أدب الرعب والعام

الطريق إلى هنا

بقلم : البراء – مصر
للتواصل : [email protected]

الطريق إلى هنا
الطريق إلى هنا موحش للغاية .. موحش بشكل لا يمكن تصوره
الطريق إلى هنا موحش للغاية ، هل تفهم يا عبد الحليم ؟
هل تفهم معنى هذا ؟ لا جدوى من هذا الآن ، أنت لن تفهمني على أي حال ، لكن يجب أن أعترف .. أنت مستمع رائع ، تماماً كما هو متوقع من مريض نفسي ، لابد من أنك بعالم آخر الآن ، عليك ألا تكون قاسياً هكذا ، لقد انتظرتك طويلاً و ها قد أتيت أخيراً بعد كل شيء ..

أنت مريضي الأول يا عبد الحليم ، هاك كرسي ، اجلس .. اجلس بالله عليك ، سأخبرك بقصة غريبة تحدث معي ، لكن استمع ، لا تنظر لي هكذا .. كل ما عليك فعله هو الاستماع يا عبد الحليم ، لا تقاطعني من فضلك ، و لو أنني أعلم لا تسمعني أساساً و لن تتفاعل معي من الأساس ، هذا جيد لأن هذا هو كل ما هو مطلوب منك ، لا أحب أن يقاطعني الآخرون بينما أحكي حكاياتي ..

أنت تعلم كما أعلم يا عبد الحليم أن الطريق إلى هنا موحش للغاية ، أنا بعيد تماماً عن أي حياة هنا ، لا أعلم لماذا اشترى والدي هذه الأرض يا عبد الحليم ، أعتقد أن ثمنها كان بخساً حقا كي يشتريها ، لم يتسنى لي أن أسأله على كل حال ، لابد من أنني كنت في الثالثة حين توفي لأنني لا أتذكر أي شيء عنه .. أه ها أنا ذا أخرج مجدداً عن صلب الموضوع ، أعتذر عن هذا ..

كما كنت أقول الطريق إلى عيادتي موحش حقاً ، حتى أنت قد جربت هذا في طريقك إلى هنا من قبل ، لابد من أنك قد لاحظت شيئآن أو ثلاثة على هذا الطريق .

الطريق إلى هنا موحش للغاية .. موحش بشكل لا يمكن تصوره ، إن أقرب قرية تبعد عن هنا مسافة 30 كيلومتراً على الأقل مما يجعلني أتساءل لماذا تقطع أنت و أمثالك كل هذه المسافة ؟! يبدو أنني أفضل طبيب نفسي في مصر كلها كي تتكبدوا كل هذا العناء من أجلي ، أنت تعلم أن هذا يقيدني بالمواعيد ، لكنني لست كالأطباء الآخرين اللذين و لابد أنهم يشعرون بإهانة بالغة حينما يحضرون في موعدهم ، يظنون أن لديهم اليد العليا فيجعلون المريض ينتظر و ينتظر ثم بمكالمة بسيطة للمساعد و ينتهي كل شيء .. كل شيء بالنسبة لهم هم فقط ، أما مساعدهم فهو من يعاني حقاً ، و لحسن الحظ لأني لست مثلهم ليس لدي مساعد ، كما كنت أقول المساعد هو من عليه تهدئة المرضى و هو من تنهال على رأسه الشتائم و الأدعية ، جميعهم هكذا يا عبد الحليم .. جميعهم هكذا ، لا تختلق لهم الأعذار ، أعتقد أنني ملاك بالنسبة لهم ، تباً !! مرة أخرى أخرج عن السياق .

الطريق إلى هنا موحش للغاية يا عبد الحليم ، موحش لدرجة أنني أحياناً أتكلم مع نفسي و أنا أقود إلى هنا ، أنت تعلم أن الطريق زراعي ، و لعنة الله على هذه الطرق الزراعية ، أنت لتكاد أن تجن من الهدوء المصاحب لها ، لا صوت سوى صوت الرياح و صوت عقلك لو ظل لديك عقل بعد كل هذا ، في مرة من المرات يا عبد الحليم فرغ خزان الوقود في منتصف الطريق ، أه يا إلهي لا أريد أن أتذكر ذلك اليوم ، الهواء البارد و الظلمة الكاسحة و صوت أزيز حشرات الحقل ، كنت في طريقي إلى المنزل حين حدث هذا ، و لأكونن أكبر مغفل في العالم يا عبد الحليم لو حدث شيء مثل هذا بدون أن آخذ احتياطاتي ..

لا تظن أنني سأقود في الطريق 70 ميلاً بدون أن أفكر في أي مشاكل يمكن أن تواجهني على هذا الطريق ، إن الأمر أشبه بالخروج عارياً في يوم ممطر ، سأخبرك بما كنت أخبئه لمثل هذا اليوم لكن لا تخبرني أنني أبالغ من فضلك .. كان معي في حقيبة السيارة الخلفية 60 لتراً من الوقود و ثلاثة إطارات جاهزة للاستخدام ، و لن أنسى الزيت و المياه و البطارية بالطبع .

حين فرغ الوقود أخذ الأمر مني دهراً كاملاً كي أستجمع شجاعتي و أنزل من السيارة ، ربما قد تقول عني أنني جبان لكنك لو كنت مكاني لخفت أكثر ..

الطريق إلى هنا موحش للغاية يا عبد الحليم .. موحش لدرجة أنني كنت أرتجف خوفاً و أنا أملأ خزان الوقود في السيارة ، ليس بسبب الطريق يا عبد الحليم لا .. ربما كان الطريق يخيفني قليلاً لكن خوفي الأكبر لم يكن من الظلام أو من السكون ، قل لي يا عبد الحليم .. هل صادفت المقابر في طريقك إلى هنا من قبل ؟ لابد من أنك قد مررت بها من قبل ، بل أنا متأكد من أنك تعرفها جيداً ، حينما تقود يكون الأمر صعبا للغاية أن تلاحظ المقابر لأن السائق عيناه تكون على الطريق ، أما المقابر فعلى جانب الطريق ، أنا لم أكن أعرف أنه توجد هناك مقابر لأنني دائماً ما أكون أنا السائق ، و يال تعجبي حين توقفت بي السيارة تماماً أمام المقابر ..

في البداية كنت أخطط للنزول و إنهاء الأمر سريعاً ، لكنني من باب الحذر ألقيت نظرة حولي ، لم أكن أريد أن أنزل من السيارة لأجد كلباً مسعوراً يعض في ساقي ، لذا ألقيت نظرة على هذه الظلمة الداكنة على يساري ، و كما مسافة 100 متر تقريباً تفصل بين كل عامود إضاءة و الآخر و أنا كما هو حظي توقفت تماماً في المنتصف !! في النقطة التي لا تنال ضوءاً ، المنطقة العمياء كما يقولون ..

توقفت هناك و أهلكت عيناي محاولاً النظر إلى هذا الظلام الدامس على يساري كما قلت لك ، أنرت الكشاف على أمل أن يلقى ببعض من ضوئه على هذه البقعة السوداء ، و هنا يا عبد الحليم الحليم رأيتها .. رأيت شواهد القبور تقف في هيبة ، و ضوء الكشاف أعطى الموقف بعض الدراما كذلك ، و لهذا كنت أرتجف خوفاً يا عبد الحليم ، إني لأقسم لك أنني قد سمعت صوتاً يناديني و أنا أملأ الخزان ، و لهذا كنت أرتجف خوفاً يا عبد الحليم ..

انتهيت مع الخزان ثم ركبت السيارة بأقصى سرعتي و قدتها كالخرتيت ، و للمرة الثانية يا عبد الحليم أقسم لك بأنني سمعت صوتاً يناديني و أنا أهرب من هناك ، لم أحاول حتى النظر خلفي ، لست أحمقا كأبطال الأفلام ، لست مثلهم و لن أنظر خلفي و أحاول البحث عن مصدر الصوت ، في هذه المواقف يا عبد الحليم عليك الفرار و كأن الجحيم نفسه يطاردك ، لا تعطه الفرصة .. أيا كان هذا الشيء لا تعطه الفرصة .

و الآن دعك من الطريق و تعال أحكي لك ما الذي حدث بعدها ، كما تعلم يا عبد الحليم أن الطريق طويل و يستغرق وقتا و أنا منزلي بعيد ، لذا أحياناً أضطر لأن أبيت هنا بدلاً من أن أسافر كل هذه المسافة و أنا هنا لدي كل ما يلزم ، صحيح أن العيادة في مكان غير مأهول بالمرة لكن يوجد لدي هنا مياه و كهرباء و كل ما يلزم و الاستراحة لا تبعد عن العيادة كثيراً أيضاً ، لكن المشكلة معي يا عبد الحليم لم تكن في هذا ، المشكلة كانت في هوسي ..

كما ترى يا عبد الحليم أنا تصيبني الهيستيريا كلما أفكر في الأشياء التي تحدث في الظلام ، أنت تسافر و تغلق شقتك جيداً و حين ترجع تجد كل شيء كما هو ، و لكن ما الذي حدث أثناء غيابك ؟! هل أضيء نور الشقة لوحده ؟ هل فتحت المياه في المطبخ أثناء الظلام ثم أغلقت وحدها ؟ هل ظهرت صورة شخص يشبهك و يبتسم في مرآة حمامك بينما لا يوجد أحد أمام المرآة ؟ هل يوجد قط أسود يجلس في -البانيو- الخاص بك وسط الظلام ؟ هل هناك من فتح باب الثلاجة ؟ كل هذه الأشياء تصيبني بالجنون يا عبد الحليم ، هذه الهواجس تسيطر علي بشدة من دون أي تدخلات خارجية ، فما بالك حينما أجد أن هناك من عبث بمكتبي أثناء غيابي !!

هناك من فتح كتاباً ثم تركه مفتوحاً ، هذا و أنا لم أمد يدي على ذاك الكتاب حتى .. و أنا متأكد من هذ ، أنت تعلم أنه في منزلي لا يوجد ما يدعو للقلق لأن زوجتي هناك هي و طفلي لذا من المستبعد أن يحدث شيء ، لكن هنا في العيادة الأمر مختلف ، في البداية كنت أقسم لنفسي أن الشياطين تقيم حفلاً هنا كل ليلة ، كان هذا حتى قررت أنني سأركب كاميرات مراقبة .. نعم وصل أمر الهواجس معي إلى هذا الحد .

هكذا يا عبد الحليم و كما قلت لك من قبل كنت أبات ليلتي هنا أتصفح بعض كتب الطب النفسي و بعدها استلقيت على سريري في الغرفة المجاورة و نمت ، في ذلك اليوم أذكر أنني حلمت حلما شنيعاً لا أذكره بالضبط و لكنه كان مرعباً بحق .
استيقظت و أنا غارق في عرقي ، كنت ألهث بشدة و كأنه كان يوجد شخص ما يخنقني و بعدها لم أستطع النوم .. النوم كان إهانة لذلك الحلم كما أعتقد ، ثم خطر لي أن أشاهد ما تركته الكاميرات لي ، أرى ما الذي كان يحدث في غيابي .. كنت قد ركبت الكاميرات قبل ذلك اليوم بأسبوع ، ضبطت الكاميرات على أن تعمل من الساعة العاشرة مساءً و هو وقت انصرافي و حتى الساعة الخامسة صباحاً في اليوم التالي .

فتحت التلفاز ثم بدأت المشاهدة على اليوم السابق ، و لم أجد أي شيء مثير للريبة ، بدأت أسرّع الكوادر و أنتقل من وقت إلى وقت و كررت هذه العملية في الأيام السابقة ، حتى وصلت لليوم الثاني بعد تركيبي للكاميرات ، و الأن هنا بدأ المرح يا عبد الحليم ، فلتتحامل و تركز معي قليلاً ..

إن الأمر بسيط .. هناك لدي خمس كاميرات في العيادة ، في المطبخ و الحمام و الصالة أو قاعة الانتظار و غرفة النوم و هذا المكتب هنا الذي أقابل فيه المرضى أمثالك ، كنت و ككل البشر تقريباً أترك بعض الإضاءة في أي مكان ، فقط بعض الإضاءة كي لايكون الظلام حالكاً ، و كعادتي كنت قد تركت نور الصالة مضاءً من ناحية بسبب الغريزة أو العادة و من ناحية أخرى كي تلتقط لي الكاميرات بعضاً من الإضاءة .
الشيء المثير هنا هو أن العيادة صغيرة و الصالة في منتصفها تماماً لذا إن كان الضوء قوياً بما فيه الكفاية فسوف يتمكن من إيجاد طريقه نحو الغرف كلها ، لن ينيرها بشكل كامل بالطبع و لكن ينيرها بما يكفي كي تستطيع التمييز بين كل غرفة و الأخرى ، و كان هذا يا عبد الحليم سبباً آخراً كي أترك نور الصالة هو المضاء ..

و الآن لنعد إلى ما كنت أقوله ، كنت أقول أنني في اليوم الثاني رأيت شيئاً غريباً ، رأيت شخصاً يا عبد الحليم ، أقسم لك أنه كان شخصاً يقف بالداخل .. بداخل الحمام ، في البداية لم يكن هناك شيء ، ثم من وسط الظلام .. من وسط بقعة لم يصلها ضوء الصالة ، بقعة داكنة تماماً ظهرت قدماه .. قدماه فقط ، أما وجهه فكان لايزال داخل بقعة الظلام ، الحمام كان فارغاً يا عبد الحليم و أنا بنفسي كنت قد تأكدت من هذا ، وقتها شككت في نفسي و قلت أنني لم أبحث جيداً ، و لكنني عدت إلى وقت بداية التسجيل و شاهدت نفسي و أنا أتفقد المكان تأهباً للرحيل .

لكن دعك من هذا يا عبد الحليم ، هناك نافذة في الحمام و ليس من المستحيل على شخص أن يدخل منها ، دعك من هذا .. هل تعلم ما الذي أرعبني أكثر من أي شيء آخر ؟! ما أرعبني أنه ظل واقفاً لسبع ساعات كاملة يا عبد الحليم ، سبع ساعات كاملة !! لم يتحرك قيد أنملة ، فقط يقف هكذا في الظلام ، لقد كدت أحطم التلفاز حين كنت أشاهد الأمر و أسرع الكادر كي أجد لحظة واحدة تحرك فيها لكن لم أجد أي شيء !

كان يقف مكانه طوال سبع ساعات ، لكن الإثارة لم تنته عند هذا الحد فقبل نهاية التسجيل بثلاث دقائق تحرك .. تحرك و تحرك نحو الضوء ، و حينها تمكنت من رؤية وجهه ، لقد كانت لحظة واحدة و لكنها كانت كافية تماماً .. كافية كي أعرف أن هذا الشخص هو أخي ، فلتقطع ذراعي إن لم يكن هو أخي ، لكن مرة أخرى دعك من هذا ، ربما وجد طريقة تمكنه من تسلق الحائط و الدخول من النافذة ، و ربما باغته النوم بمجرد أن دخل من النافذة فنام واقفاً ، كل هذا يمكننا أن نصنفه في قسم -المحتمل حدوثه- و لكن أخبرني بالله عليك .. هل من المحتمل أن ينهض أخي من قبره ؟؟ إنه ميت .. ميت منذ خمس سنوات و أنا أعرف هذا جيداً !!

أخي من الظلام ظهر و في الظلام اختفى كما ظهر .. من قلب الظلام دخل إلى الظلام و اختفى.. و إنتهى التسجيل على هذا .

المشكلة هنا يا عبد الحليم هي أنني لم أتمكن من كبح نفسي ، ما إن تعرف شيئاً صغيراً حتى تود أن تعرف كل الأشياء الصغيرة الأخرى ، بالرغم من أن هذا الشيء الصغير الذي تمكنت من معرفته يخبرك بشيء كبير جداً و لكنك ببساطة تتجاهل هذا و تقرر البحث عن بقية الأشياء الصغيرة ،
و هكذا قررت أن أتشجع قليلاً و أكمل البحث عن بقية الأشياء الصغيرة متجاهلاً حقيقة الشيء الكبير الذي عرفته ، و الشيء الكبير الذي عرفته و الذي إذا وضعت أي شخص مكاني كان سيعرفه هو أن هذا المكان ليس على ما يرام ، هناك شيء خاطئ هنا و هناك .. من يعبث بي ؟

لذا و كحلٍّ طبيعي يجب علي أن أترك هذا المكان و أخرج من هنا ما دمت أستطيع .. لكنني لم أفعل هذا و تجاهلت الأمر الكبير ، و مجدداً بدأت أبحث في الأيام الفائتة ، لكن لا شيء .. لم أجد أي شيء !! بحثت في كل مكان و تمنيت حتى لو أرى فأراً لكن لم أرَ أية فئران ، دعني أشعل هذه السيجارة من فضلك …

تيييك .. تيييك .. هوووف

و الآن كما كنت أقول لم أجد أي أثر لأخي ، ظننت أن هذه هي النهاية بالطبع ، و حينما قررت أن أستسلم تذكرت أنه يوجد يوم لم أبحث فيه و هو اليوم الذي أنا فيه بالفعل ، و بالفعل عدت بالكاميرا فرأيت نفسي و أنا أودع آخر المرضى و أغلق الباب من بعده ، بعدها رأيت نفسي أدخل المكتب و أعبث في الأوراق هنا و هناك أخلع حذائي و أرتخي على كرسي المكتب ، أحرق بعض السجائر و أصنع بعض الدخان ، أقرأ في بعض كتب علم النفس ، باختصار تماماً ما كنت أفعله .. كل هذا قد فعلته قبل ساعات قليلة من مشاهدتي الفيديو ، ظللت أقرأ الكتب و أنا أدخن بدون أي اهتمام أو انتباه ، أعني أنه لو كنت قد انتبهت قليلاً لما حولي لكنت قد رأيت الشيء الذي على باب المكتب ..

في تلك اللحظة يا عبد الحليم شاب شعري ، كنت هناك على المكتب أدخن كالأحمق و هناك من يقف على الباب يراقبني و أنا لا أنتبه له أصلاً ، و هذه المرة لم يكن أخي بل لم يكن منظره منظر شخص طبيعي من الأساس ، الكاميرا لم تسمح لي برؤية الكثير بالطبع و لكن حتى أسوأ الكاميرات سوف تخبرك الفرق بين جسد عادي و بين جثة متحللة ، كانت جثة متحللة و مرعبة كأي جثة متحللة تصادفها في حياتك ، هذا على الأقل ما تمكنت من معرفته من الكاميرا ، بالطبع أول شيء فعلته حينها هو تتبع هذا الشيء بالكاميرات كي أعرف من أين ظهر !! و بالطبع لا جديد هنا ظهر من بقعة مظلمة من المطبخ تماماً كأخي ، عدا أن أخي ظهر من الحمام .. لا اختلاف جذري هنا بل فعل ما فعله أخي تماماً ، وقف هكذا موجهاً هاتان الفجوتان اللتان لا أعرف إن كان يمكنني أن أسميهما عيناه نحوي ، و أنا لا أشعر به على الإطلاق !! هذا هو جزاء من يعطي ظهره للأبواب مثلي ، إنه لأمر مرعب للغاية أن تعرف أنه كان هناك شخص ميت يستمتع بمراقبتك بينما أنت لا تعرف بوجوده أساساً .

لكن دعنا من هذا الرعب و دعنا من الذعر الذي أصابني وقتها و عن شعر رأسي الذي وقف و عن ارتجافي و التفاتي حول نفسي طيلة الوقت ، دعنا من هذا كله و دعني أخبرك ما لاحظته و أثار دهشتي ، ما أثار دهشتي هو أن هذا الشيء بدا أنه يعرف تحركاتي تماماً .. فقبل أن أغلق الكتاب بثوان كان يرجع بهدوء و يدخل نفس المكان الذي خرج منه ، إلى المطبخ ثم الظلام و هناك لابد من أنه اختفى .. لابد من هذا ، هو لم يخرج .

الطريق إلى هنا موحش للغاية يا عبد الحليم .. موحش و مظلم ، أحياناً و لا أخفيك سراً أظن أن هذا الطريق يمتص النور من مصابيح سياراتي العتيقة ، قل لي .. هل أخبرتك عن الحادثة التي حدثت معي على هذا الطريق ؟ أنا لا أعرف فائدة هذا السؤال صراحة ؟ لأنني أعرف أنني لم أخبرك بأمر الحادثة ، سأخبرك بإختصار .. لقد دهست قطة .

ليس هذا بالأمر الجلل أعرف و لكن فلتعتبر هذا تسلية أو تمضية وقت ، كما قلت لك كنت أقود على سرعة عالية حين خيل لي أن هناك شيء ضخم يتحرك بين الحقول ، تمكنت من رؤيته على ضوء القمر ، تركت الطريق و ركزت على الحقول بنظري و حينها سمعت صوت شيء يتم فرمه تحت العجلات و اهتزت السيارة على وقع هذا الأمر ، التفسير الوحيد هنا هو أن في طريقي قد فعلت شيئاً شنيعاً لكائن حي .. و حينها ترجلت من السيارة كي أتفحص الكائن المسكين ، كانت قطة سوداء من النوع الذي يجعلك تفكر في مدى سواد اللون الأسود ، كل ما أمكنني فعله في ذلك الوقت هو التمني بأن هذه القطة ليست لديها أولاد لتطعمهم أو شيء من هذا القبيل ، تمنيت هذا ثم تركتها مكانها و ركبت السيارة ثم رحلت ، أنت لا تتوقع مني أن أمد يدي على كتلة من اللحم و العظام و الدماء .. و بالطبع السواد .

الكائن المتحلل كان يعرف تحركاتي يا عبد الحليم ، بدا هذا واضحاً مما رأيته في الكاميرا ، فكما قلت لك هذا الكائن رحل قبل أن أتحرك بثوانٍ ، بعدها بثواني كنت في الغرفة المجاورة على السرير أستعد للنوم ، و بعدها بدقائق كنت أغط في نوم عميق ، و في هذه المرة سيطر الهدوء على الموقف كان باق على النهاية ساعتين ، كنت أرى ما كان يحدث قبل ساعتين من الوقت الفعلي حينها .. المعذرة يا عبد الحليم سأشعل واحدة أخرى ..

تيك .. تيك .. هوووف

ظننت أنها النهاية و أنه ﻻ يمكن أن يحدث أي شيء آخر ، بطبيعة الحال فالموقف لا يمكن أن يكون أسوأ من هذا ، لكن اتضح أنه يمكن أن يكون أسوأ !! عرفت هذا حين رأيت في كاميرا الصالة هذا الشيء الأسود الصغير ، كان شيئاً يبدو مثل الظل و يتحرك بسرعة كبيرة ، بسرعة منعتني من أن أتعرف إليه .. كان سريعاً للغاية ، و مرة أخرى المشكلة الحقيقية ليست في سرعته يا عبد الحليم .. المشكلة الحقيقية كانت في أنه و بسرعته هذه دخل إلى الغرفة التي دخلت أنام فيها ، نقلت الكاميرا إلى الغرفة و رأيت نفسي نائماً على ظهري ، ثم دخل هذا الشيء بسرعته و قفز بطريقة غريبة من على الأرض إلى السرير ، و تحديداً على صدري و هناك توقف .. و كأنه جلس .

كان يعطي ظهره للكاميرا فلم أحدد شكله ، الظلام بالإضافة إلى سواد هذا الشيء يجعل من الصعب تحديد أي شيء عنه سوى لونه ، لكنني بالرغم من هذا تمكنت من تحديد و رؤية بعض الأشياء الأخرى ، أنا لست أعمى يا عبد الحليم ، ما تمكنت من رؤيته هو أنني بدأت أتلوى و كأنني أتعرض للخنق على يد ثعبان ، أعتقد أنني بذلت مجهوداً خيالياً وقتها ، استمر الحال على هذا الوضع لدقيقة تقريباً ثم رحل الشيء بعدها بنفس الطريقة التي جاء بها و استيقظت و أنا غارق في عرقي ، و هنا فطنت لحقيقتين ..

منذ قليل أخبرتك أنني وقتها و في ذلك اليوم استيقظت فزعاً من كابوس ما و بعد هذا شاهدت الأشرطة ، الحقيقة الأولى هي أن هذا الشيء الأسود هو من سبب لي الكابوس الذي جعلني أستيقظ ، بل إنني لم أستيقظ سوى بعد أن رحل ، أما الحقيقة الثانية فلابد من أنك قد عرفتها بنفسك ، هذا الشيء لم يكن سوى القطة التي دهستها في الطريق .. شبحها ربما !!

الطريق إلى هنا موحش للغاية يا عبد الحليم .. موحش و مليء بالمخاطر ، لكنني أعرف جيدا كيف أتجنب هذه المخاطر ، دعك من أنني قد تعلمت الكثير مما واجهته ..

هل تعتقد أن الأمر سينتهي هكذا بهذه البساطة ؟! أستيقظ غارقا في عرقي بعد ذلك أجفل و أبسمل ثم أهدأ و أذهب لأشاهد الأشرطة !! لابد من شيء آخر ، خدعة أخيرة .. إثارة أخيرة.. لقطة ختام كما يقولون .

بدأت أتابع نفسي باهتمام و أنا أعدل من جلستي على السرير ، و بعد ذلك أقف و أذهب إلى التلفاز المخصص بالكاميرات ، و ها أنا ذا أتابع نفسي و أتابع نفسي قبل ساعتين ، كنت أتابع نفسي و أنا أجلس أمام الشاشة لأول مرة ، أي ماكان يحدث منذ ساعتين كما قلت لك ، و مرة أخرى ظهرت هذه الجثة المتحللة ، كانت تقف في الصالة بزاوية يصعب علي رؤيتها من مكاني ، صاحبها ينظر نحو الغرفة التي أنا فيها و بمعنى أصح ينظر إلى بابها و فجأة و بدون أي مقدمات وقفت و اتجهت بسرعة نحو الصالة لكني لم أجد شيئاً ..

عدت للشاشة ثم بدأت أكمل كي أعرف متى رحل و اختفى ، لكنه ظل واقفاً طوال الساعتين ، كنت أشاهده و أقدم الوقت حتى قبل الوقت الفعلي بدقيقتين ، في هذا الوقت تحرك هو .. و بالطبع إلى المطبخ .. إلى الظلام ، اللحظة التي دخل فيها المطبخ كانت هي نفس اللحظة التي وقفت فيها أنا و توجهت فيها للصالة بسرعة ، أي ماحدث منذ دقيقتين ..
الأمر يبدو معقداً أليس كذلك ؟

سأخبرك بالخلاصة.. إن هذا اللعين يعرف متى سأتحرك و إلى أين سأتحرك و يتحرك قبلي بثواني .. يسبقني بخطوة ،لكن هذا لا يهم لأنني قد فهمت الأن ، فهمت كل شيء يا عبد الحليم .. لكم كنت غبياً !!

الطريق إلى هنا موحش للغاية يا عبد الحليم .. موحش و إنني لآسف أشد الأسف على زوجتك التي فقدتها على هذا الطريق يا عبد الحليم ، لقد شاهدتك تتألم عليها كثيراً ، لقد كنت تحبها حقا أليس كذلك ؟! أنا أيضا كنت أتألم معك .. بل لك ، من هو الأحمق الذي لا يتألم لألم أخيه ؟! من هو الأحمق الذي لا يعاني مع أخيه ؟ أعتقد أنه منذ ذلك الوقت و أنت مريضي الأول يا عبد الحليم ، أصابك إكتئاب حاد في البداية ثم بدأت تزعم أنك تراها في كل مكان ، بل بدأت تتكلم معها أمامي و هنا كان لابد لي من التدخل ، من هو أفضل مني أنا أخوك كي يعالجك من مرضك النفسي ؟!!

كنت في طريقك إلى هنا حين انقلبت بكما السيارة أنت و زوجتك ، حينها كنت مازلت لم أبني هذه العيادة بعد ، و كانت فقط مجرد قطعة أرض أتيت لرؤيتها أنت و زوجتك على أمل أن تبنوا منزلكم هناك ، أتذكر أن الأمر كان في الظهيرة ، قالوا لي أن الجو كان حاراً للغاية و بسبب هذا انفجر إطار السيارة و فقدت أنت السيطرة عليها ثم حدث ما حدث ..

ماتت هي و عشت أنت .. أقدار !! بعدها صممت أنت على أن تدفن هي على هذا الطريق في المكان الذي ماتت فيه ، و لحسن الحظ كان هناك مقابر قديمة للغاية على بعد ثلاثة كيلو مترات من مكان الحادثة ، إنها نفس المقابر التي توقفت عندها أنا ، لم أكن أظن أن الحظ سوف يفعل بي هكذا ، كنت قد نسيت أمر المقابر حقاً .. هل ؟!! هل تعتقد أن زوجتك كانت هي من تنادي عليَّ يا عبد الحليم؟

لقد حاولت كثيرا معك يا عبد الحليم لكنك كنت متمسكاً بجنونك ، أنت أكثر مريض أتعبني يا عبد الحليم و أول مريض لي انتحر كذلك ، أحياناً كنت أعتقد أنني السبب في هذا ، إنها كما تعلم متلازمة الشعور بالذنب الرهيبة تلك ، لا لشيء فأنت من وضعت السكين على رقبتك ، و لكنني كنت أقرب شخص إليك ، كما أنه إذا فشل أخوك الطبيب النفسي في معالجتك فمن برأيك سوف يفعل ؟!

طوال الخمس سنوات كان هناك سؤال واحد يتردد في عقلي ، سؤال – و لن أكذب هنا – أرّقني كثيراً .. لماذا طلبت في وصيتك أن تدفن هنا ؟ في قطعة الأرض هذه.. لقد كنت تعرف أنني أحترمك كثيراً و لن أرفض لك طلباً حتى بعد موتك ، و لهذا يجب أن تجيب على هذا السؤال ، لماذا طلبت أن يتم دفنك هنا على هذا الأرض ؟ لماذا لم تطلب أن يتم دفنك بجانب زوجتك أو في أي مكانٍ آخر ؟ لماذا هنا بالذات ؟!!

أياً يكن يا عبد الحليم لقد فهمت طلبك و مقصدك ، أنت تطالب ببعض الوحدة هنا و هذا من حقك ، هذا من حق أي ميت ، و لكن الأمور كانت صعبة منذ أن مت أنت ، الضائقة المالية التي لاحقتني بعد موتك بسنة أجبرتني على فعل هذا ، لم أملك المال كي أشتري قطعة أرض جديدة أبني عليها ما أريده ، كما أني لم أملك الجرأة كي أبيع هذه الأرض ، لا يمكنني أن أبيع قطعة أرض يرقد فيها جسد أخي ، و لهذا قررت أنني سأبني هنا ، لقد قدرت أنك لن تمانع يا عبد الحليم و قد كنت محقاً ، حتى كثرت زياراتي و زائريَّ ثم بدأت تتضايق من كل هذا الصخب الذي يحدث هنا كل يوم ، لقد فهمت يا عبد الحليم ، أخيراً فهمت إشاراتك التي كنت ترسلها لي .. أنت تريد مني الرحيل أليس كذلك ؟

لا بأس .. لا بأس لقد تحسنت حالتي المالية كثيراً بفضل هذه العيادة ، أعذرني إذا كنت قد ضايقتك ، و أشكرك على إنقاذي من كابوس القطة ، لابد من أنك أنت من جعلها ترحل أليس كذلك ؟ لكنني لم أرك في البداية لأن الغرفة كانت شبه مظلمة و الكاميرا لم تلتقط كل شيء ، سأرحل و سأتركك لعالم الموت حالياً ، لكن يجب أن أحذرك غداً سيكون هناك الكثير من الصخب ..

إن العيادات تصدر صوتاً عالياً حين يتم هدمها .

تاريخ النشر : 2016-11-19

البراء

مصر - للتواصل: [email protected]
guest
47 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى