أدب الرعب والعام

ليلتان و ليلى

بقلم : رفعت خالد المزوضي – المغرب
للتواصل : [email protected]

ليلتان و ليلى
هذا المنزل الجميل أصبح بين ليلة و ضحاها منزلها هي !

“ظهر الآن ثقبٌ كبير وسط الباب ، وامتدّت يدٌ متلهّفة من خلال الثقب لتدير المقبض من الداخل إلا أنها وجدت الباب موصداً بالمفتاح ، ولا مفتاح بعين الباب ، فَعَلت زمجرةٌ غاضبة ، وواصل الفأس تكسير الخشب السميك..”

-1-

كانت صويحباتها يرقُصن حولها بعنف ويجذبنها بين الفينة والأخرى ، لتنتبه من غفلتها وتمرح وترقص كما يفعلن ، لكنها لم تزدد مع ذلك إلا سُهوماً ، وإن وزّعت الابتسامات يمنة ويسرة ، فإنها لم تتحرك من مكانها إلا قليلاً ، كأن الزينة التي عليها تثقل رأسها فلا تستطيع حراكاً ! لَم تدرِ لِمَ بدا لها كلّ شيء غريباً وقتها ، فجأة لم تعد تفهم ماذا أتى بها إلى ذلك البيت المبهرج بالألوان ، والفُرش ، وقفاطين النساء المتلألئة ، والعطور الخانقة ، وأصوات الحليّ التي ترنّ كأنها شلاّل هادر من النقود المعدنية ، وأصوات الأواني وهي تُقرع في المطبخ المجاور ، من كؤوس وصحون وملاعق ، وأقدام الخادمات وهي تضرب البلاط جيئة وذهاباً ، يُحضرن ما يُحضرن ، ويحملن ما يحملن ؟.. ماذا يحدث ؟ وما كل هذه الفرحة ؟ بل متى كانت بهذه الأهمية الخطيرة – أصلاً – حتى يحتفلون بها هذا الاحتفال ؟ وأين كان مخفياً هذا الحب والتفاني من قبل ؟

ثم تذكرت ، وسط الضوضاء الصوتية والبصرية ، كيف لم تكن “ترضى” كلما دُعيت إلى عُرس من أعراس الزواج.. كل ذلك الكمّ من الغرور والتفاخر باللّباس والشعور المسرّحة ، والحليّ الباهرة ، وأطايب الأكل الذي يطوفون به في مواكب ، كأنها المواكب الملكية ! لم تكن تَسلَم من الضّيق الذي يخنق أنفاسها ، والألم الذي يغصّ به قلبها في مثل تلك المناسبات ، وقتَ أن كانت في عداد العوانس البائرات – كما يصرّ على تسميتهن الناس – ولذلك كانت تجاهد نفسها جهاداً كبيراً حتى لا تحسد المتزوجة ، لِما علمت من خطورة الحسد على الحاسد والمحسود معاً . 

فهل تُصدّق الآن هذا الفرح البادي في العيون ؟ أوَتسامى الجميع عن الحسد فجأة ؟.. لا تصدق !

– هيا قومي يا (ليلى) ، وكفاكِ خجلاً .. هذا عُرسك ، أنسيتِ ؟
– شكراً حبيبتي.. أنا مرتاحة مكاني .
– قلت لك قومي ..
– …
وكذا كانت تجابه ذلك الإصرارَ المقيتَ من بعض النّسوة ، بإصرار حديدي مؤدّبٍ من جانبها ، على أن تلزم الكرسي لا تُغادره ..

* * *

ثم جاء وقت العشاء ، فهدأت النساء قليلاً وانقشعت الجُموع ، وعادت كل ذات حليّ إلى مكانها ، متبخترةً في مشيها ، تهزّ يديها وتخفضهما حتى تُسمِع صوت حليّها كل من لم يسمع ، وتُري لآلاءها كل من لم يرَ ، حتى لقد يظنّ الرائي أنهنّ جميعاً عرائس ، إلا تلك النحيفة القابعة مكانها هنالك ، تحت برقع أبيض شفاف.. فهي المدعوة الوحيدة للعُرس فيما يبدو !

كُنّ يلهثن من فرط “الفرح” ، ويثرثرن ، ويقهقهن ويتلّفتن بأعين كأعين الذئاب.. يحسبن عدد الوسائد ، ويُقيّمن جودة الستائر ، وسُمك البساط ، ومدى التناسق بين لون المناديل وطلاء الحائط ، ومعدّل ارتفاع الأرائك فوق مستوى البحر !.. إلخ .

و في انتظار أطباق العشاء ، بعد الفراغ من خدمة غرفة الرجال ، تنامى الهمس المشبوه ، والضحكات المفاجئة التي تنفجر فجأة ، كأن صاحبتها تريد أن يبلغ صوتها غرفة الرجال ، حتى يعلم كلّ أعزب فيها مدى رقّتها وأنوثتها و”استعدادها” ! أما العروس فقد نالت النصيب الأوفر من سهام العيون التي تُحدّق فيها من أظافرها إلى قمّة التاج الصغير الذي يُرصّع رأسها ، ويالها من نظرات تلك النظرات !

لقد كانت المسكينة تجد لكل نظرة منها مثل الوخز في جسدها ، كأنها أشواك التّين البريّ الدقيقة ، فتتململ مكانها منزعجة ، ولولا تحرّزها من ظنّ السّوء لترجمت كل تلكم النظرات إلى جُمل مُفيدة ، واضحة..

– من تحسبُ نفسها هذه الأفعى حتى لا ترقص معنا ؟
– إنها ليست طويلة بالقدر الذي وصفوها به ! هيهي !
– يا لها من محظوظة بنتُ الذين.. !
– عرائس آخر الزمن !.. تبّاً !
– اللّهم بارك ..
– كُلكنّ تنلن أزواجاً بالنهاية إلا أنا !.. حسنٌ ، ستأتيني أخباركِ فيما بعد.. فلتنتظري ، إني من المنتظرين !
– …

وجاء الطّعام أخيراً ليقطع عليها سيل الخواطر ، وبدأ الالتهام والازدراد ما إن لمست الأطباق ظهور الموائد ، وانتبهتْ (ليلى) – العروس – ممتعضةً إلى فرط الشراهة التي تأكل بها بعضهنّ ، حتى كأنهن لم يرين من قبلُ أكلاً يُؤكلُ ، وأخريات – على النقيض – يأكلن ببطءٍ وعجرفةٍ زائدة ، ويمسحن أفواههنَّ الملونة بحذر عقب كل لقمة ، كأنهن مجبرات على الأكل عن غير شهية ! ولم تذكر (ليلى) الذي أكلته تلك الليلة ، ولا كيف أكلته ، وأنّى لها الذّكرى ، وقد كانت في مرمى تلك العيون !

* * *

كان أغلب الذي سمعته عنه مُريحاً ومُبشّراً بالخير ، باستثناء بعض الروايات الغريبة ، التي منها أن (يوسف) هذا لا يخرج من مسكنه مُطلقاً ! ومنها أنه بلا أهلٍ ، ولم يسبق لأحدٍ أن عرف عن أسرته شيئاً يُذكر ! وكل ذلك لم تعدّه (ليلى) إلا محض تهويلات ، وقدّرت أن بعض ما قيل إنما قيل عن حسد ! بيد أن الذي لم تستسغه في أمره – حين رأته أول ما رأته في بيت أهلها – هو عيناه اللتان لا ترمشان !

* * *

-2-

انتهى العُرس ، وزال مع انتهائه ذاك الدّافع الذي يحملُ العروسين على تلبية رغبات العائلتين والمجتمع ، وآن الأوان لتلبية رغباتهما الآن ..

في اليوم التالي ، وفي منزله النائي الفسيح ، كان (يوسف) بمنامته الزرقاء الخفيفة التي تلفّ جسمه الممتلئ ، غارقاً في الأريكة الجلدية ، يُعدّل من عويناته بين الفَينة والأخرى ، ويُقلّب صفحات كتاب بين يديه بسرعة غريبة !

أما (ليلى) ففي المطبخ كانت ، تطبخُ القهوة كما طلب منها زوجها ، متنقّلة بخفة جيئة وذهاباً ، وقد مال ثغرها بابتسامةٍ دافئةٍ فيها شيءٌ من خجل ، وهي تذكرُ أنها في منزل رجلٍ غريبٍ لأول مرة في حياتها ، ولا أحد من أهلها يُنكر عليها ذلك ! ثم سرعان ما تنفضُ رأسها لتزيل عنه الفكرة الحمقاء ، وتنشغل بحمل الأواني أو وضعها ، أو غسل بعضها تحت ماء الصنبور اللاّمع ، أو فتح ذاك الدّولاب أو غلق درج من أدراج الخشب الأسود الثمين ، لتتوقف بغتة شاردة النظرات ، وقد عاودتها الفكرة إياها ، فتبتسم وتعضّ على شفتيها خجلاً وفرحة.. أوَ يكون هذا الذي في الصالون الآن رجلها ؟ حلالُ لها أن تكلّمه وتلاعبه وتداعبه ! عجباً .. وهذا المنزل الجميل ، أينقلب بين ليلة وضُحاها منزلها هي ؟ منزل (ليلى متوكّل) ؟.. عجباً ، عجباً !

وقفت لحظة مكورة قبضتيها على جنبيها ، تتأمّل المطبخ الذي لم ترَ كل زواياه بعدُ.. فرأت ترتيباً فريداً ، كل آنيةٍ في محلّها ، وكلّ لونٍ مناسب للزاوية التي هو فيها ، بل ربما كان مناسباً لمستوى النور الذي يصله من زجاج النافذة الواسعة المطلّة على الحديقة ، والتي ألقت بشعاع الشمس الذهبي على الموجودات ، بعد أن كسر الزجاج السميك حدّته ، وقصّت أغصان النباتات بالحديقة جوانبه ، فلم يصل إلى أرضية المطبخ وجدرانه إلا مزخرفاً ، يصف حدود الأغصان وشكل أوراقها ، وأجساد العصافير الصغيرة في حركتها وسكونها وتقافزها وغزلها ، وأغانيها المطربة التي تملأ الجو بلا انقطاع..

– (ليلى) !

ارتبكت عند سماع النداء ، فأفاقت من تأملاتها ، وأسرعت في وضع الفناجين والإبريق على الصينية النحاسية ، وعدّلت من كسوتها ومن خصلات شعرها بحركاتٍ متوترةٍ سريعة ، ثم سعلت برقةٍ لتعدّل صوتها كذلك ، وصاحت :

– أنا قادمة..

خرجت من المطبخ بخفة ، ومشت في الرواق الطويل الذي في جوانبه غرفٌ كثيرةٌ مغلقة ، عرفت بعضها وجهلت البعض .
ثم لما خرجت من الرواق ، دارت على يمينها ليلوح لها البهو الشاسع ، والأرائك الملونة المتناثرة ، والثريا العملاقة وهي تتدلى من السّقف.. يجلسُ أسفلها مباشرة (يوسف) على أريكته ، يواصل القراءة بنهم عجيب..

– إحم..

إلتفت (يوسف) لدى سماعه الصوت كأنما أفاق من سُباتٍ ليرى (ليلى) ، وهي تحمل الصحفة بأدب ، مطأطئة الرأس، فابتسم لها ودعاها للجلوس..

– لماذا كل هذا الخجل ؟ أنت في بيتك الآن يا (ليلى) تفضّلي..

حوّلت بصرها مبتسمة في مزيد من الخجل ، وتردّد صدى صوته بأذنها طويلاً .. يا له من صوت رجوليٍّ عميق !

– كيف وجدتِ المنزل الجديد ؟

سألها ثم مدّ يده ليحمل حبات من الفواكه الجافة بصحن يتوسّط الفناجين ، وعيناه معلّقتان بوجهها..
– جميل.. جميل جدا في الواقع .
أجابت وهي تتظاهر بالانشغال بحمل فنجانها ، وتحريك الصينية فوق المائدة الزجاجية في غير ما داعٍ يدعو لذلك .
– جيد.. لازال أمامك الكثير لترينه..
ثم عاد لكتابه !

* * *

حاولت (ليلى) – طوال يومها الأول – التغافل عن ملاحظاتٍ جانبيةٍ بدت لها ، حتى لا تعكّر صفو حياتها الجديدة ، كقلة كلام (يوسف) ، وكثرة قراءته ، وإن كانت هي كذلك من مدمنات القراءة ، إلا أنها تختار أوقاتاً تراها مناسبة لتخلو بكتبها ورواياتها ، وذلك حتى لا تهمل جانباً من جوانب الحياة ، هكذا علّمها أبوها ، أستاذ اللغة العربية . 

ولكن (يوسف) ليس كمثلها في هذه الخصلة ، كما لاحظت في اليوم الأول من زواجهما على الأقل ، فهو يقرأ أثناء مجلسهما في الصالون ، يقرأ وهو يتناول طعام الغذاء ، بل كان يقرأ حتى في الفراش ليلة أمس ! وهي لا تفتأ تصبّر نفسها ، وتنتظر في مثل الجمر كلمة منه تشجعها على الكلام.. ولكنه الصمت المطبق .

(لعله خجول مثلك) ، هكذا أجابت أمها وهي تحاورها على الهاتف بصوت هامس.. (اصبري يا بنيتي ولا تطلقي أحكاماً منذ اليوم الأول ، اصبري وسترتفع الكلفة بينكما رويداً رويداً إن شاء الله.. ولا تنسي النصائح التي..) .

– حسن أمي.. ها هو ذا قادم ، سأنهي الاتصال الآن ، وداعاً .

ومما تغافلت عنه كذلك ، عيناه اللتان لا ترمشان ! فقدّرت أنه خطبٌ يُصيب العينين ، وأن لا بأس بذلك ، فمن ذا الذي يخلو من العيوب والغرائب على كل حال ؟ أليس ظفر إصبع رجلها الكبير معوجّ ، حتى لتخجل من المشي أمامه عارية القدمين ؟ صبراً إذا ، والله المستعان ، يكفيها وسامته ، وإن كانت وسامة “سمينة” بعض الشيء ، وشعره الأملس الفاحم ، وكتفيه العريضتين ، وصدره العامر ، وإن كان به قصر ، ولكن دينه وأدبه ، وملاحته التي لا تخطئها عين تشفع له بالتأكيد .

جال بذهنها كل هذا وهي تغسل أواني الغذاء في المطبخ الفسيح الذي بدأت تحبه ، تُرى أين هو الآن ؟ هل مازال يقرأ ؟ ربما يكون في غرفة المكتب ، وقد أخبرني أمس عند أول دخول لنا عن روتينه اليومي ، وكيف أنه يحب الاختلاء بنفسه بعد الغذاء في مكتبه الخاص.. ما هو عمله بالمناسبة ؟ أهو صحفي أم محام ، أم كاتب ؟.. لا تذكر بالضبط ، فقد سمعت عنه روايات متنافرة ، غير أنه كتومٌ جداً ، يصعب أن تظفر منه بجوابٍ شافٍ ، ولكن صبراً .. سأحفظ عدد جواربه ذاتها مع الأيام !

هنا دوّت الصرخة !

صرخةٌ عرفت فيها صوته.. فانزلق كأسٌ من بين أصابعها المرتخية ، وتناثرت شظاياه فوق بلاط المطبخ !

* * *

-3-

في غرفة المكتب الفسيح التي زيّنتها رفوفٌ ملأى بالكتب من شتى الأحجام والألوان ، وزربية فارسية حمراء فاقع لونها قد بُسطت على أرضيتها ، ومزهريات ضخمة مزخرفة بزخارف لها لون الذهب قد وُزّعت بعناية ودقة على جنباتها ، وأريكةٌ طويلة من الجلد البني استقرت بالموازاة مع الحائط الذي تملأه الرفوف ، حتى يجلس عليها من أراد القراءة . 

وخلف المكتب الأسود الفخم بنهاية الغرفة ، كان يبدو جذع (يوسف) الذي تهالك على كرسيه ، ممسكاً رأسه بأسى واضح ، وكان ظاهراً أنه ينتحب بصمت من اهتزاز منكبيه المستمر ، ويداه اللتان تجففان عينيه كل حين .

تعالى طرقٌ خفيضٌ على الباب ، ولكن (يوسف) لم يُحرك من جلسته ، بل لم يبدُ أنه سمع شيئاً أصلاً ، توقّفت الطرقات المستحيية ، لتعود بعد حين أقوى مما كانت ، فأوحت بتوجّس صاحبها وتنامي شكّه وخوفه ، فلما أن لم يُجدِ الطّرق شيئاً ، دار مقبض الباب الدائري المذهّب ببطء ، وانزاح الباب الأسود قليلاً ليظهر خلفه وجه (ليلى) وقد امتقع من الفزع..

– (يوسف) ؟

دخلت الغرفة وهي تمسك صدرها متوجّسة ، تنظر يمنة ثم يسرة ، حتى استقرّ بصرها على ضالّتها فشهقت..

– (يوسف) ؟.. ما بك عزيزي ؟

تقدّمت في الغرفة ، مركّزة نظرها على مشهد زوجها الذي يمسك رأسه في صمت ، وهي تلتفت من حينٍ لآخر لتفهم سبب صراخه ، وترمق – في نفس الآن – الغرفة الراقية التي تراها أول مرّة.. عجيب ! كل هذا الكمّ من الكُتب ! لابد أن أفاتحه في الموضوع لاحقاً ، سيُجنّ الرجل من كثرة القراءة !

– (يوسف) ، هل تسمعني ؟

مدّت كفها تهزّه بلهفة وقد تضاعف خوفها..

– هه ؟ ماذا ؟.. ماذا تفعلين هنا ؟

تفاجأت (ليلى) من “تفاجئه” .. وفي مشهد سريع لمحت صوراً مبعثرةً على المكتب ، قد كان غارقاً في تأملها وهو يبكي ، فاستطاعت أن تلاحظ فيها خطوطاً عامة .. هناك رجل وامرأة في وضعياتٍ خادشةٍ للحياء .. وقبل أن تستطرد في استكشافها لتلك الصور ، انتبه (يوسف) لاتجاه نظرها ، فجمعها تحت ساعديه بحركة سريعة.. وصاح :

– ألا تعرفين معنى الاستئذان ؟
– لقد.. لقد طرقت الباب ، ولمّا لم تجبني..
– أخرجي الآن.. أغربي عن وجهي !

جاهدت (ليلى) لابتلاع الإهانة المفاجئة ، وهي تنسحب من وراء المكتب حيث كانت تقف بجانبه ، وتوجّهت للباب خافضة الرأس وقد ابتلّت عيناها ، وقبل أن تعبر الباب ، حاولت أن تلطّف الجو ما استطاعت :

– لقد سمعتُ الصرخة ، ففزع قلبي وحسبت أن مكروهاً أصابك…

وخرجت قبل أن تسمع جواباً .. وأغلقت الباب .

* * *

ما أقسى الحياة ! نظن دوماً أنّا سنصير يوماً إلى راحة ورغد في العيش يدوم ما دام لنا عمر ، ولكن ذلك لا يكون ، أم ثمة هناك سعداء ينالون هذا الرغد ؟ لا أدري.. الله تعالى أعلم بكل شيء ، ولكن لمَ يصدّعون رؤوسنا بتلك الأمثلة الواثقة ، كقولهم (اعمل يا صغري لكبري) أو أي مثال معناه (من كافح في صغره ارتاح في كبره) ؟ هل يتخذوننا هزؤاً ؟ من ذا الذي يخترع هذه الأمثال ؟ آه لو أمسكته ، لأوسعنّهُ ضرباً بعصا المكنسة على أمّ رأسه !

كانت (ليلى) غارقةً في خواطرها هذه ، وهي على سريرها ، تُسند ظهرها لخشبة السرير العريضة المزركشة ، وترمق صورة وجهها المتجهّم بالمرآة .. أهكذا يكون شهر العسل ؟ أم أن وجهها هذا ليس وجه عسل ؟ أم لعلّ صديقاتها كنّ يكذبن عليها كلما وصفن ليالي (ألف ليلة وليلة) تلك التي يقضينها مع أزواجهن ؟

ثم تذكرت بسرعة سبب هذا التشبيه الذي خطر ببالها ، فقد كان (يوسف) يقرأ منذ الأمس في مجلد من مجلدات (ألف ليلة وليلة) بنهم جنوني.. وكأنه أنسبُ وقتٍ لهذا الهراء ، أفّ !
حملت هاتفها الذكي من على المنضدة وقد ضاقت ذرعاً بخواطرها الكئيبة ، وعبثت للحظة بإصبعها النحيف فوق شاشته ، قبل أن تذهب لأيقونة (السمّاعة الخضراء) ، ففتحت التطبيق الشهير ، واختارت من اللائحة الطويلة صديقتها (ريم) التي تضع صورة رمزية لها وهي بكامل زينتها ، تضمّ فمها بخلاعة ، لتقبّل كل من يرى صورتها !

مطّت (ليلى) شفتيها وحركت رأسها استياء من تهوّر صديقتها التي طالما نصحتها أن تتعقل ، إلا أن ظاهرة وجه (منقار البطة) هذه ، قد اجتاحت الكثير من فتيات العالم كالطاعون ، فصرن كالدمى التي لا عقل لها..

– (ريم) ؟ أنت هنا ؟

لم تخيّب (ريم) ظنها ، فهي (هنا) دائما وأبداً ، فسرعان ما ظهرت على الشاشة عبارة (ريم تكتب حالياً..) فانتظرت بملل أن تنهي كتابتها..

ولما طالت “كتابة” (ريم) واستطالت ، أطلقت (ليلى) من بين شفتيها تعليقاً ساخراً بصوت خفيض مُنهك : (كأنك ستكتبين النشيد الوطني !)..

– (ليلى).. عروستي الجميلة ، كيف هو شهر عسلك ؟
وأتبعت عبارتها بسطر من القلوب الحمراء ، والقطط والعرائس إلخ..

– بخير حبيبتي.. ماذا عنك ؟

– أنا أحاول المراجعة لامتحان “الباك” كما تعلمين.. سأجن يا أختي، لم أتوقع أن الأمر كارثي إلى هذا الحد !

– صبراً سيمر كل شيء بسلام ، وتنجحين بإذن الله ، ونأكل في بيتك الحلوى ونشرب العصير وأذكرك بأيام المراجعة هذه فتضحكين..

– إن شاء الله يا حبيبة قلبي ونور عيني وحبي الكبير (قلوب).. ولكن خبّريني ما أخبار العريس الوسيم ، هه ؟

– ومالك وماله ؟ إياك أن تزيدي خطوة واحدة.. إن كُنتِ ساعدتِ في لمّ شملنا مشكورة ، فلا يعني هذا أن تتقاسميه معي..

– هاهاها.. كم أنت مسمومة ، ما أردت إلا السؤال يا أختي .

هنا انفتح باب الغرفة بهدوء، ودلف (يوسف) بوجهٍ باسم ، غريب..
تجاهلت (ليلى) الهاتف رغماً عنها فسقط على الفراش المبعثر ، وظلّ وجهها معلّقاً بوجه رجلها ، تتأمل ابتسامته التي أزالت عنها طبقات متراكمة من الهم والشك ، فشعرت بصدرها المكلوم ينشرح بعض الانشراح ، وبجسمها يخفّ بعض الخفّة حتى كادت تقفز من السرير وتصيح بسرور ، لولا أن تمالكت نفسها وتظاهرت بالرزانة والهدوء ..

تعالى – فجأة – صوت رسائل (ريم) غير المقروءة ، فقطع الصمت الذي ساد للحظات ، وانتبهت (ليلى) بانزعاج لهاتفها ، فطفقت تحاول إسكاته..

– من تكلمين ؟

قالها (يوسف) بهدوءٍ وهو محافظ على ابتسامته العميقة ، ثم جلس بمحاذاتها على السرير ، فارتبكت ودفعت إليه الهاتف بسرعة ليعاينه ، كأنما تدفع عن نفسها كل ريبة..

– هه !.. مجرد صديقة من صديقاتي ، تسأل عن حالي..

أمسك الهاتف يتفحّصه بفضول ، ويقرأ الرسائل المكتوبة بشفتين قاسيتين ، وعيناه اللتان لا ترمشان تبرقان على وهج الشاشة ببريق مريب ضاعف من شكها وخوفها وحيرتها ، هي التي توقعت أن يرفض الاطلاع على الرسائل إحساناً للظن بها ، ولكنها حاولت تجاهل هذا التصرف المفاجئ بأن قالت ، متظاهرة بالهدوء :

– كيف أنت الآن ؟ هل هدأت ؟
– نعم أنا بخير حال.. إنما أردتُ الاعتذار عمّا بدر مني من انفعال قبل قليل..

وكانت هذه الكلمات كافية لتنسى كل شيءٍ كان منذ ليلة العرس ، فابتسمت ابتسامةً عريضةً صادقة ، ورنت إليه بإعجاب لحظة قبل أن تخفض عينيها خجلاً وهي تقول :

– لم تفعل إلا الخير يا.. سي (يوسف) !

* * *

على ضوء شاشة هاتفٍ نقال ، ترمي رجلان – انتعلتا خفين قطنيين – خطواتٌ حذرةٌ بالبهو الطويل المظلم ، ثم تعبران الصالة الفسيحة ، وتمرقان بين أثاثها الضخم الذي يتراءى في الإضاءة الخافتة كأنه رجال من الجن وقفوا بصمت يحرسون المكان .

لقد تأخر (يوسف) عن الفراش حتى امتلأ قلب (ليلى) فرقاً وخوفاً عليه ، فرأت أن تقوم لتنظر ماذا أخره ، والساعة قد جاوزت الرابعة .

وقفت أمام باب غرفة مكتبه ، هل تدخل ؟ تخشى أن يكون مستغرقاً في عمله أو قراءته فينفجر في وجهها غضباً كما فعل هذا المساء ، ولكن لا خيار ثمة أمامها غير الدخول .

كان الظلام يعمّ كل شيءٍ بالغرفة ، إلا بقعةً تشعُّ بضوءٍ أزرقٍ فيروزي ناحية المكتب ، رجّحت أنها من جرّاء ضوء الحاسوب ، فتقدمت بحذرٍ وهي تتلفت حولها بخوف ضاعف من برودة أطرافها ، حتى أنها لم تجد القدرة لتناديه باسمه.. ذلك الخوف من الظلام الذي لم يفارقها منذ أيام الصبى .

اقتربت من المكتب ووجدت عنده (يوسف) ، حاطاً رأسه على ساعديه ، يغطّ في نوم طويل .
لحظت وجهه الممتلئ الغافي على ضوء الشاشة الأزرق ، وبجانبه على سطح المكتب الزجاجي كانت علبة دواءٍ مقلوبة ، حملتها وسلطت عليها ضوء الهاتف فقرأت ما يشير لحبوب منومة.. إذاً فهو يعاني من الأرق ، المسكين ، لعلّ هذا سبب إصابة عينيه اللتين لا ترمشان..

هل أوقظه لأذهب به للفراش ؟ لعله يغضب إن فعلت.. ولكن ماذا كان يصنع في الحاسوب على كل حال ؟

تحوّلت قبالة الحاسوب الأنيق بحذر ، ودققت النظر ملياً في شاشته ، إنها صفحة بريده الإلكتروني.. لعلها شؤونٌ تخصّ عمله الذي لا تعرف عنه شيئاً بعد ، ولكنها فضولية كأي امرأة في الدنيا ، ثم هي زوجته ويهمها أن تعرف عنه أكثر ، شجعتها هذه الفكرة فمدّت إصبعاً نحيفاً فوق رأسه الغافي ، وضغطت بكامل الحذر على رابط (الرسائل المرسلة) ، ثم اختارت أول رسالة في القائمة .. رسالةٌ إلى صديقٍ فيما يبدو ، مختصرةٌ وخطها صغير ، لم تفلح في قراءته من مكانها ، فاشرأبّت بعنقها قليلاً إلى الأمام ، وبدأت تقرأ بلا صوت وهي تضيّق عينيها :

“… أعلم ُ، وأنا على اتفاقنا الذي اتفقنا عليه.. إلا أنّي أريد أن أمضي معها يوم غد على الأقل ! هذه لم أر مثلها من قبل.. سأتناول حبوب النوم حتى أنهي الليلة بسلام” !

* * *

-4-

” أريد أن أمضي معها يوم غد على الأقل !”

لم تتوقف هذه العبارة عن التردد بذهن (ليلى) طوال اليوم التالي ، وقد قررت أن ترجع لبيتها حتى يتضح ما كان خفياً ، ولكن فضولاً هائلاً أقعدها في فراشها منذ عودتها من غرفة المكتب وحتى طلعت الشمس ، تفكر كيف تسبر أغوار هذا اللغز الجديد ، بكت كثيراً ومسحت عينيها في كل مرة لتزيل عنهما الغمامة وتواصل التفكير العبثي ، كأنها سيارة تشق طريقها وسط الأمطار الهاطلة ، فتمسح مسّاحاتها الزجاج الأمامي كل حين حتى يتراءى أمامها الطريق مجدداً ، وهكذا كانت تمضي في طريق من الفكر لا نهاية له ، حتى توقفت فجأة على صوت الباب يُفتح..

– صباح الخير..
تبّاً لابتسامته المؤدبة..
– صباح الخير..
– هل استيقظت منذ مدة ؟
– نعم.. أعني، منذ قليل..
– تعالي إذاً فالإفطار جاهز.. كان عندي عمل عاجل بالليل لذلك نمت في مكتبي..
– آه..
– تعالي.. أنا أنتظرك .

تباً لك.. قالتها وقامت على مضض ، لتضع رجليها الصغيرتين في الخف القطني ، مرّت جوار المرآة الكبيرة وتأمّلت وجهها الشاحب وعينيها الخاملتين ، ثم خرجت.

تناولت الإفطار بصمت ، متظاهرةً بتتبع ما يُعرض على التلفاز بتركيز.. كانت يده اليمنى ترتعش وهو يحمل حبات الزيتون السوداء ، استطاعت ملاحظة ذلك من خلال نظراتها الجانبية الخاطفة .
– مالكِ صامتة ؟
– هه ؟ لا شيء.. فقط لم يكن نومي البارحة مريحاً ، لذلك تجدني متوترة قليلاً ..
– سوف تعتادين المكان الجديد..
– نعم..
– هل تعجبك برامج الحيوانات، أراكِ مركزة ؟
– نعم كثيراً ..
– أوه !
-…
– حسن، أتمنى لك فرجةً ممتعة ، سأنصرف لإنجاز بعض المهام..
– ما عملك ؟
فاجأه السؤال المباغت ، فتوقف ونظر لها مبتسماً برهة من الوقت ثم قال:
– سأخبرك لاحقاً !..

* * *

ترددت كثيرا في إخبار أمها ، أو أي أحد آخر.. أختها ، صديقتها (ريم) ، وفضّلت على ذلك الكتمان حتى تستبين الأمر . 
وقد ظلت طوال اليوم في غرفة النوم تحزم حقائبها ، وتعيد في ذهنها الحوار المرتقب معه عشرات المرات ، ولما ضاق صدرها بما رحُب حملت الهاتف ، وقصدت إلى صديقتها (ريم) تكاشفها السر .

كتبت (ريم) معقبة بعد أن حكت لها (ليلى) كل شيء :
– أحقا ذلك ؟
– نعم ، أقول لك رأيته بأم عيني.
– وا مصيبتاه..
– بل وا مصيبتاه أنا..
– لعلك أسأت الفهم يا (ليلى)..
– إشرحي لي إذاً ، فعقلي عاجزٌ تماماً..
– ماذا أقول لك ؟ اصبري حتى تفاتحيه بالموضوع على الأقل.
– أين هو أصلاً ؟ هل سمعت من قبل بشهر عسل كهذا ؟ هل هذا هو الزواج الذي صدّعت به رأسي ؟
– صبراً .. ربما هو أيضاً لا علم له بشؤون الزواج ، وسيتعلم مع كرور الأيام..
– لن تكون هناك أيام أخرى معه ، من يقول ذلك القول في أول يوم ، ماذا عساه يقول بعد سنة ؟
-…
– أينك ؟
– مكاني.. أفكر في مشكلك..
– فكري يا أختي ، سأعود بعد قليل ، انتظريني..
– حسن .

* * *

– (ريم).. هل أنت هنا ؟ إن الأمر عاجل !
– نعم يا (ليلى) ، ما ذاك ؟؟
– أنا في ورطة يا أختي .. الرجل قد جُنّ..
– يا نهار أزرق !
– ذهبتُ للمطبخ لأشرب ، فوجدته حاملاً سكيناً طويلاً ، يمشي جيئة وذهاباً في الصالون ويقول كلاماً مبهما لم أتبينه.. لم يرني ، فهربتُ راجعة للبيت ، وأغلقتُ الباب بالمفتاح..
– سكّين ؟ ! أين أنت الآن بالضبط ؟
– بيت النوم يا (ريم) ، أكتب لك من مكاني بالسرير..
– اتصلي بأحد أفراد عائلتك..
– لحظة..

ركّبت (ليلى) رقماً بسرعة ، ثم وضعت الهاتف على أذنها ، وانتظرت قليلاً .. لكن بلا جدوى..
– لا جدوى.. ليست هناك شبكة .
– كيف ؟ وكيف تحدثينني إذاً ؟
– لا أدري.. هناك شبكة (ويفي) فيما يبدو ، وهي غير مرتبطة بخط الهاتف.. لا أدري !
-…
-…
– ماذا أفعل يا (ريم) ؟
-…
– (ريم) ؟ أنا أسمعه الآن يحاول فتح الباب بقوة.. (ريم) ؟
– نعم ؟
– نعم ؟ أنا أوشك على الموت يا (ريم).. أطلبي النجدة.
-…
-(ريم) ؟
– هل لازال هناك ؟
– لا، توقف.. ربما ذهب ليحضر شيئاً يكسر به الباب .
-…
– مالك يا (ريم) تسكتين ؟ أطلبي النجدة ، أنا في خطر ! ها هو قد عاد.. يا مصيبتاه ! إنه يضرب الباب بفأس.. يثقب الباب !
-…
– ريييم ؟
– حسنٌ ، مادام الأمر وصل هذا الحد فلتسمعيني جيداً ، أمّا الصور التي وجدتِ فهي تخصّ زوجة (يوسف) الأولى التي ضبطها تخونه مع صديقٍ له ، وقد صورهما قبل قتلهما ، ثم مرض نفسانياً بعدها حتى أصيب بالأرق ، فلا ينام إلا ليالٍ قليلةً في الأسبوع ، حتى أن عينيه لم تعودا ترمشان..

– ماذا ؟ كيف.. ؟

– كيف عرفت ؟ حسن.. سمّني شهرزاد إن شئتِ ، أنا خامس زوجة من زوجاته اللاتي تزوجهن لينتقم من خلالهن من جنس النساء جميعاً كما فعل شهريار ، وجثثهن موجودة في مبردات كبيرة بالغرف المغلقة..

ظهر الآن ثقبٌ كبير وسط الباب ، وامتدّت يدٌ متلهّفة من خلال الثقب لتدير المقبض من الداخل إلا أنها وجدت الباب موصداً بالمفتاح ، ولا مفتاح بعين الباب ، فَعَلت زمجرةٌ غاضبة ، وواصل الفأس تكسير الخشب السميك ، وانطلق صراخ (ليلى) الحاد..

– أنا شهرزاد يا (ليلى) ، وحيلتي في النجاة أني واعدته بجلب العذارى والتستّر عنه ووضعت حياتي رهن ذلك ، وأنا التي كان يراسل بالبريد ليلة أمس.. آسفة ، لكني اتخذت قراري يا صديقتي..

وانفتح الباب !

انتهى
رفعت خالد المزوضي
31 01 2017

ملاحظة : القصة منشورة سابقاً في مدونة للكاتب
 

تاريخ النشر : 2017-04-16

guest
24 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى