أدب الرعب والعام

لــعبة الــــحياة

بقلم : **هــــــــــــــــــبـــــــــــــــــــة** – الجزائر

لــعبة الــــحياة
عدت وحيداً من جديد .. لا أهل لي و لا أحباب

– أبي .. ألن تلعب معي ؟
– سألعب معك لكن ليس الآن
– لماذا ؟ ماذا تفعل الآن ؟
– أكتب قصة حياتي
– و هل ستتأخر ؟ حسناً سأجلس بانتظارك ..
قبل أمجد ابنته ذات الخمسة أعوام ، ثم أمسك بقلمه و بدأ يكتب :

حدث ذلك في بلدتنا الصغيرة ، بين الأشجار الخضراء و الذكريات السوداء ، بين هذا و ذاك ، هل يمكن أن أنسى ؟ ربما.. فالزمن كفيل بمحو الهموم و الأحزان ..
لكن ما هي الحياة ؟ لماذا تعطي السعادة لغيري بينما تحرمني أنا منها ؟ لماذا تلعب بي و كأنني دمية بين يديهــا ؟
أذكر تلك الحادثــة و كأنهـا أمس ، كنت في الحاديـــة عشر من عمري حينها.. و لم أكن أعي شيئاً من هموم الدنيـــا .

في ذلك اليوم ذهبت للمدرسة حاملاً حقيبتي الثقيلة على ظهري ماشيـاً الطريق البعيدة ، رغم ذلك كنت سعيداً متفائلاً بغد أفضل ، فهذه أحوال أهل الــــريف ماذا نفعل ؟
كنت دائماً أفكر و أنا ذاهب إلى المدرسة بوضعنا ، فأبي كان بالكاد يستطيع تأمين متطلباتنا ، لذلك كنت حريصاً على العلم لأني كنت أريد أن أرفع رأس عائلتي عالياً و أحصل على مالٍ و فيرٍ بالعمل ، و بعدها لن يشعر أبي بالحزن أبداً ، هذا ما كنت أقوله في نفســي و أعزم على تنفيذه حينما أكبر ، هذه كانت طموحاتي كطفل يريد مساعدة أبيه .

وصلت إلى المدرسة و اصطففنا أمام باب قاعة الدرس إلى أن حضر المعلم ، فدخلنـا الصف و كل منا تختلف تعابير وجهه عن الآخر ، فهذا سعيد و ذاك حزين ، و آخر لا يزال يشعر بالنعاس إلى الآن.. جلسنا على المقاعد و بدأ الدرس ، كان يوماً عادياً جداً حتى كاد زملائي ينامون في قاعة الدرس من الملل ، فلا شيء مميز في ذلك اليوم …
لكن حدث أمرٌ غريب لاحظته ، و هو حضور مدير المدرسة –على غير العادة- للتحدث إلى المعلم رضوان ، و عليه خرج المعلم و أغلق الباب وراءه.. و بعد دقائق فتحه و نادى مشيراً إلي “تعال يا صغيري..”
حينها توجهت إلى الأستاذ و آخر شيء كنت أفكر فيه هو المصيبة التي وقعت علي فيما بعد..
سألته باستغراب :
– ماذا هناك أيها الاستاذ ، هل فعلت شيئاً خاطئاً ؟
وضع المعلم رضوان يده على كتفي و قال : لا يا بني لم تفعل شيئاً و لكن عليك الذهاب إلى المنزل الآن ..
– لكن يا سيدي الدرس لم ينتهي بعد ! لماذا أذهب إلى المنزل ؟
تدخل المدير قائلاً : والدك… قد مات

لا يتوقع أحد تلك الصدمـــة التي نزلت علي كالصاعقة .. قالها المدير بكل سهولة و لم يبالي حتى بشعوري وقتها ، ركضت بسرعة إلى المنزل راجعاً من تلك الطريق ثانيـةً و الدموع تملأ عيني و قلبي يخفق بسرعة ، و ما إن وصلت حتى دفعت الباب بقوة لأجد الناس ملتمين على فراش والدي و أمي قد جثت على الأرض و هي تبكي ، و كانت معها جارتنا تحاول تهدئتها و التخفيف عنهــا .
لم أصدق في بادئ الأمر ، و لكني مع مرور الوقت بدأت أحس بالفراغ الذي تركه والدي معي أنا و أمي .. صارت حياتنا بؤساً و شقاء أكثر مما كانت عليه في السابق ، كيف لا و قد سد كل مصدر رزق لنا ؟ لم نعــد نجد حتى ما نأكله..
و شيئا فشيئاً بدأت الأعمال تتراكم علـي و على والدتي المسكينة ، و لم نعد نستطيع أن نوفر لنا لقمة العيش ، و أذكر أسوأ يوم في حياتــي ، كان يوم اضطررت فيه لترك المدرسة .. يا إلهي لم أكن اتوقع هذا ، قلبت حياتنا رأساً على عقب بعد وفاة والدي !

أخذت كل صباح أستيقظ مبكراً و أرتدي ملابسي مباشرة ، و أنتظر أمي حتى تعد أرغفة الخبز ، فأختار أصغرها و آكله ، و أما الباقي فأجتهد في بيعــه و لو بثمن بسيط لنوفر لنا مستلزمات العيـــش .
حملت السلة ذات يوم و قصدت وسط بلدتي الصغيرة لبيع أرغفة الخبز مثل كل يوم ، جلست على حافة الطريق منتظراً أن يتوقف أحدهم و يشتري مني ، طال الانتظار كثيراً .. و بينما أنا جالس إذ بفتاة صغيرة شاحبة الوجه حزينة الملامح ، نظرت إلى سلتي ثم تابعت مسيرها ..
ندهت عليها :
– انتظري
تلفتت بخوف ثم قالت بتلعثم : اا..مـ..ماذا ؟؟
– هل أنت جائعــة ؟
– في الحقيقة … نعم
مددت يدي إليها برغيف خبز أخذته باستحياء قائلةً :
– لكنك بحاجةٍ إلى ثمنه
– لا بأس .. سيعوضني الله عنه
شكرتني و بدأت تلتهم الرغيف بسرعة ثم سألتني عن اسمي فأجبتها أن اسمي هو أمجد .. و أقوم ببيع الخبز لأعيل نفسي و أمي بعد وفاة والدي .. و سألتها عن اسمها و لكن ما كدت افعل ذلك حتى أتى رجل غاضب و قاسي الملامح من خلفها و شدها من شعرها قائلاً :
– ميساء .. أيتها الشقية ، أنت تتسكعين هنا و أنا أبحث عنكِ ؟ تعالي معي .. ثم أمسك بذراعها و جرها معه ، التفتت إلي و قالت : لن أنسى معروفك معي أبداً ، فأجابها ذلك الرجل : اصمتي .
ثم ابتعدا …
ميساء .. هذا هو اسمها إذاً ، يبدو أن الحياة تحوي مآسي كثيرة و لست وحدي من أعاني …
و بينما أنا غارق بتفكيري و قف رجل بجانبي و عندما رفعت رأسي إليه و جدته معلمي في الصف .. كم خجلت من هذا الموقف ..
قال لي :
– ماذا تفعل هنا يا بني ؟!
– اا…لا شيء .. لا شيء أبداً ..
– آه من هذه الدنيـا ، ماذا فعلت بنا.. حتى الأطفال صاروا يعملون ..
أطرقت رأسي بحزن و خيبة و أنا لا أفكر في شيء البتة..بل تساقطت دموعي من تلقاء نفسها و لم أستطع حبسهــا ، تقدم معلمي مني و أعطاني مبلغاً من المال ، في البداية رفضته لكنه أصر علي أن آخذه ، و كم كانت فرحة أمي كبيرة به ، فقد ساعدنا كثيراً لعدة أيام مع أنه كان مبلغاً صغيراً .

اعتدت على حياتي الجديدة .. كان لابد من ذلك ، أخرج صباحاً لبيع أرغفة الخبز ، و أمي أيضاً كانت تقوم بغزل الصوف و تصنع منه ملابس تبيعها على أهل البلدة .. و لكن هل سيستمر الوضع هكذا ؟؟ .. هل ستتركني الحياة بعد أن سلبت مني أبي و مدرستي و طفولتي ؟؟ .. لا ، لم يكتفي مني الزمن بعد ..
فقد عدت في أحد الأيام لأجد أمي مستلقية في الفراش ، كانت متعبة جداً و وجها شاحب ، لم أكن أعلم أنها مريضة و تعاني من الألم ، لقد حرصت على عدم إشعاري بذلك .. آه يا أمي ..
ركضت نحو منزل معلمي ، فهو الوحيد الذي استطيع أن أطلب منه شيئاً .. فجاء معي و أحضر الطبيب .
قال الطبيب أن قلب أمي ضعيف جداً و يجب ألا تتعب نفسها بأي عمل .. لكن أمي لم تستمع لكلامه ، و بقيت ترهق نفسها و بالنهاية … ماتت ، لحقت بأبي و تركتني وحيداً في هذا العالم .
لن أخفي عليكم .. أنا لم أصدم لموتها كما حدث في موت والدي (رحمه الله).. لكنها كانت صدمة من نوع خاص..صدمة هادئة .. لم أصرخ و لم أبكي حينهـــا.. و لم أشعر برغبة في فعل شــيء .
ولكن من الجيد أن الرأفة لم تختفي من قلوب جميع الناس فقد قرر معلمي بعد مدة من وفاة أمي أن يجعلني أعيش في بيته .

لقد أحسن إلي معلمي و عمل معي معروفاً لن أنساه أبداً .. عشت في كنف عائلته أياماً جميلة ، لقد كانت زوجته امرأةً طيبة لم تشعرني لحظة بأنني غريب و عاملتني كما تعامل طفليها .. حيث كان لديها ولد يكبرني بعام اسمه صالح .. و بنت تصغرني بثلاثة أعوام و اسمها هديل ، و هكذا عدت إلى مدرستي التي حرمت منها مدةً من الزمن ، لكن هل هذا الهناء سيدوم ؟ .. بالطبع لا فقد كنت دائماً موعوداً بالشقاء .

مضت سنين على إقامتي في منزل معلمي ، كبرت خلالها و أصبحت شاباً .. و بدأت المشاكل تظهر لي من جديد .. كنت مخطئاً بأن ظننت نفسي أصبحت فرداً من عائلة معلمي ، لم أدرك أن الغريب يبقى غريباً مهما فعل ..
زوجة معلمي أصبحت تتضايق من وجودي ، لم تصرح بذلك لكن نظراتها كانت تنطق ، كانت تخشى على ابنتها مني ، ابنتها التي كبرت و أصبحت تلفت الأنظار ، لكني -و الله يشهد – اعتبرتها كأختٍ لي ، و كذلك ابنها الذي تربيت معه عندما كبر أصبح يشعر بالغيرة مني بالأخص أني كنت متفوقاً عليه في الدراسة و كان معلمي يثني علي دائماً و يقدم لي هدية عقب كل نجاح .

معلمي رضوان و الذي اعتبره كأبي لم يتغير معي و بقي يعاملني كفردٍ من العائلة ، لكن لم أعد اشعر بالراحة و أنا جالس بينهم .. فكثير من الأحيان كنت أدخل عليهم فيغيروا الموضوع الذي كانوا يتحدثون به ، و عندما يجتمع أقاربهم ، أحس بالوحدة و أشعر أني بعالمٍ غير عالمي .. قررت أن أتركهم و أرحل بعيداً عنهم ، لكن لم أعرف كيف أفاتح المعلم رضوان بالأمر ، على كل حال ما حدث بعد ذلك سهل لي ما عزمت عليه .

فقد ظهرت نتائج الثانوية العامة و كنت من المتفوقين ، الأمر الذي أثار غيرة و حقد صالح الذي سقط العام الفائت في الثانوية و هذا العام نجح نجاحاً مخجلاً ..
كنا وقتها جالسين نتحدث عن النتائج و سألني المعلم رضوان عن الكلية التي أرغب بالدخول إليها ، فأجبته بأن حلمي أن أصبح طياراً لذلك أرغب بدراسة هندسة الطيران ، فأجابني بأنه حلم جميل و بالإمكان تحقيقه فتدخل صالح قائلاً بغضب و بطريقة فاجأت الجميع :
– لا ليس بالإمكان تحقيقه ، إجعل احلامك بحجم إمكانياتك يا هذا .. فأبي لن يصرف عليك طيلة حياتك .
صرخ السيد رضوان :
– صالح اصمت ..
– لا لن أصمت يا أبي .. فهو يبقى غريب .. لقد ربيته و كبرته و أظن أن ذلك يكفي ، إنك تدلله لدرجة أن ظننت نفسي يتيماً و أنت أباه ، ثم إن كان لديك نقوداً تصرفها عليه فالأولى أن تصرفها علي أنا ، صحيح أن مجموعي لا يسمح لي بدخول شيء ، و لكن بما أنك تصرف مالك على الغرباء أدخلني إذاً بجامعة خاصة تقبل بمجموعي المتدني و دعه هو يشق طريقه بنفسه فقد أصبح رجلاً .
ألجمت المفاجأة ألسنتنا عن الكلام .. لكني قطعت هذا الصمت إذ قلت :
– معك حق يا صالح بكل كلمة قلتها ، لقد ذكرت الحقيقة و شجعتني على اتخاذ قرار كنت انتظر الفرصة المناسبة له ..
و ركضت باتجاه غرفتي و جمعت حاجياتي بسرعة و خرجت اقترب مني السيد رضوان قائلاً بتأثر :
– أمجد .. بني ، إلى أين أنت ذاهب ؟
– إلى المدينة ، حان الوقت لأشق طريقي بنفسي
– لكن يا بني ..
– أرجوك لا تحاول منعي ، أعرف أنك تحبني و لست متضايقاً مني و إحسانك إلي لن أنساه ما حييت ، لكن أصبح وجودي يسبب الكثير من المشاكل لذلك فالأفضل أن أرحل من هنا ..
أدرك السيد رضوان أني مصمم على قراري لذا احتضنني و قال لي :
– افعل ما شئت يا بني ، أنا لن أجبرك على شيء لكن تذكر دائماً أني موجود ، متى ما احتجت إلي عد و لا تتردد بهذا ، ثم وضع بجيبي نقوداً أردت رفضها لكنه أصر علي بأن آخذها و قال بأنها ستعينني ريثما أتدبر أموري في المدينة .
و هكذا رحلت .. و لن أنسى علامات الارتياح التي رأيتها ترتسم على وجه زوجة السيد رضوان ، فالآن و حسب اعتقادها ستطمئن على ابنتها ..

عدت وحيداً من جديد .. لا أهل لي و لا أحباب .. ركبت في الحافلة الذاهبة للمدينة و وصلت مساءً ، أخذت أجوب الشوارع على استحياء و كأن كل من حولي يعرف بأني غريب تائه لا يدري إلى أين يذهب .
وصلت إلى إحدى الحدائق و كنت منهكاً من التعب لذلك جلست على مقعد فيها و أسندت رأسي إلى حقيبة أغراضي و رحت في سبات عميق ..

استيقظت صباحاً أتضور من الجوع و عظامي تؤلمني من خشب المقعد ، أوه .. إنها بداية لعبة جديدة تلعبها الحياة معي ..
حملت حقيبتي و أخذت أبحث عن مكان أسد به رمقي ، فوجدت مطعماً بسيطاً يناسب كمية النقود التي بجيبي ، لذلك دخلت إليه و طلبت لنفسي وجبة ، كان المطعم فارغاً ، فالوقت كان مبكراً ، تناولت الطعام و أنا أتأمل أركانه فوجدته بحاجة لتنظيف ، و كان صاحب المطعم و زوجته هما من يقومان بالخدمة .. بقيت أتردد على ذلك المطعم عدة أيام إلى أن لاحظ ذلك صاحبه و الذي قال لي :
– كأنك غريب عن المدينة و لا مأوى لك ، فحقيبتك دائماً بيدك .
أجبته بأني فعلاً غريب و قدمت من البلدة المجاورة بحثاً عن عمل ..و خطر ببالي شيء قررت تنفيذه في الحال ..
قلت لصاحب المطعم :
– أرى أنك لا تملك نادلاً يقوم عنك بالخدمة
– و ما حاجتي بالنادل ؟؟ .. لم يجلبوا لي سوى المتاعب
– لكن سيدي ..
– ماذا ؟؟
– في الحقيقة لدي .. لدي طلب و أرجو أن تفكر ملياً قبل أن تتخذ القرار .
أجابني بنفاد صبر و كأنه عرف ما أريد قوله
– حسناً ماذا تريد مني ؟
– سيدي أرغب بالعمل عندك .. سأجعل المطعم دائماً نظيفاً و سألبي طلبات الزبائن و لن ترى مني تذمراً
– و ما هو المقابل ؟
– المقابل هو أن تجعلني أنام في المطعم ليلاً فأنا غريب عن المدينة و لا سكن لي فيها .
– فقط ؟ ألا تريد نقوداً مقابل عملك ؟!
– في الحقيقة إن قلت أني لا أرغب بالنقود فأنا كاذب لكن إن قدمت لي المأوى فذلك بالنسبة لي كثير .

صمت الرجل و أخذ يقلب الفكرة برأسه ، فكر بأنه تعب من خدمة الزبائن بنفسه ، ثم أن الفتى الواقف أمامه تبدو عليه الطيبة و لا مانع من أن يجربه و إن تضايق منه بكل بساطة سيطرده لذلك قال له بعد صمتٍ بدا كالدهر بالنسبة لأمجد :
– حسناً .. سأضعك فترة تحت الاختبار و إن أعجبني عملك سأبقيك هنا .
– متشكر جداً سيدي .. لن أنسى معروفك هذا أبداً .

و هكذا بدأت بالعمل عند صاحب المطعم الذي عرفت أن اسمه اسماعيل ..
كنت أستيقظ مبكراً و أرتب المقاعد و الطاولات و أقوم على خدمة الزبائن و أغسل الأواني و لا أنام إلا بعد أن أنظف المكان جيداً و أرتب المطبخ .. و كان السيد اسماعيل كريماً معي خصوصاً بعد أن رأى عملي .. فأعطاني غرفة صغيرة بجانب المطبخ لأنام بها .. فقد كان المطعم ملحقاً بمنزله و كان هو و زوجته يقومان بإدارته ، زوجته تطبخ و هو يجلس بمكان المحاسب .. و الحق يقال .. كان طبخ زوجته لذيذاً جداً و قد كنت أساعدها في الطهو و تعلمت منها بعض مبادئه و عندما رأى صاحب المطعم أني أتعب كثيراً في العمل و جلبت زبائن كثر للمطعم بسبب معاملتي الجيدة معهم خصص لي راتباً أعانني كثيراً في تحمل مشاق الحياة .

توثقت علاقتي بالسيد اسماعيل لذلك قصصت عليه قصتي من أولها فتأثر لها كثيراً و عندما عرف أني متفوق في دراستي شجعني على إكمالها و قال لي .. لا يجب أن تبقى بقية حياتك نادلاً ، فأنت تستحق أكثر من هذا .
و هكذا عند بداية الموسم الدراسي ذهبت للتسجيل في إحدى الكليات ، لقد اخترت أن أكون معلماً .. نعم ، تخليت عن طموحي في أن أصبح طياراً ، أدركت أن هناك أشياء في الحياة تبقى مجرد حلم ، كنت واعياً جداً لواقعي و وجدت أن سلك التدريس يناسبني ، فإمكانياتي لا تسمح لي بدخول الهندسة و هكذا أصبحت أذهب للكلية صباحاً و أعمل في المطعم مساءً .. لم أكن أحضر جميع المحاضرات لأني كنت مرتبطاً بعملي في المطعم لذلك كنت اعتمد على نفسي بالدراسة و لم أتكلف من ذلك أبداً فجيد أن صادفت في طريقي إنسان ارتاح لي و ساعدني و حماني من التشرد في الشوارع ..

مرت السنون بسرعة و لم أشعر بنفسي إلا و قد تخرجت من الكلية و في هذه الأثناء وسع السيد اسماعيل مطعمه و جلب نادلاً آخر للخدمة و كذلك مساعدة لزوجته في الطبخ .. لقد كان إنساناً ناجحاً و يعرف كيف يغتنم الفرص .
و حان موعد رحيلي .. فبعد أن تخرجت تم تعييني معلماً في بلدتي ، فقد كان تولدي في البلدة و من الطبيعي أن يجعلوني أخدم في المكان الذي نشأت بها ..
لملمت أغراضي و وقفت أمام السيد اسماعيل لأودعه ، كانت لحظة عصيبةً بالغعل فقد اعتدت عليه و اعتاد على وجودي بدوره فقد كان محروماً من الإنجاب و اعتبرني كابنٍ له لكن لا بد من الرحيل … كم أكره لحظات الوداع

ركبت الحافلة الذاهبة للبلدة و كنت طيلة الطريق أفكر بمعلمي رضوان .. ترى ماذا حل به ، أرجو أن يكون بخير .. كنت أستطيع زيارته خلال هذه السنين لكني لم أرغب بهذا ، لم أكن أريده أن يراني إلا بعد أن أكون قد أثبت وجودي في هذه الحياة و وقفت على قدمي .
وصلت الحافلة إلى البلدة و نزلت منها ، وقفت للحظات استنشق رائحة المكان .. ياه مازال في الجو نفس الرائحة منذ أن كنت صغيراً .. رائحة الأرض المشبعة بالمياه تختلط معها روائح الزهور التي يمتلئ بها المكان  ..

مشيت بهدوء متأملاً البيوت ، لم يتغير شيء في البلدة ، أحسست بأني خرجت منها بالأمس فقط !!
وصلت لمنزل المعلم رضوان ، كانت ابنته هديل واقفة في الخارج تكلم صاحبتها و عرفتني فوراً عندما رأتني و أسرعت تخبر أبيها ..
كان لقاءً حاراً بيننا امتزجت معه دموع الفرح بكلمات العتاب من السيد رضوان لعدم زيارتي له طيلة هذه السنين ..

جلسنا في غرفة المعيشة ، و قد رحبت بي زوجته و أحسست أن نظرتها تجاهي تغيرت و عادت كما عرفتها ، المرأة الحنونة التي ربتني صغيراً ..
و حدثتهم عن كل ما جرى معي في أثناء غيابي عنهم و عندما انتهيت قال السيد رضوان :
– إذاً ستصبح زميلي في المدرسة بعد أن كنت تلميذاً عندي .. و أخذ يضحك ثم أكمل :
– بقي لي بضعة سنين و أتقاعد .. سأكون مطمئناً على الطلاب طالما أنت مدرسهم .. و لكن قل لي أي نوعٍ من البشر اسماعيل هذا .. لقد كان لك خير معين في غربتك ..
– أنت تسأل عن نوعيته ؟ .. إنه مثلك ، فأنت أيضاً آويتني و حميتني من التشرد و جعلتني أعود إلى المدرسة و عاملتني كما تعامل أبناءك .. فضلك علي لن أنساه أبداً .
صمت السيد رضوان و بان عليه التأثر بكلامي ، أما زوجته فقد مسحت دمعة كادت تسقط من عينيها ..

لاحظت غياب صالح و عندما سألت عنه أجابني والده قائلاً :
– كنت أعرف أن ابني فاشلاً منذ أن كان صغيراً ، لقد أرسلته للمدينة ليكمل دراسته و قد استطعت تدبير أقساط الجامعة الخاصة لكنه فشل في السنة الأولى و لم يعد يريد أن يكمل و هو الآن في المدينة ، يقول بأنه يعمل لكن الله وحده يعرف ما هي طبيعة عمله ، في الحقيقة لقد نفضت يدي منه ، فقد قمت تجاهه بواجبي على أكمل وجه و أصبح رجلاً مسؤولاً عن نفسه ، فليفعل ما يشاء .

نهضت مودعاً عائلة السيد رضوان الذي أصر على بقائي ، لكني اعتذرت منه و طلبت منه مفتاح منزل أبي الذي كان مودعاً عنده طيلة هذه السنين ، فقد قررت أن أسكن في بيتنا القديم بعد أن أقوم بعدة إصلاحات به ..

مضى على وجودي في البلدة قرابة الشهرين ، اعتدت خلالها على الطلاب و اعتادوا علي ، و رممت منزلنا القديم و زرعت حوله وروداً مختلفة الأنواع .. و لم أنقطع عن زيارة اسرة معلمي .. فهم أهلي الوحيدين في البلدة ..
و ذات يوم ، و بينما كنت جالساً في غرفة المدرسين أنتظر انتهاء فسحة الطلاب وقفت بالباب فتاة شابة جميلة القسمات ، كانت تنظر إلي و تبتسم ، استغربت منها و سألتها :
– عفواً .. هل من خدمة أقدمها لكِ ؟
ضحكت و قالت : هل لديك رغيف خبز ؟ .. فأنا جائعة .
 نظرت إليها مستغرباً من طلبها و عندما رأت عدم فهمي لكلامها قالت :
– يبدو أنك نسيتني … أما أنا لم أنساك أبداً ، أنا الفتاة الفقيرة التي أحسنت إليها في الماضي و قدمت لها رغيفاً من الخبز  ..
شردت قليلاً ثم وقفت مرحباً بها و قلت :
– حقاً أنت هي .. نفس الملامح .. أظن أن اسمكِ كان ….
– ميساء .. اسمي ميساء ، لا تتعب نفسك بالتذكر .
– اعذريني إن كنت قد نسيتك فإنها مشاغل الحياة التي تنسينا حتى اسماءنا .. و لكن قولي لي كيف اهتديت لمكاني .
– أنسيت أننا عندما التقينا أخبرتني عن اسمك ؟ لقد حفظت اسمك و حفرته بقلبي حتى لا أنساه ، و قررت عندما أكبر أن أبحث عنك و حمداً لله بأنك بقيت في البلدة و إلا لطال بحثي و ربما ما كنت لأجدك .

سألتها كالأبله :
– تبحثين عني لماذا ؟
فلاحظت احمرار وجهها و تلعثمها ثم قالت : لأرد لك الجميل .. لن أنسى أنك أطعمتني و لم تبخل علي بالرغيف على الرغم من حاجتك لثمنه .
غيرت الموضوع و سألتها عن أحوالها فقالت أنها تعذبت كثيراً بحياتها ، فقد كانت يتيمة عاشت عند عمها الفقير الذي لم يحسن معاملتها و جعلها تعمل في المدينة منذ أن كانت في الرابعة عشر من عمرها جليسة للأطفال ، تنتقل بين بيوت العوائل المترفة و التي لا تريد أن تتعب نساؤها بتربية أطفالهن .. و عندما شب عودها و كبرت قررت أن تبحث عني ..

خلال حديثها عن نفسها شعرت أنها تتكلم عني .. فكلانا عانى اليتم و الحرمان .. و كلانا عرف معنى الألم ، تتساءلون و ماذا بعد ؟ .. حسناً حدث ما يدور ببالكم .. لقد ظلت تزورني و توثقت علاقتنا و شعرت بميل نحوها … فتزوجنا و أقيم حفل زفافنا في البلدة و حضر إليه جميع السكان خصوصاً الأطفال الذين كانوا يريدون أن يشاهدوا معلمهم ببدلة العرس .. و لم أنسَ دعوة السيد اسماعيل و زوجته و بعد ذلك عشت سنين عمري مرتاح البال .. أذهب صباحاً إلى المدرسة و أعود في المساء لأجد بيتاً دافئاً و طعاماً ساخناً و زوجة تنتظرني بفم باسم .. و رزقت بطفلة جميلة أسميتها حنين …

هذه هي قصة حياتي .. لقد مررت بانكسارات و أحزان .. لكن بالمقابل كنت أجد في طريقي من يساعدني ..
هكــذا هي الحياة ..تلعب بنا كثيراً كما تشاء ، و لا يستطع المرء فيها الحصول على كل شيء .. فإنها كما تعطي تأخذ .. و كما تُبكي تُضحك ، و القوي هو من يستطيع أن ينهض بعد كل انكسار .. و في النهاية يجب أن نستوعب أنها مجرد “لــــعبة” .. فليس هناك من عاش سعيداً و مات سعيداً ، أو عاش حزينـاً و مات حزينـاً..إنها خليط من الاثنين … إنها الحياة .

***
ـ أبي هل انتهيت ؟
– أجل يا طفلتي .. كيف عرفتِ ؟
– لقد رأيتك تضع القلم جانباً و تفرك عينيك
– أمجد .. تعال أنت و حنين .. لقد حان موعد العشاء
– حسناً .. أنا قادم
و حمل ابنته و مضى لتناول الطعام ..
لكن هل ستظل الدنيا مبتسمة له هكذا أم أنها كعادتها تخبئ له المزيد من الأحزان ؟ .. لا أحد يعلم 

انتهت .

تاريخ النشر : 2016-08-26

هبة

الجزائر
guest
60 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى