أدب الرعب والعام

تيجان الدم

بقلم : منيرة بن سويلم

تيجان الدم
تلطخ وجهها و ثوبها الأبيض العاجي بالدماء

يقال بأن تلك السويعات و الدقائق التي تفصل بين عالمنا و العالم الآخر هي أقرب إلى الوحي أو السحر ، تستدق فيها حواس المرء و تنقشع عن عينيه الغافلتين تلك السحابة التي لطالما أعمتهما عن رؤية الحقيقة كما هي دون زيادة و لا نقصان و لا انحياز .. و هذه أعزائي قصة عن تلك اللحظات الفارقة في عمر الإنسان .

******

في غرفتها الواسعة التي تتسلل إليها أشعة قرص الشمس الأرجواني القاني و هو يقف وقفة الوداع ، وقفت الفتاة “حسناء” و قد قد ضمت يديها إلى صدرها تفركهما في قلق و توجس ، بينما لم تفلح رغم هدوئها الخارجي في إسكات ذلك الهاتف الداخلي الذي ينبؤها بأن القادم مرعب مرعب جداً ..

ترامت إلى سمعها أصوات أسرتها و ضحكاتهم العالية و سمعت طرقاً خفيفاً على الباب ، أطل بعده وجه “هنية” مربيتها الوديعة تدعوها للنزول لتناول العشاء مع البقية في غرفة الطعام .
ترددت “حسناء” قليلاً ، و نظرت من النافذة بينما غمرها الغروب فتحولت إلى فتاة من لهب و نار .. جالت بنظرها في أرجاء الحديقة و الطريق المؤدية إلى باب القصر الخارجي و ازدردت ريقها بصعوبة و اتجهت صوب باب غرفتها ، و في طريقها اصطدمت يدها المرتعشة بشيء ما و تناهى إلى سمعها صوت تحطمٍ خفيف ، التفتت إلى مصدر الصوت فإذا هي صورة العائلة قد وقعت و تناثر زجاجها .

انتابت “حسناء” رعشة و انحنت تجمع قطع البلور المكسور ، فجرحت إصبعها شظية آلمتها فتأوهت و تمتمت : “يا إلهي ، ما الذي يحدث لي ؟ “

واصلت الفتاة طريقها نحو الباب و قبل أن تخرج تأملت غرفتها و كأنها تودعها وداعاً أخيراً ، فربتت بنظراتها الحانية على سريرها و رف كتبها و قلمها النائم فوق ورقة بيضاء خذلتها أناملها فلم تودعها سرها الخطير كما عزمت أن تفعل .

******

نزلت “حسناء” بخطوات متأنية لتمنحها الوقت لوداع كل ركن من القصر ، الأعمدة و الدرج و التحف المتناثرة هنا و هناك بينما علا صخب أهلها في غرفة الطعام فيما بدا بأنه احتفال .

ما إن لمح والد “حسناء” ابنته قادمة حتى صرخ مرحباً :
” حسناء .. ابنتي المدللة ، أخيراً نزلت لمشاركتنا الاحتفال .. اقتربي و اجلسي بجانب والدك ”
و أشار إلى كرسي قريب منه لكن الفتاة المستاءة جلست على كرسي في طرف الطاولة بعيداً عن والدها دون أن تنبس ببنت شفة.

تجاهل الأب ما قامت به “حسناء” و أكمل حديثه منتشياً :
” كم أود أن أرى وجه “سيدنا” و جثتي ابنيه مسجاة أمامه و قد صفت رصاصاتنا دمائهما و حولتها مسدساتنا إلى غربال بشري” .
و إنفجر ضاحكاً ، و ضحك معه كل الموجودين في القاعة عدا “حسناء” بينما قال شقيقها الأكبر :
” ليتك سمحت لنا يا أبي بقتل ابنه الأوسط لكنا بذلك أبدنا عائلة “السكاكيني” عن بكرة أبيهم و قطعنا نسلهم و محونا اسمهم و تاريخهم إلى الأبد “
فأجابه والده دون أن تفارق بسمة النصر ثغره :
” لقد أبدناها بالفعل يا بني ، فابنه “محمود” ذاك لا رجاء منه ، حتى والده أدرك جبنه و قلة حيلته فأبعده عن أعمال العائلة و أرسله بعيداً بحجة الدراسة ، أما عن تاريخهم فبات نسياً منسيا ، و لن يعيده ذاك الجبان “محمود” و لا والده “السكاكيني” .

و عندها نهض “عمر” الابن الأصغر و رفع كأسه و قال شامتاً :
” هذا جزاء من يطمع في نساء بيتنا و يسعى إلى سرقة بناتنا.. ”
و هنا اتجهت عيون الحاضرين تتفحص البنت الوحيدة للأسرة “حسناء” ، فيما سكب “عمر” كأسه في جوفه و مسح فمه بظاهر يده قائلا :
” لا أحد يمد يديه ليسرق بناتنا و شرفنا و ينجو بفعلته “

******

رفعت “حسناء” وجهها و جالت ببصرها بين الحاضرين إلى أن استقر على أبيها فهمست و العبرة تخنقها :
” و متى كان الحب الطاهر عيباً أو ذنباً ؟ ..لقد أحببت “محمود” و قد أحبني كما أحببت أنت يوماً أمي و تزوجتها ، و لكن قلبك .. بل قلوبكم جميعاً التي تعهدتموها بالحقد و الظلم و غذيتموها بالدم و الأشلاء لم تعد تستطيع التفرقة بين الخطأ و الصواب ، المال و السلطة أصابتكما بالعمى و الجنون فلا ترون هول القادم…”

هجم “عمر” على “حسناء” صارخاً و رفع يده يبتغي صفعها مهدداً :
” اخرسي .. لقد فعلنا ما فعلنا بسبب طيشك و تمردك ، عن أي حب تتكلمين أيتها الـ.. ”
صمت الفتى احتراماً لوالده فيما اقترب شقيقه الأكبر من “حسناء” و قال بهدوء لا يخفي إنفعاله نادر الحدوث و كأنه يشاركها قلقها :
” لقد فتحنا باغتيالنا لأبناء “السكاكيني” باب جهنم على مصراعيه و الله وحده يعلم ما سيحدث في قادم الأيام بين العائلات المنتسبة لمجلس المقاطعة ..”

فقاطعته الفتاة بعنف :
” العائلات ! أنت تعني بكلامك طبعاً عصابات المخدرات و الحشيش و تجار الأسلحة و الأعضاء البشرية ، سفاحي المقاطعة و عتاة مجرميها بما فيهم عصابتنا الموقرة .. عفواً أقصد عائلتنا “

توقفت “حسناء” عن الكلام لبرهة قصيرة و كأنها ترتب مشاعرها المهتاجة ثم قالت و هي تتنقل بنظرها بين الحاضرين نساءً و رجالاً :
” أنتم لا تعتقدون حقاً بأنكم ستفلتون بفعلتكم هذه ؟ حتى أصغر طفل في المدينة يمكنه أن يعلم علم اليقين بأن “السكاكيني” لا يترك دينه بعهدة أحد فما بالك لو كان دم أبنائه و عماد أسرته ! “

و رفعت عينيها تتأمل أركان القصر و همست بصوت مرتعش :
” لن تكفيه دماؤنا جميعناً .. بل سيهدم هذا القصر على رؤوسنا كبيت من ورق حقير تعصف به الرياح ، سوف… “

******

في الخارج ، هدرت محركات سيارات رباعية الدفع تقترب من باب القصر و دوت ضربة عظيمة تلتها أصوات إطلاق نار كثيف و ساد الصمت من جديد .

تبادل رجال الأسرة نظرات مرتاعة و ركضوا باتجاه غرفة السلاح و لكن طلقات مفاجأة اخترقت نوافذ الغرفة من مختلف الجهات أجبرت الجميع على الانبطاح على الأرض لتفاديها .

علا الهرج و المرج داخل القصر فيما تواصل وابل الرصاص لدقائق معدودة بدت كأنها دهر ، و فجأة توقف كل شيء و كأنه مجرد كابوس عصيب .
رفع والد ” حسناء” رأسه و أشار إلى ابنيه و شقيقه أن ينسحبوا إلى غرفة تخزين السلاح و إلى ابنته و زوجته أن ينسلا خارج الغرفة بحذر و لكن المهاجمين لم يمنحوهم الفرصة فقد انهال أحدهم على الباب و كسره فاسحاً المجال أمام عدد لا يحصى من رجال “السكاكيني” للدخول إلى قصر “النحاس” مدججين بكل أنواع الأسلحة الثقيلة و الخفيفة و من وراء المهاجمين برز “محمود السكاكيني” يحمل كلاشينكوف ، راقب لبرهة عائلة “النحاس” المستلقي أفرادها على الأرض بلا حول و لا قوة بعد أن أجهز هو و رجاله على حراس القصر و معاونيه .

نهض النحاس و ابنيه و شقيقه ممتثلين لأوامر “محمود” واضعين أيديهم خلف رؤوسهم و وقفوا في صف واحد حائلين بين رجال “السكاكيني” و ابنه الباحثين عن الثأر و “حريم البيت” ، عندها نهضت “حسناء” و والدتها و وقفتا خلف رجال الأسرة .

نظر “النحاس” الكبير لـ “محمود” و قال بصوته الجهوري المعتاد و كأنه يحادث صديقاً حميماً :
” لا دخل للنساء في أعمالنا و حساباتنا ، دعهما ترحلان فثأرك علينا “
نظر “محمود” إلى “حسناء” نظرة مريرة عجزت الفتاة عن فهمها ، لم تكن غبية كانت متأكدة من أنه قادم لا محالة للثأر لأخويه فهي كانت تعلم بأنه لم يكن جباناً و قليل الحيلة أو عاجزاً كما يقول والدها أو كما ظن والده ، بل كان مثلها يبحث عن الخلاص من قدر لم يختره ، عن مخرج آمن له و لها من حرب ضروس بين عائلتين تصدرتا عالم الجريمة و أبدعتا فيه ، كان مثلها ينشد السلام و العيش في النور بعيداً عن تاريخ الأسرتين المظلم .

كانت تعرفه جيداً لكنها اليوم لم تستطع فهم نظراته أشار “محمود” إلى رجاله فابتعد الجميع فاسحين المجال أمام السيدتين لترحلا و لكن “حسناء” عقدت عزمها و تقدمت بهدوء لتقف أمام والدها و أخويها وجهاً لوجه أمام حبيب الأمس “محمود السكاكيني” قائلة برجاء :
” محمود .. أرجوك توقف أنت لست مثلهم ، نحن لسنا مثلهم .. أليس هذا ما كنت تقوله لي ؟ “
رد عليها الفتى ببرود لم تعهده منه من قبل :
” ابتعدي يا امرأة ، لا دخل للنساء في أفعال الرجال “

و أبعد “حسناء” و رفع سلاحه صوب أهلها فركضت و وقفت أمامهم في مواجهة الأسلحة جاعلة من جسدها درعاً و صرخت :
” أرجوك لا تفعل .. أرجوك ”

عندها تقدم أحد الرجال بأمر من “السكاكيني” لإبعادها فانتهز شقيقها “عمر” الفرصة و حاول سحب سلاح أحد الرجال فعاجله “محمود” برصاصةٍ استقرت في رأسه أردته على الفور صريعاً ، فعلا عويل والدته و كثر الهرج في المكان ، فما كان من “محمود” إلا أن سحب “حسناء” و رماها بعيدا حيث كانت أمها تصرخ و تتوسل لحياة زوجها و ابنها ، ثم انهال و رجاله على أعدائهم بطلقات كزخ المطر اخترقت أجسادهم فتناثرت دماءهم في أرجاء الغرفة .. على الجدران و قطع الأثاث الفاخر و روت السجاد العجمي تحت أقدامهم .

صرخت “حسناء” فاختفت صرختها وسط أزيز الرصاص ، و ركضت نحو جسد والدها و شقيقها و عمها و كأنما أرادت الموت معهم ما دامت لم تستطع إنقاذهم ، كان جزء منها يشعر بأنها السبب في ما حصل و أن عليها أن تدفع الثمن و لكنها سقطت متأوهة على الأرض قبل إدراكهم ، فقد إستقرت رصاصة أحد رجال “السكاكيني” في كتفها مما دفعهم لإيقاف إطلاق النار بأمر من “محمود” الذي وقف يطالع “حسناء” و هي تزحف نحو جسد والدها لتتمسك به و تدفن رأسها في صدره الذي إمتلأ ثقوباً فصار كقطعة قماش مخرم بلون الدم القاني ، بينما جلست أمها بين جثتي ابنيها “عمر” و “سليم” تحتضنهما تارة و تناجيهما تارةً أخرى

********
انتبه “محمود” من سكرته ليجد قدميه تغوصان في السجاد المشبع بدماء رجال أسرة “النحاس” الكبير ، فنظر بذهول إلى ما اقترفت يداه ، فتراجع مرتعداً و استقرت عيناه على “حسناء” و هي مرتمية على جثة والدها و آلمه نحيبها فلم يعرف ما عليه فعله أو قوله ، و هل لأفعاله و أقواله من جدوى بعد المجزرة ؟!
و لكنه لم يتمالك نفسه و اقترب منها فرفعت الفتاة رأسها و طالعته عينيها الحمراوين کحمرة دمِّ أهلها الذي سفكه اليوم على مرأى و مسمع منها بنظرة حقد علم معها بأنه قد خسرها إلى الأبد ..

خرج الرجال مسرعين و سحب أحدهم “محمود” من ذراعه قائلاً :
” أسرع يا سيدي قبل قدوم الشرطة ”
و جره إلى السيارة و هما يخوضان في دماء عائلة “النحاس” و حراسهم و العاملين في قصرهم .. الجميع ما عدا “حسناء” و أمها قد دفع ثمن جريمة “النحاس” الكبير .

في غرفة الطعام وقفت “حسناء” و سارت بهدوء بين الجثث المرمية في أرجاء القصر و محيطه و قد تلطخ وجهها و ثوبها الأبيض العاجي بالدماء ثم توقفت أمام جثة أحد الحراس و انحنت و تناولت سلاحه و واصلت سيرها في هدوء نحو باب القصر و راقبت بعينين تتقدان شراً و غضباً سيارات “السكاكيني” المبتعدة معلنةً بذلك بداية ثأرٍ جديد ..

انتــــــهت

تاريخ النشر : 2016-11-08
guest
11 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى