أدب الرعب والعام

العائلة – الجزء الأول

بقلم : وائلوف محمد – السودان
للتواصل : [email protected]

العائلة - الجزء الأول
و كأن “مصطفى” كان ينتظر كلمة مني ليجلس على الأرض واضعاً يديه على رأسه و ينتحب بصوت مسموع !

اسمه “عماد أحمد” … اسم لا يوحي بأي شيء سوى بموظف حكومي يجلس خلف مكتب غير مرتب ، و ينضح بالعرق و الحنق ، العرق لأنه لا يوجد جهاز تكييف في المكتب و المروحة الوحيدة تسير على مهلها غير متعجلة و كأنها تخشى إن سارت بسرعة من أن تتسبب في حادث سير .

الحنق لأن من يأتون إلى المصلحة ليقضي لهم مصالحهم لا يكفون عن التذمر و الشكوى بسبب تأخره في إنجازها و كأنه آلة لا تتعب أو تصاب بالصداع أو المغص ، حانق لأن راتبه قليل لا يبقى منه مليماً بعد منتصف الشهر ، حانق لأن مديره لا يكف عن انتقاده لأنه لم يفعل شيئاً ما أو فعله بصورة لم تعجبه ، حانق لأنه في منتصف الثلاثين من عمره و لم يتزوج بعد ، و الفتاة التي كان قد خطبها وجدت بعد ست سنوات أن دبلة الخطوبة تخنقها و كأنها التفت حول عنقها و ليس حول إصبعها ، لذا فقد إنتزعتها و وضعتها في يده دون أن تقول شيئاً أو يقول هو شيئاً .

حانق لأنه حين ينظر في المرآة يشعر من الصلع الذي يزحف في مقدمة راسه والتجاعيد التي تملأ وجهه أنه أكبر من عمره بعشرين سنة ، و كأن مرآته مرآة مكبرة فقط لا تقوم بتكبير الحجم بل بتكبير العمر .

إسمه “عماد أحمد” يا سيدي شخص مثل ملايين الأشخاص الذين تراهم كل يوم في هذه البلاد .. قد يركب بجانبك في الحافلة ، أو يصطدم بك في زحام السوق ، أو يحييك بهزة رأس و أنتما تقفان أمام بائع شيء ما ، ودوماً هو صامت ، نظرته منكسرة و حزينة و يائسة ، يسير متثاقلاً و هو ينظر تحت قدميه مثل شخص يقاد إلى المشنقة .
اسمه “عماد أحمد” و لاشيء يميزه عمن تراهم كل يوم ، فما الذي يجعلني أحكي لك قصته ؟!!

*****

اسمه “عماد أحمد” و الأسبوع الماضي جلس بجواري في الحافلة ، كنت متجهاً للمدرسة التي أعمل فيها حين صعد إليها ، نظر نحوي نظرة خاوية لا تحمل أي معنى ثم حياني بهزة رأس و جلس بجانبي ، كان غير مهندماً ، يرتدي قميصاً لا أثر لمرور مكواة عليه ، و كان ذقنه غير حليقاً ، و كان متوتراً لا يكف عن تفحص حقيبته .. يفتحها ثم يغلقها ثم يفتحها مرةً أخرى و ينظر بداخلها ثم يغلقها ، فعل هذا أكثر من عشرة مرات !!

أحياناً كان يفتحها و ينظر نحوي برهة و يحك رأسه كأنه يفكر في أمر سيقوله لي ثم ينشغل عني بالنظر داخل حقيبته و غلقها حتى شعرت بالتوتر بسبب ما يفعله ، أنت تعرف الإشعاع السايكوفيزيائي يا سيدي ! حسناً عليك أن تعرف أنني لست متطفلاً و لا أحب التدخل في شؤون الآخرين بذات القدر الذي لا أحب فيه أن يتدخل أحد في شؤوني ، لذا فالحديث مع جاري في الحافلة هو آخر ما يهمني ، لكنني كنت أشعر أنه بحاجة لمن يتحدث معه ، أنت تعرف يا سيدي ولع الناس بالحديث مع الغرباء و إخبارهم بمشاكلهم و قصص حياتهم سواء كانوا رفقاء سفر أو أشخاص في مواقع التواصل الاجتماعي لم و لن يلتقوا بهم ، فكرة إخراج ما بداخلك لشخص لن تراه مرة أخرى و أن أسرارك بأمان معه فهو لا يعرفك و أنت لا تعرفه فكرة مريحة تشبه جلسة علاج مع طبيب نفسي … لذا فكرت أنني إذا سألته فسوف يحكي لي سبب توتره .

– هل هنالك مشكلة ما ؟ سألته..
لم يبدو عليه أنه سمعني ، كان يحدق داخل حقيبته بتركيزٍ غريب ، أدرت وجهي نحو نافذة الحافلة في ضيق ، بعد دقيقة شعرت بيده تلمس كتفي.. ألتفت ، كان ينظر نحوي نظرات ساهمة زائغة كأنه لا يرأني أصلاً
– ها.. “قال”.. هل قلت شيئاً ؟
قلت في حدة :
– لا
أمسك يدي ، كانت يده باردة كالثلج و مرتجفة ، وصوته أكثر ارتجافاً و هو يغمغم :
– نعم .. هنالك مشكلة
ثم ازداد صوته ارتجافاً و هو يستطرد :
– زوجتي و أبنائي !
– ما بهم ؟
– إنهم في البيت !
– و ما المشكلة في هذا ؟
– أنت لا تفهم.. أنا لست متزوجاً ، و لم أكن متزوجاً في يوم من الأيام !
– ………..
– المشكلة الأكبر أن الموجودين في البيت و يزعمون أنهم زوجتي و أبنائي هم موتى ، و أنا من نقل جثثهم للمشفى ، و كنت حاضراً وقت دفنهم !

** ** **

اسمه “عماد أحمد” و كان قد أخبرني في الحافلة عن اسمه و مكان عمله ، و أخبرته باسمي و اسم المدرسة التي أعمل فيها ، ثم اتفقنا أن نلتقي بعد إنتهاء الدوام ليحكي لي قصته .

مر اليوم طويلاً بعد توديعي له ، في العاشرة صباحاً ذهبت لحديقة المدينة حيث اتفقنا أن نلتقي .. الوقت مبكر ؟ أعرف هذا يا سيدي لكن قل لي بالله عليك إلى أين أذهب ؟ كنت قد يئست من أن يفتح لي غفير المدرسة الباب ، حسناً لقد أعتدت هذا الأمر ، حتى أصبحت أذهب للمدرسة و أنا أثق تماما أنهم لن يفتحوا لي الباب ، لكن كنت أذهب بحكم الروتين فقط ..

كل يوم أصل للمدرسة في التاسعة فأجد باب “الحوش” مغلقاً ، فأدقه حتى تؤلمني يدي ، و أنادي بأعلى صوتي على “عم علي” البواب ليفتح لي الباب و لكن لا يبدو أن أحداً يسمعني أصلاً .. و لولا وجود سيارة المدير و بعض سيارات المعلمين لفكرت أنه ربما أغلقوا هذه المدرسة للأبد ، بعد أن أفقد الأمل في فتح الباب لي أذهب للحديقة و أجلس فيها حتى الثانية ظهراً ثم أعود للبيت ، لقد أعتدت هذا الوضع فهو يحدث لي منذ اسبوع كامل ، و لولا الروتين كما أخبرتك كنت سأذهب من البيت مباشرة إلى الحديقة ..

المحير في الأمر إن إدارة المدرسة طوال هذا الأسبوع لم تتصل بي لتسأل عن سبب غيابي ، أو ليخبرونني أنهم قد قاموا بفصلي بسبب غيابي ، هذا أمر قاس لو كنت تفهم ما أعنيه يا سيدي ، أن تشعر أن لا أحد يكترث لغيابك و كأنهم كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر !!

أنا آسف يا سيدي ، أعرف أن هذا ليس موضوعنا ، فأنا لم أجلس معك لأحدثك عن مشاكلي الخاصة ، بل لأحكي لك عن “عماد أحمد” .. حسناً أنا لم أصدق ما قاله لي في الحافلة ، بل أعتبرته مجنوناً آخراً من المجانين اللذين يملؤون المدينة ، لكنه نظر لي نظرته الضائعة و أمسك يدي و قال :
-أنت لا تصدقني ، ها ! لم أحك هذا لأحد لأنني أعلم أنه لن يصدقني
– ممممم
ضغط يدي و قال متوسلاً و بصوت باك :
– عليك أن تستمع لي ، أرجوك.. لابد أن يسمعني أحد قبل أن أجن
غمغمت بكلمات قد تعني “حسناً سأستمع إليك” و قد تعني “و من قال أنك الآن لست مجنوناً ؟”
لكن يبدو أنه سمع “حسناً سأستمع إليك” لأنه قال لي :
– شكراً ، أنا ممتن لأنك ستسمعني
– على الرحب و السعة
– أنا ذاهب للعمل ، ما رأيك أن نلتقي بعد الدوام ؟
– اتفقنا
– أين؟ سألني
– تعال إلى حديقة ” “.
أومأ برأسه موافقاً ، ثم صافحني و نزل من الحافلة .

*****

جلست في الحديقة في الركن القصي الذي أعتدت الجلوس فيه منتظراً قدوم “عماد” ، أراقب الناس ، العشاق ، باعة المثلجات و المشروبات الغازية اللذين ينغصون على العشاق خلوتهم مع حبيباتهم حتى يشتروا منهم شيئاً ، أراقب الأشخاص الوحيدين مثلي اللذين يجلسون يراقبون الآخرين مثل ما أفعل .

انتظرته حتى الثانية ظهراً ميعاد ذهابي من الحديقة لكنه لم يأتِ ، قلت لنفسي أنه لن يأتي ، و أنني أحمق لأنني صدقت حديث شخص مجنون مثله ، “سأنتظر لربع ساعة” قلت لنفسي ، كان هنالك صوت داخلي يقول أنه سيأتي ، و أنه ليس مجنوناً .. عدت للإنشغال بمراقبة الناس حين حدث شيء غريب ، جاء شاب و فتاة مرا أمامي مباشرة و جلسا تحت ظل شجرة قريبة مني ، كانا قد أصبحا بعيدين عن أعين رواد الحديقة ، لكنهما أمامي مباشرة ، الشاب كان متوتراً يتلفت في كل الاتجاهات في قلق و قد التفت نحوي و التقت أعيننا لكنه أشاح بنظره مسرعاً و أمسك بكتف الفتاة و جذبها نحوه ، و بدأ في تقبيلها !! !!

شعرت بالغضب و الحنق من “عماد أحمد” هذا .. فهو الذي تسبب لي في هذا الموقف المحرج ، فما كانت حاجتي لرؤية عاشقين يتبادلان القبلات ؟ كانت الفتاة قد نهضت و لكن الشاب كان ممسكاً بيدها ، يبدو أنها تريد الذهاب بسبب الخوف من أن يضبطهما أحد في هذا المكان المنعزل لكنه يحاول جعلها تجلس ليواصل تقبيلها ، لكن في النهاية نهض هو أيضاً و تحركا ، مرا بجانبي هذه المرة أيضاً ، و كما في المرة السابقة لم يكترثا لي أصلاً .. كنت أشعر أنني سأنفجر بسبب الغيظ لذا نهضت و قررت مغادرة الحديقة و الذهاب للبيت ، و حين وصلت للباب .. رأيته ، كان يسير نحوي مترنحاً ، مبعثر الثياب و كانه خرج للتو من عراك و ليس من مكتب ، صافحني و قال معتذراً :

– آسف ، لقد تأخرت عليك ، لكنك تعرف المواصلات !
– لا عليك

ذهبنا للركن القصي في الحديقة و جلسنا ، كان ينظر نحوي لكن ليس بتمعن بل إن نظراته كانت كنظرات فأر في مصيدة ، نظرات مذعورة و قلقة و مجنونة ، عيناه.. التعاسة مجسدة فيهما ، التعاسة التي لا تترك مجالاً حتى للدموع فقط هي المسيطرة .. النظرات الزائغة التي لا تستطيع التركيز على أي شيء رغم أنها تحدق في كل شيء !

– هل تأتِ هنا كثيراً ؟.. سألني
– نعم، آتي دوماً بعد الدوام
– أمر غريب ، و هل ينتهي دوامك قبل الثانية ؟ أنت مدرس أليس كذلك ؟
قلت حانقاً :
– دعك من هذا ، و أخبرني هل كنت تمزح في ما قلته لي في الصباح ؟
قال بصوت بائس :
– هل أبدو لك كشخص يحب المزاح ؟
لم أرد.. قال في عصبية:
– اسمع إن لم تكن ستصدق ما أقصه عليك فأنا سأذهب
– هل تريدني أن أقول لك أنني أصدقك دون أن أعرف القصة أصلاً ؟
– بالطبع لا
– إذاً هيا أخبرني ما الأمر

أخرج علبة سجائر من جيبه و أشعل واحدة و مد لي العلبة ، فأخبرته أنني لا أدخن ، جذب نفساً عميقاً من سيجارته و قال لي :
– حسناً سأقص عليك الأمر من البداية
ثم أعتدل في جلسته ، و بدأ يحكي قصته لي .

*****

قال “عماد أحمد” :
-الإسبوع الماضي قابلت صديقي “مصطفى” في الصباح ، و بعد التحايا و السؤال عن الأخبار و العتاب لأنني لا أسأل أو لأنه لا يسأل ، و كل هذا الهراء المعتاد أخبرني أنه سيسافر للعمل في الخارج فهو مهندس في شيء ما ، و قد جاءه عقد عمل بمرتب شهري مجز ، أخبرته أن هذا رائع و أنني أتمنى له التوفيق ثم ودعته لأن علي أن أذهب إلى عملي ، لكنه قال لي :
أريد منك خدمة صغيرة ، أريدك أن تذهب معي إلى قريتي لأودع أهلي فقد لا نلتقي مرة أخرى ..

حاولت أن أعتذر له عن الذهاب معه لأنني أكره السفر الذي لم أكن مخططاً له كما تعلم ، لكنه كان مصراً كالموت .. و كانت حجته أن قريته ليست بعيدة فهي تبعد عن المدينة مدة ثلاث ساعات تزيد أو تنقص قليلاً حسب السيارة التي يسافر بها المرء ، و أن سيارته جيدة و سنصل في أقل من ثلاث ساعات ، ثم أننا سنذهب عصراً و نعود مباشرة و الوقت الذي نقضيه هناك لن يزيد عن السلام و شرب كوب شاي..

وافقت على مضض ، ثم ودعته بعد أن اتفقنا أنه سيأتي إلي في المؤوسة التي أعمل فيها بعد انتهاء الدوام لنذهب لقريته ، فلم أكن بحاجة للذهاب لبيتي لأقوم بتغيير ملابسي و ارتداء ملابس أكثر أناقة ، فليس لدي ملابس أنيقة أصلاً كما تعلم.. “لم أكن أعلم شيئاً عن حياة “عماد” فكيف لي أن أعرف عدم امتلاكه لملابس أنيقة؟ أو عدم حبه للسفر المفاجئ؟ لكنني كنت أومئ برأسي موافقاً على كل ما يقوله” .

كان قد أخرج سيجارة أشعلها بما تبقى من السيجارة التي في يده و واصل حديثه :
– في الثالثة جاءني “مصطفى”.. فركبت معه و توجهنا نحو قريته التي وصلنا إليها في السابعة تقريباً لأننا كنا قد توقفنا في مطعم في الطريق و تناولنا الغداء فيه و شربنا كوبي قهوة ثم واصلنا رحلتنا .

قرية “مصطفى” مثل أية قرية أخرى لا تزيد أو تنقص في شيء ، لذا لا داعي لأن أطيل القصة بأن أصف لك القرية أو أصف لك أهل “مصطفى” و جيرانهم من باقي أهل القرية ، فقد كانوا أشخاصاً طيبين و كرماء و لطيفين جداً كعادة أهل القرى كما تعلم.. ” لم أرى قرية في حياتي ، و لا أعرف كيف هي طبيعة أهل القرى ، لكنني هززت رأسي أن استمر فهذه معلومة قديمة “
– رحبوا بنا ترحيباً حاراً و اعتذروا عن عدم معرفتهم بقدومنا و إلا كانوا سيعدون لنا ما يليق بمقامنا ، ليكرموا ضيف ابنهم الذي هو أنا .
قلت لهم :
– لا عليكم .. فأنا من أهل البيت ، وسوف آتي لزيارتكم مرة أخرى ..

في التاسعة قمنا بتوديعهم ، و قد كان الوداع مؤثراً .

في الطريق إلى المدينة تحدثنا أنا و “مصطفى” عن أشياء كثيرة ، الجامعة ، حبيباتنا ، أصدقاء الجامعة اللذين بعثرتهم الحياة ، العمل ، سفره إلى الخارج ، الغربة… و في منتصف الطريق أخبرته أنني مرهق جداً و سأنام و عليه أن يوقظني عندما نصل المدينة ، كان هذا عندما رأينا الضوء الذي يخرج من الترعة التي نسير بجانبها و يتجه نحو الأعلى !
أوقف “مصطفى” سيارته و قال :
– علينا أن ننزل لنرى ماذا هناك ..
و أضاف ساخراً :
– يقولون أن هذا الطريق مسكون ، فلابد أن الشياطين تقيم حفلاً في منتصف الترعة …ثم ضحك ، لم أشاركه الضحك فقد كنت أدعو الله ألا نجد ما أفكر فيه..

و حين خلعنا ملابسنا و اقتربنا من حافة الترعة كان ما وجدناه هو ما تخيلته بذاته ، سيارة غارقة لا يظهر منها سوى مقدمتها التي كانت مصابيحها هي ما يرسل الضوء من الترعة لأعلى ..
– يا الله.. ما هذا ؟ قال “مصطفى” بصوت متحشرج
– لا تبدو كسيارة في موقف ، لا بد أنها انقلبت في الترعة بسبب حادث .
– علينا أن ننزل لنرى إن كان هنالك أحد بداخلها ، فلا يبدو أنها سقطت منذ زمن طويل فبطاريتها لم تنفد بعد .

أحضر “مصطفى” مصباحاً يدوياً من سيارته ثم نزلنا إلى الترعة ، كان الباب الذي بجانب مقعد السائق نصف مفتوح ، مما جعلني أتنهد في ارتياح و أتخيل أن سائقها قد نجح في فتح بابها و خرج منها ، تعاونا في جذب الباب حتى يستطيع أحدنا أن يدخل ، و حين أدخلت رأسي و تحرك ضوء المصباح داخل السيارة رأيت الأجساد الثلاثة التي تكومت في المقعد الخلفي غارقة في الماء الذي يملأ السيارة ، امرأة و طفلان !!
دخلت السيارة و بدأت بجذب الأجساد الثلاثة واحداً تلو الأخر و “مصطفى” يمسك بهم و يخرجهم خارج السيارة ، أرقدناهم على الأرض جوار سيارة “مصطفى” الذي كان يردد راجفاً :
– يا الله ، يا الله
المرأة تبدو في العقد الرابع من العمر ، و الطفلان كانا صبياً و بنت ، البنت تبدو أكبر سناً..
– هل هم موتى؟ .. سألني “مصطفى” و هو يرتجف مذعوراً و برداناً ، ثم استطرد دون أن ينتظر إجابةً مني :
– لابد أنهم موتى ، فالسيارة كانت ممتلئة بالماء
ثم سألني فجأة :
– هل نقوم بعمل تنفس صناعي لهم؟
– هل تجيد فعل هذا ؟
-لا، لكن أنت ر ..
قاطعته :
– لا أعرف كيف يتم ، ولا أظن أن هنالك فائدة منه !
قال و كأنه يبكي :
– لكن ماذا نفعل ؟
جلست على ركبتي بجانب جسد الصبي و وضعت يدي في مكان قلبه.. لا نبض !
ثم أنحنيت و وضعت راسي على صدره فربما كان النبض ضعيفاً لكن .. لا نبض !! نظرت نحو “مصطفى” و هززت رأسي في آسى ، قال بصوت مبحوح :
– والطفلة؟
فعلت معها كما فعلت مع الطفل.. لا نبض أيضاً !
امتلأت عيناي بالدموع حين لم أجد نبضاً في جسد المرأة أيضاً
– ميتة … كلهم موتى !
و كأن “مصطفى” كان ينتظر كلمة مني ليجلس على الأرض واضعاً يديه على رأسه و ينتحب بصوت مسموع !

*****

أشعل “عماد أحمد” سيجارته السابعة منذ أن جلسنا ، كنت أنا متوتراً و قلبي ينبض بسرعة ، و بدأ العرق ينبت على جبهتي ، و الشعيرات التي على ساعدي قد انتصبت .. خوف مبهم و غريب تملكني ، لم يكن خوفاً بل ما شعرت به كان أقرب للرعب ، امتلأ عقلي بصورة السيارة الغارقة و التي ترسل مصابيحها ضوءاً يتجه نحو الأعلى .. بدا لي الأمر مألوفاً و ليس غريباً عني ..

– ها .. ما بك ؟ انتزعني صوت “عماد” من خواطري
– لا شيء
جاء الصبي الذي يبيع المشروبات الغازية نحونا و وضع الصندوق الذي يحمله على الأرض أمامنا
– هل تريد مشروباً مثلجاً ينعشك في هذا الحر يا سيدي ؟ قالها لـ “عماد” ، لم يعرني الصبي أي اهتمام يبدو أنه لم يلاحظ وجودي أصلاً .
-لا أرغب .. شكراً ، قالها “عماد” متأففاً
كنت أنا أشعر و كأن هنالك ناراً في جوفي بسبب كل هذا التوتر الذي جعل حلقي جافاً كالصحراء لذا سألت البائع :
– هل عندك كوكا كولا ؟
لم يجب و لم يلتفت نحوي بل أنحنى و حمل صندوق مثلجاته و سار مسرعاً نحو شاب و شابة جلسا قريباً منا
قال “عماد” و هو يبتسم ابتسامة شاحبة :
– يبدو أن هذا الصبي يعاني مشكلةً في السمع !
حانقاً قلت :
– فليذهب إلى الجحيم .. هيا أخبرني ماذا فعلتم بعد أن تأكدتم أنهم موتى ؟

*****

قال “عماد أحمد” :
بعد أنهضت “مصطفى” و توقف عن النحيب و إن كانت دموعه ما زالت تملأ عينيه ، و ارتدينا ملابسنا ، و وقفنا بجانب الجثث و قرأنا لهم سورة الفاتحة ، جاء وقت السؤال الذي كنت أخشى أن يسأله أحدنا – و إن كان لابد منه – لذا بادر به “مصطفى” :
– و الآن ماذا سنفعل ؟
قلت له أن علينا أن نوقف سيارة ليساعدنا صاحبها في نقل الجثث إلى المدينة ” كلمة جثث كانت تجعلني أرتعد ، هؤلاء أشخاص لديهم أسماء يناديهم أحباءهم بها ، كانوا بالأمس أو اليوم يمرحون و يضحكون و يحلمون .. كانوا يعنون الكثير لأشخاص ما ، و فجأة و في غمضة عين لا يصبح لأسمائهم و لا أحلامهم أي معنى لأنهم أصبحوا جثثاً “

لم تمر سيارات كثيرة بجانبنا ، فهذا الطريق ليس حيوياً ، و لا تمر سيارة فيه إلا كل ربع ساعة أو أكثر ، و حتى السيارات التي مرت لم تتوقف رغم تلويحنا المتوسل الذي وصل لدرجة أنني توقفت في منتصف الطريق أمام إحدى السيارات ، لكن سائقها انحرف عني و واصل سيره كأن لم شيئاً لم يكن .
بعد أن يئسنا من توقف أحدهم لنا قلت لـ “مصطفى” أن علينا أن نأخذهم في سيارته..
– لكن كيف ؟ سألني بصوت باكٍ :
– لن نستطيع إرقادهم فالسيارة صغيرة
قلت في حزم :
– ليس بالضرورة أن نرقدهم ، من الممكن أن نجلسهم في المقعد الخلفي .

نظر “مصطفى ” نحوي مندهشاً و صرخ :
– هل تمزح ؟
– هل تظن هذا وقتاً جيداً للمزاح ؟ أجبته في برود
غمغم و هو يرتجف :
– ولكن.. ا ا ا .. كيف ؟
– لا يوجد حل سوى هذا .

قد تسألني كيف كنت متماسكاً و قوي الأعصاب هكذا ؟ و أنا الذي لم أرَ جثةً في حياتي ، حتى أنه حين ماتت جدتي لم أستطع أن أقترب و أرى وجهها ، كنت واثقاً أنني لو رأيت أية جثة فسوف أسقط فاقداً الوعي ، لكن في ذلك الوقت كنت هادئاً لدرجة البرود في حين بدا “مصطفى” مذعوراً و خائفاً لا يفعل شيئاً سوى النحيب ، و هو الذي كان دوماً أشجع مني و يجيد التعامل مع الأزمات .

ربما هذا هو السبب.. ذعر “مصطفى” هو الذي جعلني شجاعاً.. أنت تعرف ما يحدث حين تشربان أنت و صديقك نفس كمية الخمر التي قد تجعلكما ثملين بنفس الدرجة ، لكن حين يبدأ صديقك في الترنح و السقوط على الأرض تجد نفسك واعياً كأنك لم تشرب جرعة خمر معه ، فتبدأ في مساعدته على السير و منعه من الشجار مع الناس .. حين يتطلب الأمر يقظة أو شجاعة فلابد أن يكون هنالك شخصاً يقظاً أو شجاعاً .

قمنا بحمل الجثث و وضعها في المقعد الخلفي وسط نحيب “مصطفى” الذي عاد بصوت عالٍ ، و في ضوء السيارة الداخلي استطعت التركيز لأول مرة في الجثث ، المرأة جميلة و إن كان جمالها ذلك الجمال الهادئ المريح للنفس .. الذي من الممكن أن تنظر لصاحبته دهراً من دون أن تصيبك نوبة قلبية ، كانت ترتدي فستاناً أزرقاً طويلاً ، و لم يكن هنالك ما يغطي رأسها ، فلابد أن خمارها – إن كانت ترتدي واحداً – قد سقط في السيارة الغارقة ، فستانها كان مبللاً و يلتصق بجسدها ، شعرها التصق بنصف وجهها فلم تظهر سوى عينها اليسرى ، كانت شاخصة تحدق في اللاشيء و فيها لمحة ذعر طفيفة ، أزحت شعرها عن وجهها و قمت بإغماض عينيها و “مصطفى” يحدق فيَّ بنظرات مندهشة و مرتبكة و كأنني ساحر أدى فقرة مذهلة أمامه .

الطفلة تشبه أمها إلى حد ما ، سرح شعرها ضفيرتين طويلتين ، كانت ترتدي فستاناً به الكثير من الألوان ، فستاناً جميلاً يشبهها حين كانت حية.. “فستان مبهج” … فكرت .

الصبي أصغر من أخته يرتدي قميصاً أبيضاً و سروالاً أزرقاً قصير ، و جزمة أنيقة عكس أمه وأخته اللتان كانتا حافيتان.. – لابد أن حذائيهما سقطا في السيارة أيضاً – لكن من قال أنهما أمه و أخته ؟ لست أدري لكنهم يبدون كعائلة صغيرة سعيدة ، أو كانت سعيدة ! ينقصهم الأب الذي ربما ينتظر عودتهم الآن في البيت ، أو ربما هو خارج البلاد يعمل في دولة ما و يحلم بالإجازة التي سيعود فيها ليضمهم إلى حضنه ، و ربما هو ميت ، ليته يكون ميتاً ليرتاح من الألم الذي سوف يسببه له فقد هؤلاء الأعزاء .. مؤلمٌ أن يخبرك أحدهم أن من تحيا لأجلهم قد صاروا جثثاً ..

– و الآن ماذا نفعل؟ أنتزعني صوت “مصطفى” المرتجف من خواطري ، كان يستند على باب السيارة الأمامي و وجهه نحو الطريق يحدق في العتمة ، اقتربت منه و وضعت يدي على كتفه و قلت :
-سنأخذهم للمشفى
لم يلتفت نحوي و هو يغمغم :
– لكن من سيقود السيارة ؟
أجبته مندهشاً :
-أنت بالطبع !!
التفت نحوي مذعوراً و هتف :
– لا.. لا أستطيع.. و أمسك بيدي متوسلاً و أضاف : أرجوك قد أنت .
– لكنني لست جيداً في القيادة .
– لا يهم ، الطريق خالٍ و لا توجد سيارات كثيرة .. أتوسل إليك
– حسناً.. حسناً ، سأقود أنا.. هيا اركب .
جلست خلف عجلة القيادة و جلس هو في المقعد المجاور و لم يلتفت نحوي و لا للخلف حيث تجلس الجثث الثلاثة بل أدار وجهه نحو الخارج و واصل تحديقه في العتمة ، و أدرت أنا السيارة .

***

فتح “عماد أحمد” علبة سجائره ليشعل سيجارته العشرين ربما لكنه وجدها خالية ، فقال لي أنه سيذهب ليحضر علبة سجائر و يعود.. كنت ساهماً أفكر في صورة السيارة الغارقة التي تحتل عقلي ، و أحاول التفكير إن كنت رأيتها من قبل أم أن سرد “عماد” هو ما جعلني أتخيل أنني رأيتها… أغمضت عيني و مسحت وجهي بيدي و كأنه إن أغمضت عيني فسوف تختفي الصورة من عقلي !! جعلتني الفكرة أبتسم و أفتح عيني ، ثم رأيت المرأة.. امرأة حافيةً ترتدي ثوباً أسوداً طويلاً ومبتلاً تسير نحو باب الحديقة ، ارتجفت و شعرت ببرد يخترق عظامي .. و فجأة التفتت نحوي ، وجهها كان نصفه قد تغطى بشعرها المبتل الذي التصق به ، و في عينها التي لم يغطها شعرها رأيت نظرة حزن و اتهام و احتقار ، نظرة زادت رجفة جسدي ، نظرة لن أنساها طوال حياتي ..

نفضت رأسي في ذعر ، و حين نظرت نحو المكان الذي كانت موجودة فيه كانت قد اختفت ! هل خرجت من الباب ؟ أم أن هذا كان وهماً سببه تأثير هذه القصة اللعينة !!
– هل تأخرت عليك ؟ أنتفضت مذعوراً .. كان هذا “عماد” ، واقفاً أمامي ممسكاً بسيجارة مشتعلة .. نظرت نحوه بعينين لا تريان و بصوت مبحوح أجبت :
– لا

نظر نحوي في حيرة و سألني :
– ماذا هناك ؟
تنحنحت و قلت :
– لاشيء .. أنا مرهق قليلاً .
– هل تذهب إلى البيت و نلتقي غداً لنكمل حديثنا ؟
صرخت غاضباً :
– اجلس و أكمل لي هذه القصة اللعينة
هز رأسه مندهشاً و قال :
– حسناً حسناً .. اهدأ
تنفست بعمق وغمغمت معتذراً :
– آسف ، لا أعرف ماذا دهاني .. أنا فقط متوتر .
ربت على كتفي و قال :
– لا عليك
ثم جلس بجانبي ، و واصل حكايته..

يتبــــع ــــــــــــــــــــــــــــــــ
                       ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تاريخ النشر : 2016-11-22

وائلوف محمد

السودان
guest
23 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى