قصص الافلام

الانحدار (Regression)

بقلم : عبير شعبان – تونس

الانحدار (Regression)
فيلم الانحدار وهيستريا الطوائف الشيطانية

يسير (جون غراي ) بخطوات متثاقلة مترددة نحو مكتب المحقق (بروس كونر) وبشفتين مرتجفتين يتلو صلواته طالبا من الله أن يحميه. ملابسه البسيطة وهيئته الرثة لا تعكسان أبدا سبب حضوره إلى قسم الشرطة. يطلب منه رئيس القسم أن يجلس ويعطيه ورقة, وهي عبارة عن شكوى تقدمت بها ابنته (أنجيلا) ذات السابعة عشر ضده متهمة إياه بالتحرش بها.

الانحدار (Regression)
المحقق بروس يحقق مع جون

لم تبدو الصدمة واضحة على محيا جون وهو يتلقى هذه الاتهامات وكأنه على معرفة بما كان ينتظره . كل ما قاله هو أنه لا يتذكر قيامه بعمل مماثل غير أنه أكد صدق ابنته , واصفا إياها بالقديسة , فإذا اتهمته بالتحرش فهي بلا شك صادقة فيما ادعت!.

كلماته بدت سخيفة وبلا معنى للمحقق (كونر) حتى أنها لم تشف غليله بل زادته إحباطا وعمقت رغبته بفك طلاسم هذه القضية. (جون) ذلك الرجل المتدين والذي يعمل ميكانيكي سيارات لم يحاول الدفاع عن نفسه بل ورفض توكيل أي محام حتى أنه لم يعترض حين طُلبوا منه الخضوع لجلسات علاج بالتنويم الإيحائي – التنويم المغناطيسي – لعلّه يسترجع أي تفاصيل من داخل ذكرياته المكبوتة ويكون لها علاقة بالتهم الموجهة إليه.

وبكل استسلام جلس (جون) على كرسي خشبي أمام جهاز صغير يتراقص يمينا ويسارا بحركات مسترسلة روتينية , وخلفه جلس المحقق (كونر) الذي بدا عاقدا العزم على الوصول إلى أبعد مدى في أطوار هذه القضية , وإلى جانبه الطبيب النفسي الذي أوكلت إليه مهمة تحليل أقوال وردات أفعال جون.

الانحدار (Regression)
انجيلا تتهم والدها بالتحرش بها

في البداية كان من الصعب على (جون) أن يرى نفسه كشخص منحرف يقوم بالاعتداء على ابنته. غير أن الطبيب كان يقوده شيئا فشيئا إلى الكشف عن حقيقة صدمت الجميع بما فيهم (جون) نفسه , وهذه الحقيقة تمثلت في انتماء (جون) لمذهب عبدة الشيطان , وهو الأمر الذي أكدته أبنته (أنجيلا) عند استنطاقها في الكنيسة التي اتخذتها مأوى لها. حينها بدأ المحقق كونر رحلة طويلة وشاقة للبحث عن أفراد هذه الطائفة داخل البلدة والذين يمارسون طقوسا مخيفة ويضحون بالبشر لإرضاء معبودهم , لينظم إليه لاحقا بعض رفاقه ومعارفه فيغدو الأمر برمته شكلا من أشكال الهوس ويصاب الجميع بحالة من الهستيريا

الإنحدار (Regression) هو فيلم للمخرج الإسباني أليخندرو آمينابار , تدور أحداثه في خريف عام 1990 بولاية مينيسوتا ويلعب أدوار البطولة فيه كل من إيما واتسن (Emma Watson) وإيثان هوك (Ethan Hawke) والذي أبدع كعادته في تجسيد الشخصية. الفيلم طرح العديد من القضايا لعل أبرزها قضية التأثر السريع بما يدور حولنا وإمكانية الدخول في حالة من الهستيريا والتي قد تتحول بدورها إلى هستيريا جماعية. كما طرح علينا أسئلة أكثر مما قدم إجابات . وفي هذا المقال سنتناول أمثلة من الواقع عن حالات هستيريا أصابت مجموعات من الناس بشكل متطابق . لكن دعونا ننظر أولا كيف عرَف علم النفس الهستيريا؟ وكيف لها أن تؤثر في مجموعة من البشر بنفس القوة والشكل؟ وإلى أي مدى قد تصل خطورتها على المستوى النفسي والجسدي؟ …

الانحدار (Regression)
هناك طائفة سرية تمارس نشاطاتها في البلدة

الهستيريا كما عرفها الطبيب والمحلل النفسي سيغموند فرويد (1939-1865) هي مرض عصابي نفسي يتكون نتيجة ضغط للدوافع المكبوتة داخل اللاوعي. ولأن هذه الدوافع المكبوتة عادة ما تكون غير مقبولة لذلك تظهر الأعراض الهستيرية كوسيلة دفاعية للتنفيس عن الذات بأية وسيلة وغالبا ما تكون غير طبيعية. أي أنها وليدة حالة من صراع الذات بين المعايير التي يفرضها المجتمع وبين الغرائز والرغبات ليصاب الإنسان بخيبة الأمل والإحباط ويرد بعدها الفعل بشكل مبالغ فيه وبصورة دراماتيكية. كما إعتبر فرويد أن إضطراب الغريزة الجنسية هو السبب الأول للهستيريا ولبقية الأمراض النفسية. ويمكن لحالة من الهستيريا أن تتصاعد من فرد واحد إلى مجموعة من الأفراد بشكل سريع كالفيروس وهو ما يعبر عنه بالهستيريا الجماعية (Mass Hysteria).

عبدة الشيطان وهستيريا الطوائف السرية

الانحدار (Regression)
ظهرت موجة من الذعر من عبدة الشيطان

في فترة السبعينات والثمانينات من القرن العشرين ظهر ما يسمى الرعب من عبدة الشيطان (Satanic Panic) ليبلغ الذعر ذروته مع بداية التسعينات داخل الولايات المتحدة الأمريكية و إنجلترا وبعض البلدان الأوروبية وذلك إثر انتشار روايات وشهادات حية لأشخاص زعموا بأنهم تعرضوا للتعذيب والإستغلال النفسي والجسدي من قبل مجموعات سرية ممن يعبدون الشيطان. وقد ساهم الكثير من رجال الدين , إضافة إلى وسائل الإعلام , في زيادة وتدعيم هذه المخاوف.

البعض ممن وقعوا ضحية لهذه الجماعات الشيطانية وحالفهم الحظ في البقاء على قيد الحياة نقلوا قصصا مروعة عما زعموا أنهم رأوه أمام أعينهم من تضحيات بشرية قدمت كقرابين للشيطان وكذلك إعتداءات جنسية مروعة. وسريعا انتشرت هذه القصص في الصحف , ونشرت الكتب وسال الكثير من الحبر , و تم تصوير الكثير من البرامج عنها , وتم الربط غالبا بين الشيطانيين وعمليات اختطاف للأطفال..

الانحدار (Regression)
المذيع البربطاني الشهير جيمي سافيل والذي تبين بعد موته انه اعتدى جنسيا وتحرش بمئات الأطفال

ومما زاد في تعقيد الأزمة ظهور أسماء لمشاهير عرفوا بالثروة والسلطة تمّ الزج بهم في قضايا كالإختطاف والإعتداء على الأطفال و إستغلالهم في الدعارة أبرزهم كان المذيع والناشط الانجليزي جيمي سافيل (Jimmy Savile) , أكثر الضحايا كانوا من الأطفال الذين أجبروا على الدخول رغما عنهم إلى عالم قذر ورهيب. بعد ذلك تتالت الاتهامات من كل حدب وصوب. ففي مدينة جوردن بولاية مينيسوتا تقدم مجموعة من الأطفال في عام 1983 بشكاوى ضد أوليائهم زعموا أنهم قاموا بتصويرهم في أشرطة إباحية و إشراكهم في طقوس شيطانية إضافة إلى تهم تتعلق بالقتل و تقديم أضاحي بشرية. وخلصت التحقيقات النهائية إلى اتهام أربعة وعشرين شخصا بتهم تتعلق بسوء معاملة الأطفال فيما وجد واحد فقط مذنب , في حين تم إسقاط جميع التهم الأخرى و تمت تبرئة باقي المتهمين رغم أن الأطباء أكدوا تعرض هؤلاء الأطفال إلى الإستغلال الجنسي.

الانحدار (Regression)
غابريال واليشيا تعرضا للاعتداء من قبل عصابة ضمت والدهما

عام 2010 بدأت طفلة تدعى أليشيا ترتاد مدرسة دينية في منطقة همستيد بلندن ليلتحق بها شقيقها غابريال بعد سنة واحدة , لكن أحدا لم يتصور أنهما دخلا إلى وكر للرذيلة وليس إلى مدرسة , حيث تم الإعتداء عليهما رفقة أطفال آخرين من قبل عصابة ضمت والدهما ريكي ديرمان ومجموعة من المدرسين بالإضافة إلى المديرة و الممرضة وبعض الأشخاص الأجانب الذين تمثلت مهمتهم في تصوير أشرطة إباحية للأطفال وتوزيعها في بلدان مثل روسيا و أوكرانيا وكذلك توفير أماكن لممارسة الطقوس الشيطانية. وكان يتم تهديد الأطفال بالقتل بشكل مستمر إذا هم اعترفوا بما يتعرضون له من انتهاكات , كما كان يتم حقنهم بمواد مخدرة لمنعهم من أية مقاومة. لكن بعد فترة من الزمن بدأ بعض الأهل يرتابون في تصرفات أبنائهم ليعترف كل من غابريال وأليشيا لوالدتهما بالسر الذي أخفياه لأربعة أعوام. والدة الطفلين ذات الأصول الروسية قامت بتسجيل اعترافات طفليها على شريط ثم قدمته إلى الشرطة التي أمرت بفحصهما . كان وصف ما حصل أمرا مروعا حيث زعما أن الطاقم العامل في المدرسة بالإضافة إلى بعض أولياء الأمور كانوا يجبرون بعض الأطفال على القيام بأفعال شاذة , وقالا بأنه ” يتم إحضار الرضع للتضحية بهم فيتم التنكيل بهم وتعذيبهم بمصيدة للجرذان ثم يتم رميهم على الأرض وذبحهم. بعد ذلك كانوا يشربون دماءهم ويطبخون لحمهم لأكله” . كما زعم كل من أليشيا وغابريال في إفادتهما أن هذه الطقوس عادة ما تتم أيام الأربعاء الذي يسمى بـ “يوم الجنس العظيم”.

كانت الاعترافات رهيبة إلى درجة جعلت الكثيرين يُشككون في مدى مصداقيتها. غير أن غابريال وأليشيا تراجعا عن أقوالهما بعد ستة أيام من تعهد الدولة لهما بالحضانة في حين أغلقت الشرطة هذا الملف بدعوى غياب الأدلة. ظهرت حكاية ألشيا وغابريال بعد فترة قصيرة من فضيحة ميتم هوت دولاغاران (Haut de la garenne) حيث كان يتم تعذيب الأطفال والتحرش بهم والتي هزت أركان بريطانيا ليبقى أغلب الشعب في حالة من الصدمة والذهول حائرا وممزقا بين مصدق للتهم ومكذب لها.

المكارثية ومطاردة الشيوعيون

الانحدار (Regression)
جون مكارثي اتهم الشيوعيون باختراق الولايات المتحدة

في منتصف القرن العشرين شهد العالم مَثلا حيا آخر لحالة هستيريا كادت أن تعصف بأركان المجتمع الأمريكي ففي التاسع من فبراير عام 1950 ظهر عضو مجلس الشيوخ جوزيف مكارثي أمام وسائل الإعلام مدعيا أن بحوزته قائمة تظم 205 أشخاص من التابعين لوزارة الخارجية الأمريكية والمنتمين إلى الحزب الاشتراكي. بعد هذا الإدعاء دخل الكثير من الأمريكيين في حالة من الذعر والقلق من وصول الفكر الشيوعي إلى داخل المجتمع الأمريكي المتمسك بالرأسمالية. ولأن هذه الفترة من التاريخ تميزت بإحتدام الصراع والسباق نحو التسلح بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفياتي أو ما كان يسمى بالحرب الباردة، فإن أي تهمة من هذا النوع كانت تعتبر مساّ للأمن القومي وتجسسا لصالح السوفييت . غير أن أغلب المذكورين في هذه القائمة تم إتهامهم زورا , إذ كان أغلبهم من المدمنين والمنحرفين كما أثبت فيما بعد. لكن مكارثي وبعد أن أصبح رئيس مجلس الشيوخ استغل نفوذه أكثر فأكثر ليستمر التحقيق مدة سنتين مع المتهمين ومع الكثير من رجال الدولة. كان الأمر جنونيا وكان الشك والتخوين هما سيدا الموقف حتى أن البعض ممن تم استجوابهم وشوا بأصدقائهم وذويهم لمجرد كتاب طالعوه يتحدث عن الشيوعية أو حتى مجرد خبر قرءوه في صحيفة ولو قبل عشرة أعوام. كانت البلاد كلها في حالة استنفار وكان كل فرد يراقب الآخر فأي نقد لتوجهات مكارثي كانت كفيلة بأن تزج بك في غياهب السجون مع تهمة جاهزة ألا وهي التجسس لحساب العدو. الكثير من المفكرين والأدباء والصحفيين كان مصيرهم الإعتقال كان أبرزهم أوين لاتيمور (Owen Larrimore) الذي شغل عدة مناصب كمحرر وباحث في معاهد وجامعات دولية والذي لم يكن يخفي نقده للنظام الرأسمالي فأصبح ضحية سهلة ” للماكارثية” حيث أعتبروه الجاسوس الأهم للسوفيات فتم التحقيق معه ومسائلته لمدة 12 يوما، إتهم بعدها في سبعة قضايا تتعلق جميعها بخيانة الوطن والتآمر عليه. ورغم أنه بُرّأ من هذه التهم بعد ثلاثة أعوام أي حين سقطت “الماكارثية” ، إلا أن لاتيمور فقد مصداقيته بين الناس وسمعته إلى الأبد. وحتى بعد موته بقي البعض يتساءل عن مدى ولائه لوطنه.

الانحدار (Regression)
ملصق دعائي يقول : “هل هذا هو الغد .. امريكا تحت الشيوعية” .. هذا الملصق جزء من حملة كبيرة ضد الشيوعيون راح ضحيتها ضحايا كثيرى اعلبهم ابرياء

قائمة ضحايا التيار المكارثي أطول من أن يسعها هذا المقال. لكنها مهدت بلا شك لبداية النهاية التي كانت في أكتوبر عام 1953 حين بدأ جوزيف مكارثي في التحقيق داخل صفوف المؤسسة العسكرية بدعوى إنخراط بعض قادتها في التيار الاشتراكي , وكانت تلك هي القطرة التي أفاضت الكأس. فقرر آنذاك الرئيس أيزنهاور أنه حان الوقت لينتهي هذا التحقيق. المؤسسة العسكرية بدورها ردت على إدعاءات مكارثي في شكل وثائق وأدلة تثبت تورطه في اعتماد وسائل مشبوهة إبان التحقيق وتزوير اعترافات لبعض المتهمين. حينها شعر الشعب بالسخط والإهانة من رجل وصفوه “بالحاقد الذي لا مثيل له”. فخسر مكارثي مناصبه العليا وجُرٌد من جميع سلطاته كما تجاهلته وسائل الإعلام ورغب الجميع بمحو هذه الصفحة السوداء من حياتهم لينتهي به الأمر مدمنا على الكحول ويموت بعد ذلك بأربعة أعوام نتيجة التليف الكبدي.

من الواضح أن الدوافع المؤدية إلى انتشار هذه الحالات الهستيرية ليست مجرد دوافع سطحية أو بسيطة بل هي أكثر تعقيدا من ذلك وقد تشمل عدة جوانب منها الضغوطات المتزايدة على المجتمع والتي تكون في شكل خوف شديد أو إشاعات وتصريحات مربكة من قبل شخصيات معروفة، أو كذلك بعض المعتقدات الدينية الموغلة في التشدد. ورغم أن أشكال المجتمعات قد تطورت عبر التاريخ وكذلك وعي الإنسان بالدين والسياسة وكل ما يحيط به، إلا أن جوانبه النفسية كما يبدو لم تتخذ نفس النسق في التطور. لذلك من المحتمل أن نشهد في المستقبل أمثلة كثيرة من الهستيريا الجماعية.

المصادر :

– Satanic ritual abuse – Wikipedia

– The story of Alisa and Gabriel Dearman and pedophilia in high places

– McCarthyism – Wikipedia

– Regression (film) – Wikipedia

تاريخ النشر : 2017-02-05

guest
25 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى