أدب الرعب والعام

برميلي العزيز ج1

بقلم : البراء – مصر
للتواصل : [email protected]

برميلي العزيز ج1
بدأت الفكرة تنمو في عقلي و تلح عليه .. ما هو ذلك الشيء المهم الذي يمكن أن يكون في هذا البرميل ؟!

التحمل ..
“آدم.. هل تعرف حقاً ما الفرق بين التحمل و الصبر ؟”
“هذا سؤال.. تعرفين لقد فكرت به كثيراً .. كعادتي.. التفكير كثيراً .. أليس كذلك؟! “
فكرت .. ربما الصبر هو انتظار شيءٍ ما ، لكن التحمل !!

***

لا أذكر متى تزوجت بالضبط .. و لا متى شعرت بأنه لدي زوجة أو أنني صرت مسؤولاً عن روحين ، كل هذه الأشياء تأتي بعد طور الصدمة ، أنت متزوج .. لديك مسؤوليات كبيرة ، غداً ستجد من يقف أمامك يطالبك ببعض المال من أجل الحلوى ، لقد كنت في طور الصدمة حينها لذا لم أخمّن أو أفكّر في هذا قط ..

أعتقد أن الأمر أشبه بهاوٍ ظل يتسلق جبلاً عالياً لمدة كبيرة من الزمن ، ثم قرر فجأة النظر إلى الأسفل ، قد يموت من فرط الصدمة ، متى تسلقت كل هذا و ما هذه الورطة التي أوقعت نفسي فيها !

و الحقيقة هي أنني لم أخرج من طور الصدمة قط ، لأننا لم ننجب أبداً ، و لم نشعر بطعم المسؤولية حقاً ، “لن تنجبا” لقد قالها لنا الطبيب بوقاحة قبل أن نخرج مسرعين من عنده ، لم نرد أن نعرف من هو السبب ، إذا كان الأمر هكذا فلن نهتم و سنعيش حياتنا و كأن شيئاً لم يحدث ، اتفقنا على هذا من قبل حتى أن نعرف النتيجة .

زوجتي ليست من النوع المرهف الشديد من النساء ، ذلك النوع الذي يمكنه أن يملأ الدنيا صراخاً على فأرٍ أو صرصور ، لم تلطم على خديها و هي تنتحب .. لم تبكي و لم تكثر من الدراما .. أدركت فقط أن هذا هو ما يسمونه القضاء و القدر ، لقد عاشت حياةً جيدةً حقاً من قبل ، و لم تعرف معنى الحزن الحقيقي ، فقط تسمع عنه و عما يفعله بالآخرين ، لكنها كانت تعرف أن ستجربه عاجلاً أم آجلاً ، و حين جربته لم تعترض أبداً ، فقط قبلت في صمت.

قد كانت أنثى و لكن بنوعٍ خاص .. نوعٍ مختلف أحببته كثيراً ، اختلافها هذا هو ما جعلني أقع في غرامها ، هي هادئة كثيراً بطبعها ، تفكر قبل أن تفعل أو تقول ، و لن أبالغ إذا قلت أن معدل ذكائها فوق الطبيعي بشكل يثير الريبة ! لديها تلك المسحة التي تخبرك بذلك ، ترى ذلك في تصرفاتها و أفعالها و كلامها ، ترى هذا و تدرك جيداً أنها ليست عادية ، دعك من جمالها الغريب و من عينيها الأغرب ، كانت أنثى بكل ما تحمله الكلمة من معنى .

حينما تزوجنا كان لدينا منزل .. منزلٌ رائع ، أعتقد أنها لو كانت تقدر نفسها حقاً كما تقدر الأخريات أنفسهن لكانت قد طلبت قصراً أو قلعة ربما .. لكنها لم تشتكِ ، ليس من عاداتها أن تشتكِ ، ميزة أخرى تضاف إلى ميزاتها ، لكن للأسف وجودنا في ذلك البيت لم يدم طويلاً ، كل ما في الأمر و بدون الخوض في التفاصيل هو أنني وقعت في ضائقة مالية.. فكان لابد من بيع البيت و الانتقال للعيش في بيت آخر ، ثم كان هناك ذلك الشخص – السمسار – أخبرني عن وجود منزل ممتاز ، واسع و في منطقة حيوية للغاية ، أضف لهذا كله الميزة الأهم و هي ثمنه ، ثمنه بخس حقاً بالنسبة لمنزل بهذه المواصفات .. حينما رأيته أنا و سارة زوجتي أعجبنا حقاً ، و بقدر هذا الإعجاب تعجبنا ..

قالت لي يومها و هي تعبث بشعري :
” آدم !..على الأرجح هذا البيت مسكون بالأشباح”
ضحكت بعدها ثم أردفت :
” أو أننا نتعرض لعملية نصب درجة أولى”

أزحت يدها من على شعري و أنا أقول متنهداً :
” الأوراق سليمة .. تأكدت من هذا “

ردت و هي تعاود العبث في شعري من جديد :
” نتعرض لخدعة قاسية.. غداً ستجده واقفاً على الباب يحمل ميكروفوناً و يقف بجانبه مصور ليقول لك ابتسم أنت في برنامج الكاميرا الخفية”

أزحت يدها مرةً أخرى و رددت:
” ألن يعطونا مالاً من أجل الظهور في البرنامج ؟ سيكون هذا مناسباً للغاية .. أحتاج لذلك المال”

مدت يدها مرة أخرى تعبث بشعري و قالت:
“أعتقد أنك فهمت مقصدي”

كنت قد سئمت من محاولة إزالة يدها عن رأسي فقلت بدون حراك :
” و لا أنا استرحت لهذا المنزل بالمناسبة “
ثم ابتسمت في خبث و أكملت :
” مما يذكرني بأن والدك لم يسترح لي في البداية أيضاً .. ماذا كان ظنه عني ؟ و ماذا أخبرته ؟”

ردت بابتسامة جانبية :
” أنت لديك موهبةً استثنائية في التملص من أي نقاش”

أزحت يدها عن شعري بهدوء و رددت بنفس الابتسامة :
” أمك كذلك لم تسترح .. هل كانوا يظنوني تاجر مخدرات ؟!”

مدت يدها و راحت تعبث في وجهي و تتحسسه ثم قالت:
“إن غريزة الأنثى بداخلي غير مطمئنة لهذا المنزل”

“غريزة الأنثى بداخل والدتك لم تكن مستريحة لي كذلك”

“لقد أدركت للتو أنه لا جدوى من هذا .. لا يوجد حل آخر لدينا”

رددت و أنا أضحك :
” هذا هو ما قالته والدتك .. لقد أدركت أنه لا جدوي لأنك تحبينني حقاً “

أزالت يدها عن وجهي ثم وقفت و مشت بعيداً و هي تقول :
” لا عشاء لك الليلة .. سخرية و هروب من النقاش”

قالتها و تركتني أقهقه خلفها … لكم كنا رائعين وقتها!!

***

لم يكن المنزل مريباً كما توقعنا .. كان منزلاً عادياً للغاية ، عاديا لدرجة أنه مثير للشك ، و هذا بالطبع إذا تغاضينا عن القبو .
في القبو كان يوجد برميل .. من النوع الذي يمكنك أن تختبئ بداخله ، كان كبيراً لهذه الدرجة بالفعل !
الشرط الذي شرطه علينا الرجل هو عدم العبث بهذا البرميل أبداً ، ولا حتى لمسه ، كان يبدو شرطاً غريباً ، و لكن بما أنه لم يكن ليقتلنا وافقت على هذا الشرط ، و وقعت العقد الذي نص على أنني لا يحق لي حتى لمس هذا البرميل مهما كانت الظروف ، و هكذا انتقلنا للعيش هناك بأريحيةٍ تامةٍ ..

في البداية نسينا أمره ، و لكن مع مرور الوقت بدأت الفكرة تنمو في عقلي ، تغزوه غزواً ، ما هو ذلك الشيء المهم الذي يمكن أن يكون في هذا البرميل ؟! لقد كانت لهجة الرجل صارمة للغاية ، كأن الأمر يتوقف على حياته شخصياً ، و أكد علينا أكثر من مرة ، كانت هذه هي الأفكار المبدئية ، فيما بعد بدأ الأمر يتطور .. إذا فتحناه فكيف سيعرف أننا فتحناه ؟ نظرةٌ واحدة لإشباع الفضول ثم نغلقه و كأن شيئاً لم يكن .

في الواقع يمكنني أن أفعل هذا من دون أن تعرف سارة أي شيء ، تطور تفكيري أكثر و أكثر ، ماذا لو كانت هناك جثة قتلها هذا الرجل .. قتلها و أخفاها في البرميل ، إن البرميل يتسع لجثتين لا لجثة واحدة .. ماذا لو كان هناك مال مسروق في البرميل ، ماذا لو بلغ عنا الشرطة فأتت ثم بحثت في البرميل ، لو وجدوا الجثة أو المال سيتهموننا .

تفكيري كان يتطور للأسوأ مع مرور الوقت ، فضولي كان يأكلني ، و سارة لم تكن تعير للأمر أي اهتمام ، بدا لي أنني أحمق حقاً .. هي المرأة لا تحفل بالأمر كما يفترض بها أن تفعل ، و أنا الرجل أهتم أكثر من اللازم بهذا البرميل !
ثم كانت ليلة من الليالي فاض بي الكيل من التفكير فقررت ألا أضيع المزيد من الوقت في التفكير ، هناك برميل ينتظرني كي أفتحه ، و هناك عقل يريد أن يستريح و يعرف .

كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، انسللت من تحت الغطاء بحذر كي لا أحدث جلبة ، سارة لو عرفت فسوف توقفني .
و هكذا بعد دقيقتين كنت أقف تحت ضوء القبو الضعيف أمام البرميل ممسكا بعتلة حديدية تصلح لمثل هذه الأشياء ، خطر لي لحظتها أن أصغي قليلاً لعلني أسمع أي شيء من البرميل ، و طوال الدقيقة التي انتظرتها لم يصدر صوت من البرميل سوى الصمت ، إنه صامت كالقبر .. صامت كما ينبغي لبرميلٍ به جثةٌ أن يكون ، أو كما ينبغي لبرميل يمتلئ بالأموال المسروقة .

ابتلعت ريقي تمهيداً لما سيحدث ، و حينها سمعت صوت شخصٍ يتنحنح على باب القبو .. قد كانت سارة ، كعادتها كل حواسها زائدة عن اللزوم ، لابد من أن حاسة الأنثى لديها لم تهدأ حين انسحبت من جانبها ، خطر لي حينها أن هذه الحاسة الوهمية بحاجة لدراسةٍ جديةٍ و متعمقةٍ حقاً ، يجب أن يعرفوا ما هو السر .

قلت لها بصوت خفيض:
“أهلاً “
لم ترد و أشارت لي بيدها أن آتي و هي تصعد الدرج المؤدي لخارج القبو ، تحركت وراءها و أنا ألعن حاسة الأنثى في سري ، لقد جلبت لي نقاشاً أزلياً سأخرج منه خاسراً كالعادة .

حينما خرجت بعد أطفأت نور القبو وجدتها تنتظرني على أريكة النقاش ، أسميها هكذا ، تعتبر مكاننا المعتاد لخوض النقاشات ، من يجد الطرف الآخر يجلس عليها فعليه أن يعرف أن هذا الطرف يطلب نقاشاً ، أو لديه بعض النقاط التي يريد توضيحها .
على هذه الأريكة أخذنا القرار بعدم معرفة من منا لا ينجب إذا اتضح أننا لا ننجب ، كان هذا بالطبع قبل أن يصدمنا الطبيب بوقاحته الفذة و كلماته المثيرة للغيظ .
جلست جانبها بتوجس شاعراً أنني ارتكبت جرماً ما ، قالت بمجرد أن جلست :

“لقد وعدنا الرجل و وقّعنا عقداً “
قلت لها و أنا أرخي جلستي :
“أنا من وقّع العقد”
“لو كانت لديه طريقة فلن يمانع من استخدامها”
“طريقة لـ…. ؟”
“لو كانت لديه طريقة ليعرف أنك فتحت البرميل .. سيقاضيك ، و ربما ينتهي بك الأمر مسجوناً “

إنها محقة بالفعل .. كيف غاب عني هذا الأمر ؟! هنا بدا لي أنها أنقذتني فعلاً من ورطةٍ كبيرة .. رددت بعد تفكير طال :
” سأرد بثلاث كلمات فقط .. آسف ، شكراً ، أحبكِ”
ردت بغيظ :
” لا لا لا .. أنا لم أستيقظ من نومي الساعة الثانية كي تخبرني بهذا”
قلت و أنا أتنهد:
” أنا أعدك.. أعتقد أن هذا يكفي”
ردت و هي تقف :
” يكفي و يفيض .. أعتقد”
هكذا صرت متمسكاً بوعدي .. لكن و بالرغم من هذا ظل هذا الشيء يعبث بداخلي ، عليك أن تعرف ، عليك أن ترى ، نظرة خاطفة و ينتهي كل شيء .

***

ليس هناك إدمان أسوأ من تعاطي المخدرات يقولون ، لكن أعتقد أنني وصلت لإدمانٍ قريبٍ من هذا المستوى ، و إن كان لا يصح أن أسميه إدماناً ، هناك فرق شاسع بين الاحتياج النفسي الشديد و بين الاحتياج الجسدي العارم ، ربما أنا أبالغ أو أتوهم لأني لم أجرب ألم المدمنين أبداً ، و لكن لا يمكنني أنا أصف كيف يمكن لشخص أن يفكر في شيء معين خمس ساعاتٍ يومياً على أقل تقدير ! لقد عانيت مع هذا البرميل كثيراً ، سارة لاحظت شرودي كثيراً بالفعل ، و لابد من أنها تعرف أنني أفكر في البرميل ، شخص مثلها يعرف كل شيء من ملاحظة صغيرة .

و لم يتحسن الأمر قط .. لم يبقَ على حاله كذلك ، بل زاد سوءاً ، أنت تتحدث عن شخص مشوش الذهن معظم اليوم ، بالكاد يركز في عمله ، شخص احمرت عيناه و نمت ذقنه من قلة النوم ، أنت تتحدث عني هنا ، كنت أتحول ببطءٍ كي أصبح مجنوناً ، الأرق يأكل جزء من روحي يومياً ، بينما أنا أقاوم رغبتي في أن أفتح البرميل .

***

“أتعرفين يا سارة”
“هااه؟!”
“بطريقةٍ ما هذا الأمر يذكّرني بقصة ذو اللحية الزرقاء .. أتعرفينها؟”
“قصة الأطفال تلك؟”
“قصة الأطفال..نعم”

كانت القصة تحكي عن ذو اللحية الزرقاء ، هو رحل ذو ثروة و قوة ، لكنه بالرغم من هذا كان قبيحاً للغاية بسبب لحيته الزرقاء و الغير طبيعية ، تزوج ابنة جيرانه التي كانت لا تريد أن تتزوجه بسبب قبحه .. و لكنها في النهاية وافقت بسبب ضغط أهلها و بسبب ثروته ، تزوجا و انتقلا للعيش في بيت كبير جداً يحتوي على العديد من الغرف ، و في يوم من الأيام أضطر ذو اللحية الزرقاء لأن يسافر ، و قبل أن يسافر أعطاها مفاتيح الغرف و أخبرها أنها تستطيع أن تفتح جميع الغرف ماعدا غرفة واحدة فقط .. و حذرها بشدة من فتحها .
الزوجة انتابها الفضول بشدة و فتحت الغرفة لتشبع فضولها ، و هنا وجدت جثثاً معلقةً و مرميةً في كل مكان ، عرفت أن هذه الجثث تعود لزوجاته السابقات ، كان اللحية الزرقاء قاتلاً .

حينما شاهدت المنظر هلعت و سقطت المفاتيح منها في دماء الجثث و تلوثت بها ، حاولت بعدها أن تزيل الدماء من على على المفاتيح و لكن المفاتيح كانت سحرية و لم تستطع أن تزيل الدماء من عليها .. خافت و أرسلت لأخويها أن يأتيا ، حينما عاد ذو اللحية الزرقاء انتبه للمفاتيح و الدماء التي عليها فعرف أن زوجته قد عرفت سره الخطير و عزم على قتلها ، لكنه قبل أن يقتلها ظهر أخواها و قتلاه هو .

“ما الذي يذكرك بالقصة على أي حال؟ “
“الفضول يا سارة .. ألا ترين ؟! فضول الزوجة يشبه فضولي ، الرجل قد سمح لنا بفعل كل شيء ما عدا لمس البرميل ، و أنا الآن أتعذب من الفضول ، أريد أن أعرف عن البرميل و عما بداخله”
“ماذا عن المنزل ؟”
“ماذا عنه ؟”
“انتقل اللحية الزرقاء هو و زوجته للعيش في منزل آخر .. مثلنا أيضاً “
“نعم فعلاً .. فعلاً “

***

ماذا يوجد بداخله ؟ هل هو فارغ ؟ هل هي خدعة قاسية أتعرض لها على يد شخصٍ محبٍّ للمزاح ؟ لكن ذلك الوجه الذي رأيته لا يمزح .. الوجه الذي يحذِّر بهذه اللهجة الشديدة لا يمكن أن يكون يمزح ، فكرت في أن أتصل به و أسأله ، لكن الأمور لا تسير هكذا .. لا يمكن أن ينتهي الأمر بهذه البساطة ، أتصل به و أسأله فيخبرني و هو يقهقه أنها مزحة .

الرجل قد اختفى .. بالطبع عليه أن يختفي كي يكون الأمر أكثر إثارة ، لكننا لا نتحدث هنا عن مواطن عادي ، شخص طبيعي بدون أصدقاء أو أهل ربما يمكنه الإختفاء وقتما شاء ، و لن يلاحظ أحد ، إن هذا الرجل هو تقريباً أكبر بائع عقارات و منازل في الولاية كلها ، لا يمكنه أن يختفي بدون أن يلحظ أحد ، لكنه فعلها على كل حال .

حينما أفكر .. بالأمر أعتقد أن ما كان يقيدني وقتها حقاً هو وعدي لسارة ، أنا قطعت لها وعداً .. أعني حتى إن كان هذا الوعد تحت ظروف خاصة فيجب علي احترامه ، احترام وعودي يجعلها تحترمني ، و هنا يطفو سؤال على السطح ، إذا أتيحت لي الفرصة للنقض بوعدي بدون أن تعرف هي .. هل سأستغل الفرصة ؟ أم أنني سأظل على موقفي ؟!

بالطبع مع مرور الوقت بدأت أتعقل .. ربما من أكثر الأشياء التي تدهش المرء بين الفينة و الأخرى هي قدرة الزمن .. الزمن لديه القدرة على جعلك تنسى كل شيء ، أتساءل لو كنا قد خلقنا في بعد لم يخلق فيه الزمن ، هل كنا سننسى ؟
مع مرور الوقت بدأت أشفى تدريجياً ، كان تفكيري و فضولي مرضاً .. مرضاً ساعدني الزمن على الشفاء منه ، الشفاء و إن كان بطيئاً فقد كان له مفعول السحر علي و على حياتي و على عملي و إلخ إلخ …
لكن كان الأمر مؤقتاً ، و كنت أعلم أنه سيأتي علي وقت و سأعود لفضولي السابق .. لا أعتقد أنني بهذه القوة .

***

سارة .. إنها سارة زوجتي ، أحياناً لا أستطيع أن أتخيل حياتي بدونها ، إنها شيء من الأشياء القليلة التي تجعلني أحب الحياة حقاً ، أو أقدرها ربما .
كنا ننقل بعض الكتب القديمة للقبو ، فنظرت للبرميل في فتور ثم عضّت على شفتها و تمتمت بصوتٍ خفيض :
“موجة فوق صوتية و ينتهي الأمر”
لم أسمع جيداً فتلفت لها و قلت :
“هاا ؟!”
“لا شيء .. بعض الخواطر عن الموجات فوق الصوتية”

الموجات فوق الصوتية !! وقتها كان هوسي بهذا البرميل قد زال تماماً ، لكني احتفظت بهذه الفكرة ، ربما يأتي عليَّ وقتٌ و أستخدمها .. من يعرف ، و الحق هو أنني حتى الآن لم أستخدم فكرة الموجات فوق الصوتية ، لكن هذا لم يمنع أني بعدها بيوم واحد فقط استفسرت عنها من صديقي المتخصص في هذه الأمور ..

أخبرته بأمر البرميل و عن إمكانية رؤية ما بداخله عن طريق الموجات فوق الصوتية ، لكن الرجل ظل يضحك بنجاعة حتى أدمعت عيناه ، و قال من بين ضحكاته ما معناه أن هذا مستحيل ، و أنه يجب علي التوجه إلى الأشعة السينية أو الأشعة المقطعية إذا أردت أن أعرف ما بداخل البرميل حقاً ، و هذا بدوره يعني أن أكون ثرياً بما فيه الكفاية لجلب الجهاز ، سواء كان جهازاً للأشعة السينية أو حتى جهاز للموجات فوق الصوتية ، و لم ينسَ بالطبع أن يسأل عن صاحب هذه الفكرة الغبية !

لم أشعر بكمية غباء طوال حياتي مثل التي شعرت بها في ذلك اليوم ، كيف لي أن أنسى أن الموجات الصوتية لن تعبر البرميل مهما حاولت ، يبدو أن سارة لم تنتبه لهذا الأمر مثلي .

***

أخبرتني سارة ذات ليلة أنها كانت و هي صغيرة تسمع جملة قضاء و قدر كثيراً ، حتى قررت في مرة من المرات أن تسأل أمها عما يسمونه القدر ، لكن إجابة أمها لم تكن مقنعة و شافية أبداً ، هذه الأشياء صعبة الفهم على فتاة صغيرة .. كررت السؤال كثيراً و في كل مرة نفس الأجوبة .
حتى تملكها الملل و توقفت عن السؤال .. فقط تشكل في عقلها أن سماع هذه الجملة يعني أن شيئاً سيئاً قد حدث ، بغض النظر عن أي شيء آخر .

***

في هذه الأيام كان مزاج سارة سيئاً بحق ، كانت دائماً حانقة و غاضبة على كل شيء و على لا شيء ! لم أملك القوة على الرد عليها ، أعتقد أني أفضل ألا أرد عليها حينما تكون غاضبة .. هذا يعطيها القوة لتقول المزيد ، و هذا بالتالي يعني المزيد من الصداع .

ثم أتى هذا اليوم .. كانت هادئةً جداً حين رأتني ، نظرت لها مطولاً في محاولة مني بأن أعرف سر هذا الهدوء ، كان من الواضح أنها بكت كثيراً ، عيناها أحياناً تفسر كل شيء ، ما لم ألحظه حقاً هو أنها كانت جالسةً على أريكة النقاش .. جلست بجانبها دون أن ألاحظ بأنها أريكة النقاش ، أتذكر أنها نظرت لي بعينين دامعتين و خدين حمراوين .. كنت على وشك التحدث لكنها سبقتني و قالت :

“آدم ! هل تحدثت مع دكتور نورمان ؟ “
رددت باستغراب :
“نورمان ؟”
بدا لي أنها بعد لحظة أو اثنتين سوف تفقد السيطرة و تجهش بالبكاء ، قالت لي بصوت خفيض متذبذب :
“أرجوك آدم أنا لا أمزح “
اقتربت منها و أمسكت بيدها الباردة كالثلج ثم قلت :
“هل أنتِ بخير ؟ تبدين و كأن.. “
صرخت بصوت مبحوح و هي تسحب يدها من يدي :
” أجبني”
كنت مندهشاً لذا قلت بتلقائية :
“من هو دكتور نورمان ؟”
تقلص وجهها بتلقائية هي الأخرى .. و هنا رن هاتفي ، تجاهلته و كدت أن أتحدث لكنها سبقتني مرةً أخرى و قالت :
“أرني الهاتف “
“أتعتقدين أنه وقت الرد على الهاتف ؟ “
لم تهتم بكلامي و مدت يدها في جيبي و سحبت منه الهاتف .. بعده نظرت في الشاشة ثم قالت :
“إنه هو”
ثم مدت يدها بالهاتف نحوي .. كانت تطالبني بأن أرد على المتصل ، لم أنتظر كثيراً و أخذت منها الهاتف ، و هنا رأيت الاسم يتوهج على الشاشة .. كان مسجلاً و بوضوح .. د . نورمان !!

أنا لا أذكر بأني سجلت مثل هذا الإسم .. و لكنني رددت من باب الفضول ، و قد كانت هذه هي اللحظة التي أسمع فيها صوت د . نورمان – العجيب – لأول مرة .

***

“أن هذا يحيرني حقاً يا آدم .. فكما ترى أنا رجل علمي من الدرجة الأولى ، أنا أتنفس المنطق كما يقولون ، و لهذا أشعر بالاختناق كلما ألمس شيئاً ليس منطقياً “
“حسناً هذا جيد ، لست أنا الوحيد من يشعر بالاختناق من كل هذا إذن “
“و من قال لك أنني أشعر بالاختناق يا آدم ، أنا لا أرى هذا غير منطقي بالمرة ، لا يوجد شيء غريب هنا “

إن هذا الرجل مغرور و بدرجة كبيرة ، طريقته في التحدث و إصراره على مناداتي بإسمي من غير أي ألقاب ، و ثقته الكبيرة في نفسه و في اعتقاداته ، كان يجلس أمامي أنا و سارة واضعاً قدماً على الأخرى .. ربما هذا دليل آخر على الغطرسة ، قام من جلسته ثم توجه نحو النافذة التي خلفه ، أزاح ستارها و نظر من خلالها ثم أردف :
“حينما أتيت هنا لأول مرة كنت .. كنت مختلفاً “
“أنا لا أذكر أنني أتيت إلى هنا في حياتي”
“زوجتك أيضاً كانت تبدو مختلفة “

ثم نظر خلفه ناحيتها و عاد إلى تحديقه في النافذة :
“كانت خائفة قليلاً .. و تحاول أن تخفي الأمر ، لكن الآن هي مرتعبة و مذعورة ، و حزينة كذلك ، و لا يبدو لي أنها تبذل جهداً لإخفاء كل ذلك ، يبدو أن جهدها كله تلاشى مع محاولة إقناعك بالقدوم إلى هنا “

نظرت إلى سارة لوهلة .. و رأيت كل ما قاله هذا الرجل ، و لكن هذا لم يمنعني من التهكم :
“منذ متى أخذت شهادتك في قراءة الأفكار ؟ “
“هذا يدعى علم النفس و هي وظيفتي ، لكنك لن تفهم على أي حال ، أليس كذلك ؟!”
“اسمع يا سيد نورمان أن…”
قاطعني قائلاً :
“دكتور”
“اسمعني يا دكتور نورمان … أنا لا أعرفك و لا أعرف لماذا أصرت سارة على جلبي إليك ، و لكنني لست مريضاً نفسياً ، و لست مصاباً بالوسواس القهري كما تظنون ، أنا رجل سليم في وعيي و في كامل إدراكي ، و لا أرى داعي لتضييع المزيد من الوقت هنا “

“كما ترى يا آدم .. أنا طوال حياتي المهنية لم أرَ في حياتي مريض نفسي يعترف بأنه كذلك ، جميعهم ينكرون الأمر ، أحياناً يرفضون الاعتراف بسبب كبريائهم ، و أحياناً بسبب أنهم لا يدركون هذا حقاً ، و السؤال الحقيقي هو .. هل أنت تنكر هذا بسبب كبريائك أو تنكر بسبب أنك لا تدرك هذا فعلاً ؟ “
“كبريائي ؟! كبريائي أنا ؟!”
“نعم كبرياؤك .. لا تريد الاعتراف لنفسك بأنك مريض نفسي ، لا تريد أن تقلل من نفسك أمام زوجتك و أمام كل الناس “

هنا صعد الدم إلى رأسي ، و تملكني الغيظ ، هذا الرجل يتكلم بثقة زائدة و كأنه يعرف كل شيء ، و كأنه لا يخطئ أبداً ، كدت أن أتكلم و لكنه سبقني بعد أن تلفت ناحيتنا مرةً أخرى :
“لكن أنا أفهمك تماماً .. لا يمكنك ببساطة أن تتهم أي شخص بأنه مجنون و تدعم الأمر بأن المجانين لا يشعرون و لا يعترفون بجنونهم”
ثم ابتعد عن النافذة بعد أن أعاد الستار إلى مكانه ، و جلس مجدداً على كرسيه قائلاً :
“الأمر فعلاً ليس بهذه البساطة ، و أنا معك في هذا يا آدم ، لكن عليك أن تفهم أنني لست من اتهمك هنا “
قالها و هو ينظر نحو سارة ، نظرت إليها مندهشاً فعاد يردف :
“كما أنك لا تذكر زياراتك السابقة ، و هذا يدعم ما تقول سارة أنك تفعله”

كنت قد نلت كفايتي من التحدث مع هذا الرجل ، فنظرت لسارة و سألتها :
“ما الذي أفعله ؟”
نظرت للأرض و قالت :
“تجلس ساعات طويلة أمام البرميل يا آدم .. تجلس هكذا تحدق فيه باستمرار لساعات و ساعات ، كما أنك لم تعد آدم الذي أعرفه ، لم تعد ذلك…”
وجدت نفسي أقول بتلقائية :
“ذلك ماذا ؟”
نظرت لي في عيناي و قالت :
“ذلك الزوج الذي أحببته يوماً ما ..”

بدا لي كل شيء مشوشاً ، فأنا لا أفكر بأمر البرميل جدياً إلا حينما أنزل للقبو بين الحين و الآخر ، لم أعد أوليه ذلك الاهتمام الذي كنت أوليه إياه سابقاً ، و حتى سابقاً لم أكن أجلس أمامه كما تقول سارة ، كنت مشغولاً بالانذهال و التفكير في ما قالته سارة ، و لكن قطع هذا الأمر صوت الدكتور و هو يقول ببرود :
“إما أنك ممثل بارع حقاً .. أو أنك حقاً لا تعرف شيئاً “
رددت عليه بانفعال :
“أنا لا أعرف شيئاً !!”
“إذن أنت لا تذكر شيئاً مما تقوله سارة ! “
هززت رأسي نفياً فعاد يقول :
“و لا تذكر أنك أتيت إلى هنا خمس مراتٍ من قبل”
فقلت من بين أسناني :
“هذه بالذات لا أذكرها “
“سارة قد جلبتك بنفسها إلى هنا .. ألا تذكر ؟ “

لم أتعب نفسي بالنظر إلى سارة و سؤالها عن الأمر ، فيبدو أنها متفقة مع كل كلمة قالها الرجل ، يبدو أن هناك اتفاقٌ ما هنا ، أو هما صادقان ! نظرت له نظرة واضحة في معناها .. النظرات أحياناً يمكنها أن تقول لا
فهز رأسه في رضا و ابتسم .

***
كانت تقول أنني كنت أحيانا أقضي خمس ساعات كاملة في القبو.. فقط أجلس أمام البرميل و لا أفعل شيئا سوى التحديق فيه، تقول أنني تغيرت و صرت باردا للغاية.. لا أهتم بها ولا بأي شئ آخر ينبغي علي الإهتمام به، تقول أنها لم تعد تحتملني و أنني صرت لا أطاق.
كانت تقول أنني كنت أحياناً أقضي خمس ساعاتٍ كاملةٍ في القبو .. فقط أجلس أمام البرميل و لا أفعل شيئاً سوى التحديق فيه ، تقول أنني تغيرت و صرت بارداً للغاية .. لا أهتم بها ولا بأي شيءٍ آخر ينبغي علي الاهتمام به ، تقول أنها لم تعد تحتملني و أنني صرت لا أطاق !

ما حدث معي وقتها كان يذكّرني بمن يقولون .. إذا جرفك التيار فلتسبح معه و لا ترهق نفسك بالمقاومة ، و هذا هو ما فعلته ، لم أقاوم قط ، و كنت أستقبل كل ما يقولونه بنعم و حسناً ، الأمر أسهل بكثير هكذا ، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد ، فبعد مقابلة الدكتور بأسبوع كان نقاشنا أنا و هي التالي على الأريكة مختلفاً و خاصاً … و سيئاً .

أكثر ما علق في ذهني من ذلك اليوم هو أنها كانت مختلفة ، طلبت أن تبتعد عني لبعد الوقت ، لقد طلبت الأمر مباشرةً و بدون تردد ، لا تستطيع الحياة معي هكذا ، لا تستطيع العيش مع مجنون يحدق في برميل طوال اليوم ، حاولت أن أستعطفها أو أن أهدئها لكنها أصرت إصراراً شديداً .. و في هذه اللحظة عرفت أن الأمور بيننا لن تعود إلى سابقتها أبداً ، كانت تقول لي بوضوح شديد .. أنا لم أعد أحبك لأنك صرت مهووساً بالبرميل ، و قد كان من الواضح فعلاً أنها لم تعد تحبني ، و بالطبع كعادتي لم أرفض لها طلباً .. و من أنا كي أقول لا لسارة !

و هنا نعود لنقطة البداية .. حينما كانت تقف على الباب ممسكة بحقيبتها ، قالت :
“آدم .. هل تعرف حقاً ما الفرق بين التحمل و الصبر ؟”
“هذا سؤال .. تعرفين لقد فكرت به كثيراً ، كعادتي .. التفكير كثيراً .. أليس كذلك ؟!”
حينها فكرت .. ربما الصبر هو انتظار شيءٍ ما .. لكن التحمل ؟!
قالت بصوت حزين :
“ماذا حدث؟! .. ماذا حدث بيننا ؟”
“ربما البرميل .. كل ما حدث .. ربما هو قضاء و قدر “

و حينها تركتني و رحلت في صمت ، لابد من أنها قد عرفت أن شيئاً سيئاً قد حدث بيننا … شيءٌ لا ذنب لي فيه .

***

و هكذا انتقلت سارة لتسكن مع صديقتها تاركةً إياي وحيداً مع البرميل .. بين الحزن و الغضب و عدم الفهم ، لقد وجدت الأمر برمته سخيفاً لكن لم أمنع نفسي من التساؤل عما إذا كانت محقةً في ما تقوله عني .. و مرةً أخرى أجد نفسي واقعاً في شباك التردد ، أنت لا تعرف إذا ما كنت محقاً أم لا ، و كلام الآخرين يجعلك تشك في ما تراه يقيناً بأم عينك ، كانت الأمور ضبابية للغاية في هذا الوقت ، الأمر بكامله كان يثير شيئاً بداخلي ، الأحداث و الأسباب التي أدت لهذا ، أعني أين هي نقطة البداية ؟ منذ متى بدأ كل هذا ، ثمة أغنية يابانية تدعى برميلي العزيز .. لا أعرف لماذا تذكرتها في تلك اللحظة بالذات .

و اتخذت القرار فوراً .. هذا البرميل سوف يتم فتحه حالاً ، تباً للرجل و تباً لوعد سارة .. هناك بعض الأشياء أهم من الوعود ، أن يتهمونني بالجنون فهذا سبب كافٍ ، و في جميع الأحوال إذا سألوني لقد كنت مجنوناً أنسيتم هذا ؟

و من جديد عدت أقف أمامه مع تلك العتلة الحديدة التي تصلح لفتحه ، ثم هويت بكل قوتي على القفل الصغير الذي كان يبقيه مغلقاً ، لم يقاوم القفل كثيراً ، كانت بضعة ضربات كافية لجعله يستسلم ، مددت يدي نحو الغطاء و أزلته .. و.. و عرفت.. عرفت ما الذي كان يخبئه هذا الغطاء ، ربما إذا كنت نظرت لما يحدث حولي بإمعان لتمكنت من معرفة ما حدث أو يحدث ، أذكر أنني يومها قضيت سبع ساعات أمام البرميل جالساً على الأرض ، ثم حين تحركت أخيراً .. تحركت نحو المطبخ ، و أنتقيت سكيناً جيداً ثم مشيت في طريقي للخارج ، كل ما كان يشغل عقلي وقتها هو أن هناك شخصاً ينبغي علي قتله فوراً ، و ربما سأعذبه قليلاً قبل هذا .

يتبــع ..

تاريخ النشر : 2017-02-06

البراء

مصر - للتواصل: [email protected]
guest
23 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى