اساطير وخرافات

نهاية أسطورة

بقلم : قصي النعيمي – سلطنة عُمان

أنا الذي أخضعت بقدرتي وحش كربيروس

أبحرت بي سفن الفضول إلى ذاك العالم المنسي، بعيدا حيث انطلقت أقوال الأوائل نجوما في فلك المعارف، أزحت أكواماً من القرون المتراكمة من على تلكم الأطلال المهجورة، و استخرجت من أعطاف أثوابها البالية أخبارا عن أمجادها المأثورة. و هناك لحظت أنظاري تمثالا قد خلب البصر بهاء صورته، و جلالة هيئته، اقتربت منه رويدا رويدا و قد ملئني شموخه العتي من عبق الماضي القديم. سائلته عن اسمه، فأجابني نقشٌ من أسفله ناطقا عن حاله: أنا بطل الإغريق، و درة تاريخها العريق، أنا الذي أخضعت بقدرتي وحش كربيروس، و أوقفتُ بيديَّ نَهْرَيْ ألفيوس و بينيوس، أنا هرقل.

نعم، كان ذاك تمثال أيقونة الشجاعة و الإقدام، و بمن جرت بسيرته الألسن حثيثة و الأقلام، لم تمل من ذكر تفاصيل تلك السيرة، حتى حارت في خلود كلماتها القرون و الأعوام. و لكن غير بعيدٍ عن ذاك الزهو النرجسي، حيث تكمن كواليس الحقائق المظلمة، شَهِدْتُ آخر قصة للبطل هرقل، و عايَنْتُ خاتمة أسطورة العالم القديم. و ها أنا ذا أسردها لكم :

1- البطل الغاضب :

نهاية أسطورة
 كان في طبيعته شديد البطش 

لطالما كانت سَوْراتُ الغضب المفاجئة ملازمة للبطل الإغريقي هرقل، الذي كان في طبيعته شديد البطش إذا حرك الغضب جوارحه المفتولة بالعضلات، و كيف لا وهو ابن جوبيتر ملك السماء و البرق، بل و ملك جميع آلهة الرومان و راعي العدالة على الأرض ( كما زعموا). و في إحدى سورات غضبه تلك قتل معلمه لينوس، فتم نفيه بعيدا إلى الريف. و حتى بعد أن تزوج و أصبح بطلاً شعبيا يذكره كل الإغريق بالتبجيل و العرفان، فقد فاجئ من حوله بقتل أبنائه و اثنين من أبناء أخيه إفكليس، إلا أن الأسطورة تقول أن جونو (إحدى آلهة الإغريق) سلطت عليه الجنون بعد أن حسدت مآثره الخالدة.

سيطر الندم على فؤاد هرقل، و انتابه من الحزن ما أنساه لذة الحياة و متعها، فهام على وجهه في الأرض يبحث عن الخلاص، حتى اهتدى إلى طريقة في تأديب ذاته و تهذيبها، فكانت بداية فصول قصته المشهورة، حيث التحق بخدمة ابن عمه الملك، و الذي كان قد استغله في عمل اثني عشر مهمة مستحيلة، بداية بالفتك بأسد “نيميا” الذي نفث الخوف في عروق بني البشر بشراسته، إلى إخضاع حارس العالم السفلي، “كربيروس”، ذاك الكلب المشهور برؤوسه الثلاثة.

نهاية أسطورة
امعانا في اذلاله .. لم تكن أومفالي تختار له إلاّ أعمال النساء كالغزل والحياكة

و لكن كل تلك المهام التي سعى بها هرقل إلى تأديب ذاته لم تمنعه من قتل رفيقه العزيز افيتوس، لكي يعود مرة أخرى مجبراً نفسه على الخدمة للتكفير عن ذنبه. أما مخدومه الجديد فقد كان ملكة تدعى أومفالي. و إمعانا في إذلال هرقل، فقد قامت أومفالي بإلباسه أزياء النساء، بينما ارتدت هي جلد أسدٍ لتبدأ في أوامرها و نواهيها له، و من العجيب أنها على عكس مخدومه السابق الذي لم يختر إلا المهام التي تتطلب الجرأة و الحزم، فلم تكن أومفالي تختار له إلاّ أعمالا كالغزل و النسيج. لعل أحدنا يظن أنها تريد بذلك أن تكسر في قلبه شوكة الزهو و الخيلاء التي تملكته، و لكنني أرى أنها لم تُرِدْ إلا حمله على الصبر و ضبط النفس و مجاهدتها على المكاره، و هي صفات أظن أن بطلنا كان مفتقرا إليها خصوصا حال غضبه المفاجئ.

2- ديانيرا و بداية النهاية :

أنفق هرقل النادم قرابة الثلاثة أعوامٍ في خدمة الملكة أومفالي يُعالج قسوة فؤاده، و يطفئ نيران ندمه بدموع الحسرة المنهملة في جوف الليالي. و ما أن انقضت الثلاثة أعوام حتى استأنف حياته القديمة متناسيا مرارة ماضٍ أدبر دون أًوْبة. تزوج هرقل ديانيرا بنت أوينيوس، و عاشا على خير ما يعيش عليه الأزواج، فكأن الحياة ابتسمت من جديد للبطل الإغريقي، و أسفرت عن إشراق مستقبلٍ سعيد.

و في أحد الأيام طاب لهرقل أن يعود مع زوجه إلى وطنه، فانطلقا عبر الغابات مع أفواج نسائم الصباح، و هما يُنْشِدان مع حفيف الباسقات لحن البهجة و الأفراح، و ما طال بهما المسير، حتى اعترض السبيلَ نهرُ إيفينوس الغزير، و هنا توقف هرقل ينشُدُ المحيص و المفر، حتى تجلى لهما نيسوس القنطور، فأسفر وجهه عن بالغ الغبطة و الحبور.

نهاية أسطورة
نيسيوس يحاول خطف ديانيرا 

كان نيسوس ابناً لملك أثينا بانديون الثاني، و كانت أكثر ما يميزه هو بنيته، فنصفه السفلي كان شبيها بجسد الخيول، مما أتاح له القدرة على التنقل عبر الأنهار بكل سهولة و يسر. طلب هرقل من نيسوس أن يحمل زوجه ديانيرا على ظهره إلى الضفة الأخرى.

ألقى هرقل بقوسه و كنانته المملوءة على الضفة الأخرى، و لم يلبث أن تبعهما عَوْما حتى بلغ مأمنه. هنا اسْتَقَلَّتْ ديانيرا مَتْن نيسوس، و وقف هرقل يرقب بأنظاره قدومهما. و لكن نيسوس ما كاد يبلغ منتصف طريقه حتى التفت نحو ديانيرا، ليجد من الحسن ما أبهره، و من الجمال ما فتن قلبه بل و أسكره. و هنا انحرف نيسوس نحو كهفه في أعالي الجبال، و مع تسارع وتيرة خطواته الحثيثة، أدركت الزوجة مطامعه و رغباته الخبيثة، فانطلقت في العويل و الصراخ مستنجدةً بهرقل.

نهاية أسطورة
سهم هرقل وقد اصاب نسيوس في مقتل

ما أن أدرك هرقل ما يحدث، حتى انقلب إلى كنانته فنثر سهامها، و أدنى قوسه مصوِّباً إياه نحو نيسوس الخائن. و انطلق السهم الثائر ليخترق قلب نيسوس فسقط على الأرض من فوره، و ما أن علم أنه ملاقٍ شبح الموت لا محالة ، آثر أن تكون آخر كلماته سببا في راحة باله ما أن يغادر الدنيا نحو العالم السفلي. همس الصريع باسم ديانيرا، و باح لها بسر دمائه التي تكتنز من الخصائص ما عجز أرباب السحر عن تحقيقه في شيء من عقاقيرهم و علاجاتهم، أخبرها بقدرة دمه على حفظ حب الزوج لزوجته و أمرها بالاحتفاظ بشيء منه لعله ينفعها يوما من الأيام. صدقت ديانيرا كلماته التي انسابت مع آخر أنفاسه، و قالت في خَلَدِهَا: و ما الذي عساه أن يقول إلا الصدق في حالٍ كحالته هذه؟!، و أي شيء يضرني إن احتفظت بقليل من دمه؟.

و لما بلغ هرقل زوجته، بادر إلى الاطمئنان عليها ثم حملها معه ليكملا مسيرهما، إلا أنها لم تعلمه بما أخبرها إياه نيسوس، و آثرت كتمان شأن الدماء.

3- نار الغيرة :

نهاية أسطورة
هرقل بطل الاغريق المقدام يصرع الاسد

استمرت أيام هرقل مع ديانيرا على أفضل ما يرام، دون أن تعكر صفو حياتهما، نوائب الزمان أو شوائب الأيام،. و لكن دوام الحال من المحال، فهاهي بسمات الرضا على وجهيهما تنحسر عن صراع بين الحب و الغيرة. فبينما امتلأ البطل الإغريقي إعجابا بالحسناء “أيولي”، انقلب حال الزوجة المسكينة من حال الغبطة و السرور، إلى حال الضجر و الغضب العارِمَيْنِ.

راحت الزوجة تبحث هنا و هناك عن وسيلة لاقتلاع براعم الحب من فؤاد زوجها المسلوب، و إنقاذه من خيانة أخرى، لربما حَلَّتْ عُرَى علاقتهما للأبد. و هنا في غمرات خوفها و ترقبها، تذكرت كلمات نيسوس، فأسرعت لاهثة نحو دمائه التي كانت قد أخفتها عن هرقل في قارورة صغيرة.

نهاية أسطورة
الغيرة اكلت قلب ديانيرا بسبب خيانة زوجها

كان هرقل عائدا من إحدى معاركه، وقد تَحَلَّىَ بحُلَلِ الظَّفَرِ، و حمل معه من الكنوز و الغنائم ما يُرضي به آلهته. و كان ليكون أكثر من ظفر بالنسبة ديانيرا، قد عَمَدَتْ إلى رداءٍ أبيض فمزجته مع دماء نيسوس و أقبلت به إلى هرقل كالهدية التي تحملها أي زوجة لزوجها العائد من السفر إظهارا للبشرى و الفرحة، فأسرع هرقل إلى ارتدائه، و لم يطل الوقت حتى اخترم جسده ألم فظيع، و ظهر عليه كل عَرَضٍ مريع. و التصق الثوب بجلد هرقل و راح يذيب لحمه شيئا فشيئا.

نهاية أسطورة
هرقل يخر صريع الثوب المسموم بدم نيسيوس

هنا أدرك هرقل أنه على شفير الهلاك، فأمر بأن يُحمل إلى قمة جبل أوريتا، حيث تم إعداد محرقة جنائزية تليق ببطل الإغريق و الأرض قاطبة. أسقط هرقل بجسده المتهالك على كومة الخشب و تَدَثَّرَ جلد الأسد الذي لطالما كان ثوبه. تقدم “فيلوكتيت” الذي كان هرقل قد أعطاه قوسه و سهامه، نحو المحرقة و أشعل فيها النيران. هذه كانت نهاية هرقل، و لكنها كانت كذلك فقط لأهل الأرض، أما الجزء الذي اكتسبه من أبيه ملك السماء فلا زال يعيش في الشواطئ السماوية مع زوجته الجديدة “هيبي” ملكة الصبا.

لم تحتمل ديانيرا نبأ ما حل بزوجها هرقل، فآثرت الموت منتحرة دون العيش في حياة يفوح منها نتن الخيانة و القتل و الغدر.

تاريخ النشر : 2016-12-20

قصي النعيمي

سلطنة عُمان
guest
10 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى