم لا يعرفون إلى أين هم ذاهبون و ما الذي سيفعلونه.. الأمريكيين كانوا أذكياء جداً.. لقد حددوا لأنفسهم الطرف الذي سيفيدهم في النهاية ثم انتظروا بعض الوقت حتى تستنزف قوى الطرف المعادي ثم بدأوا بالهجوم و إنزال الأسلحة للحلفاء.. المثير للدهشة أنهم – كتيبة الحمقى- قاموا بعمل رائع فعلاً فيما يخص بإسقاط الطائرات.. لا يمكنك إلا أن تتوقع الفشل لمثل هؤلاء.. لكن الحياة تفاجئنا دوماً.. و الواقع أن تلك الكتيبة أعطتنا بعضاً من المجد نحن كذلك..

كان هذا في البداية بالطبع.. قبل يتم إبادتهم كلهم عن بكرة أبيهم…. نحن كنجود لم نعرف بالضبط ما حدث هناك.. و كل ما عرفناه آنذاك أن الناجي الوحيد هو هانز.. ربما سماه البعض محظوظاً وقتها و لكنهم لم يكونوا يعرفون قصته الحقيقية.. هكذا وجدنا بيننا جندي جديد.. بعدما توطدت علاقتنا بدأت أعرف أكثر عن شخص اسمه هانز.. و كنتاج لهذا وجدت نفسي أسمع قصته بلسانه هو شخصياً.. قال لي في يوم من أيام يناير البيضاء..” ولدت من عائلة غنية.. يمكنني أن أقول أننا كنا من بين الأغنى في ألمانيا.. لكننا لم نستمر هكذا على أي حال.. لا شيء يستمر على ما هو عليه يا رفيق”.. بالطبع هانز كان محقاً كل الحق.. أكمل و هو يرتجف..” لكن أبي هرب.. لا أعرف إلى أين.. الواقع لا أحد يعرف إلى أين و لكن حتماً إلى عاهرة ما.. زوجة أخرى غير أمي ربما..

لكن قبل أن تشتمه يا رفيق يجب أن تعرف أنه لم يأخذ مالاً معه.. لقد تركه لنا كله.. لا أعرف لماذا و لكن مهلاً أكان يجب علي حينها أن أشغل بالي بكيف و لماذا هرب و لم يأخذ أموالنا أم أحمد الله على أنه لم يأخذ ممتلكاته كلها معه.. كنا أغنياء و لدينا مزرعة في الجنوب و أمي لديها ذهبها و لدينا أيضاً منزل في – ولاية ما – .. كان يمكننا أن نعيش كالملوك.. الوضع الاقتصادي لألمانيا حينها لم يسمح لنا بفعل الكثير بالطبع.. و لكننا كنا ننتعش بالفعل.. بسبب القروض التي أخذناها من أمريكا.. هؤلاء الثعالب.. كنا مضطرين لأن ألمانيا كانت حالتها سيئة حقاً بعد الحرب العالمية الأولى و أنت تعرف هذا جيداً يا رفيق.. أي طفل صغير يعرف هذا”..

لم يبد لي هانز بهذه الطيبة حينها.. إنه يعرف الكثير بالفعل.. استوقفته هنا قائلاً..” لكن إذا كنت غني بهذه الدرجة لمَ لم تهرب إذن ؟”…

نظر لي نظرة حزينة ثم أكمل..” في تلك الفترة كنا نفكر في الهرب بالفعل.. لكن أمي لم تخبرني.. لم تخبرني بأي شيء..” ثم ظل صامتاً لفترة طويلة قبل أن أسأله أنا بفضول” لم تخبرك بماذا ؟”..

انحنى على الأرض ثم بدأ يتحسس الثلج و هو يقول” لم تخبرني بأن لديها عشيق “.. قالها ثم وقف مجدداً و هو يمسك بكتلة الثلج في يده.. أكمل بصوت خافت بينما يعبث بالكتلة” كانت تحب أحد التجار.. تاجر خمر.. أحبته و لم تستطع أن تفر من ألمانيا من دونه.. ” صمت بعدها و رمى كتلة الثلج من يده قبل يستطرد و هو ينظر للأفق” لربما تركنا أبي لهذا السبب.. ربما عرف أنها تحب شخص آخر غيره و قرر.. أتعرف يا توم.. أحيانا أحاول أن ألوم أبي على ما حدث.. لكن في كل مرة أفشل في هذا.. لا يمكنني لوم أبي أبداً…. هناك ذلك الصوت الذي يقول لا تلمه على ما فعله يتكرر في رأسي كل مرة أفكر فيها بالأمر.. نفس الصوت يقول أيضاً و لا تلم أمك كذلك.. ذلك التاجر الذي أحبته.. كان حقيراً.. أحقر شخص عرفته في حياتي..

خدع أمي التي توددت له كثيراً حتى بدأت تعطيه من مالنا.. مال أبي.. في البداية ألف مارك.. ثم ألفين.. و يتضخم الرقم مع كل مرة.. وأمي كانت تعطيه.. بكل رضا العالم.. لو عرفت حينها لكنت قد أنهيت كل شيء.. لكنها لم تخبرني.. بالطبع بعد فترة لم تعد تستطع إعطاءه المزيد.. لكن الرجل كان مقامراً.. من النوع الذي يخسر فيعود كي يعوض الخسارة لكنه يخسر مرة أخرى.. يعيش في دائرة لا متناهية من الخسارة .. و الحق يقال أنا كنت ألاحظ أن دخلنا من المزرعة يقِّل لكن لم أكن أعلق.. لم أكن أعرف أي شيء حينها.. فيما بعد و في يوم من الأيام.. حينما رجعت إلى المنزل ليلاً و وجدت أمي ملقاة على الأرض و جسدها مليء بالكدمات .. عرفت أن معشوقها قد فهم منها بأننا نملك مزرعة كبيرة في الشمال..

عرفت بأنه بدأ يدرك أن منجم الذهب الخاص به بدأ ينفذ.. عرفت أنه أرسل ثلاثة رجال أشداء كي يبحثوا عن أوراق ملكية المزرعة و يسرقوه من منزلنا.. عرفت بأنها قاومت بشدة أو حاولت أن تقاوم.. لكنهم ضربوها.. ضربوا امرأة.. و أنا لم أكن موجوداً ..” ثم صمت بعدها.. اعتقدت إنه لن يتكلم مجدداً.. و بأنه سيصمت للأبد.. لكنه قال فجأة” لكن مرة أخرى لم أكن أعرف.. لم أكن أعرف أنها لازالت تحبه بعد كل هذا.. لو كان قد طلب منها كل شيء لكانت قد أعطته كل شيء بما فيه ما أرسل الرجال من أجله.. ما حدث بعد ذلك هو أنها ذهبت له مرة أخرى.. تستعطفه.. تباً للحب يا توم.. و قد كنت معها أحاول أن أعرف من هو الذي فعل بها كل هذا.. كنت أخطط لقتله.. بعد أن أخذ منه ما سرقه منا بالطبع..

لذلك و بمجرد أن عرفت من هو أمسكته وسط نادي القمار الذي كان فيه و وضعت السكين على رقبته مهدداً إياه.. كان الجو مملوء على آخره بالكهرباء الزائدة من الأساس.. لأنه يبدو أن أحد الرجال المهمين قد خسر مبلغا كبيرًا.. بدأن بعض النادلات تصرخ و بدأ بعض الرجال يشتمون لكنني أتكلم بصوت واضح في أذنه.. أخبرته بأن يعطينا كل شيء سرقه منا.. من وسط الصراخ كان يمكنني أن أميز صوت أمي و هي تصرخ علي هي الأخرى.. هي الوحيدة التي تجرأت و اقتربت مني.. كانت خائفة من أصيبه بأذى..

لم أكن أتوقع بأنها ستمسك يدي التي بها السكين ولا أن يستغل الوغد هذا الأمر و يضربني بكوعه كي يهرب.. أنا لا أعرف ما الذي حدث بالضبط حينها.. كان التوتر يسود المكان.. لكن ما أذكره هو أنه بعد ضربني هذا الوغد اختلّ توازني و اهتزت يدي ثم وجدت السكين و بطريقة ما..”

سكت قليلاً ثم أشار بيده لعينه التي فقدت وظيفتها و هو يردف” أعطتني هذا “

ثم لم يكمل بعدها.. حتى قلت أنا بصوت متحشرج” و ماذا حدث بعدها ؟”

نظر للسماء ثم قال” سقطتُ على الأرض و أنا أصرخ ناثراً دمائي في كل مكان.. بينما سقطت أمي بجانبي و هي تبكي و تحاول أن تعرف ما إذا كنت بخير أم لا.. بعدها تجمعوا حولي و بدأ بعضهم يكيل الركلات و اللكمات في حين كانت أمي تحاول إيقافهم.. نجوت بعد كل هذا بعناية إلهية.. أخذ مني الأمر أشهر كي أعتاد على شكلي الجديد.. أما أمي.. فأخذ منها الأمر أسبوعين كي تنسى ما فعلوه بابنها.. كنا نحتاج للمال لذا ذهبت له محاولة أن تجعله يرجع لها أوراق المزرعة.. أو يعطينا من دخلها على الأقل.. بالطبع رفض.. و في المقابل عرض عليها أن تعمل كنادلة في نادي القمار بمرتب زهيد.. و وافقت.. ستكون بجانبه طوال الوقت على الأقل.. حاولت كثيرا جداً و بكل ما أملك أن أثنيها عن قرارها لكنها أصرت.. هي كانت تحبه بالفعل.. و الحب يفعل أشياء عجيبة.. آه لو تعلم ما الذي قد تفعله أمي من أجله يا توم.. حاولت مراراً معها و لكنها كانت تزداد تمسكاً و إصراراً في كل مرة.. لذلك قررتُ المغادرة..

إذا كانت تريد هذا فهذه هي حياتها و أنا لا دخل لي بها.. و انقلبت الأدوار هذه المرة.. هي من حاولت أن تثنيني عن قراري هذا.. لكن كنت مُصرّاً كما كانت هي مُصرّة من قبل.. و في آخر لقاء لنا بعد أن تأكدت من أنني سوف أغادر المنزل حتماً أخبرتني بأنني لم أكن ابنها يوماً و بأنهم تبنوني بعمر سنتين من أحد الكنائس بعد أن تزوجا بعام و لم ينجبا أي أطفال .. لم أُصدم كثيراً.. لأن ما فعلته بي كان كفيلاً بأن يجعلني أشك في أنها أم لأي طفل أساساً.. كما ترى لهذا لم أستطع لوم أبي على الرحيل أبداً.. لأنه لم يكن والدي الحقيقي يوماً.. هكذا رحلت.. و هكذا انضممت بإرادتي إلى الجيش..”

الحقيقة هي أنه قد عانى حقاً.. لا يعرف أباه ولا حتى مكانه و فقد عينه بسبب مَن كانت من المفترض أن تكون أمه.. بل و فقدها هي نفسها بسبب مقامر عشقته.. إن الفتى لديه أسباب لكي يكون صامتاً طوال الوقت.. و هكذا توطدت صداقتنا أكثر و أكثر حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم.. الثلاثين من أبريل عام 1954.. كان السوفييت كما قلت قد توغلوا كثيراً داخل برلين.. و مالم يعرفه أحد أن كتيبتنا بالإضافة لبعض الكتائب الأخرى كنا خط الدفاع الأخير في برلين.. لأننا كنا الوحيدون الذين تمكنوا من الصمود في وجه اجتياح السوفييت.. الضغط النفسي كان رهيباً بحق.. نحن كنا على وشك القتال حتى الموت لذا كان من الطبيعي أن يبكي بعضنا بصمت بينما يدعو الآخرين.. و من وسط كل الجنود كان هناك جندي واحد يجلس و يتناول بسكويتهُ بهدوء مثير للإعجاب..

إنه هانز لابد من أن يكون هانز.. كنا جميعا بانتظار إشارة الهجوم.. تلك القذيفة التي سيطلقها علينا العدو.. ستظهر من العدم بالتأكيد و حينما يحدث هذا ستكون هذه هي صافرة البداية… خط الدفاع الأخير ضد هجوم السوفييت الكاسح.. لم نكن نعرف أن هتلر قد انتحر وقتها بالطبع.. و إلا لما كنا لنكون في أماكننا.. كنت أنظف سلاحي بصمت و خوف حينما سمعت صوت هانز يقول من ورائي ” آسف يا رفيق ” ..بعدها شعرت بصدمة كبيرة اهتز لها رأسي و بصري بشدة.. ثم بالطبع فقدت وعيي بعدها.. استيقظت وسط صرخات و صياح كبير.. صياح باللغة الروسية..

لابد من ان السوفييت انتصروا إذاً.. من تقاليد الحرب هي أن يمر رجل على قتلى الجيش الآخر و يحاول بقدر الإمكان أن يتأكد من أنهم أموات بالفعل.. أنت لا تريد أن ترى ذلك المشهد الذي يكون فيه أحد الجنود على وشك الموت لكنه يقرر فجأة أنه لن يموت من دون أن يأخذ أحد معه فتجده يخرج قنبلة و يفجرها في نفسه و في جنود الطرف الآخر.. مشهد انتحاري سينمائي رائع.. رائع لو كنت تشاهده فقط بالطبع .. أما أن تجده يحدث معك فهذا كلام آخر.. المهم أنهم و كما قلت من قبل يرسلون رجلاً لكي يتأكد من موتهم بشكل تام.. و بالتأكيد لا توجد طريقة غير إفراغ خزنتين أو ثلاث في جثثهم.. و هكذا وجدت رجل يقترب مني و معه يقترب صوت سلاحه.. من يراني من بعيد فسوف يقول أنه ميت بالطبع.. ليس لأسباب كثيرة فقط لأني كنت وسط الجثث..

و بينما كنت أفكر فيما سأفعله سمعت صوت هانز يتكلم بلغة لم أحتج للكثير من الذكاء كي أدرك أنها الروسية.. و كان يتحدث بطلاقة غريبة.. تبادل معه بعض الكلمات و الضحكات ثم بدأ الرجل يبتعد عن الجثث بعد أن أنزل سلاحه.. كل هذا و أنا لا أحرك ساكناً.. وجدت هانز يقترب مني فأزحت الجثة التي كانت علي ببطء و أنا أتألم.. و فجأة وجدت هانز بجانبي يقول ” انت محظوظ” .. كان يمسك بسيجارة و يتكلم بهدوء.. قلت له ” ماذا حدث.. ولماذا أنت تتحدث مع السوفييت.. و لم….” قاطعني و قال” توم يا صديقي الموضوع باختصار شديد هو أنني جاسوس.. أنا من ضربتك من الخلف و جعلتك تفقد وعيك ثم قتلت الكتيبة كلها من الخلف.. نعم خنتكم و كل هذا بسببي”.. بالطبع لم أكن لأصدقه لولا أنه كان يتحدث الروسية بطلاقة.. كما أنه لا يوجد وقت للتفكير و الاندهاش كذلك.. لذا قلت بصوت خفيض و أنا أفكر في الانقضاض عليه “انت تعترف إذن”.. قال و هو ينفث الدخان في استمتاع” نعم” ثم بدا أنه تذكر شيئاً ما فعاد يقول” أتذكر كتيبة الحمقى التي سميتها أنت بهذا.. أولئك الذين ماتوا في ظروف غامضة.. الكتيبة التي كنت أنا واحد منها سابقاً.. أنا من قتلهم كذلك.. و رتبت الأمر كي يبدو أنها غارة جوية..

طلبت من رئيسي إلقاء التحية على المكان الذي كنا نخيم فيه.. بعد أن قتلتهم بالطبع.. لذا كما ترى أنا خائن بالفطرة” توقف عن الكلام كي يسحب بعضاً من الدخان و أكمل ” لكن تباً إنسَ هذا كله.. تخيل كمية الجوائز و مراتب الشرف التي ستنهال علي.. جاسوس في وسط جيش الفوهرر.. أووه لا يمكنني أن أفكر”.. صمت قليلاً و عاد و قال “أنقذتك مرتين و الآن أعرض عليك أن أنقذك للمرة الثالثة.. أمامك حلين لا ثالث لهما.. أن تحاول الهرب من هنا كأن الجحيم يطاردك.. أو أن تقفز علي كي تكيل لي بعض اللكمات و ربما محاولة قتلي بأي سلاح من على الأرض.. و حينها ستحدث جلبة و سيأتون لك.. ماذا تفضل إذن ؟”..

و يجب أن أعترف.. القرار الذي اتخذته حينها لم يكن أصعب قرار اتخذته في حياتي يا هورد.. إن الأمر محسوم هنا.. و هذا واضح وضوح الشمس .. هكذا فررت بحياتي و كتبت مذكراتي عما حدث.. و حتى الآن لا أعرف ما إذا كان محقاً في قصته التي حكاها لي أم لا.. لكن أتعرف ما الذي تعلمته من كل هذا ؟.. تعلمت شيئاً واحداً.. و هذا الشيء هو أن الحرب خدعة.. لكي تفوز يجب عليك أن تخدع الآخرين.. يجب عليك أن تكون كالثعلب الخائن القاتل الكاذب.. لا مجال للشرف و النزاهة في الحرب يا هورد.

تمت

تاريخ النشر : 2016-08-24

البراء

مصر - للتواصل: [email protected]
guest
36 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى