أدب الرعب والعام

جنتي قبره

بقلم : حوريه الحديدي – مصر

جنتي قبره
استدارت تنظر إليه من النافذة .. لكنها هذه المرة لم تخف

دائماً ما أجلس و أفكر … ما أغرب الإنسان ، و ما أغرب ما يمر به في حياته ، و ما أغرب القدر الذي تحالف ضدنا و أقسم ألا يريحنا لحظةً واحدة ، فنجده يحرمنا مما نريد و هو أمام أعيننا – لكننا نحن الأكفاء – و عندما نراه يسلبه من بين أيدينا فيقف و بيده هذا الذي نريد يسخر منا لأننا أبداً لن نحصل عليه .

جلست فريدة على سريرها تنظر إلى السماء السوداء اللامعة -بفضل النجوم من النافذة – مثل عينيها اللامعة تماماً ، إلا أن عينيها لامعة بفضل الدموع ، و كم أحبت النظر إلى السماء ليلاً .
كانت دائماً ما تطفئ أضواء غرفتها و تنظر إلى السماء ، فيكون كل ما تراه عيناها هو اللون الأسود – للسماء – و النجوم اللامعة و القمر المضيء – صديقها المفضل – الذي ينير غرفتها كفاية كي لا تتعثر قدمها و هي تحضر هاتفها و سماعات الأذن خاصتها لتستمع للموسيقا و هي تشاهد اللوحة الفنية الإلهية في سعادة و ابتسامة منيرة ، كما فعلت الآن أيضاً ، لكن هذه المرة تنحت ابتسامتها جانباً ، و قررت السعادة الفرار من قلبها بعدما هُزِمت علي يد الحزن و الغضب ، فجلست تبكي بصمت فلا تريد إزعاج والديها بصوت بكائها ، فيضطرا لقدر الله لإنهاء مشاجرتهما المهينة .

وضعت سماعاتها في أذنها سريعاً ، و ضمت ركبتيها إلى صدرها ، و حوطت ركبتيها بذراعيها ، و ذقنها على ركبتيها .. نظرت إلى السماء تشكو إليها غياب القمر صديقها في مثل هذه الليلة ” ألم يجد غير اليوم الذي يتشاجر فيه والداي ليغيب به ” أخذت تفكر محاولةً تشتيت رأسها عن مشاجرة والديها و هي تعي جيداً جنونها ، لقد أصبحت تفكر و كأن القمر صديقها حقاً ، و لكن صوتهما المرتفع يأبي تركها وحدها ، فترفع صوت الموسيقا كلما ارتفع صوتهما لعلّ صوتهما يختفي ، و قد بدأت بعض دموعها بشق طريقها على وجنتيها .

في الحقيقة هي لم تبكِ بسبب شجارهما فحسب ، بل بسبب ما يتفوهان به من إهاناتٍ تجاه أحدهما الآخر ، فهي فقط تشتاق لأبويها عندما أحبا بعضهما البعض و قضى ثلاثتهم معظم الوقت سوياً سعداء … عندما كانت شجاراتهما عمن يجب عليه إعداد القهوة صباحاً ، أو من يرتب غرفة الجلوس ، أو من يوقظ فريدة من النوم صباحاً … لم تعرف أبداً سبب خلاف والديها ، و لكن فجأة والدها بدأ يأتي المنزل في وقت متأخر عما قبل ، و لا يأكل معهما ، و يفتعل الشجارات ، و والدتها أصبحت عصبية تصرخ في وجهها لأبسط الأسباب .

ثم بدأت شجارات والديها تصبح أكثر عنفاً ، فبدلاً من الصراخ و حسب أصبحت ألفاظ السباب و الإهانات لا تفارق شفتيهما ، ثم بدأ يفقد السيطرة على غضبه ، فتمتد يده بالأذى تجاه والدتها و تجاهها أحياناً ، و مع الوقت فقدت الثقة في والديها و انعدم شعور الأمان لديها ، و أصبحت أسوأ أوقاتها عندما يعود والدها للبيت مساءً ، و يبدأ الشجار مع والدتها ، و هي فقط لا تريد أن تفقد حبهما الذي يدفئ قلبها و يداوي جرحه .

كان يقف هو بين الظلال كما اعتاد دائماً في المنزل القابع أمام منزل فريدة ، يراقبها بسعادة كما يفعل دائماً دون أن تشعر هي ، فهي دائماً ما كانت تجلس في ظلمة حالكة تنظر إلى السماء السوداء بابتسامةٍ مشرقة ، و أحياناً يراها تقهقه بينما تنظر إليها و يفكر ” هل هذه الفتاة مجنونة أم ماذا؟ ” ثم يعاود فيقول لنفسه ” و من أنا لأحكم عليها إن كانت قد فقدت عقلها أم لا ، فربما جنونها هذا من يجعلها تقبل بي يوماً ” ..

لم يتقدم يوماً ليلفت انتباهها رغم انشغال عقله بها ، و لكنه دائماً ما أكتفى برؤية ضحكتها و ابتسامتها الساحرة ، و التي بدأت تتلاشي من فترة ، فقد رآها تبكي في شرفتها بحرقة بضعة مرات فيؤلمه قلبه ، و تجتاحه رغبته الشديدة بمعانقتها ، فربما تهدأ و تخبره ما يزعجها إلى حد البكاء ، لكن الجواب كان يصل إليه أسرع من البرق ، فبعد ثواني استطاع سماع صوت والديها يتشاجران و يتبادلان الصراخ ، فيود لو يذهب إلى بابهم و يصرخ عليهم بأن يصمتوا ، لكنه لا يستطيع ، فهو أسير ذلك البيت المهجور ، لا يستطيع مغادرته مهما حدث ، لذا كان يكتفي بالصراخ غير المسموع و تكسير كل ما في المنزل من أشياء قابلة للكسر .

علم هو أنها لن تجلس كثيراً هذه الليلة ، فعلى الأرجح شجار والديها سينتهي بعد قليل ، و من ثَم تهدأ هي و تنام من كثرة البكاء ، فتوقف عن تحطيم أي شيء أو بكلمات أدق أجل عملية التحطيم و وقف بين ظلاله يتأملها … يحفظ ملامحها في ذاكرته قبل أن تختفي هي في ظلمة غرفتها و تنام ، و هو حائر هل يكون سعيداً أنه رآها الليلة و لو لوقت قصير أم يستاء من مغادرتها السريعة ؟ هل يجذب والديها لمنزله و يتخلص منهما كي لا يحزن قلبها ثانية أم يتركهما أحياء ، فهي بالتأكيد ستحزن لفراقهما ، و ربما يخسر فرصة أن يصبح صديقها يوماً .. و لكن بحكم ماهيته فالقتل أول الاختيارات .

كانت فريدة لازالت جالسة تحاول أن تخرج من رأسها أصواتهما الصارخة التي تعلو باستمرار ، أما هاتفها فقد تخلى عنها و توقف عن رفع مستوى الصوت ، و قد وصل صوتهما إلى غرفتهما بجانب غرفتها و أرتفع صوتهما أكثر و كأنهما يتحدثان بجانب رأسها .

أغلقت عينيها بقوة ، و عضت على شفتيها لتمنع شهقاتها من إثبات وجودها ، و لكن الأمر لم يجدِ نفعاً ، فلقد شعرت أن جسدها يرتجف بشدة عندما سمعت والدها يصفع والدتها ، و لم تتمكن من أن تسجن شهقاتها بعد الآن ، فوالدها الذي فقد السيطرة على غضبه مثل كل مرة سيبدأ بالاعتداء على والدتها بالضرب ، و ربما يأتي لغرفتها ليصرخ عليها بدون سبب هي الأخرى أو حتى يضربها .

تذكرت المرة السابقة عندما ضربها والدها و اضطرت في اليوم التالي وضع الكثير من مساحيق التجميل لتخفي البقع الزرقاء التي خلفها والدها ، و لكن في منتصف اليوم أمطرت السماء ، و تبلل وجهها ، و أُزيلت مساحيق التجميل ، و اضطرت أن تبقى بوجهٍ مشوه لباقي اليوم الدراسي ، و لكن عندما وصلت للمنزل وعدت نفسها بألا يتكرر ذلك مرةً أخرى ، فلن يؤذيها والدها ، و أيضاً تعليقات زملائها الساخرة في المدرسة و تغيبت لباقي الأسبوع حتى اختفت العلامات الزرقاء تقريياً و أصبح إخفاؤها سهلاً .

تذكرت الألم النفسي الذي يخلفه والدها وراءه في كل مرة تمتد يده إليها بالسوء ، و لا تظن أنها ستقدر على إبقاءه بمظهرٍ جيد في مخيلتها في كل مرة تسمع والدتها تصرخ ، لذلك عليها الاختباء في مكانٍ ما حتى ينتهي الأمر .

تجولت عيناها بنظراتٍ خاطفةٍ في غرفتها – و لكنها أبعد ما تكون عن الأمان الآن – و عادت لتنظر من نافذة غرفتها و تلاحظ لأول مرة في تلك الليلة المنزل المهجور القابع أمام منزلهم ، هي تعرف ألا أحد يسكنه ، و والداها لن يظنا أبداً أنها ذهبت إلى هناك ، لذا هو مكانٌ جيدٌ للاختباء… ” لا ، كيف لي أن أفكر في هذا ؟! أهرب من المنزل ؟ مستحيل سيقتلني والدي إن فعلتها ! يمكنني الاختباء في أبعد نقطة عنهم فيختفي صوتهم ، و لكن داخل المنزل .. لكن لا يمكنني الذهاب إلى هناك ، فكيف سأفتح بابه من الأساس ؟ ” فكرت فريدة و بدأت في إزالة سماعات الأذن من أذنها ، و تسللت خارج غرفتها تبحث عن مكان جيد للاختباء ، تبحث عن مكان لن يجدها والدها فيه ، و تبتعد فيه أصوات صراخهم عنها .

تحركت بخطى سريعة حتى وصلت للطابق السفلي ، و وقفت في منتصف المنزل و نظرت حولها ” المطبخ ؟ مكشوف للغاية ، غرفة المكتب ؟ لا أمتلك مفتاحها و أبي سيدخلها بسهولة ، الشرفة الرئيسية ؟ لا ، سيدخلها أبي بالسهولة ، كذلك دورة المياه ؟ أجل ! كيف سيعرف أبي أني بالداخل ؟ بابها دائماً مغلق ، و قفل الباب من الداخل لن يستطيع الدخول ” تحركت سريعاً إلى دورة المياه ، لكنها وقفت قبل أن تصل إليها و هي تفكر ” إن كانت الأنوار مضاءة سيعرف أبي أني بالداخل ، و رغم أني لا أهاب الظلام لكن هذه دورة مياه ، و لا يمكنني أن أجلس بها ليلاً في الظلام ، و أيضاً إن علم يمكنه انتظاري بالخارج مطولاً حتى أخرج ، و لن أعيش باقي حياتي في دورة المياة بالطبع !! “

سمعت أصوات أقدام والديها على السلم و هما مازالا يتبادلان الصراخ ، و فهمت من حديثهما أنهما اكتشفا عدم وجودها بغرفتها ، فوجدت قدماها تأخذانها خارج المنزل سريعاً ، و كأن قدماها قد قررتا أن هذا أفضل حلٍّ و لم تنتظرا موافقتها .

ذهبت للمنزل المقابل لمنزلهم سريعاً و هي تتلفت حولها خائفةً أن يراها أحد و يتهمها بالسرقة ، أو أن تراها والدتها من نوافذ منزلهم ، و دعت الله أن يكون القفل مفتوح ، و بالفعل أدارت المقبض في يدها و فُتح الباب فدخلت سريعاً و أغلقته وراءها .

في البدابة كان الظلام هو ملك المكان ، و لكن تدريجياً بدأت ترى خلال ظلمة المكان كالقطط ليلاً .

كان الجو بارداً فحوطت جسدها بذراعيها و هي تتفقد المنزل بروية تتخذ ما تريد من الوقت لرؤية تفاصيله .

كان الطابق الأول شبه فارغٍ من الأثاث ، يوجد به أريكة قديمة متسخة ، و منضدةٌ رثة متهالكة الأرجل ، و كرسياً يشبه الأريكة ، و ستائر متهالكة شديدة الاتساخ يبدو أن لونها كان أبيضاً ، و لكن بفعل الزمن و الإهمال أصبح لونها يقارب الأسود .

تحركت إلى الستائر و هي تقلب شفتيها في تقزز من الغبار الذي يغطي كل شيء ، أغلقت الستائر و هي تمسكها بأطراف أصابعها ، ثم نفضت التراب عن أصابعها في تقزز .

ارتجف جسدها بقوة عندما سمعت صوتاً لعوباً منخفضاً للغاية يهمس بالقرب من أذنها ” الأمر ليس بهذا السوء ، إنه الغبار فحسب ” التفتت سريعاً لترى شاباً يقف أعلى السلم ينظر إليها في سخرية .

وقفت لحظةً تنظر إليه و تتساءل كيف سمعت صوته قريباً للغاية من أذنها بالرغم من أنه يقف أعلى السلم ، لكنها سريعاً ما أفاقت من شرودها و تحدثت بتلعثم ” أ-أعتذر ، لم أدرك أن أحداً في المنزل ” ابتسمت بحرج و اتجهت إلى الباب لتخرج ، لكن الشاب فجأة أصبح أمامها ” لقد سمعت شجار والديكِ يمكنكِ البقاء هنا ” تحدث سريعاً كأنه يريد أن يوقفها عن الذهاب ، كانت عيناه مشرقةٌ بطريقةٍ مخيفة .

نظرت إليه عن كثب حيث كان قريباً جداً منها ، و لاحظت قميصه الملطّخ بالدماء ، طالعته بهلع ” يا إلهي ، هل أنت بخير ؟ ما كل هذه الدماء ؟ ” تحدثت بهلع و هي تحدق إلى قميصه بحاجبين معقودين ، و تقترب يدها إلى قميصه ، لكنه ابتعد عنها سريعاً و كأنها ستؤذيه .

” أنا بخير لا عليكِ ” نظر إليها مطولاً و هو يفتح فمه – كأنه سيتحدث – ثم يغلقه ثانيةً و هي واقفة أمامه تنظر له بارتباك و استغراب لبضعة دقائق حتى تنحنحت و هي تتجه لباب المنزل متحدثة إليه في صوت منخفض برسمية ” أنا أعتذر مجدداً على اقتحام منزلك ، لم أكن أعلم أن أحداً يقطنه لذلك سامحني على سوء تصرفي ، و الآن أعذرني فعلي الذهاب” كانت توشك على فتح الباب لكنه أمسك رسغها و جذبها إليه بعيداً عنه .

” اصنعي لي هذا المعررف و سأكون ممتناً لكِ لِما تبقى من حياتي ” صمت منتظراً ردة فعلها فسحبت رسغها من قبضته و هي تنظر له بشك ، فما الذي قد يريده هذا الغريب منها ” أرجوكِ إبقي هنا الليلة “سحبت يدها بعنف و عيناها مليئتان بمزيجٍ من الغضب و الاستنكار لما يقول ” أعني لقد سمعت شجار والديكِ و أظن أنكِ هنا لتتهربي منه ، لذا فلتتخذي منزلي درعاً لكِ مما يسببونه لكِ من آلام ، و يدي هذه لن تمتد لكِ بسوء أبداً تأكدي من هذا ” أنهى حديثه و هو يلهث كمن ركض أميالاً رغم أنه لم يتحرك إنشاً و لم يتحدث إلى حد الإرهاق .

أصبح الجو حولهما مشحوناً بالتوتر ، تلفتت حولها في توتر تحاول أن تشتت أفكارها عما قال لتوه ، فلاحظت أن المنزل أكثر قذارةٍ من مجرد ستائر متسخة و أثاث متهالك ، فلقد كانت الحشرات و الفئران تركض و تلهو و كأن المنزل منزلها .

نظرت إليه و شفتيها مقلوبة في تقزز ” أنت من يجب عليك المجيء معي فهذا البيت غير آدمي ، كيف تعيش به مع كل تلك الحشرات ؟ كيف تتحمل ألّا تنظفه ؟ ” قهقه مطولاً على حديثها و هو ينظر إليها ، و كأنها طفلة صغيرة أخطأت في أبسط المعلومات عن الحياة .

” بلى .. في الحقيقة أنا كنت أنظفه كثيراً في البداية ، و لكن بمجرد أن أنتهي كان يتسخ مجدداً كما كان ، لذلك أنا فقط تركته هكذا بدون تنظيف ” كانت نبرته فكاهية و كأنه يقول أكثر شيء طريف على الإطلاق ، أما هي فلم تعرف هل تشعر بالشفقة أم بالاستغراب حول ما يجري معه .

” أرجوكِ أخبريني أنكِ ستبقين ” كان يضم يده إلى صدره في ترجي ، ” بالتأكيد لا ، لن أقدر ” تحدثت بهدوء ثم توجهت للنافذة ، ترى إن كان أحد ممن يعرفونها بالخارج أم لا ، و هي بقلبها متأكدة أن أبويها سيكونان خارج المنزل يبحثان عنها في الأرجاء ، و لكن الحقيقة كانت تختلف كثيراً عما تأملت ، فكان الشارع خالٍ بأكمله من الناس ، لا يوجد فيه إلا بعض الحيوانات الأليفة الضالة كالقطط و الكلاب التي تبحث عن مكان تبيت فيه .

صُدمت من الواقع الأليم ، صُدمت من كون والديها لم يهتما باختفائها كأنهما فقدا كلبهما و ليس ابنتهما ، أخرستها الصدمة و جعلتها تفقد النطق ، و أيضاً جعلتها تقرر قراراً سريعاً و متهوراً لا ينتج إلا من فتاةٍ في أوج غضبها و تهورها مثلها .

” حسناً أنا سأبقى هنا الليلة ، و لكن ستتركني غداً صباحاً أرحل في هدوء ، و لن تطلب مني البقاء ثانية ً” تحدثت في نَفَسٍ واحد ، و بسرعةٍ فائقة ، و كأنها تريد أن تنتهي من حديثها قبل أن تغير رأيها !

ظهرت السعادة على وجهه ، و لكنه احترم غضبها و ربما القليل من الحزن الغير معترف به ، و حاول ألا يبالغ في إظهارها رغم ذلك قد لاحظت هي ذلك ، “أرجوكِ فلنصعد للطابق العلوي إنه أقل قذارة بالتأكيد ، و كما وعدتكِ سابقاً لن تمتد يدي إليك بأي سوء ” تحدث إليها راجياً موافقتها و قد وافقت بإماءة صغيرة .

صعدا معاً للطابق العلوي و تسامرا طوال الليل حتى عادت الشمس تنير الدنيا بنورها الساطع ، لم يخبرها الكثير عن نفسه بل فضل الاستماع إلى صوتها العذب – و الذي بالنسبة له أفضل من صوت أفضل مطرب – و رؤية ابتسامتها – التي أعادت قلبه إلى الحياة ، و أضاءت قلبه بوجودها أمامه – و سماع ضحكتها الشبيهة بتغريد العصافير صباحاً .

بعدما أعلنت الشمس عودتها و سيطرتها الكاملة ، كان على فريدة العودة لمنزلها ، و مع أنها ودّت أن تطيل البقاء في منزله لتحملق كما تشاء في ملامحه الملائكية ، و تستمع أكثر لصوته الشجن ، و لكنها علمت بوجوب العودة للمنزل ، فاستأذنته أن يعيد إغلاق ستائر الطابق الأرضي كي تمر هي دون أن يراها أحد ، و بالطبع لم يستطع أن يخبرها أن تبقى قليلاً رغم عدم اكتفاء قلبه من وجودها جواره بعد ، و لكنه وعدها مسبقاً ألا يوقفها عندما ترغب في الرحيل صباحاً ، فما كان منه إلا أن أطاعها و نزل ليغلق الستائر .

و بينما كان هو بالأسفل وقفت كي تعدِّل شعرها في مرآة التسريحة ، فتاةٌ بشعرٍ مبعثر و عيون محتقنة بالدماء و وجنتين متوردتين لم تعلم هل تبدو جميلة أم لا ! بل لم تعلم لِمَ تريد أن تكون جميلة في أعين ذلك الغريب ، فهذا ليس من شيمها ، و أثناء نظرها في المرآة لاحظت أن شيئاً غريباً يخرج طرفه من الدولاب أمام التسريحة ، فعدلت وقفتها ، و أخذت تنظر إليه عبر المرآة ، و هي تتساءل ما هذا الشيء ؟أين رأته مسبقاً ؟! يبدو مألوفاً لعينيها بطريقة جعلت جسدها يقشعر .

تذكرت فريدة أين رأت ذلك الشيء في غضون ثواني ، فقد كان في أحد الكتب الدراسية حيث يدرسون الهيكل العظمي .

اقتربت من الدولاب و هي تنوي فتحه لترى إن كان ما يدور في رأسها صحيح أم لا .. علمت أنها تنتهك خصوصيته و لكن إن كان ما يدور في عقلها صحيح فلا مجال للخصوصية .

فتحت الدولاب لتُفاجأ بالفجيعة، هيكل عظمي يوجد بدولابه ، هو منذ قليل فقط أخبرها أنه لا يدرس ، أي هو لا يدرس الطب ، فما الذي يفعله ذلك الهيكل العظمي بذلك القميص المطابق لقميصه حتى أن بقعة دماء متطابقة على كلا القميصين !!

كل شيء أصبح منطقياً بالنسبة لها ، هذا الشاب لم يكن بشراً أبداً بل هو شبحاً أو عفريتاً لصاحب الهيكل .

شهقت بقوة و كان جسدها يرتجف بشدة ، تمنت أن تركض من ذلك المنزل ، لكن جسدها قد شُلّ و تصنم و هي أمام هذه الكارثة ، لم تظن أبداً أن الله سيعاقبها عليى هروبها من المنزل بهذا الشكل ، فستكون محظوظة إن خرجت من هذا المنزل حية .

تلون كل شيء في رؤيتها بالأسود ، إلا هذا الدولاب و ذلك الهيكل العظمي ، و لم تفق إلا على صوته الذي جعل الرعب يدب في قلبها .

” ف-فريدة أنتِ بخير؟ أرجوكِ دعيني أشرح لك ِ” تحدث و هو يحاول الاقتراب منها ، و لكن كلما اقترب خطوة ابتعدت خطوة و هي واضعة يديها أمامها في شكل دفاعي .

“ما أنت ؟ إنسان ؟ لا أظن ، ف-فقط أتركني أود الذهاب من هنا “

” أنا لن أؤذيكي أبداً أقسم لكِ و لكن فقط استمعي لي و بعدها اذهبي كما تبغين “

” لا لن أستمع ، فقط .. فقط دعني أذهب … فقط دعني أذهب أرجوك ، أنا لم أفعل شيئاً ، دعني أذهب ” كانت قد وصلت إلى الباب ، فما إن أنهت حديثها حتى ركضت إلى نهاية السلم و هي تلهث و ترتجف رعباً حتى وصلت إلى الباب الرئيسي .

أما هو فعلم أن لحاقه بها سيزيد الأمر سوءاً ، لذلك وقف أعلى السلم يشاهدها و هي تذهب خائفةً مرتجفة .. حتى هو قد آذى صغيرته .

دخلت المنزل و حمدت الله أن لم يرها أحد ، صعدت لغرفتها و دثرت جسدها تحت الأغطية تبكي و ترتجف بشدة حتى غطت في نومٍ عميقٍ مليءٍ بالأحلام عن فتى قد قابلته منذ قليل لكنه سيقلب حياتها رأس علي عقب .

استيقظت على صوت دقاتٍ على باب غرفتها فاعتدلت في جلستها و قد هدأت قليلاً غير مدركة أكل ما حدث مجرد كابوس أم حقيقة ؟ و لكن نظراً للعرق الذي يتصبب من جسدها ظنت للوهلة الأولى أنه مجرد كابوس .. انتبهت للدقات على باب غرفتها مجدداً فأذنت للطارق بالدخول ، دخلت والدتها يتبعها شعاع من النور الذي قد تم إعدامه من قِبَل ظلمة الغرفة الشديدة .

” منذ متى و أنا نائمة ؟ كم الساعة الآن أمي ؟” تساءلت و هي تمسح على جبينها بمنديل ، علّ شعورها بالقرف من جسدها يقل ، و لكن أصبح جبينها لزجاً قليلاً و هذا زاد إحساسها الملح للإستحمام ، فوضعت المنديل بجانبها سريعاً تنتبه لوالدتها المتحدثة .

“جئت صباح اليوم من المنزل المهجور و بدوت متعبة فلم أشأ أن أوقظك ، الساعة الآن السادسة مساء .. لا تظني يا جميلتي أني قد هجرتكِ في ذلك البيت و إنما كان الحل الأمثل لإبعاد والدك عنكِ في غضبه .. أخبرته أنكِ عند صديقتك “

” لا تقلقي يا أمي ، حتى و إن فعلتم و هل بيدي حيلة ؟! ليس عليك تبرير أي شيء ، فلا يمكن إصلاح الخطأ بآخر ، فهل كان وجودي في بيت كهذا وحدي أفضل من مواجهتكما ؟ إن كانت الإجابة بأجل فربما كان عليكما إعادة التفكير في الإتيان بي إلى هذه الدنيا ، و لكن لا تقلقي فلن أقوى إلا على الاستسلام لكم و لهذه الدنيا الظالمة ” كانت العبرات قد شقت طريقها على وجنتي كل من الأم على ما مرت به صغيرتها ، و كم المرارة التي يحملها صوتها ، و فريدة لأنها للتو تأكدت أن ما حدث كان حقيقي بأكمله و أن والديها هما السبب في ما رأت عيناها .

أستحمت سريعاً بعد مغادرة والدتها ، و جلست على فراشها ، و في يدها هاتفها تحاول الاتصال بصديقتها ، و قد أبعدت أمر المنزل و الشاب بداخله عن عقلها بعد عناء طويل ، لكن أثناء حديثها مع صديقتها خلت أنها سمعت صوتاً يناديها .. صوتاً قد ألفت سماعه رغم المدة القصيرة التي قضتها معه ، صوتاً كان يطرب مسامعها و لكن الآن أصبح يخيفها و يرعبها أكثر من أي شيء آخر .. إنه صوته من المنزل الآخر ، إنه يناديها … أنهت الاتصال بصديقتها بعدما طلبت منها القدوم إليها .

وقفت تنظر إليه خلال النافذة كما ينظر إليها من نافذة غرفته ، يهمس بإسمها فتسمعه و كأنه بجانب أذنها و ليس بالمنزل المقابل .

شعرت بالخوف منه ، هذا شيء لا تستطيع إنكاره ، و لكنها أيضاً شعرت بقليل من الأمان الذي يبزغ داخل قلبها كلما نادى اسمها .. لم يتحدث بشيء أبداً فقط يناديها .

بدأت تنظر إليه و تتأمله و قد بدأت دموعها تجف ، و بدأت تتحدث إلى نفسها ” هو لا يبدو خطراً أبداً ، بل يبدو كفتي دخل في عراك مع أقرانه أو ساعد والده قليلاً في ذبح شاة .. هو لا يبدو شريراً بل يبدو طيباً وديعاً فلِمَ الخوف منه ؟! ثم كنت أمامه و لم يؤذني! ” لم تلحظ حينها أن قلبها قد بدأ شعاع الأمان الصغير يجتاحه .

سمعت طرقات على باب غرفتها فالتفتت نحوه ثم أعادت النظر نحو المنزل المقابل سريعاً لتجده قد اختفى ، فتوجهت إلي الباب – و هي تخفي أثار البكاء – و فتحته لتدخل صديقتها و تعانقها ” فريدة صديقتي العزيزة لقد اشتقت إليك “

بادلتها فريدة العناق و أرشدتها إلى سريرها ، و أخذتا تتبادلان أطراف الحديث حتى سألت فريدة ” أتعلمين أي شيء عن المنزل المقابل ؟ لقد كان مثيراً للاهتمام في الآونة الأخيرة بتلك الهالة المخيفة حوله “

“أجل لقد كانت تسكنه عائلة ثرية قديماً ، و لكنهم غادروه و سافروا فأصبح مهجوراً كما ترين ، و أظنني سمعت من بعض الأصدقاء أن هناك شاب قد اختفى بداخله منذ طفولتنا ، قالوا لي أنه ارتاد مدرستنا و لكني لا أتذكره أبداً ، كما أن يوماً ما خرج رجل يصرخ أن شبحاً بالداخل و بعدها قد فقد عقله تماماً كان ذلك قبل بضعة سنوات من الآن “

” أي شاب أتعرفين كيف يبدو ؟ “

” الشاب الذي اختفي داخل المنزل يقال أنه في الحقيقة قد قُتل ، و الرجل مجنون خرج يقول فتي بقميص دامي جعله ينقل جثته من تحت الأرض إلى خزانة في إحدى الغرف ، و لكن أحداً لم يصدقه ، فلم نسمع أو نرى شيئاً غريباً في ذلك المنزل .. لكن لِمَ الاهتمام المفاجئ بهذا المنزل ؟! “

” أخبرتك فقط فضول حول ذلك المنزل لا شيء آخر “

” و لكن أتظنين أنه فعلاً مسكون بروح ذلك الفتى ؟ “

” لا أدري حقاً ، و لست مهتمةً فلا أريد إيذاء نفسي “

ذهبت صديقة فريدة بعد مدة و تركت فريدة غارقة بأفكارها ، و في أفكارها فتى واحد فقط بقميص دامي ، و لكنها انتبهت إليى إسمها يُهمس به من قِبله مجدداً ، فاستدارت إلى النافذة تنظر إليه من نافذة غرفته ، و لكن هذه المرة لم تخف ، و إنما اطمأن قلبها ، و هدأت روعتها و هي تتأمله ، لم يكن يشبه الوحوش و الجن التي اعتادت أن تسمع عنهم من جدتها و هي طفلة صغيرة ، و إنما بدا إنساناً طبيعياً ، و لكن إلى حدٍ ما مشاغباً بالدماء التي تلطخ قميصه .

مرت الأيام و فريدة يومياً تسمعه يهمس بإسمها ، و تقف في نافذتها تتأمله حتى أنه أصبح من عاداتهما أن يتحدثا سوياً ، فعندما تحدثت وجدته يجيبها ! و توطدت علاقتهما أكثر عندما اكتشفت أنه يمكنها أن تتحدث إليه في عقلها الذي أصبح يشبه منزلاً جديداً له ، يجول به و يتفحصه كما يشاء حتى أصبح يعرفها عن ظهر قلب ، و أصبح صديقاً لها ، و لو أمعنا النظر إليهما لوجدنا أنه أقرب ما يكون إلى صديقها المقرب ، تحكي له كل ما يحدث في يومها رغم أنه يعرفه تلقائياً دون حديث .

بدأ الشعور بالذنب يجتاح عقلها بأن ما تفعله خطأ ، فلا يجب التحدث إلى عفريت أو شبح .. صحيح ؟
لا خير يأتي من وراء صداقتهما هذه ، فحتماً ستتأذى ، و ربما يتأذى هو الأخر ، و كلما فكرت في الأمر كلما أيقنت أن عليها الابتعاد ، و بتهور فتاةٍ ذات السبعة عشر ربيعاً قررت إبلاغ الشرطة عن الجثة ،و كلما تراجعت عن تلك الفكرة كلما ازدادت اقتناعاً بها حتى نفذتها ، معتقدةً أنها بهذه الطريقة ستنساه و تكمل حياتها .. لكن هيهات أن يحدث ذلك ، ففريدة لم تستطع أن توقف نفسها عن الذهاب إلى المقابر حيث الجثة قد دُفنت ، و أن تزوره يومياً ليلاً دون أن يدري والديها ، فعاد إليها صديقها المقرب حتى أصبح قبره جنتها التي تستطيع أن تكون نفسها داخلها .. أن تدخلها معبأةً بهموم الحياة ، فتخرج بإبتسامة تشق محياها الجميل و هي تسرع الخطى إلى منزلها .

أحياناً يكون علينا أن نتحدى مخاوفنا و ألا نغزل خيالاً و نصدقه .

تاريخ النشر : 2017-02-17
guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى