أدب الرعب والعام

العائلة – الجزء الثالث

بقلم : وائلوف محمد – السودان
للتواصل : [email protected]

العائلة - الجزء الثالث
عيناها حمراوان كجمرتين و فيهما كل غضب و كراهية الدنيا ، حتى أكاد أقسم أن الشرر كان يتطاير منهما ، و فتحت فمها .. لم تكن تملك أسنان بل أنياب .. و انقضت علي !!
قال “عماد أحمد” :
كنت جالساً في المقهى الذي يقع في آخر الشارع و الذي يظل مفتوحاً لوقت متأخر من الليل أحتسي كوب القهوة العاشر و السيجارة الألف ، لا أعرف كيف خرجت من الشقة ، و لا أذكر غير أنه بعد أن قالت المرأة أنها زوجتي و أن هؤلاء أطفالي ، أن الطفلين نهضا و اتجها نحوي ، لابد أنني جريت أو زحفت أو حبوت حتى باب الشقة و خرجت ..

لم يكن هذا حلماً “فكرت” ر بما كان و هماً ، و سأعود لبيتي و لن أجدهم ، لكن ماذا لو وجدتهم ؟ جهازي العصبي لم يعد يحتمل ، سأجن لو وجدتهم ما زالوا في البيت ، أثق تماماً في أنني سوف أجن ، لكن أين سأقضي هذه الليلة اللعينة ؟ كانت الساعة تشير للثانية صباحاً مما يعني أنه تبقت أربع ساعات على قدوم الصباح .. أين أقضيها ؟ و هذا المقهى سيقفل أبوابه بعد نصف ساعة ، هذا المقهى !! لن يرفض “عم عبدة” أن أكمل ليلتي في مقهاه هذا …

حين أخبرته بالأمر ، نظر نحوي محتاراً فهو يعرف أن بيتي على مرمى حجر من هنا لذا سألني :
– لماذار؟
و أضاف ضاحكاً بصوته الأجش بسبب سنوات من تدخين الشيشةو:
– لو كنت متزوجاً كنت سأجد لك عذراً
ثم سعل و قال :
-أحياناً يفضل الرجل أن يبيت في مكان حتى و إن كان الجحيم ، إن كان هذا سيبعده عن زوجته ..
كدت أن أخبره أنني هنا فعلاً بسبب زوجتي ، و لكن صورتك ستهتز أمام الناس حين تخبرهم أن هنالك من تدعي أنها زوجتك و أنك تنكر ذلك ، لن يصدقك أحد ، خاصة حين يعلمون أن في القصة أطفال ، و الآن تخيل أن تكون هذه المرأة ميتة أصلا !!

قلت و أنا أحاول أن أبدو طبيعياً و مبتسماً :
– لقد أضعت مفتاح الشقة ، و لم أجد من يقوم بكسر القفل و تغييره فالوقت متأخر ، ثم أضفت و أنا أنهض :
– لكن لا بأس إن كنت ترفض مبيتي هنا ، أستطيع أن أجد حلاً ..
أمسك يدي و قال في عصبية و هو يسعل :
– عيب عليك يا أستاذ “عماد” فأنت جاري و زبوني الدائم ، لو كنت تريد القهوة ذاتها فسوف أتركها لك ، “و حلف بالطلاق ليؤكد قوله ” ، ثم نادي على الصبي الذي يعمل معه و أمره أن يعد له الشيشة و قال لي :
-والأن أجلس لتدخن هذا الحجر معي .

قال “عماد أحمد”:
حين استيقظت في الصباح بدأ لي أن ما حدث في الليلة الماضية كان سخيفاً و مبتذلاً و غير حقيقيٍّ بالمرة ، شمس النهار أزالت كل توتري و مخاوفي .. شكرت المعلم “عبده” على تركه لي أبيت في مقهاه ، فضحك ضحكته المزعجة و ضربني على كتفي صارخاً :
– لا عليك .. هذه خدمة بسيطة لجار ، و قد أوصى النبي بسابع جار
ثم أضاف :
– و الآن عليك أن تجد نجاراً خبيراً
فنظرت نحوه مستغرباً و سألته :
– نجار ؟! .. لماذا ؟
– ليقوم بكسر قفل باب شقتك !

و قبل أن أسأله عن السبب الذي يجعلني أحضر من يكسر قفل باب شقتي تذكرت الكذبة التي قلتها له ليدعني أنام في المقهى .. ابتسمت له و في عيني نظرة امتنان زائفة :
– شكراً لأنك ذكرتني ، لقد نسيت الأمر تماماً .
ضحك ضحكته الطويلة المجلجلة و قال :
– من يراك يظنك متزوجاً مثلنا امرأةً مزعجة تنكّد عليك حياتك لدرجة أنك صرت تنسى أبسط الأشياء !
– ليتها كانت زوجة مزعجة ، هي زوجة ميتة .. غمغمت بصوت منخفض
– ماذا ؟… سألني
– لا شيء
ثم صافحته و قلت :
– شكراً مرةً أخرى
و خرجت ..

*****

كنت و أنا أفتح الباب واثقاً من أنني لن أجد أحد بالداخل ، فأوهام الليل يمحوها النهار ، لكن ما إن دخلت حتى رأيت المرأة جالسة في نفس المقعد الذي كانت جالسة عليه ليلة أمس ، و بجوارها أطفالها على الأرض !! كدت أصرخ من الذعر ، الأمر إذاً ليس وهماً ، فالوهم لا يبقى جالساً في مكانه طوال الليل منتظراً قدومي ، بل هو حقيقي جداً .

لم أغلق الباب خلفي ، تركته مفتوحاً لأهرب عند أول بادرة منهم ، فكرت أن أستغيث بالجيران ، لكن ماذا أقول لهم ؟ هنالك موتى يجلسون في صالة بيتي !

و فجأة التفتت المرأة نحوي ، كانت في أول الأمر جالسة و ظهرها في اتجاهي ، التقت عينانا .. نفس النظرة الميتة الباردة في عينيها ، عيناها اللتان لا تستطيع التركيز في أي شيءٍ آخر سواهما ، و كأنهما ثقب أسود يجذب كل شيء نحوه بقوةٍ خارقة ، كنت مأخوذاً بعينيها و مسحوراً .. أشعر أنني أغوص فيهما عميقاً عميقاً .. حتى أنني و دون إرادة مني أو وعي بدأت أسير نحوها ، لكني انتبهت عندما نهضت المرأة و بدأت تسير باتجاهي ، نفضت رأسي مذعوراً و قبل أن تخطو خطوتين نحوي خرجت من الشقة و أغلقت الباب خلفي .

*****

رغم حالتي النفسية السيئة و الإرهاق الذي أشعر به إلا أنني ذهبت للعمل ، فلست على استعدادٍ لتقبل الخصم من راتبي بعد تهديدات المدير ، و بالطبع لست على استعداد لأخبره أنني تغيبت بسبب امرأةٍ ميتة في بيتي تزعم أنها زوجتي ، فهو أصلاً يشك في سلامة قواي العقلية بسبب حالتي ” بلاهتي المتقدمة ” كما يزعم .

ثم افرض أنني تغيبت عن العمل إلى أين سأذهب ؟ من عاشر المستحيلات قضاء اليوم في البيت مع ثلاثة أشخاص دفنتهم في القبر بيديك !! المقهى؟ ماذا سيقول عني المعلم “عبده” حين يراني جالساً طوال الليل و النهار في مقهاه ، خاصةً أن حيلة ضياع المفتاح لن تجدي في النهار ، كنت جالساً طوال اليوم أفكر ما الذي سأفعله ؟ ثم وجدت أن الحل الوحيد هو أن أذهب ل “مصطفى” و أحكي له ما يحدث معي ، فربما وجدت عنده حلٌّ ما ، و ربما يحدث معه نفس ما يحدث معي .. أليس هو من وجدهم معي ؟

في الرابعة عصراً كنت أدق باب بيت “مصطفى” و أنا أدعو الله ألا يكون قد سافر أو يكون هارباً من بيته مثلي ، بعد أقل من دقيقة فتح لي الباب .. كان منظره مخيباً للآمال – آمالي أنا على الأقل – كان هادئاً و أنيقاً و منتعشاً ككارثة ، لا يبدو هذا مظهر شخصٍ تسكن معه أشباح في بيته !!

رحب بي و دعأني للدخول ، ثم أعد لنا كوبين من الشاي و جلسنا نتحدث ، سألني إن كنت مريضاً ، فأنا أبدو كشخص في السبعين مصاب بمرض عضال كما قال ، لم أحك له ما يحدث في بيتي لكنني أخبرته أنني ذهبت لتشييع المرأة والطفلين ، بدأ ممتعضاً من هذا الموضوع فغيره سريعاً و أخبرني أنه سيسافر في الخامسة من صباح الغد ، تمنيت له الوصول سالماً ، و التوفيق في عمله .. ثم قلت :
– عليك الذهاب معي إلى بيتي لأريك شيئاً
مندهشاً سألني :
– ماذا هناك ؟
– تعال معي و ستعرف
ضحك و قال :
– هل تعد لي مفاجأة ؟
لم أكن في مزاج يسمح بالمزاح فقلت في اقتضاب :
– ربما
– الآن ؟
– نعم… الآن
تنهد و قال :
– حسناً … هيا بنا .

*****

قال “عماد أحمد” :
حين فتحت باب بيتي و دخلنا ، كانت هنالك مفاجأة فعلاً و لكن من نصيبي و ليس من نصيب “مصطفى” ، فقد وجدت البيت خالياً لا أثر لأحد فيه ، تلفت في أرجاء البيت مرتبكاً ثم نظرت لـ “مصطفى” في حيرة فسألني :
– ما الأمر ؟
لم أجد ما أقوله له .. هل كنت أهذي و أتخيل أشياء لا وجود لها ؟ و الآن هل أفرح لأنني لم أجد المرأة و طفليها أم أشعر بالذعر لأنني صرت أرى أشياء لا وجود لها ، و هذا يدل على أنني أتجه نحو المصحة العقلية بسرعة البرق !!

انتزعني صوت “مصطفى” من خواطري :
– ماذا هناك ؟
– لا شيء .. قلت مرتبكاً و أضفت :
– سأذهب للمطبخ لأعد لنا كوبي قهوة
قال و عدم الاقتناع جلياً في صوته :
– هل أحضرتني لنشرب القهوة ؟
قهقهت في مرح :
– ربما
و قبل أن أخطو خطوتين نحو المطبخ رأيتهم ، المرأة و الطفلان يخرجون من المطبخ و يقفون أمام بابه ، ارتجف جسدي و التفت نحو “مصطفى” صارخاً و أنا أشير بيدي نحوهم :
– و الآن انظر ..

حدق فيَّ مندهشاً و نظر نحو المكان الذي أشير إليه و قال :
– ماذا ؟ ما به مطبخك ؟
صحت في ذعر :
– ألا تراهم ؟!!
عقد حاجبيه و تلفت حوله و سألني :
– من هم ؟
– المرأة و الطفلان !
اقترب مني و وضع يده على كتفي و قال :
– أية امرأة و أي طفلين ؟
قلت بصوت مختنق و أنا أشعر أنني سأبكي في أية لحظة :
– اللذين وجدناهم غرقى !!
ارتجف جسده و قال بصوت مبحوح :
– “عماد” هل تمزح معي ؟
جلست على الأرض واضعاً يداي على رأسي و لم أرد .. هزني بعنف و هو يصرخ :
– ماذا يحدث ؟! أخبرني بالله عليك .

رفعت رأسي .. رأيت المرأة تنظر لي نظرتها الميتة التي تجعلني أشعر بالبرد يخترق عظامي .. فتحت فمها كأنها ستقول شيئاً لكنها فجأة جذبت طفليها و دخلت المطبخ ..

نهضت متوتراً مرتبكاً حانقاً و أمسكت بيد “مصطفى” و جذبته نحو المطبخ و أنا أغمغم :
– تعال معي إلى المطبخ و أخبرني ماذا ترى
سار معي مستسلماً ، و في الداخل رأيتهم يقفون في منتصف المطبخ تماماً و ينظرون نحوي أنا فقط و كأنهم لا يرون “مصطفى” مثلما لا يراهم هو !! و كان هو يتلفت في أرجاء المطبخ و يغمغم :
– أرى ما يمكن أن يكون في أي مطبخ آخر ، باستثناء أن المطابخ الأخرى تكون نظيفة ..
جذبته من يده إلى الخارج و أنا أشعر بالغضب بسبب أنه يظن أن هذا وقتاً مناسباً للمزاح و قلت ممتعضاً :
– هيا نخرج من هنا و نجلس في المقهى لأقص عليك كل شيء .

*****

– يبدو أن ما مررت به في الأيام السابقة قد أثر عليك نفسياً و جعلك تتوهم أنك ترى أشياء لا وجود لها أصلاً ..
قالها لي “مصطفى” و نحن جالسان في المقهى
قلت :
– لكن نفس ما حدث معي حدث معك أنت أيضاً ، و لم يحدث معك ما يحدث معي !
و زفرت مستطرداً :
– رغم أنني كنت أكثر تماسكاً منك
حك جبهته و قال :
– ربما هذا هو السبب .. فأنا قد أفرغت كل توتري و ذعري أثناء الموقف ، أما أنت فقد تماسكت و لكن عقلك الباطن احتفظ لك بالتوتر و الذعر و القلق ، ليعد لك هذه المفاجأة القاسية ، و ربت على كتفي و قال مبتسماً :
– صدقني .. الموتى لا يتركون قبورهم ليذهبوا للناس و يدَّعوا كاذبين أنهم أزواجهم أو زوجاتهم .

لم أرد عليه فأنا لم أقتنع أصلاً بما يقوله لي ، لكن لم أكن أملك الاستعداد النفسي للجدال .. فقال لي :
– اسمع ستبيت هذه الليلة معي و تذهب معي للمطار ..
قبلت اقتراحه الذي سيبعدني عن البيت هذه الليلة أيضاً ، لكن إلى متى سوف تستمر رحلة التشرد هذه ؟ كانت أمامي ثلاث خيارات .. أولا محاولة طردهم من البيت و لا أعرف كيف سيكون هذا دون الاستعانة بدجال يملأ البيت دخاناً و بخوراً و هراء ، و أنا لا أثق بهولاء أصلاً دعك من صورتي أمام جيراني .. ثانياً التصالح مع وجودهم في بيتي و اعتباره أمراً واقعاً لا فرار منه ، فأنا لا أملك ترف ترك شقتي و البحث عن شقة أخرى ، و لن أجد بالطبع واحدة مناسبة بسعر مناسب كشقتي .. و الخيار الثالث هو أن أنتحر و أريح نفسي من كل هذا التوتر ، و قد أتزوج المرأة عندما أصير شبحاً و نستمر في السكن في شقتي أنا ، هي و طفليها كعائلة من الأشباح السعيدة .. ألا يبدو خياراً جيداً ؟

في السادسة صباحاً وصلت إلى بيتي بعد أن ذهبت مع “مصطفى” إلى المطار و انتظرت طائرته حتى أقلعت ، أدرت المفتاح في قفل الباب و أدخلت رأسي منه – حيث يمكن رؤية الصالة من باب الشقة – و في الصالة رأيت المرأة جالسة في نفس المقعد الذي تجلس عليه دوماً و ظهرها لي و أطفالها يجلسون بجانبها على الأرض ، لم أنتظر حتى تلتفت نحوي.. فقد خرجت و أغلقت الباب .

***** ***

قال لي “عماد أحمد” :
– هذا كل ما حدث معي ، حتى قابلتك صباح اليوم في الحافلة ..
– أريد أن أذهب إلى بيتك.. قلت فجأة و دون أن أفكر حتى
نظر “عماد” نحوي بحيرة ممتزجة بدهشة حقيقية و سألني :
– ماذا ؟!
أجبت في إصرار :
– أريد الذهاب لبيتك
– لكن لماذا ؟
قلت متلعثماً :
– هل ستصدقني إن قلت لك لا أعرف ؟
ثم أضفت :
– لكن أشعر برغبة قوية في الذهاب معك !
قال مستسلماً و هو يهز كتفيه :
– لا بأس .. ثم أبتسم و قال :
-على الأقل سأجد من يشجعني على دخول البيت لأقوم بتغيير ثيابي و الفرار مرة أخرى .

كانت الشمس قد بدأت رحلتها نحو المغيب ، و الحديقة قد بدأت تزدحم بمن يأتون في المساء ليقضوه فيها ، نهضنا من مكاننا القصي و خرجنا متجهين صوب بيت “عماد” .

*****

قال لي “عماد” و نحن نقف أمام باب شقته :
– الآن ستتأكد من أنني هستيري و مجنون أو مجرد كذاب آخر !
قلت في دهشة :
– لماذا ؟
قال و هو يدخل المفتاح في قفل الباب :
– لأنك لن تراهم ، و هذا لا يدل إلا على كذبي أو جنوني ! .. و أضاف و هو يفتح الباب :
لكن لا بأس .. لن أصرخ بالداخل : ألا تراهم؟ .. أنظر ، أنهم هناك .. لن أكترث لهم أصلاً

ثم فتح الباب … و لكن ما أن دخلت و نظرت ناحية الصالة -التي يمكن رؤيتها من الباب الخارجي – حتى تسمرت في مكاني و أنا أرتجف في رعب ، فلقد رأيت المرأة جالسة في نفس المكان الذي ذكره لي و حولها على الأرض طفليها !!
التفت “عماد” نحوي متسائلاً :
– ما بك ؟ لماذا توقفت ؟
و لكن حين أدرك إلى أين تتجه نظراتي صرخ في ذهول :
– هل تراهم ؟
لم أستطع فتح فمي لأرد عليه .. فهزني في عنف و هو يردد :
– هل تراهم؟ .. أخبرني
هززت رأسي بالإيجاب .
– إذاً لم أكن أهذي .. لم أكن أهذي

و كأنما جعل صراخه المرأة تنتبه لوجودنا فقد التفتت نحونا . ثم نهضت ، كانت كما رأيتها في الحديقة .. حافية ، و فستانها الأسود الطويل مبتل تماماً ، و شعرها المبتل يغطي نصف و جهها .. أرتجفت ، قلبي صار يدق كطبل يضربه مجنون ، ساقاي صارتا لا تستطيعان حملي ، كانت تنظر نحوي ، تنظر بكره و حقد و اتهام .. الطفلان نهضا و كانا يحدقان فيَّ أيضاً ، لكن نظرتهما كانت صافية ، حتى أن عينيهما لم تبدُ ميتة كعيني المرأة ، و على شفتيهما لمحت شبح ابتسامة عذبة ..

أمسكت المرأة أيدي الطفلين بقسوة و تحركت نحونا ، و هي ما زالت تنظر لي ذات النظرة الكريهة ، فكرت في الفرار لكن شعرت كأنني مسمّرٌ في الأرض ، و أن ساقَي تزنا أطناناً ، فلم أقوى على تحريكهما … فكرت أن أصرخ ، لكن لم أستطع ، فمي و كأنه تم تخييطه .. هذا كابوس ، يا الله هذا كابوس ، و المرأة تتحرك نحوي و نظراتها تخترق أعمق أعماق روحي ، هذا ليس حقيقي !!

المرأة تقترب .. أشعر بقبضة تعتصر قلبي ، هل هذه أزمة قلبية ؟ المرأة تقترب و أنا أشعر أن عينيها تبتلعني و أغرق فيهما ، يد فولاذية تخنقني و تمنع الهواء من الوصول لرئتي ، المرأة وقفت أمامي ، و أنا أشعر أنني أختنق ، و بأن قلبي سوف يتوقف .. أنا أحتضر ، و رغم هذا لم أستطع إغماض عيني لأهرب من نظراتها ، فتحت المرأة فمها و قالت :
– لماذا ؟
بصوتٍ لا يمكن أن يكون صوت امرأة أو صوت إنسان أصلاً ، بل هو صوت شيطان يعذب في الجحيم ، صوتٌ عميقٌ مخيف ، تشعر أنك لا تسمعه بأذنك فقط بل بكل حواسك
– لماذا ؟ … قالتها مرة أخرى ثم اختفت ، و سقطت فاقداً للوعي .

*****

فتحت عيني لأجد نفسي راقداً في سريرٍ في غرفة ما ، و بجانبي “عماد” الذي ما أن فتحت عيني حتى تنهد مغمغماً :
– حمداً لله … ماذا حدث يا رجل ؟ لقد أرعبتني !
نظرت نحوه بعينين لا تريان ووسألته :
– هل سمعت ما قالته لي ؟
– من ؟
أغمضت عيني و قلت بصوت واهن :
-المرأة !!
هتف “عماد” :
– المرأة.. المرأة .. لقد اختفت المرأة تماماً هي و طفليها .
نهضت و سألته في ذعر :
– متى ؟
قال و هو يضحك في هيستيريا :
– ما إن أخبرتني أنك تراهم حتى اختفوا ، لكنك بقيت واقفاً في مكانك ترتجف و فمك مفتوح و عيناك جاحظتان حتى شعرت أنك مصاب بالصرع .. فوقفت محتاراً لا أدري ما أفعله ، ثم بعد ثلاث ثوانٍ سقطت أنت فاقداً للوعي !

قلت في حيرة :
– ثلاث ثوانٍ ؟
– نعم.. ربما أربع
نهضت مترنحاً من السرير ، فنهض عماد ليساعدني لكني أبعدت يده و سألته :
– و لكن أين المرأة ؟
ضحك في مرح مجنون :
– لقد اختفت ، تبخرت هي و أطفالها .. كما ظهروا فجأة أختفوا فجأة .
ثم أمسك كتفي و قال ضاحكاً :
– ربما خافوا منك .. و قهقه في سعادة

أبعدت يديه و خرجت مترنحاً من الغرفة ، و سمعته يسألني و هو يسير خلفي :
– و لكن هل رأيتهم حقاً ؟.. ها ؟ كيف أستطعت رؤيتهم ؟
لم أرد عليه و واصلت سيري نحو الباب ، و هو ما زال يسألني :
– ماذا حدث ؟ أخبرني .
و صلت لباب الشقة و فتحته دون أن أرد على “عماد” الذي مازال يتساءل عما حدث معي ، خرجت و أغلقت الباب خلفي ، و سرت مترنحاً نحو بيتي .

دون أن أقوم بتغيير ثيابي أو خلع حذائي استلقيت في سريري و أنا أشعر بالإرهاق و التوتر و الخوف و المرض ، كنت أرتجف و دموعي تغرق وجهي و أتنفس بصعوبة … من هذه المرأة ؟ لماذا أشعر أنها تكرهني كل هذا الكره ؟ ثم لماذا سألتني هذا السؤال ؟ كان صوتها يدوي ليس في أذني بل في روحي ذاتها : ماذا ؟ ماذا ؟ ماذا ؟

– لماذا ماذا ؟ … غمغمت بصوت مختنق و كأني أسألها !! !
هل تعرفني هذه المرأة ؟ و الطفلان لماذا ابتسما لي ؟ يعرفوني ؟!! .. لكني لا أعرفهم ، حتى أنني لم أرهم من قبل أصلا !! .. هل أذيت المرأة أو أذيت أطفالها ؟ و لكن كيف و أين و متى ؟!!

داهمني فجأة خاطرٌ غريبٌ لكنه ليس مريحٌ على الإطلاق ، ربما أشبه شخصاً سبب لهم الأذى ، و المرأة التي تدعي أن شخصاً لم تقابله طوال حياتها مثل “عماد” هو زوجها ، لا أظن أنه يمكنها التفريق بين شخصين يتشابهان !! إذاً هل سأخرج للصالة لأجدها جالسة فيها ؟ أم أنها ستطاردني دون أن تسكن معي في بيتي ؟

“عماد” اللعين كل هذا بسببه هو ، و الآن حلت مشكلته هو لأجد نفسي غارقاً فيها حتى أذني ، الذنب ليس ذنب “عماد” بالمرة ، فأنا من تطفلت عليه في الحافلة و سألته عما به ، و أنا من اقترحت الذهاب معه لبيته ؟ أنا المسؤول عما يحدث لي الآن ..

إذاً ما العمل ؟ لن أستطيع تحمل وجود هذه المرأة في حياتي ، لو رأيت عينيها و نظرتها الحاقدة الكارهة مرة أخرى فلابد أنني سأنتحر ، إن لم أمت بسكتة قلبية .
تنهدت و أغمضت عيني و حين فتحتهما وجدت أن غرفة نومي قد اختفت ، و أنني أقف بجانب ترعة أحدق في سيارة غارقة ضوءها يتجه نحو السماء و بابها الأمامي نصف مفتوح ، كنت أرتجف بسبب البرد فقد كنت مبللاً من رأسي حتى أخمص قدمي ، ثم فتح باب السيارة الأمامي و خرجت المرأة … عيناها .. يا الله ما هذا ؟ عيناها حمراوان كجمرتين و فيهما كل غضب و كراهية الدنيا ، حتى أكاد أقسم أن الشرر كان يتطاير منهما ، و فتحت فمها .. لم تكن تملك أسنان بل أنياب ، و بصوتها العميق الذي لا يمكن أن يصدر من امرأة أو من رجل كانت تردد :
– لماذا ؟ لماذا ؟
ثم انقضت علي .

*****

كنت جالساً في الحديقة في مكاني الذي اعتدت الجلوس فيه ، منهكاً مضعضعاً و كأن شاحنة مرت على جسدي ، كنت قد سهرت طوال الليل ، فكلما نمت لحظة رأيت المرأة تخرج من السيارة الغارقة و تنقض علي و تبدأ في نهش عنقي بأنيابها .. فأصحو صارخاً مذعوراً ، وحين تكرر الأمر تخليت عن فكرة النوم ، و ذهبت للمطبخ و أعددت جالوناً من للقهوة جلست أشربه حتى يساعدني على السهر …

منفصلٌ عن رواد الحديقة و عن نفسي ذاتها جلست واضعاً يداي على رأسي ، عاجزاً عن التفكير ، عاجز عن البكاء ، عاجز عن فعل أي شيء ، لا أعرف كم مرَّ علي من الوقت حين شعرت بمن يجلس بجواري ، لم التفت و لم أعره انتباهاً حتى سمعته يتحدث :
– خشيت ألا أجدك هنا
كان “عماد أحمد” .. نظرت نحوه و لم أرد ، و لم يأبه هو أصلاً ، جلس صامتاً مدة من الزمن و فجأة قال :
– لقد مر عليَّ في مكتبي الضابط الذي كان يتولي التحقيق في قضية المرأة و طفليها .
لم أقل شيئاً ، و واصل حديثه :
– و لقد أخبرني أنهم وجدوا السيارة ..
ثم تنهد و أضاف :
– كانت قد وجدها بعض الأشخاص فأخرجوها من الترعة و اتفقوا على تفكيكها و بيعها لكن ضمير أحدهم استيقظ و قام بإبلاغ الشرطة .

صمت قليلاً و قال ببطء :
– بالمناسبة لقد وجدوا داخلها رخصة قيادة و أوراق تخص صاحبها .
نظرت نحوه و قلت بلا اهتمام :
– حقاً ؟
لم يلتفت لي و واصل حديثه :
– بالتقصي عن صاحب الأوراق وجدوا أنه يعمل مدرساً ، و هو متزوج و أب لطفلين .. بنت و ولد
ثم نظر نحوي في عصبية :
– هل تعرف من هو ؟
قلبت شفتي بحركة لا معنى لها.. فنهض و قال في برود :
– إسمه “……”
ثم جذبني من قميصي صارخاً :
– إنه أنت أيها الحقير !!

الصور تتداعى ، السيارة ، الليل … زوجتي تجلس بجانبي ، و أطفالي في المقعد الخلفي … “عماد” يصرخ :
– لماذا فعلت هذا ؟
زوجتي تتحدث بعصبية .. تصرخ في وجهي كعادتها عندما نتشاجر ، لم أرد عليها ، لا أبدو مهتماً أصلاً ..
– لماذا فعلت هذا ؟ أخبرني … لماذا ؟
أنظر في المرآة لأطفالي.. الخوف يبدو جلياً في أعينهم.. زوجتي تصرخ .. “عماد” يهزني بقوة و يصرخ :
– لماذا فعلت هذا ؟ لماذا ؟
زوجتي تصرخ :
– هيا تحدث
عماد يصفعني :
– هيا تحدث
زوجتي تضربني على كتفي بقبضة يدها :
– هيا تحدث
هنا كنت قد فقدت السيطرة على أعصابي فالتفت نحوها و صفعتها بقوة ، حينها فقدت السيطرة أيضاً على السيارة ، و لم أشعر بها إلا و هي تنحرف نحو الترعة و تسقط فيها ..
“عماد” يغمغم بصوت منتحب :
– لماذا قتلتهم ؟ لماذا ؟

*****

الماء.. الماء الذي كان يدخل السيارة بقوة جارفة ، أطفالي يصرخون ، زوجتي تبكي.. “عماد” يهزني و يصرخ في جنون.. ثم لم أعد أسمع شيئاً ..

أحاول جاهداً فتح باب السيارة ، صوت بكاء أطفالي أسمعه كأنه يأتي من بئرٍ عميق .. الماء … السيارة امتلأت بالماء ، أدفع الباب بكل قوتي ، أشعر بيد تشدني من قميصي ، لابد أنها يد زوجتي ، الباب لا يفتح .. لم أعد أسمع بكاء أطفالي ، و لا أشعر بحركتهم ، الباب فتح قليلاً ، ليندفع المزيد من الماء داخل السيارة ، أحشر جسدي في فتحة الباب الصغيرة و أدفع بقوة أكبر ، اليد التي تشدني من قميصي تراخت ثم تخلت عني ، أخرج من السيارة ، أقف مذهولاً في حافة الترعة أحدق في ضوء السيارة الذي يتجه نحو السماء ..

“عماد” يشدني من قميصي … أنظر نحو الضوء و لا أعرف ماذا أفعل ، مبتل و مرتجف و خائف و ذاهل و عاجز عن فعل أي شيء ، أتحرك نحو الطريق الذي كنا نسير عليه بالسيارة ، ألتفت نحو ضوء السيارة الغارقة المتجه نحو السماء ، أفكر في العودة للسيارة الغارقة !! أرجع نحو الترعة ، أتوقف قبل أصل… “عماد” يهزني و يصرخ.. ألتفت نحو الطريق ، ألمح ضوء سيارة قادمة بسرعة ، و دون أي إرادة مني بدأت أجري نحو السيارة في جنون.. “عماد” يصرخ ، السيارة تقترب .. “عماد” يصفعني ، ثم بكل عنف تصطدم السيارة بي أو أصطدم بها …
ثم لم أعد أشعر بشيء !!

*****

فتحت عيني ، “عماد” ما يزال ممسكاً بخناقي ، و دموعه تسيل على خده و يسألني بصوت مختنق :
– أخبرني بالله عليك.. تحدث
أنظر حولنا.. حشد من رواد الحديقة بدؤوا يتجمعون و ينظرون إلى “عماد” في حسرة ، طفل صغير التصق بأمه مذعوراً ، امرأة تهز رأسها و تنظر لـ “عماد” في شفقة ، “عماد” يردد باكياً :
– تكلم أيها الحقير ..

بكى الطفل الذي يلتصق بأمه فأحتضنته ، رجل كبير في السن اقترب من “عماد” و وضع يده على كتفه و سأله في حزن :
– مع من تتحدث يا ولدي ؟
انتفض مذعوراً .. تخلت يده عن قميصي .. نظر نحوي و في عينيه نظرة ذهول و دهشة و رعب ، ثم التفت نحو الرجل صارخاً :
– ماذا تعني؟… ثم أشار نحوي و هتف :
– أتحدث مع هذا اللعين ..
عقد الرجل حاجبيه و قال :
– لا يوجد أحد هنا غيرك و غيرنا !! أنت منذ ما يزيد عن ربع الساعة كنت تصرخ و تتحدث لوحدك … ثم هز رأسه و مضى مغمغماً :
– حسبي الله و نعم الوكيل

عماد ينظر نحوي متوسلاً و راجياً من أن أفعل شيئاً ، أي شيء … ثم يصرخ في الأشخاص المتجمعين حولنا :
– ألا ترونه ؟ … أنظروا .. إنه أمامكم
ثم يبدأ في البكاء :
– أقسم لكم أنه أمامكم …
و حتى عندما جاء رجلا شرطة و اقتاداه خارج الحديقة كان لا يزال يبكي و يصرخ :
– إنه موجود ، انظروا ، أتوسل إليكم .. أقسم لكم أنه هنا

و قبل أن يخرجوه من باب الحديقة التفت نحوي ، و في عينيه رأيت نظرة مرتعبة ، ساهمة ، مجنونة … أما عيني فقد شعرت بدموعها تغرق وجهي .

                                              ..  النـــــــهاية ..

تاريخ النشر : 2016-11-30

وائلوف محمد

السودان
guest
35 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى