أدب الرعب والعام

العائـد 1

بقلم : وائلوف محمد – السودان
للتواصل : [email protected]

العائـد 1
قال بصوت صارم : أريد أن أنتقم منك .. أن أقتلك كما قتلتني
حين رأيت “حاتم” قادماً من بعيد لم أصدق عيناي لأول وهلة ، فركتهما بيدي متوتراً ، و حين فتحتهما لم يتغير شيء !! ها هو قادم نحوي ، ربما شخص يشبهه ، قلت لنفسي و أنا أزدرد لعابي ” يخلق من الشبه أربعين ” ، ربما القادم واحد من التسعة و الثلاثين الآخرين ، لكن حين صار على مسافة قريبة مني تيقنت أنه “حاتم” ، نفس البدانة و السماجة و ثقل الظل ، نفس طريقة المشي ، نفس البذلة التي رأيته يرتديها آخر مرة .

– صباح يبشر بيوم جيد … ها ؟
قالها بنفس صوت “حاتم” ، و هي الجملة التي يقولها دوماً لمن يقابله في الصباح .. ثم مد لي يده في هدوء مضيفاً :
– صباح الخير ..
لم أستطع قول أي شيء .. كنت أرتجف و أنا أحدق فيه مذعوراً .. نفس الابتسامة البلهاء مرتسمة على وجهه ، يده ما زالت ممدودة إلي
– ما بك ؟ هل أنت مريض ؟
قالها ببرود لا يخلو من قسوة ، نفضت عني الذعر الذي جعلني أقف متسمراً أمامه ، و ابتعدت عنه في خطوات سريعة أقرب للعدو و أنا أغمغم في انفعال :
– كيف حدث هذا بحق الشيطان ؟!
فـ “حاتم” آخر شخص في العالم كنت أتوقع أن أقابله في هذا الصباح ، أو في أي يوم آخر … كيف بالله عليك يمكن أن تقابل شخصاً قمت بطعنه ست طعنات بسكين ، ثلاثة منها في قلبه ، ثم سرت بعدها في جنازته ، قل لي كيف ؟!

                                       * * *

كنت جالساً في مكتبي أرتجف من الذعر و التوتر ، ما هذا الذي رأيته ؟ هذا مستحيل ، “حاتم” مات ، أنا متيقن من هذا ، من المستحيل أن يعيش شخص تلقى ثلاث طعنات في قلبه ، و حتى إن لم يكن قد مات بطعنات السكين ، كيف سيحيا شخص دفن في قبر و أهيل عليه التراب ؟! هذا ليس “حاتم” بالتأكيد ، هذا شخص يشبهه ، لكن الصوت ، و التحية ، أليس صوت “حاتم” و تحيته ؟ لابد أنني توهمت هذا ، فقط لأنني رأيت شخص يشبه “حاتم” تكفل عقلي الباطن – وربما إحساسي بالذنب أو بالذعر لا فرق – بتخيل أن الشخص الذي يشبه “حاتم” قام بتحيتي نفس التحية التي يحييني بها هو و بنفس صوته ، أرتحت لهذا التبرير غير المنطقي و اعتبرته الحقيقة المطلقة – أنت تعرف حيل الدفاع النفسي – أخرجت سيجارة من علبتي و أنا أتنهد مبتسماً ، و جذبت نفساً عميقاً ، و قبل أن أنفثه دخل “حاتم” و جلس في مكتبه المواجه لمكتبي ، و هو ينظر نحوي نظرة باردة صارمة جمدت الدم في عروقي !

                                       * * *

“حاتم” زميلي منذ أكثر من خمس سنوات ، فنحن نعمل معاً في شركة هندسية ، و رغم سنوات عملنا الطويلة نوعاً ما ، و رغم أننا نعمل في مكان واحد و مكتبه يبعد عن مكتبي مسافة ثلاثة أمتار تزيد أو تنقص قليلاً ، إلا أن علاقتي به لم تتعدى حدود الزمالة ، فهو ليس من النوع الذي يمكن اتخاذه صديقاً ، فهو شخص مغرور و سمج و ثقيل الظل ، إضافةً لعلاقته المشبوهة بالمدير ، و التي جعلت زملاءنا يطلقون عليه لقب “ساقطة المدير” ، فكل كبيرة ووصغيرة و كل كلمة تقال ، لابد أن يقوم بإيصالها للمدير لعله يحظى بمكانة أفضل من الآخرين – و هو ما يحدث دوماً – فـ “حاتم” من الأشخاص الذين إذا اعتمدوا على موهبتهم فقط لكان الآن ماسح أحذية ..

فهو قد تخرج من الجامعة بمساعدة عمه مدير كلية الهندسة ، و عمل معنا بواسطة من خاله صديق مدير الشركة ، و بالمناسبة هو لا يحتاج للوظيفة أصلاً ، فهذا الشخص اللزج الرخو لم يبذل مجهوداً طوال حياته ليحصل على شيءٍ ما ، فقد ولد و في فمه ملعقة من الماس و ليس ذهباً ، فهو الابن الوحيد لتاجر ثري جداً ، ورث عنه بعد موته ثروة يمكنه أن يعيش بها ملكا لقرون دون أن يفلس ، لكنه يعمل فقط لأجل الوجاهة الاجتماعية .

و لأنه لزج و متملق و واشي و سمج و مغرور ، لم يكن أحد يطيقه في مكان عملنا – طبعاً باستثناء من يتملقون له ليذكرهم بالخير عند المدير – و هو يعلم تماماً مدى كرهنا له ، لكن هذا لم يزده سوى غروراً و سماجة و ثقل ظل ، لذا حين يأتي في الصباح نافشاً ريشه كديك أبله و يحيي من في المكتب بتحيته البغيضة مثله :
– صباح يبشر بيوم جيد … ها

لا ينتظر رداً من أحد .

                                        * * *

كنت جالساً في الكافتريا التي تقع بجوار الشركة التي أعمل بها ، و أنا أشعر أنني سأسقط فاقداً للوعي في أية لحظة ، كنت أشعر بالإرهاق و الذعر و المرض ، “حاتم” حي ، يا إلهي !! “حاتم” لم يمت !! لكن كيف ؟ كيف ؟ أنا واثق تمام الثقة أنني قتلته ، و حتى لو لم أكن واثقاً فماذا عن تقرير الطبيب الشرعي ؟ و ماذا عن الذين قاموا بتكفينه و دفنه في قبره ؟ هل من المعقول أنه دفن و هو لم يمت و أكتشف حارس المقبرة – لا أعرف كيف !! – هذا الأمر ، و قام بإخراجه من قبره ؟ لكن نحن لا نتحدث عن سكتة قلبية يخطئ طبيب في تشخيصها و يدفن المرء لأن الطبيب قد أعلن موته ، ليصحو المرء في قبره لأنه لم يمت أصلاً !! نحن نتحدث عن ست طعنات بسكين !!

كنت أفكر في كل الاحتمالات و أقلبها في رأسي ، إلا احتمال واحد حاولت جاهداً ألا أفكر فيه ، و هو أن يكون هذا شبح “حاتم” قد جاء لينتقم مني ..

كنت ساهماً فلم أشعر بالشخص الذي جلس في المقعد الذي بجانبي في الكافتريا ، لذا انتفضت في ذعر حين سمعت صوته :
– هل تسمح لي بشرب كوب قهوة معك ؟
وحين رفعت ر؛سي اصطدمت عيناي بعيني “حاتم” الباردتين ، القاستين .

                                        * * * 

نهضت مذعوراً حتى أن المقعد الذي أجلس عليه سقط على الأرض محدثاً ضجة لا بأس بها ، و لحسن حظي – أو لسوئه – لم يكن في الكافتريا أحد غيري و “حاتم” أو شبحه إذا أردنا الدقة ! قبل أن أخطو خطوة واحدة أمسكني من يدي ، يده باردة كالثلج ، حتى أنني شعرت بالبرد يتغلغل في عظامي و بصوت آمر قاس قال :
– أجلس
حاولت أن أجذب يدي لكن يده بدت ككلابة لا فكاك منها ، لا جدوى من المحاولة
– لن تستطيع أن تفلت مني .. قال
كنت أرتجف بسبب البرد الذي أشعر به و كأنني داخل ثلاجة
– و الآن اجلس … قال و تخلت قبضته عن يدي ليختفي في لحظة البرد الذي كنت أشعر به .

رفعت الكرسي من الأرض و جلست عليه .. طوال هذا الوقت لم يبعد “حاتم” عينيه عني ، و أقسم أنه لم يرف جفنه و لو لمرة واحدة .. تشاغلت بالنظر لسطح المائدة التي نجلس حولها تحاشياً لعينيه ، و سألته بصوت مرتجف :
– ماذا تريد مني ؟
وضع يده فوق يدي الموضوعة على المنضدة – كما يفعل أي عاشقين يجلسان معاً – ليعود البرد مرة أخرى و يضرب جسدي بقوة كادت أن تجعل أسناني تصطك من شدته ! و قال بصوت تنافس برودته البرودة التي أشعر بها :
– هل تمزح ؟ .. و ضحك ضحكة ساخرة مضيفاً :
– أظن أن من حقي أنا طرح هذا السؤال !

جذبت يدي بقوة لكن لم أستطع تحريكها و إبعادها عن يده الموضوعة فوقها … “كيف يفعل هذا ؟” مع أنه يبدو مسترخياً و لا يمسك يدي بقوة !
قلت بصوت حاولت جاهداً جعله صارماً لكنه خرج – رغماً عني – مبحوحاً :
– أنتم تعبثون بي.. ها.. لكن أنا آخر شخص يمكن أن تنطلي عليه خدعة لعينة كهذه !
قال في اهتمام :
– نحن؟
ثم اقترب مني حتى صار وجهه على بعد سنتميترات قليلة من وجهي ، و سألني :
– أنا و من ؟

لم أرد .. فاعتدل في كرسيه و قال في سخرية :
– حسناً .. قل لي ماذا ستفعل مع هذه الخدعة اللعينة ؟
قلت و أنا أشعر أن دمي قد تجمد داخل جسدي بفعل البرد :
– أنت لم تمت .. سأبلغ الشرطة أنك لم تمت
ضحك بصوت عال و قال :
– شخص تلقى ست طعنات و لم يمت ؟ هل تحسبني سوبرمان ؟
و واصل ضحكته كأنه قال دعابة ظريفة
– لا أعرف… قلت :
– ربما لم تكن أنت من تلقى الطعنات، ربما شخص آخر !

نظر نحوي و على وجهه إمارات الإهتمام و هز رأسه و قال في عتاب :
– حقاً ؟ و ستبلغ الشرطة بهذا ؟ ها .. ستقول لهم أنك قد طعنتني ست طعنات لكنك تظن الآن أنك لم تقم بطعني أنا بل بطعن شخصٍ آخر ؟ سيجد رجال الشرطة الأمر مثيراً للاهتمام أليس كذلك ؟
قلت و أنا أحاول جاهداً ألا أموت من البرد :
– ماذا تريد مني ؟ دعني و شأني .. أتوسل إليك
ترك يدي ثم نهض من مقعده و تحرك مبتعداً عني ثم فجأة التفت إلي و قال بصوت بارد صارم :
– أريد أن أنتقم منك .. أن أقتلك كما قتلتني
ثم سار بخطوات بطيئة نحو الخارج ..

احتجت للحظات لأستجمع أنفاسي و هدوئي و أفكاري ، ثم أخرجت هاتفي و اتصلت بـ “لمياء” .

                                        * * *

مطعم “…….” ، كنت جالساً و أمامي كوب من القهوة في انتظار صديق اتفق معي أن نتقابل هنا ، لكنه تأخر كثيراً ، لذا قررت العودة للبيت فقد مللت الانتظار ، و قبل أن أضع ثمن القهوة التي شربتها تحت الكوب الفارغ لأخرج رأيت “حاتم” داخلاً و معه امرأةٌ جميلة … جميلة ؟ هذا شيء أسمى من الجمال ذاته ، امرأةٌ ساحرة بكل ما للكلمة من معنى ، رآني “حاتم” فحياني ثم اتجها نحوي ، نهضت و صافحتهما ، و قام هو بتعريفنا
– “لمياء” زوجتي … و هذا زميلي في العمل
ثم سألني بغتة :
– هل تسمح لنا بمشاركتك مائدتك ، و مشاركتنا العشاء ؟
– بالتأكيد ، تفضلا .. لكن بخصوص العشاء فشكراً علي الذهاب إلى البيت

قال مازحاً :
– إذا حضرت الشياطين ذهبت الملائكة ؟ أليس هذا ما تعنيه
– لا… العفو يا رجل أنا …
قاطعني :
– لا تقلق سأدفع أنا ثمن العشاء
ثم ضحك ضحكة سخيفة ، و قام بسحب مقعد لتجلس عليه زوجته ثم وضع يده على كتفي و قال في ود بغيض :
– هيا أجلس.. لا تضطرني لأحلف بالطلاق أمام زوجتي
ثم التفت لزوجته و قال :
– أنظري لطيبته و كرم أخلاقه
ضحكت زوجته ضحكة لا معنى لها و ابتسمت أنا في برود .. و جلسنا .

إذا كان لـ “حاتم” الكثير من الطباع البغيضة ، فإن أسوأ طبع يتميز به هو الاستعراض ، فسيارته لابد أن تكون في أوضح مكان ليعرف الجميع أنها سيارته ، و علاقته بالمدير لابد أن يعلم بها الكل ، و قرابته للوزير فلان و رجل الأعمال علان لابد أن يذكرنا بها في كل حين .. لذلك أثق تماماً أنه حين أحضر زوجته ليجلسا معي لم يكن هذا الأمر إلا لـ ” انظر لزوجتي كم جميلة و رائعة أيها الأعزب التعس ” – و لقد نظرت – يا إلهي.. هذا بذخ و إسراف في الجمال.. “لمياء” جميلة للحد الذي تصبح معه كلمة جميلة مبتذلة و لا معنى لها ، لكن جمالها من النوع المزعج المخيف ، النوع الذي لا يمكن أن تكون بجانبه أو تقترب منه دون أن تتاذى في آخر الأمر ، النار جميلة .. لكن لو اقتربنا منها أكثر من اللازم فسوف نحترق !

“حاتم” لا يكف عن الثرثرة و الحديث عن روعته ، و عن عملنا الذي يعتمد عليه ، لدرجة أنه لو غاب يوما فلابد أن الشركة سوف تنهار ، وكان يستشهد بي لأؤكد ما يقوله ، و كنت أكتفي بهمهمة قد تعني ” اذهب للجحيم أيها الأبله ” أو ربما تعني مسبّة ، لكنه كان يعتبر همهمتي دعم و تأييد له ، لذا كان يبتسم في بلاهة و يربت على كتفي .

أما زوجته فقد كان الملل من حديثه يبدو جلياً في عينيها ، لكن لم يكن الملل وحده هو ما يظهر في عينيها ، فنظرتها لي أو للآخرين الموجودين في المطعم كانت بطريقة لا يمكن أن أخطئ معرفة الذي يختبي خلفها ، لكن علي أن أتاكد …

نظرت لعينيها ، فبادلتني النظر ، نظرتها وقحة و جائعة و شبقة – لو كنت تفهم كيف تكون النظرات شبقة و جائعة – نزلت بعيني نحو أنفها ، شفتاها اللتان خلقتا لتذوبا في القبلات ، عنقها الطويل الجميل ، نهداها .. و توقفت نظراتي برهة عندهما ، أعرف أنها تتابع وقع نظراتي على جسدها هذا إن لم تكن تحس بها تلمس جسدها – النظرات أحيانا يكون تأثيرها أقوى من تأثير اللمس ذاته – رفعت عيني مرة أخرى نحو عينيها فابتسمت لي ، ابتسامة من النوع الذي تبتسمه لك عاهرة تقف في شارع نصف مظلم ، أو تجلس في مقعد مواجه لمقعدك في مطعم أو مقهى أو حانة .. إبتسامة تقول “هيت لك” ..

“حاتم” يثرثر.. و أنا أهمهم همهمتي الغامضة ، و “لمياء” تضحك ضحكتها التي لا معنى لها ، و بعد قليل رن هاتف “حاتم” فاستأذن ليرد على المكالمة ، و قبل أن يبتعد مسافة مائدتين عنا مدت لي “لمياء” هاتفها و طلبت مني بابتسامة ملائكية بريئة أن أسجل لها رقم هاتفي ..

يتبــــع …
             ………

تاريخ النشر : 2016-12-17

وائلوف محمد

السودان
guest
12 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى