أدب الرعب والعام

قارئـة الكـف

بقلم : نوار – سوريا

قارئـة الكـف
ظلت نبوءة قارئة الكف تلاحقه رغم مرور السنين
– ١ –

كان جاد منكباً على عمله عندما رنَّ هاتفه ، نظر إلى الشاشة فعرف أنه صديقه سمير
– مرحباً جاد ، ماذا لديك هذا المساء ؟
– أهلاً سمير .. اليوم خميس و أنت تعرف أين أقضي ليلة الخميس .
– أوه .. ألا تتخلى لنا عنك لولو هذه الليلة ؟
– و هل هنالك شيئاً هاماً يستدعي أن أتخلى عن متعتي و أقابلك ؟
– لا أبداً .. اشتقت لك ، فلم أرك منذ مدة .
– إذاً أجل هذا الشوق لعصر يوم الغد ، نلتقي في المقهى المعتاد ، و الآن دعني أكمل عملي فأنا مشغول .. إلى اللقاء .

و أغلق الهاتف دون أن يترك مجالاً لسمير في إبداء أي تذمُّرٍ أو اعتراض و عاد لعمله ، فقد كان مهندساً معماريَّاً يعمل في مكتب السيد يحيى للتصميمات الهندسية .

***

كان جاد شابَّاً في الثلاثين من عمره ، لو أردنا وصفه فلا يوجد به شيء مميز سوى ابتسامته ، فقد كان يمتلك غمَّازتين تظهران بوضوح كلما ابتسم ، و هذه الابتسامة تضفي على ملامحه جاذبيةً خاصة أسرت قلوب الكثير من الفتيات اللواتي أوقعهنَّ بشباكه .. لكنَّه كان مستهتراً ، يخرج معهنَّ و يجعلهنَّ يتعلقنَ به و في اللحظة الأخيرة ينسحب ، فلم يكن يحب الالتزام ، و الزواج بنظره أكبر و أشد أنواع الالتزام .

تعرَّف منذ سنتين في إحدى الحانات على أرملةٍ تدعى لجين و مشهورة بإسم لولو ، لولو هي المرأة الوحيدة التي استمرَّ على علاقةٍ بها لأنها لم تكن تريد الزواج .. كانت امرأةً لعوب و لها علاقات بعدة رجال ، و كان جاد معتاداً على الذهاب إليها كل ليلة خميس .. هكذا باختصار كانت تسير حياته .

***

توجه عصر اليوم التالي لملاقاة صديقه سمير ، و عندما وصل إلى المقهى وجده بانتظاره ، و ما إن جلس قبالته حتى بادره سمير قائلاً :
– ما بالك جلست بلا سلام !! هل امتنعت لولو أمس عن استقبالك ؟
و أخذ يضحك لكن جاد أوقفه قائلاً :
– مزاحك سخيف ، لا لم تمنعني و هل تجرؤ ؟! لكني لا أعرف أحسُّ ببعض الضيق
– بصراحة جاد و اسمح لي بأن أقول لك أن الطريقة التي تعيش بها حياتك لا تعجبني .. إلى متى تظل هكذا ؟ لقد بلغت الثلاثين من عمرك و لازلت تلهو .

نظر إليه جاد بحدة و قال له :
– سمير ، أنت تعرف أني لا أحب أن يتدخل أحد بأموري الشخصية .. ثمَّ هذه حياتي يا رجل و أنا حرٌّ بها .
– أعرف أن هذه حياتك و لكن أنت صديقي و يجب أن أنصحك
– لا أحب النصائح .. ثم ما بالك !! هل طلبت رؤيتي لهذا السبب ؟!
– لا أبداً ، فكما قلت لك في الهاتف ، لقد اشتقت إليك و أيضاً هذه أيامي الأخيرة التي سأكون بها حرَّاً بلا رقيب ، فعرسي سيكون الأسبوع القادم ..
– حقاً ؟ و أخيراً حددتما أنت و صفاء يوم العرس ! ألف مبروك يا رجل ، و لكن أقول لك منذ الآن .. ستندم بعد شهر من الزواج و تتمنى بأن تعود أعزباً .
– هذه قناعتك أنت ، أما أنا فأرى الزواج سعادة و استقرار خصوصاً إذا تزوج المرء بمن يحب

صمت جاد و لم يناقشه ، فلكلٍّ منهما قناعاته ..

***
عندما خرجا من المقهى لاحظا وجود امرأةٍ غريبةَ الهيئةِ و الثياب ، تضع عقداً مليئاً بالأحجار الملونة حول رقبتها و في يديها أساور متعددة الأشكال و الألوان ، كانت هذه المرأة تنتقل بين المارة تعرض عليهم معرفة مستقبلهم عن طريق قراءة أكفهم مقابل حفنةٍ من المال ، و كان البعض يمتنع و يبتعد عنها و البعض الآخر يدفعه فضوله لمد يده و سماع تنبؤاتها ..

التفت سمير إلى جاد قائلاً :
– ما رأيك لو جعلناها تقرأ لنا كفينا
– هل أنت مجنون ؟ إنها دجالة .. غرضها كسب بعض المال .
– و ما الذي سنخسره ؟!

و قبل أن يجيبه جاد كان سمير قد نادى على المرأة فاتجهت إليهما و ابتسامتها تسبقها .

مد سمير يده إليها و ما إن أمسكت بها و تمعنت بخطوطها حتى اختفت الابتسامة من وجهها ، و ارتعشت يدها التي كانت ممسكة بيده ، راقب جاد هذا الموقف و هو يقول في نفسه ساخراً : بدأنا بالتمثيل .. يعني لا تصح قراءة الكف إلا بهذه التعابير ؟! ثم أكمل بصوت مسموع و السخرية لا تفارق نبرة صوته :
– ماذا ؟ ما الذي رأيته ؟
تجاهلت المرأة سخريته و التفتت إلى سمير و قالت بحزن :
– لم يبقَ الكثير من الوقت
قال سمير باستغراب :
– الوقت على ماذا ؟
أجابت بما يشبه الصراخ :
– لا أعلم .. لا أعلم ، أتمنى أن أكون مخطئة .

تدخَّل جاد و قال :
– دعك منها سمير لقد قامت بهذه الدراما حتى تشعرك بأن كلامها صحيح و أنها تستحق عليه المال .
التفتت إليه المرأة و أطلقت نظرات نارية باتجاهه و قالت :
– تقصد أني كاذبة ؟ حسناً هات كفك و سأقرأ لك مستقبلك دون مقابل .. صحيح أني أسترزق عن طريق قراءة الكف ، لكني صادقة بعملي و أخبر الناس بما أراه في كفوفهم .

مدَّ جاد يده إليها و تابع سخريته :
– خذي .. اقرئي ما لا نستطيع نحن قراءته ، و سأعطيك ثمن ذلك لا تقلقي .

أمسكت المرأة بيده و تمعنت بها ، و ظلت فترة تتأمل فيها ثم رفعت رأسها و قالت :
– المال و الثراء قادمان إليك لكنهما لن يمحيا الماضي ..
– و ماذا أيضاً ؟ قال جاد باستخفاف .
– دمارك .. دمارك سيكون على يد ابنك .
عند هذه الجملة انفجر جاد ضاحكاً و قال :
– ابني ؟! واضح تماماً أنك لست دجالة
– لا تسخر
– و كيف تريديني ألا أسخر و أنا لا ابن لي
– أعرف أنك لست متزوجاً فقد رأيت ذلك في كفِّك لكن هل ستبقى أعزباً بقية حياتك ؟ لا أظن ذلك

و ابتعدت غاضبةً من سخرية جاد الذي نده عليها ليعطيها ثمن عملها لكنها لم تردَّ عليه ..

التفت إلى سمير و قال :
– ما بك صامت ؟ لماذا لا تتكلم ؟
– أنا خائف
– ماذا ؟! لا تقل لي بأنك صدقتها ، إنها لا تختلف عن غيرها من قارئات البخت ، جميعهنَّ دجّالات .
– لكنها عرفت بأنك غير متزوج
– عادي .. ببساطة لاحظت بأني لا أرتدي محبساً بيدي فاستنتجت بأني لست متزوجاً .
– لا أعرف .. لا أعرف جاد ، لكني غير مرتاح

و ظلَّ جاد طوال الطريق يقنع سمير بألا يهتم لكلام تلك المرأة لكن بلافائدة ، و عندما افترقا نظر سمير مطولاً إلى جاد و قال :
– سامحني إن أخطأت بحقك يوماً ما ، فلربما لن أراك ثانيةً .
– ما هذا الكلام !! سأراك ثانيةً و سنحتفل بزفافك و ستعيش طويلاً .. ما بك ؟ لماذا فسرت كلام تلك العرافة بهذه الطريقة ؟! ربما كانت تقصد لم يبق وقت على حبس حريَّتك و دخولك القفص الذهبي كما تحبون أنتم أنصار الزواج بأن تسمونه … و أخذ يضحك ، لكنَّ سمير لم يشاركه الضحك أبداً بل ودَّعه و كأنَّه الوداع الأخير .

– ٢ –

– ابتسما .. نعم ضع يدك على خصرها .. أجل هكذا

ألقى جاد بتعليماته ثم التقط لصديقه سمير و عروسه صفاء صورة .. كانت هذه الليلة ليلة زفاف سمير الذي بدا سعيداً جدَّاً ، التفت إليه جاد قائلاً :
– أرأيت ؟ لم يصدق كلام تلك العرافة
– لا تذكِّرني أرجوك ، فقد أرعبتني ذلك اليوم و جعلتني أُصدّق تنبؤاتها .. لا يعلم الغيب إلا الله .
– أجل معك حق
ودَّع جاد صديقه سمير متمنياً له حياةً سعيدةً مع صفاء ، و ذهب إلى منزله و هو يفكر .. ماذا يعني أن يربط المرء حياته بشخص واحد يراه كل يوم و يشاركه كل شيء و إلى الأبد !!

***

مضى في اليوم التالي إلى عمله و عندما دخل إلى المكتب سمع زملاءه يتحدثون و يتأسَّفون بشدَّة على أمرٍ ما .. تقدم منهم و سألهم عن الموضوع فأجابه أحدهم :
– لقد أعلن منذ قليل عن نبأ سقوط الطائرة المتجهة فجر هذا اليوم إلى باريس ، و لقي جميع من كان فيها حتفهم

كاد جاد أن يفقد توازنه و يسقط عندما سمع بهذا النبأ ، فاتجه إلى أقرب مقعدٍ و جلس عليه و أخذ يفكر بمصير صديقه سمير و زوجته صفاء ، فقد كانا من ركاب هذه الطائرة ، عاجل بالاتِّصال عليه فلربما يكونان قد أجلا رحلتهما لأي سبب كان لكن رقمه كان خارج نطاق الخدمة ، أراد الاتصال على منزل أهله لكنه لم يجرؤ على ذلك .. و بقي مصدوماً لفترة و مباشرةً اتجه تفكيره إلى العرافة و استرجع تعابير و جهها عندما نظرت إلى كف سمير و قالت :
– لم يبقَ الكثير من الوقت ..

***

انتهى مجلس العزاء الذي أقيم لسمير و صفاء معاً و بقي بعدها جاد يفكر بالأقدار ، شعر بالأسى تجاه صديقه الذي ظلَّ لفترةٍ طويلةٍ يوفر من مرتبه حتى جمع تكاليف قضاء شهر العسل في باريس ، لقد أراد تحقيق هذه الأمنية لصفاء ، مسكين لم يكن يعلم أنَّ نهايتهما ستكون بهذه الرحلة .. و مجدَّداً عاد بتفكيره إلى تلك العرافة ، هل هي فعلاً تعلم بالمستقبل ؟ هل لديها القدرة على رؤية ما سيحدث ؟! لكن لا .. لا يعلم الغيب إلا الله و لكن .. ألا يمتلك بعض الناس القدرة على التنبؤ ؟ موت سمير يؤكِّد صِحَّة كلامها ، هل هذا يعني أن كلامها بالنسبة لمستقبله سيتحقق ؟؟ بقي هذا السؤال يدور في ذهنه حتى خلد للنوم و صباحاً عندما استيقظ سخر من نفسه و من تفكيره .. لا بد أن يكون ما حدث صدفة ، تلك المرأة ما هي إلا دجَّالة و تثرثر كثيراً ، و إن تحققت إحدى ثرثراتها فهذا لا يعني أنها صادقة ..

عاد إلى طبيعته في الأيام التالية يقضي أوقاته بين العمل و الخروج مع الفتيات و التملّص منهنَّ عندما يصبح حديثهنَّ عن الزواج و المستقبل .. و بالطبع لا ننسى ليلة الخميس التي كانت محجوزة دائماً ليقضيها مع لولو

– ٣ –

في إحدى الأيام كان جاد خارجاً من عمله و لمح تلك العرافة تمشي على الطرف المقابل له ، فأسرع بقطع الشارع ليسألها عمَّا رأته بالضبط في كفِّ سمير ، لكنه لم ينتبه للسيارة التي كانت سائرة بسرعة باتجاهه و التي ضغطت قائدتها على مكابحها بشدَّة لكنها لم تستطع تلافي جاد الذي طار في الهواء بلمح البصر ، ثم سقط أرضاً و أخذت الدماء تسيل من رأسه ..

في المشفى كانت الفتاة التي تقود السيارة تقف خارج غرفة العمليات بقلق واضح و ما إن رأت رجلاً يخرج من المصعد و يتَّجه إلى حيث تقف حتى سارعت بالارتماء على صدره و هي تبكي و تقول بصوت متقطع :
– أبي .. ساعدني .. لم أكن أقصد .. هو .. هو من قام بقطع الشارع دون انتباه
ربت والدها على ظهرها قائلاً :
– اهدئي يا ابنتي ، كلُّ شيءٍ سيكون على ما يرام
– لكني أخشى بأنه سيموت ، ماذا سيحدث لي عندها ؟ هل سأسجن ؟!
– لا تقلقي .. دعينا ننتظر خروج الطبيب ، و على كل حال اتصلت بالمحامي و هو قادم بعد قليل ..

حاول الوالد إخفاء قلقه عن ابنته و جلس واضعاً رأسه بين كفيه بينما أخذت ابنته تقطع المكان ذهاباً و إياباً .. كان هذا الوالد يدعى صفوان نجم ، و هو مالك لأحدى أضخم شركات الاستيراد و التصدير في البلاد أما ابنته فتدعى ديما

فجأة خرج الطبيب من غرفة العمليات و لم يكد يخطو خارجها حتى اندفع باتجاهه السيد صفوان و ابنته ..
– طمئنا أيها الطبيب .. قالها الوالد و ابنته من فم واحد
– اطمئنا .. وضعه مستقر ، لقد أصيب ببعض الرضوض بالإضافة لجرحٍ في رأسه نتج عن اصطدامه بالرصيف

أسرع السيد صفوان يقول و قد تخلى عن حذره في إخفاء قلقه أمام ابنته :
– صارحني أرجوك .. هل هو بحالة جيدة ؟ هل سيعيش ؟ بإمكاني نقله إلى الخارج ليتعالج ، سأتصل بـ…. قاطعه الطبيب قائلاً :
– على رسلك سيدي .. وضعه ليس بهذه الخطورة لقد قمنا بخياطة الجرح الذي في رأسه و سيصحو بعد قليل .. لا داعي لكل هذا القلق .

***

فتح جاد عينيه بصعوبة و قد أحس بثقلٍ شديدٍ في رأسه و أوَّل شيءٍ وقعت عليه عيناه هو وجه ديما التي ابتسمت له ابتسامة فرحٍ يشوبه القلق
– الحمد لله على سلامتك ..
قالتها ديما بصوت أشبه بالهمس ، أخذ جاد يتأملها .. كانت فتاةً ذات جمال هادئ ، عيناها ناعستان برموش كثيفة و أنف مستقيم و فم صغير و ممتلئ ، أما شعرها فكان قصيراً بالكاد يلامس كتفيها و لونه أشقر ..

أفاق جاد من تأمله على صوتها قائلةً :
– سامحني .. لم أكن أقصد
قاطعها قائلاً : إذاً أنت من صدمني !! لا مانع عندي أن أموت على يديكِ .. و ضحك ضحكةً قصيرة .

حتَّى في هذا الموقف لم ينسَ مهارته في الحديث مع النساء !

جاء الطبيب لمعاينته و في هذه الأثناء كان محامي السيد صفوان يتكلم مع ضابط الشرطة الذي قدم ليكتب محضراً بالواقعة .. مر كل شيء بسلام بعد أن تنازل جاد عن حقه و بذلك تنفس والد ديما الصعداء فقد جهَّز نفسه لأسوأ الظروف …

***

استمرت ديما بزيارة جاد طيلة مكوثه في المشفى و حتى بعد أن استعاد صحته بقيا يخرجان معاً و توثقت علاقتهما ، و ذات يوم دعته على العشاء في منزلها و كان والدها حاضراً ، انبهر جاد بفخامة المنزل ، أخذت عيناه تراقبان الجّدران و التحف و الأثاث ، ثم استقرَّتا على ديما التي كانت بدورها تتأمله بهيام ، كان واضح أنها واقعةٌ في حبه ، و عندما التقت نظراتهما أخفضاها بخجل ، جاد خشي أن انبهاره بالمنزل فضح و ديما ظنت أنه انتبه لنظراتها العاشقة … و في نهاية الأمسية نهض جاد مودعاً .

عندما عاد إلى منزله جلس يفكر بوضعه ، لقد مضى على تخرجه سنوات و لم يستطع بعد افتتاح مكتبٍ هندسيٍّ خاصٍّ به ، و الأيام تمضي و لم يحقق شيئاً من أحلامه بعد ، اتجه بتفكيره إلى ديما ، لماذا لا يتقدم للزواج منها ، هو يشعر بحبها له و هو أيضاً يستلطفها ، بزواجه سيعيش في ذلك القصر الفاخر ، كما أنها وحيدة والدها ، يعني سترث عنه كل هذه الأملاك ، هو لا يؤمن بالزواج و لكن إن كان الزواج سوف يجعله من الأثرياء و يخلصه من وظيفته في مكتب المهندس يحيى ، فلم لا ؟! و هو أيضاً يعلم أنه قد بلغ الثلاثين من عمره و يجب أن يستقر في حياته ، و بالنهاية الزواج ما هو إلا عقد على ورق ، و إن لم يعجبه الوضع يستطيع بكل بساطة أن ينسحب .. بهذه الأفكار أقنع جاد نفسه و قرر مفاتحة ديما بالموضوع ..

عندما التقيا نظر جاد إليها مطوَّلاً ثم حزم أمره و قال :
– أتقبلين الزواج بي ؟
احمرَّ وجهها خجلاً ، و رقص قلبها طرباً ، و أجابت بتلعثم :
– هل حقاً تريد الزواج مني ؟
– نعم .. لقد التقيت بفتيات كثر قبلكِ لكني لم أرتح إلا لكِ ، أنت الوحيدة التي أرغب بالاستقرار معها و تكوين عائلة
نظرت إليه و سألته بدلال :
– ألا يوجد شيء آخر تود قوله لي …
فهم جاد قصدها لذلك قال :
– أنا أحبكِ .. قالها ببساطة و هو في الحقيقة لا يحب إلا نفسه .

***

تم زواج جاد على ديما في حفل فخم ، و قد حاول والدها نصحها بالتفكير ملياً قبل الزواج ، فجاد يكبرها بتسع سنوات ، كما أنه يمكن أن يكون قد تزوجها من أجل مالها ، لكنها لم تستمع إليه ، و أصرت قائلةً بأنها تحبه و لا يهمها شيءٌ آخر ، و أمام موقفها هذا استسلم والدها و أذعن لرغبتها ، و هكذا وجد جاد نفسه بين ليلة و ضحاها قد أصبح غنيَّاً و أيُّ شيءٍ يرغب به يحصل عليه ..

جلس في شرفة المنزل الفخم ، و أخرج هاتفه من جيبه و أخذ يقلب بين الصور المحفوظة لديه ، و فجأة وقعت عيناه على صورة صديقه سمير و زوجته صفاء التي التقطها لهما ليلة عرسهما ، تأملها بحزن و قال :

ليرحمك الله يا صديقي ، لو كنت موجوداً الآن لسخرت مني .. لقد تزوجت ، دخلت القفص الذهبي بمحض إرادتي و أنا مقتنع بما فعلت .. لكن ما يحيرني يا صديقي أنني أصبحت من الأثرياء كما تنبَّأت تلك العرافة ، ترى هل كانت تعلم بما سيحدث فعلاً ؟ و هل يعني هذا أن الجزء الثاني من كلامها سيتحقق أيضاً ؟ سيكون دماري على يد ابني ؟؟ لن أنجب إذاً … بهذا حدث نفسه و نهض لينام .

***

اعتاد جاد على حياة الترف و أخذ يزور البلدان التي كان يحلم بزيارتها ، و يرتدي أغلى الثياب .. و أيضاً وضعه الجديد جعله يتعرف على طرازٍ جديد من النساء ، نساء المجتمع المخملي اللواتي وقعن أسيرات نظراته و غمازتيه ، الأمر الذي جعله ينسى لولو و يقطع علاقته بها .

مرَّت بضعة أشهرٍ و جاد غارق في النعيم ، إلى أن جاء اليوم الذي خشي منه ، ديما حامل .. و هذا ما لم يكن يريده ، لكنه لم يستطع المجاهرة برغبته ، فما هي حجَّة عدم رغبته بالانجاب أمام ديما و والدها ، لو قال لهما عن النبوءة لسخرا منه ، لذلك تمالك نفسه و تظاهر بالفرح ..

أنجبت ديما طفلاً جميلاً أسمته كريم ، استسلم جاد و قرر أن يتأقلم مع حقيقة أنه أصبح أباً ، فلم يكن بيده فعل شيءٍ ، كما أنَّ رؤيته لطفله تجعله يسخر من نفسه و من تفكيره ، فكيف لهذا الطفل حتى لو كبر أن يؤذيه ، إنَّه ابنه في النهاية !!

– ٤ –

مرَّت الأيام و السنين ، كبر فيها كريم و أصبح عمره خمسة عشر عاماً ، و كذلك أصبح لديه أختاً في الثانية عشر من عمرها و اسمها رشا ..

أمضى جاد هذه السنين كعادته باللهو و الاستهتار ، حتى علاقته بديما لم تكن كما يجب ، فهو لم يشعرها بأنه يحبها ، في بداية زواجهما استطاع تمثيل ذلك ، لكن بعدها تخلى عن قناع الحب خصوصاً بعد أن توفي والدها و لم يبق لها أحد تستند إليه ..

الحبُّ الوحيد في حياته كان ابنته رشا ، أما ابنه كريم فتلك النبوءة التي لم تفارق مخيلته وقفت حائلاً بينهما .

جلس ذات يوم يراقبه و هو يذاكر دروسه ، أخذ يفكِّر بأيِّ طريقةٍ يا ترى سوف يدمِّره و بأيِّ عمر ، هل ذلك عندما سيبلغ العشرين ، أم الثلاثين أو ربما .. كان شارداً و لم ينتبه إلّا على صوت كريم و هو يقول :
– لماذا تنظر إلي هكذا يا أبي ؟ هل فعلت شيئاً ؟
– و كيف نظرت إليك ؟
– نظرتك كانت مخيفة ، كما لو أنَّك تكرهني ، و ليست المرة الأولى التي تنظر إليَّ فيها هذه النظرة .
صدم جاد من كلام ابنه فضحك مدارياً الموقف و قال :
– أبداً .. أنت مخطئ ، كنت شارداً و حسب ، كيف هي دروسك ؟

لم يكن كريم مخطئاً ، فلطالما طالعه بهذه النَّظرات .. لم يستطع أن ينسى كلام تلك العرَّافة على الرغم من مرور كل هذه السنين ، بالعكس خشيته من ابنه تزداد كلما تقدَّم ابنه من سنِّ الرّجولة ..

أما ديما فإن حبَّها لجاد كان يجعلها تستطيع مسامحته على كل تصرفاته ، و كانت لديها قناعة بأنَّه مهما فعل خارج المنزل فإنه بالنهاية يعود لها و ينام إلى جانبها ..

***

خرجت ذات يوم من صالون التجميل الذي كانت معتادة أن تذهب إليه ، فأوقفتها امرأةٌ في منتصف الأربعينات قائلةً :
– سيدتي لو سمحتِ ..
– ماذا هنالك ؟
– أريد التحدث معك بموضوع ، هل من الممكن أن تجلسي معي دقائق في ذلك المقهى ؟

و أشارت بيدها نحو المقهى الذي يقع بالقرب من مكان وقوفهما ..

قالت ديما بعد أن جلستا :
– نعم ماذا تريدين ؟
– في الحقيقة لا أعرف من أين أبدأ لكن ..
– أرجوك .. ما الأمر ؟
– لقد دلَّتني عليكِ السيدة إلهام تعرفينها أليس كذلك ؟

فكرت ديما للحظات ، هي تعرف نساء كثر بهذا الاسم و لم تكن بمزاج يسمح لها بالتدقيق فقالت :
– رجاءً بلا مقدمات ، قولي ماذا تريدين فأنا مشغولة .
– حسناً .. أعرف أنك سيّدة ثريّة ، و قد ورثت عن والدكِ شركةً كبرى ، و ..
– أكملي
– ابني شاب نشيط ، و هو في الخامسة و العشرين ، له سنتين متخرج و لا يجد عملاً ، قلت لنفسي ربما أجد له وظيفة في الشركة عندكم ..

تفاجأت ديما من طلبها ، و لأنها كانت طيبة القلب لم تستطع ردَّها خائبةً ، فقالت لها :
– حسناً ، دعيه يأتي إلى المنزل في الساعة السابعة مساءً ، و سيكون زوجي بانتظاره
فرحت المرأة من كل قلبها و قالت :
– شكراً .. شكراً لك سيدتي على طيبتك و كرم أخلاقك ، لن أنسى لك هذا المعروف أبداً .

عندما أخبرت ديما جاد بهذا الموقف ثار عليها قائلاً :
– كيف تنصتين إلى كلام أمثالها ؟ و هل نحن مسؤولون عن توظيف كل عاطل عن العمل في هذا البلد ؟
– لا أعرف .. لقد أحرجتني بطلبها
– ثم أنِّي لست متفرغاً الساعة السابعة ، لديَّ موعد هام
– و ماذا سأقول له عندما يأتي ؟
– لا أعرف ، هذه مشكلتك أنتِ ، حتى تعرفي كيف تعطين مواعيداً من عندك مرةً ثانية .

في السابعة استقبلت ديما ذلك الشاب لوحدها ، فقد خرج جاد و لم يبالي بقدومه ، جلسا في الصَّالة وقد عرَّف عن نفسه قائلاً :
– اسمي فارس و أظنك لم تنسي الموعد الذي بيننا

احتارت ماذا تقول له ، و ندمت على الموقف السخيف الذي وضعت نفسها فيه ..
تكلَّمت أخيراً بعد صمت طال انتظاره :
– آسفة ، ظهر لزوجي موعدٌ هام فاضطر للخروج
تكلم فارس بكل تهذيب :
– لا بأس ، سآتي في وقتٍ آخر

و قبل أن تجيبه دخلت عليهما ابنتها رشا ممسكةً بكتابها و هي تقول :
– أمي .. ساعديني بحل هذه المسألة أجد صعوبةً في حلها
فجأة خطرت ببال ديما فكرة قد تخرجها من هذا الموقف المحرج فسألت ذلك الشاب :
– ما هي دراستك ؟
– أنا خريج كلية التجارة
– إذاً أظنك تستطيع مساعدة ابنتي في مادةِ الحساب .
– بكلِّ سرور

و أخذ كتاب رشا و بدأ بشرح المسألة لها ، و بعد انتهائه قالت له ديما :
– ما رأيك أن تعطي لابنتي دروساً خصوصية في مادة الحساب ، فهي ضعيفة بها و كنت أود جلب مدرس خصوصي لها في هذه المادة
قال فارس :
– أنا موافق

و هكذا تم الاتفاق ، و عندما عاد جاد أخبرته ديما بما جرى فقال لها :
– نعم ، حبيبتي رشا بحاجة لتقويةٍ في هذه المادة ، لكن هنالك مدرِّسين معروفين نستطيع جلبهم و ليس هذا الشاب
– أرجوك ، لم أصدِّق كيف خرجت من هذا الموقف المحرج ، ثم أنِّي سأراقب عمله و إن لم يعجبني سأصرفه .

صمت جاد و لم يعارض ..

– ٥ –

أصبح فارس يأتي ثلاثة أيَّام في الأسبوع إلى منزل جاد و ديما لتدريس ابنتهما ، و أعجبت ديما بطريقة تدريسه كما أن رشا كانت تمتدحه و لم تعد تتذمر من مادة الحساب ..

جلس ذات يوم بانتظار انتهاء رشا من اختبار كان قد وضعه لها ، و في هذه الأثناء جاءت ديما للاطمئنان على ابنتها و عندما وجدتها تحل الاختبار دعت فارس لتناول القهوة في الصالة ، فوافق مرحباً

كانت المرة الأولى التي تتأمله فيها ، وجدته شاباً وسيماً ذو شعر أسود و عينان بلونٍ رماديٍّ آسر ، و هو بدوره كان يتأملها .. و عندما تلاقت نظراتهما قال لها :

– إن السيّد جاد محظوظٌ أن تزوَّج امرأةً جميلةً مثلك

احمرَّ وجهها و ارتبكت ، فإهمال جاد لها جعلها تنسى جمالها ، و قبل أن تنطق بحرف ، جاءت رشا لتقدم نتيجة الاختبار ..

صعدت ديما إلى غرفتها بعد مغادرةِ فارس ، و اتَّجهت إلى المرآة ، و أخذت تنظر فيها متأملةً وجهها .. حدَّثت نفسها قائلةً :
– نعم .. مازلت جميلة ، مازلت ألفت أنظار الرجال ، عمري ستة و ثلاثون فقط ، لست كبيرة جداً بحيث يخبو جمالي ..

أخذت تتلمَّس وجنتيها و ذقنها و عنقها و هي تبتسم ، و منذ هذه الليلة بدأت تنزلق نحو الهاوية … فعلاقتها بفارس لم تعد رسميَّةً ، كان بنظراته إليها و بتغزله بجمالها يوقظ بداخلها مشاعر و أحاسيس كانت غافيةً منذ زمن ، كانت تنتظر مجيئه بفارغ الصبر ، و إن اعتذر بسبب انشغال أو مرض فإنها لا تنام الليل ، لقد أحسَّت بنفسها تعود مراهقةً من جديد ..

***

ذات يوم خرج فارس من غرفة التدريس فاصطدم بديما التي كانت داخلة إليها ، و فجأة وجدت نفسها بين ذراعيه فابتعدت عنه مرتجفة و أسرعت إلى غرفتها ..

أخذت تصارع نفسها و تقول :
– يا إلهي ساعدني ، لم أعد أحتمل .. أنقذني من نفسي ، أنقذني من رغباتي ..

و في المساء عندما عاد جاد للمنزل ، استقبلته بترحابٍ مبالغٍ فيه ، كانت تريد الهروب إليه ، لذلك ما إن جلس حتى ألقت برأسها على صدره قائلةً :
– اشتقت لك حبيبي
لم يكن جاد بمزاج يسمح له بهذه الرومانسيات لذلك ابتعد عنها قائلاً :
ـ آسف ديما ، أنا متعبٌ و أريد أن أنام
و نهض متَّجهاً إلى سريره ، تاركاً ديما تغالب دموعها ..

دخلت في اليوم التالي إلى غرفة التدريس فوجدت فارس يجلس وحيداً فسألته عن رشا ، أجاب أنها ذهبت لغرفتها لتحضر دفتر رسوماتها الذي وعدته أن تطلعه عليه .. ضحكت ديما قائلةً :
– يبدو أنها وثقت بك جدَّاً ، فقليلون هم الذين تطلعهم على رسوماتها
نظر إليها متأمِّلاً و نهض مقترباً منها ، وجدت ديما نفسها متسمرةً في مكانها لا تستطيع الحراك ، فيما فارس يقترب أكثر ، و فجأة جثا عند قدميها و قال :
– سيدتي ديما ، لم أعد أحتمل ، يجب أن أقول لك شيئاً .. أنا أحبُّك و أعرف أنَّ ذلك ليس من حقي ، لكن ..

لم تستطع ديما سماع المزيد ، لذلك أسرعت بمغادرةِ الغرفة ، و دخلت رشا في تلك اللحظة و تساءلت عن سبب انحنائه على الأرض ، فتظاهر أنه يبحث عن قلمه ..

أخذت ديما ترتجف في غرفتها و تتساءل .. ما الذي يحصل و أيُّ لعبةٍ يلعبها القدر معها ؟؟

***

جاء فارس في اليوم التالي و لم تستقبله ديما ، فأعطى الدرس لابنتها ، و عندما همَّ بالمغادرة التقى بجاد الذي عاد مبكراً من عمله ، كانت المرة الأولى التي يلتقيان فيها ، ألقى فارس عليه التحية باحترام و خرج مغادراً ، أمَّا جاد فقد وقف شارداً يفكر .. و بعدها صعد إلى غرفة نومه فوجد ديما مستلقية على السرير ، قال لها :
– لقد رأيت فارس
انتفضت في مكانها و قالت من فارس ؟
لم تغب هذه الحركة عن جاد الذي قال :
– فارس .. المعلّم الذي يعطي دروساً لرشا ، لم أكن أعلم أنه وسيم .
– حقاً ؟ لم أنتبه لذلك .. ثم ماذا يعني هذا ؟
– لا .. لا يعني شيء ، و لكني لم أرتح له
– رشا مرتاحةٌ له و هذا هو المهم

و نهضت خارجة من الغرفة …

***

أصبحت ديما في الأيام الأخيرة غيرُ قادرةٍ أن تسيطر على نفسها و انفعالاتها ، و بدأت للتو ترى عيوب جاد و كأنها لم تكن تعرفه ، كان حبه قد أعمى عينيها عن تصرفاته ، لكنَّ ظهور فارس في حياتها جعلها تحس بالسنين التي ضيعتها في حبِّ شخصٍ لم يكن يبادلها المشاعرَ أبداً ، و تذكرت كلام والدها الذي طلب منها عدم الاندفاع وراء عواطفها ، و أخذت العلاقة تتوتر بينهما إلى أن جاءت الليلة التي ستغيِّر بعدها كلَّ شيء ..

فقد تأخر جاد في العودة إلى المنزل ، و لم تستطع ديما النوم قبل الاطمئنان عليه ، لذلك اتصلت به ، فرد عليها بصوتٍ بدا فيه أنه مخمور ، و طلب منها ألا تنتظره لأنه لن يعود هذه الليلة إلى المنزل ، كادت ديما أن تجن ، خصوصاً عندما سمعت ضحكة امرأةٍ من الواضح أنَّها في أحضانه ..

أغلقت الهاتف بعنف و رمته على السرير ، و أخذت تذرع الغرفة جيئةً و ذهاباً و هي تفرك يديها من شدة التوتر ، و فجأة اتجهت إلى الهاتف و اتصلت بفارس و طلبت منه القدوم إلى المنزل ، و في هذه الأثناء استحمَّت و تزيَّنت و تأكدت من نوم جميع من في المنزل ..

فتحت الباب له بهدوء ، و صعدت معه إلى غرفة النوم ، و ما إن دخلاها حتى ألقت بنفسها بين ذراعيه ، و استسلمت لهمس الشيطان الذي أوحى لها أن تخون زوجها مثلما هو يخونها كل يومٍ و على مرِّ السنين ، أرادت أن تنتقم منه و تخونه على فراش الزوجية .. لم تكن تعلم أنها بفعلتها هذه كانت تنتقم من نفسها قبل أن تنتقم من زوجها .

تسلل فارس خارج المنزل مع خيوط الفجر الأولى تاركاً ديما تحاول استيعاب ما اقترفت ، لقد أصبحت امرأةً خائنة ، لقد هوت إلى الحضيض .. هي التي كانت مثالاً للشرف و العفة ، و دون أن تشعر أخذت الدموع تنهمر من عينيها بغزارة .

لكنَّ درب الخيانة يبدأ بخطوة .. و كلُّ شيءٍ يبدو بسيطاً بعد المرة الأولى ، لذلك أخذت ديما تنتهز أيَّ فرصةٍ يخلو بها المنزل لتحضر فارس الذي غرق بحبها حتى أذنيه .. و اهتمامها بنفسها ، و شرودها الدائم ، و ابتعادها عن جاد جعله يشك بأمرها ، خصوصاً عندما قالت رشا ذات يوم بكلِّ براءة :

– ماما و المعلم فارس أصدقاء جداً

لم تغب عن جاد نظرات ديما الخائفة ، و التي حاولت تغيير الموضوع بسرعة ، لذلك قرر مراقبتها ، و ادَّعى ذات يوم أنه سيسهر خارج المنزل و لن يعود حتى الصباح ، ديما لم تستغرب الأمر لأنَّها معتادةٌ على سهره ، و ما إن خلا لها الجو حتى جلبت فارس ..

دخل جاد بهدوء و كان قد حمل معه مسدسه ، و عندما اقترب من غرفة نومه سمع ما كان يخشى أن يسمعه ، ففتح الباب الذي نسيت ديما من لهفتها على لقاء فارس أن توصده بالمفتاح ..

تسمَّر أمام ما رأى .. مشهدُ خيانةٍ من تلك المشاهد التي لا يراها إلا في الأفلام ، لم يتمالك نفسه و رفع يده بالمسدس مفرغاً طلقاته في جسدي ديما و فارس اللذيَن فارقا الحياة قبل أن يستوعبا ما حدث

هرع كلُّ من في البيت لرؤية سبب إطلاق النار ، لكنّ جاد خرج مسرعاً و أوصد الباب خلفه مانعاً الخادمة أو ابنيه من رؤية المشهد المهول على السرير .. هبط إلى الصالة و تناول الهاتف و ضغط على الأرقام بأصابع ثابتة و قال :

– هل هذا قسم الشرطة ؟ لقد قتلت للتو زوجتي و عشيقها ..

– ٦ –

قبع جاد في الحجز منتظراً نتيجة التحقيق ، بالتأكيد القضية ستعتبر قضية شرف .. جاءت لزيارته هناك امرأةً ما إن رآها جاد حتى عاد به الزمنُ إلى الوراء خمسةٌ و عشرونَ سنة .. نفس الملامح ، نفس العيون الرمادية التي أسرته يوماً ، هتف قائلاً بذهول :
– نوال ؟!!
– نعم نوال ، غريبٌ أنك لازلت تذكر اسمي ! أنا نوال التي خُدِعَت بك يوماً ما ، نوال التي دَمَّرتَ حياتها و مستقبلها ، نوال التي صدَّقت يوماً أنها ستكون المرأة الوحيدة في حياتك ..

ألجمت المفاجأة لسان جاد عن الكلام ، أما نوال فتابعت قائلةً :
– كنت فتاةً حمقاء عندما سلمتك نفسي و صدقت أنك سوف تتزوجني .. تعرف لمَ قدمت إليك الآن ؟ قدمت لأقول لك أن فارس هو ابنك ، ابنكَ الذي تخليتَ عنه ، أتذكر كيف هربت و تنكرت لي عندما عرفت أنني حامل ؟ لقد دمرتني وقتها و تخليتُ عن إكمال دراستي ، و قبعت في غرفتي لا أخرج منها ، كادت أمي أن تقتلني لولا أني ابنتها الوحيدة ، و لو كان والدي حياً بالتأكيد كان سيقتلني ..

احتفظت بالطفل و ربيته في كنفي ، و رحمني الله و جعلني ألتقي برجل يتقبلني رغم آثامي و سجل طفلك على اسمه .. ربما ساعدني الله لأني ظُلِمتُ معك و تبت إليه بصدق .

لكنِّي لم أنساك يوماً ، و كنت أراقبك من بعيد ، و عندما كبر ابني و اشتدَّ عوده و أصبح قادراً على الاعتماد على نفسه ، قرَّرت أن أخبره حقيقةَ أصله ، و كيف جاء إلى هذه الدنيا ، لكني لم أشأ أن أخبره بذلك مباشرةً قبل أن يتعرف عليك ، لذا جعلته يدخل حياتك عن طريق زوجتك ، لكني لم أكن أعلم .. لم أكن أعلم أني بفعلتي هذه كنت قد حكمت عليه بالهلاك .. لقد قتلت ابنك ، جاد قتلت ابنك ، ليتني نسيتك ، آه لقد قتلتني .. قتلتني

و خرجت تكفكف دموعها و اصطدمت عند باب قسم الشرطة بالخادمة التي جلبت كريم و رشا بعد أن ألحا على رؤية والدهما .. تجاهلتهم و مضت مسرعةً و أوقفت سيارة أجرة و غابت في الزحام …

***

أما جاد فإنه فتح فمه ، و شخص بصره ، و لم يستطع أن ينطق بكلمة .. كيف لم ينتبه للشبه الواضح بين فارس و نوال ، عندما رآه شعر أنَّه يعرفه ، لكن لم يهتم كثيراً لهذا الشعور ، زوجته تخونه مع ابنه !! يا لها من صدمةٍ عنيفة .. و فجأة تذكر كلام قارئة الكف التي تنبأت بأن دماره سيكون على يد ابنه ، لقد تحقق كلامها لكن ليس كما كان يتصور ..

قاطع الحارس سلسلة أفكاره عندما جاء قائلاً :
لديك زيارةٌ أخرى .. و دخل بعدها رشا و كريم ، رفع جاد بصره إلى ابنه كريم ، شعر أنه ظلمه طيلة هذه السنين ، لم يشعر تجاهه يوماً بأية عاطفة ، اقترب كريم من أبيه و قال بانكسار :
– أبي أعرف أنك لا تحبني لكني لن أتخلى عنك أبداً

أما رشا فإنها تقدمت من والدها و قالت :
– سمعتهم يقولون أنَّ أمّي خانت و مصير الخائن هو القتل ، هل ذلك صحيح أبي ؟ لكن لا أصدِّق أنَّك قتلتها ، كنت أظنُّك تحبَّها … و بدأت بالبكاء

اقترب منهما جاد و احتضنهما قائلاً :
– سامحاني يا عزيزاي ، عندما سأخرج من هنا سأعوِّضكما عن كلِّ ما فات ، و سنحيا حياةً مختلفة أعدكما بهذا ..

صمت جاد و قد قرَّر في نفسه أن يحاول فيما تبقى له من حياة أن يصحح أخطاء الماضي ، و أن يكرس نفسه و وقته من أجل طفليه ، علّه بذلك يستطيع أن يريح ضميره الذي بدأ منذ الآن يؤنِّبه على الطريقة التي أهدرَ فيها حياته .. هو يعرف أن الطريق صعب لكنه سيحاول .. و لن يخسر شيئاً أكثر مما خسره لحد الآن .

تاريخ النشر : 2017-01-04

نوار

سوريا
guest
34 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى