أدب الرعب والعام

الجنسية المستحيلة

بقلم : رفعت خالد المزوضي – المغرب
للتواصل : [email protected]

الجنسية المستحيلة
يا للهول .. إنه هناك ، ينظر لي !

                    – 1 –

التجلّي الأول

إنه ولعي بالغرائب الذي قادني إلى كل تلكم المصائب ، ولأنني إنسانٌ ملول جداً بطبعي لم أطق أن أحيا بالسطحية التي يحيا بها أكثر الناس ، فكان أن انكببتُ على كُتب غرائب الأحداث ومصنفات عجائب الوقائع أبحث عن الجديد الذي لم يُخبَر والمجهول الذي لم يُسبَر ، والمشكلات التي أعجزت عقول من قبلنا من البشر فتركوها متراكمة على عتبات التاريخ ومضوا في طريقهم متناسين..

قرأتُ الكثير من تلك الأشياء حتى تكدّست حُجرتي الصغيرة بمئات المؤلفات والمجلدات المهترئة .. وكنتُ – بين الفينة والأخرى – أسمع لوم المرأة العجوز التي أكتري غرفتها ، تُلقيه عليّ كلما أطلّت بوجهها المجعّد من نافذة البهو الصغيرة..
«يا هذا المنحوس.. ألن تكُفّ عن عادة تضييع النقود في التوافه ؟ أنت تؤخر ثمن الكراء مُدّعياً أنك صعلوك لا مال له فأغفر لك ، و أرجئ الموعد في كل مرة.. كريمة أنا ، لكن للكرم حدود ، فعندما أرى كتباً جديدة لم أرها من قبل في مزبلة كتبك هذه ، أعرف أنك تجمع المال.. كح كح.. أنظر لبيتك أيها المنحوس.. ليس فيه شيء يُذكر ، ألن تشتري دولاباً ، مكتباً ، مزهرية ، كما يفعل الطلاب الحقيقيون ؟ تباً لهذا الجيل المعتوه.. كح كح »

كذا.. ثم تمضي ببساطة !

ما أعجب أمر هذه العجوز الشمطاء ، لشدّ ما تُشبه الساحرات في القصص الخرافية ، مظهراً وكلاماً !.. تنقصها فقط حبة كبيرة على الأنف وضحكة رفيعة مجلجلة !
ثم لماذا هذا التدخّل السافر في الشؤون الشخصية ؟ لستُ ابنها ولا حفيدها – لحسن الحظ – لتمطرني بهذا الكلام المزعج .. ولكن من يستطيع أن يردّ على هذه (المصيبة) أصلا ؟
يا هذه إليك عني ! لا أريد دولاباً ولا مزهرية ولا مكنسة كهربائية .. أريد كُتباً !

* * *

الحقّ أني بالغت .. فقد جمعت كلّ الكتب التي قرأت في صناديق ورقية ، ثم لما تكاثرت الصناديق ركمتُ بعضها فوق بعض ووضعتها حيثما أتفق.. ثم أتى اليوم الذي لم يعد فيه ثمة مكان شاغر تقريباً ، وصار سريري محاصراً بالصناديق ، وأضحيتُ أنام كما لو كنتُ في مخزن سلع !

نعم.. قد بالغت ، أعترف بذلك وأقرُّ .. والأدهى من هذا والأخطر هو نوعية الكتب التي بتّ أقرأ ! ومع ما سمعته من تحذيرات واحد من أصحابي المتدينين إلا أن عنادي وصلابة رأسي حجبا عني أكثر تلك النصائح ..

كُتبُ السّحر والتعاويذ الغامضة بلغاتٍ عدة التهمتها .. وكانت شهيتي تتفتّح أكثر كلما أنهيت واحداً من تلك الكتب.. شيء ما استحوذ على كياني لا أدري ما هو ! حتى لقد صرت أنسى الطعام ، بل وأنسى النوم !.. ومع ذلك بقي صوت دفين يتردد بأرجاء عقلي من مكان سحيق ، أسمع فيه أحياناً بعضاً من نصائح صاحبي تُعاد علي ّ، وأحياناً أخرى تأتيني مواعظٌ ووصايا تحثّني على ترك هذه العوالم التي حشرت فيها أنفي ، فلو كتبتُ تلكم النصائح على ورق لحسبني من يقرأها زاهداً من كبار الزهّاد وعالماً حكيماً له في العلم والحكمة كثير زاد .

ولكن هذا المكان المجهول الذي تأتي منه تلك الإرشادات مغلقٌ في غرفة منسية بداخل دهاليز النفس البشرية.. بابٌ موصدٌ كأنما أوصده أحدهم بإحكامٍ لئلا ينتشر النور الذي يبرز أسفل منه ، فيبدد ظلمة النفس الظلماء.. أتراه الشيطان أم الهوى ؟ لست أدري .. ما أدريه هو أن هواي كان – وقتها – يفرض عليّ سلطانه ، ويرفع رايته على (أراضيّ المحتلة) !
ربما أذكر يدي – مرة أو مرتين – وهي تكاد تغلق مجلداً من المجلدات ، لكنها تتصلّب وهي تمسك جلدة الكتاب عاجزة، كأنما هي ليست يدي !

ماذا يحدُث لي ؟

* * *

في ذات ليلة غائمة ممطرة قمتُ من فراشي مترنحاً لأفتح نافذة غرفتي وأتأمل المنظر الخارجي الهادئ كعادتي ، فملأت رئتي من الهواء البارد ولامس وجنتيّ رذاذ المطر المحبّب.. من في الناس لا يحبّ هذا الجو الحالم ؟
تركتُ نصف النافذة مفتوحاً حتى يتجدّد هواء الحجرة «المستعمل» وعُدت إلى فراشي..
في طريقي إلى الفراش توقّفتُ على حين فجأة ، وقد انتبهتُ لأمر غريب رأيته فأغفلته !
تلك اللحظات من الحيرة الإنسانية التي يختلط فيها الوهم بالحقيقة ، ويتداخل الحلم بالواقع ، فتسأل نفسك إن كنت – حقاً – رأيت ما رأيت ؟ أم أن نفسك رأت ولم ترَ أنت ؟.. تلك اللحظات التي تشكّ في كونك واحداً !
عُدتُ بخطى بطيئة إلى النافذة التي تبث هواء بارداً بدا لي الآن فقط قارساً ، قاسياً !

كُنت أمشي ببطء شديد وشعور عجيب يعتريني ، وقد تمنيتُ – آنئذ – أن تبتعد النافذة عني أو أن تجرني خطواتي للوراء حتى لا أرى ما أظنني رأيته !

وصلتُ عند النافذة فتوقفتُ برهة أهدّئ من روعي وأنفض عن ذهني المشهد الشيطاني الذي علِق به.. أدخلتُ رأسي في الإطار ببطء ، لم أكن أريد أن أرى ، لكن كان ذلك عليّ لزاماً !
نظرتُ بذهول أسفل البناية – إلى الإسفلت المبلل البرّاق – وقد كان هناك.. كما حسبتني توهمت ! فبردت أطرافي الدافئة دفعة واحدة حتى خشيتُ أن يذهب عني وعيي وأتردّى من النافذة ! فعُدت برأسي سريعاً إلى الداخل ، وانتبهت إلى أن شعري واقف تقريباً !
فركتُ عينيّ وفتحتهما عن آخرهما لأوسّع مُدخلهما ، ثم صفعتُ النافذة بعنف وأحكمتُ رتاجها بأصابع ترفرف..

يا للهول .. إنه هناك ، ينظر لي !

* * *

في صباح الغد ، كنتُ جالساً بمقهى الكلية أرشُف من كأس الشاي الساخن رشفات متتالية .. شارد الذهن ، وبجانبي صاحبي المتدين إياه.. أسامة .
ظلّ أسامة صامتاً يرقب الفراغ مثلي ، ثم إنه التفت إليّ وحدجتني عيناه من فوق نظارته الطبية وثغره يتلألأ بابتسامته المعتادة الصافية ، ثم قال لي :
– ما بك يا نبيل ؟ أراك مذعوراً اليوم.. هل تُراك رأيت شيئاً مخيفاً ؟
– تماماً..
– أنا جادّ في ما أقول يا نبيل..
– وأنا..

كنتُ أجيبه وسط شرودي دون أن أنظر إليه ، فأشاح بوجهه عني ، وتنهّد بنفاد صبرٍ قبل أن يقول وكأنما فهم كل شيء :
– كم نصحتك أن تقلع عن النظر في تلك الكتب السوداء ، لكن رأسك الصّلب يا أخي سوف يجرّك حتماً إلى ما لا تُحمد عقباه..
رفعتُ رأسي هذه المرة وقلّبتُ فيه بصري طويلاً .. رأيتُ لحيته الجميلة ، وعينيه الواسعتين ، فأيقنتُ فوراً أنه على حق ! مثلما لو كان بداخلي – وسط أحشائي – جهاز يكشف الحقيقة ، عليه زران أخضر وأحمر .. فَلَكَأنِّي – الآن – بذلك الجهاز يتوهّج بأخضر جميل !

رأسي صلب فعلاً ! من ينكر هذا ؟ ربما لو ضربته بمطرقة لتكسّرت المطرقة ! يجب أن أدع تلك الكتب اللعينة ، إلاّ أفعل تدفعني للجنون حتماً !.. ولكن قبل ذلك عليّ أن أحرّر نفسي من هذا الهوى اللعين..
– نبيل ؟.. أنا هنا ، هل تراني ؟
قالها أسامة ساخراً ، ملوّحاً بيديه ، فأفقت من غيبوبتي والتفتّ أكتشف المكان كأنما أدخله أول مرة !
– نعم، نعم.. طبعاً ، ماذا كنا نقول ؟
– يا سلام.. سألتك هل رأيت شيئاً مخيفاً ، قلتَ (تماماً).. ماذا رأيت ؟

ارتعشَ لحمي كأنما انتبهتُ لسؤاله اللحظة فحسب ، فتذكرت مشهد البارحة ، فقلتُ له هامساً وقد بدا على ملامحي الارتباك:
– اسمع يا أسامة .. لم أنم البارحة ، فقد كنتُ أقرأ إلى ساعة متأخرة من الليل في كتاب (شرح غريب المعان في لسان العفاريت والجان).. ثم بعد أن كلّ بصري وتعب ذهني من طول التركيز على صفحات الكتاب العتيق وخطّه المتقطّع الغريب ، قمتُ إلى النافذة أفتحها لأتملّى بمنظر الغيث المنهمر كعادتي.. فرأيتُ الحيّ الخلفي الهادئ غارقاً في ظلمته الباردة ، ورأيت ُبقعة نور هنالك يضيئها عمود الإنارة الوحيد بتقطّع.. فكنتُ أرى أنصاف الأشياء كلّما أضاء المصباح ، وأرى خيوط المطر تدكّ الأرض دكّا..

سحبت نفساً عميقاً أنعشني ثم رفعت رأسي أنظر لصفحة السماء الداكنة ، وقد حجبت الغيوم الكئيبة زينتها ، والقمر يتراءى بصعوبة على هيئة بقعة رمادية مضبّبة..»

سكتّ لبرهة ألتقطُ أنفاسي.. كنت أطيل الوصف لعلي أغير رأيي فلا أذكر له الذي رأيت.. وأسامة ينظر لي بوجه ملؤه التساؤل..

واصلتُ همسي وأنا أدنو منه مسنداً مرفقَي إلى الطاولة :
– تركت النافذة مفتوحة وهممتُ عائداً لحجرتي وكتابي قبل أن أفطن إلى أن عيناي التقطتا شيئاً ما بين وهجات الضوء المتقطعة…
– أوووه.. ماذا رأيت يا نبيل ؟ أنت تقتلني بوصفك هذا.. أسرع أرجوك فالمحاضرة بعد ثوانٍ !
– حسن، حسن.. احم. رأيت قطاً .
– هل تعبث بي يا نبيل ؟
– كلاّ.. لا أفعل.
بلعتُ ريقي ورفعتُ ناظريّ إلى ناظريه ، مركزاً وضاغطاً على كلماتي قلتُ :
– رأيت قطاً .. واقفاً على قائمتيه الخلفيتين.. ينظرُ لي ويبتسم !

* * *

                    – 2 –

الضمّادات !

في الأيام التي تلت (حادثة القط) تعكّرت نفسيتي كثيراً وحاولت إقناع نفسي بأن ما رأيته لا يعدو أن يكون هلاوساً وضلالات.. وإن كان ذلك في الإمكان ، فإنه لا يريحني بحال من الأحوال ، فليس لعبة ممتعة أن تتوهم رؤية قطّ واقف على رجليه ، يبتسم لك – كالبشر – أنت بالذات !

وكان رأي أسامة رأيا مباشراً ، قاطعاً .. (احرق الكتب اللعينة !)

حسن ، أعتقد أني لا أقوى على ذلك بعدُ.. وإن كانت فكرة الحرق هذه ستروق كثيراً للعجوز الشمطاء ، صاحبة البيت..
لكن تلك الواقعة الغريبة زلزلت نفسيتي زلزالاً عظيماً وعكّرت هدوئي الذي كنتُ أنعمُ به منذ أن استقرّت أحوالي الدراسية والسكنية أخيراً .. واكتشفت أني لستُ شجاعاً كما كنت أظن ، ولا قويّ الشكيمة إلى ذلك الحدّ الذي اعتقدت..

والآن صار خيال الشمعة التي أدرس عليها بالليل يُفزعني ! وصرت أغلق عليّ بيتي بإحكامٍ عند منتصف الليل.. وأعتبر البهو خارج ملكيتي .. الحمَّام كذلك لا حاجة لي به ليلاً ، فلأبقَ في فراشي أحسن لي وأسلم..

أعرف أني أرى أشياء غريبة الشكل تتحرك في ظلال الحائط وإن كان كل شيء حولي هادئاً .. لكني لا ألتفت لذلك ولا أريد أن أصدّقه !
أعرف أن إطلال المرء من نافذته سلوك بشري عادي.. لكني منّعته عن نفسي إذا ما جنّ الليل ، فليلي لا يجنّ فحسب ، بل يُجنّ جنونه كذلك !
أعرف أن بعض الأواني في المطبخ لم أستعملها في أيام بعينها ولم آكل فيها رأس الماعز.. من قال أني أحبّ أكل رأس الماعز أصلاً ؟ لكن أموراً كهذه قد تحدث.. كأن تجد قروناً وبقايا رأس ماعز لم تشتريه في حياتك قط.. هذا أمر طبيعي ! ولم لا تجد قروناً في مطبخك ؟ ما المانع ؟
ربما هو حفيد الشمطاء من يستعمل الأواني في غيابي ويتركها متسخةً كما هي.. إني أعرفه وأعرف عاداته الغريبة.. أليس هذا ممكناً ؟ أخبروني أنه ممكن أرجوكم !
لماذا كل هذا الخوف إذاً ؟ ولماذا ترتعش يدي وهي تكتب هذه الكلمات بالذات؟ تباً !

* * *

هل أبوح لكم بسر ؟ أنا أخشى النساء ..
لا أعلم إن كان يوجد في قواميس الطب مرض اسمه (فوبيا المرأة) ، لكني أخافهن.. وكلما ابتسمن وتدللّن وخضعن في القول نما خوفي وازداد.. لا يمكن أن يكون هذا الذي أعرفه من نفسي إلا مرضاً !
لماذا ؟.. لا أدري ، ربما هي آثار قديمة حُفرت بذاكرتي .. ومن يدّعي معرفة النساء كلّ المعرفة ؟ ألا يخيفك أن يقول كبار علماء النفس أنهم لا يفهمون المرأة تماماً ؟ ثم قل لي جريمة أو خطيئة واحدة ليست المرأة سبباً أو طرفاً أو نتيجة فيها وإن بشكل غير مباشر ..

لستُ أكره النساء.. بل لأني لا أملك كرههن أخشاهنّ !
المرأة إذا لم تعرف مكانها الطبيعي في المجتمع فإنها تصير – ولابد – مشكلاً من مشاكل الحياة العويصة ، وحبلاً قاتلاً من حبائل الشيطان وفتنة لنفسها وللناس جميعاً !
حبّ المرأة مشكل ، كُرهها مشكل ، غيرتها مشكل ، وماديتها وانطلاقها في مُتع الحياة كل أولئك مشكل ومُصيبة على الرجل ! إذا لم يكن محظوظاً ..

تخيلوا.. حتى سبب اهتمامي بالماورائيات امرأة ! وذلك أني شككت مرة أن واحدة من الطالبات بكليتي عملت لي عملاً من السحر لأنها تحبني بجنون كما أخبرني بعضهم ! فإذا كانت المرأة لوحدها سِحر ، فكيف بالمرأة الساحرة ؟ أليست الرعب نفسه ؟

بدت عليّ – بعدها – بعض أعراض السحر فعلاً .. فهرعت أطلب الرقية من صاحبي العزيز أسامة ، وبعد أن شُفيتُ – إلى حدّ ما – أردتُ معرفة هذه الطّرق الشيطانية لأحذَرها وأحذِّر منها ، فكان أن اقترضتُ بعض كتب السحر الممنوعة من عند بعض معارفي ، وليتني لم أفعل.. فقد كانت بداية إدماني الذي لم أتخلص منه لحدّ الساعة !

لماذا أحدثكم عن النساء ؟.. نعم ، أتذكر الآن ، إنها حفيدة الشمطاء (رقية) التي طرقت بابي اليوم لتقدم لي صحناً من السمك المقلي .. وابتسمت لي تلك الابتسامة غير العادية..

ابتسامة المرأة مشكلٌ كذلك !

* * *

في مساء صموت ، بينما أراجع درساً في تشريح الصدر إذا بشيء يرتطم بالنافذة المطلّة على الشارع ! فأفقتُ من سهوي ونظرت للنافذة بجزع..
أي شيء ؟.. ألن يكفّ هذا الجنون ؟
«نبيـــل ! »
أحدهم يناديني.. قُمتُ لأفتح النافذة مُخالفاً قرار المنع الذي اتخذته في حق نفسي.. فوجدتُ البائع في دكان الحيّ.. مُراد ، كان قذف شيئاً ما على نافذتي على سبيل النداء المهذّب !

– ماذا هناك مراد ؟
– أهلاً دكتور..
كم حاولتُ إقناعه بالفرق الهائل بين طالب الطب والدكتور ، لكنه مُصرّ..
– كيف حالك دكتور ؟ بخير ؟ كيف هي صحتك ، لا بأس ؟ العائلة ؟ كل شيء بخير ؟
– الحمد لله.. ما الأمر ؟
– هل تدرسون عن الحيوانات أيضاً في كلية الطب ؟.. أحتاجك في أمر عاجل.. انزل !
– آآ.. ليس تماماً .. ما ذاك ؟
– قطّ مسكين صدمته سيارة مسرعة.. لازال يتنفس..
– …
– انزل فوراً !

ما قصتي مع القطط هذه الأيام ؟
لم أجد بدّا من النزول.. فنزلت .

وبالأسفل وجدته قد حمل القط التعيس إلى جانب الطريق.. وضعتُ صندوق الإسعاف جانباً وانحنيتُ أنظر للقط المصاب.. لا داعي لوصف المشهد ، كل ما في الأمر أن هناك دماء وبعض العظام المكسورة.. الأهم الآن أن نَفَسُه لازال يتردّد..
– سأتركك تنجز مهمتك يا دكتور.. جُزيت خيراً
قالها وانصرف، ليعود بعد ثوانٍ راكضاً ..
– هل تحتاج شيئاً ؟
– لا، شكراً .. عندي كل شيء.
أجبته وأغلقت ياقة المعطف.. البرد شديد..

وحدي مع القط البائس.. أضمّد مكان الجرح وأحاول جبر بعض الكسور مع ما في ذلك من صعوبة ، فلستُ ‹بروفيسوراً› في جراحة الحيوان..
كان المسكين يئنّ بتهالك.. و..
ولم يحدث شيء.. فقط وقفتُ أنظر برضى لما صنعتُ.. هناك قطع جبن بجانبه ، ولكن شهيته الآن ليست في أوجها طبعاً..

انصرفت ..

* * *

المشكل الآن ليس في القط .. المشكل في هذه الضمادات المتسخة.. ماذا تفعل في حجرتي ؟؟
ألقيت علبة الأدوات وأمسكتُ رأسي مصدوماً .. ماذا يحدث لي ؟ هل جُننت ؟
مشيتُ بحذر إلى الثلاجة الصغيرة.. أخرجتُ منها قنينة الماء الزرقاء.. وشربتُ كثيراً ، فما عاد بحلقي ريق يُبلع !
وهنا.. أحسستُ (بوجود) ما في الغرفة !.. تعرفون هذا الشعور ؟.. شيء ما أضيف إلى ذرات الهواء.. أحدهم يُشاركك التنفس لأن كمية الأوكسجين تنفدُ بسرعة !
التفتُّ خلفي ، وهنا.. فقدت أصابعي سيطرتها على القنينة، فسقطت من يدي محدثة صوتاً حاداً !

فقد كنتُ أمام.. التجلّي الثاني !

* * *

                    – 3 –

التجلّي الثاني

إنّ قُدرات أعصابنا على تحمل الألم والخوف محدودة ، و عقولنا لكي تعمل بكفاءة تحتاج وسطاً ملائماً ونفْساً معتدلة ونَفَساً منتظماً ..
وهذا الترف لم أكن لأملكه يومئذ.. فقد كنتُ – داخل بيتي – واقفاً كالخشبة ، شاحباً كالموزة .. يجثم على صدري ذاك الشعور الثقيل الذي هو أشبه شيء بالتجمّد .. كأنما يكفّ عقلك ويستسلم فجأة ثم لا يهمّه – بعدها – تحريك أعصابك وعضلاتك.. فلتتصرّف لوحدك !

كنتُ أمام التجلّي الثاني..
القط نفسه.. واقفاً على فراشي ، ينظر لي بثباتٍ مفزع.. من أين دخلت هذه المصيبة ؟
أردتُ أن أصرخ.. أردتُ أن أفر بجلدي لكن هيهات.. فقد هجرني عقلي لا أدري إلى أين ، ودخلتُ في غيبوبة مُصمتة وأنا بعدُ يقظان !

القط الأسود المفزع واقف على قائمتيه فوق فراشي ينظر لي في مشهد خالد لن أنساه.. بل إنه كان يُخاطبني !
كنتُ أسمع كلاما داخل رأسي !!
وبدأ جبيني يتصبّب ماءً بارداً.. وبدأتُ أعي ما أسمع !

* * *

«الجِنّ بالكسر اسم جنس جمعيّ واحده جِني ّ، وهو مأخوذ من الاجتنان ، وهو التستّر والاستخفاء.. وقد سمّوا بذلك لاجتنابهم من الناس فلا يُرون ، والجمع جِنّان وهم الجِنّة». _ لسان العرب بتصرّف

* * *

وفجأة.. دبّت الحركة في أوصالي وارتعدتُ بعنف وشهقتُ شهقةً كانت احتبست في حلقي حتى أُنسيت إخراجها !
سقطتُ أرضاً وزحفت للوراء باتجاه الباب مطلقاً لعقيرتي العنان لتخرج كل الرعبّ الذي كاد يفجّر قلبي..
أصرخ بكل ما أوتيت من قوة ، وذلك الشيء هناك لا يتحرك أبداً .. فقط ينظر لي !
الضمادات ملقاة على الأرض بيننا.. هو القطّ عينه الذي كنتُ أعالجه منذ قليل ، لكن لا أثر لأيّ إصاباتٍ عليه !
أي شيء هذا ؟!
حملتُ أول ما صادفَته يدي المرتعشة.. صندلاً .. رميته به.. أخطأه .
حملتُ شيئاً آخر.. لستُ أذكر ماذا كان ، لعلّه قدر أو أي شيء.. رميته.. وهذه المرة أصاب رأس القطّ فسُمع لذلك فرقعةٌ قوية !

* * *

«نوع من الأرواح العاقلة المريدة المكلّفة على نحو ما عليه الإنسان ، مجردون عن المادة ، مستترون عن الحواس ، لا يُرون على طبيعتهم ولا بصورتهم الحقيقية ، ولهم قدرة على التشكل ، يأكلون ويشربون ويتناكحون ولهم ذرية ، محاسبون على أعمالهم في الآخرة».

* * *

جعلت ضربتي رأس القط يرتدّ بعنف إلى الوراء ثم يعود لمكانه ، كأن شيئاً لم يقع.. بل كأنما هو دُمية لا حياة فيها !
(هل هي ابتسامة تلك التي أرى على ثغره ؟)
ضربتُ بكل ما أمامي كالمجنون حتى أني فتحت الثلاجة ورميته بكل ما فيها.. هذا ولم أتوقف لحظة عن الصراخ ، فقد أردتُ أن تسمعني المدينة بأكملها.. بل العالم أجمع ، حتى يعلموا أنها مسألة حياة أو موت !

فُتح الباب..
أطلّت منهُ الشمطاء.. وبدت خلفها حفيدتها رقية تضمّ إليها يديها مذعورة !
– ماذا هناك أيها المنحوس ؟ ما بك تصرخ في هذه الليلة الليلاء ؟.. أيقظتني من سباتي عليك اللـ…
توقفتْ عن زعيقها إذ رأتني أشير بفزع إلى السرير..
– ما ذاك ؟
واصلتُ الإشارة بإصبعي النحيف حيث يقف الـ..
– لستُ أرى شيئاً !.. ولا أظنك إلا جُننت يا ولد !

* * *

(إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم) _ الأعراف 27

* * *

لا تسألني كيف فهمت الذي فهمته مما قاله لي.. هذا إن أمكن تسمية فعله ذاك قولاً !
ومثلما أنك تعجز عن تفسير رؤيتك أشياءً وسماعك أصواتاً بل وطيرانك في السماء دون أن تبرح فراشك الدافئ ، في هدأة الليل وعيناك مغلقتان ! أجد نفسي عاجزاً عن إيجاد كلمات تفي بغرض الوصف وتحمل لك الصورة والشعور نفسه الذي أريد إيضاحه دون نقصان..

جرب أن تشغّل مادة صوتية بهاتفك ثم ضعه أسفل وسادتك وأغلق عينيك .. هل تسمع صدى الصوت القادم من لا مكان ؟ فلتخيل لنفسك الآن أن هذا الكلام الذي لا تميز مصدره بوضوح لا صوت له أصلاً ولا لغة ! يكون ماذا ؟
حسن ، لن ألومك إن لم تستطِع تصوّر ذلك ..

* * *

من أصوات الجن..
الدَّوِّيّ..
العزيف..
الصنج..
الزّيزاء..
الزّيزيم !

* * *

(قال) أنه جني..
قال أنّي ناديتهم بعبارات لا يقولها إلا خواصّهم..
(هل صوت اصطكاك أسناني ما أسمع الآن ؟)
قال أن بعض ما تلوته ذلك المساء معناه أني أطلب أن يمنحوني جنسيتهم وإني بذلك أوافق على خدمتهم !
قال أن الكلام الذي تلفظتُ به لا محيد عنه .. وأنه مرسول إليّ كي يضرب لي موعداً بعد ساعة من عصر يوم الأحد القادم ، وسط غابة تقع في ضواحي المدينة !
(خيط سائل ساخن يخرج من الفتحة السفلى لسروالي..)
(سكتَ) بعدها طويلاً ثم قال وسط عقلي – إن بقي لي عقل – أنه استمتع كثيراً بإفزاعي ووضع قرون الماعز في مطبخي !
قال كل هذا – دون أن يفتح فماً أو يحرك ساكناً ! – ثم ضحك ضحكته المتحشرجة تلك – داخل رأسي – وقفز من النافذة بوثبة واحدة !

ولم أضحك أنا.. بل أُغمي عليّ !

* * *

                    – 4 –

ورقة التوابل

– … وضحك ضحكةً لازلتُ أجد صداها لحدّ الآن !
كان أسامة يُحدّق بي – من خلف عويناته – في اهتمام بالغ وقد أثارت القصة انتباهه.. جرع ما تبقى من شايه وقال طالباً المزيد وكأني أقصّ عليه حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة:
– ثم ؟
– ثم.. قفز الشيطان من النافذة كما لو كنا في الطابق الأرضي وليس في الرابع !
قلتها وعضضت على شفتيّ متنهدا بأسى قبل أن أواصل:
– نمتُ مكاني لا أذكر كيف ، وليس في ذاكرتي بعدُ من تلك الحادثة إلا الشمس وهي تلسع وجهي بشعاعها ، ولما أن فتحتُ جفني المتلاصقين بصعوبة استغرقت وقتاً لأفهم من أنا وأين أنا ولماذا أنا ؟.. الخ ، ثم لما فهمت وجدتُني مرمياً على الأرض كيفما اتفق ، أعانق الثلاجة !

ضحك أسامة ربع ضحكة ثم تدارك نفسه بأن سعل وسألني بسرعة ، ربما لينسيني أمر الضحكة :
– نبيل.. أخبرني ، هل أحرقت تلك الكتب كما أوصيتك ؟
نظرتُ له نظرةٌ ذات معنى ، ففهم جوابي من فوره ، وتأفّف وهو يقوم من مجلسه و ينفض عن ثيابه فتات الخبز ويقول :
– لا تلومنّ إلا نفسك يا أخي.. على كل حال ، أنهِ ما تبقى في كأسك حالاً .. المحاضرة بدأت فعلاً 

* * *

تذكرون (رقية) حفيدة الشمطاء ، تلك التي قدمت لي طبق السمك المقلي وابتسمت ابتسامتها التي ابتسمت.. تلك الابتسامة (الملغومة) ؟ حسن ، لقد وجدتُ رسالة لها أسفل بابي هذا المساء !
لا أعرف متى وضعتها هناك ، وكل ما أذكر أني وجدتها لدى عودتي من الكلية هذا المساء بعد أن أنرت الغرفة مباشرةً ، فكانت أول شيء وقع عليه بصري ..
ورقة شاحبة من أوراق الدكان التي تلفّ فيها التوابل ! حملتها بفضول ورميتُ محفظتي لا أذكر أين.. إذ مكان أي شيء في بيتي هو اللاّمكان !
فردتُ الورقة، وكان أول ما شدّني رائحة العطر !
تباً !

* * *

أنهيتُ قراءة الرسالة بسرعة، فتوجهت رأساً إلى مكتبي غير عابئ بالجوع الذي يحتج في مصاريني رافعاً لافتات (الخبز والحرية والكرامة الإنسانية) !
اعتدلتُ في جلستي وأضأت مصباح المكتب ، مع أن ضوء الغرفة ينير المكان أصلاً .. ولكن من قال أني شجاعٌ بالقدر الكافي لأستغني عن دفء الضوء ؟ وهل من رأى وسمع ما رأيتُ وسمعت يذكر شيئاً اسمه الشجاعة ؟
تناولت قلمي (الزنبركي) ذو الزر العزيز عليّ ، وجذبت ورقة نقية مستوية من بين رزمة الأوراق البيضاء.. ثم شرعتُ أضغطُ زر القلم مراراً مفكراً ، ومراجعاً في عقلي ما أودّ قوله لها قبل أن أكتبه..

وكما العادة، وجدتُ كلمة البداية صعبة تاه فيها عقلي.. هل أبدأ بالبداية أم أذكر النهاية كي يُفهم الموضوع ومن ثمّ أرجع للبداية ، أم أدخل لصلب المسألة منذ البداية و أترك بداية ما أريد إلى حين تحين النهاية فتكون بذلك البداية هي النهاية ، أم.. لستُ أدري !
كنتُ أمعن النظر في مصباح السقف و أعبث بزر القلم .. وأسّمّع للغيث المنهمر بالخارج..
أذكر – ليلتها – أني نويتُ المبيت مع صاحبي ، وكان الذي أخّرني إلى تلك الساعة من الليل هو جوابي لهذا الخطاب الملتهب على ورقة التوابل !

وفجأة رأيتُ كلمة البداية على السقف فابتسمتُ ، وانحنيت أخطّ على الورقة..

* * *

كان مكتوباً في رسالتها :
« إليك نبيل :
لا تسل كيف عرفت اسمك فإني أعلم عنك أكثر مما تعلم أنت عن نفسك ربما ! فنحن معشر النساء فضوليات جداً كما ترى، أما إذا ما همّنا أمر أو رابنا شيء مُريب فإنا نتحول إلى أجهزة مخابرات ذات كفاءة عالمية !
اغفر لي هذه المقدمة السخيفة أرجوك ، فأنا أستغل الفرصة لأفضي بكل ما أودّ قوله لك حتى إذا لم يُكتب لنا اللقاء لا يبقى بعض الكلام رهين قلبي الهشّ المريض فيزداد مرضاً على مرضه !

أما بعد..

رأيتك – أول ما رأيتك – في ذلك اليوم من بداية السنة لما فتحت لك جدتي الباب.. أتذكر ؟.. كنتُ أقشّر البصل وقتها في المطبخ وأنفخُ في ملل ، فسمعتُ الباب يُفتح وصوتاً ذكوريا يتكلم .. فكان لزاما عليّ أن أختلس نظرة من وراء الباب – كأيّ بنت في العالم – فرأيتك تكلّم جدتي باستحياء ، تسألها بيتا للكراء.. وعلى وجهك ابتسامة مُشرقة كالشمس ، فأحببتك .

نعم ، بهذه البساطة.. منذ تلك اللحظة أحببتك ، وحتى اللحظة التي أكتب لك فيها هذه الكتابة على ورق التوابل – ويدي مبتلة بماء الطماطم – خُفية عن جدتي الفظة التي تغطّ في نومها الأسطوري الطويل ، و تشخر شخيرها المرعب !
أحببتك يا نبيل .. هل تفهم ؟ أحببتك ولا تسألني كيف ذلك ولا لماذا أرجوك .. لأني يئست من البحث عن إجابات لمثل هذه الأسئلة التي دوّختني طوال أربعة أشهر كاملة .. أحببتك وكفى .

ماذا فعلتَ بي يا هذا ؟ .. هل ألومك لأنك جئت عندنا أم ألوم نفسي وفضولي الذي دفعني لأن أتجسّس عليك من خلف باب المطبخ أم أفرح لكل هذا أم ماذا أفعل ؟ أخبرني.. »

* * *

« سمعتُ البارحة صراخاً رهيباً قبيل منتصف الليل ، وقد كنتُ أستحم وقتها – مثل أي بنت في العالم – وكانت جدتي لاتزال تشخر في نومها الأبدي.. فخرجت مفزوعة ، ملفوفة بالمنشفة والماء يتقاطر من جسدي على البساط ، ما سيجعل جدتي بعدها تسبني وتبصق في وجهي !
أيقظتها وأخبرتها بأمر الصرخة وأنها تصدر من عمارتنا لا شك في ذلك.. فقامت حافية القدمين تتأرجح من سكر النوم وما إن لمست قدماها المجعدتان البساط حتى صاحت إذ وجدته مبتلاً ، فسبتني سبّاً مقذعاً ولم تنس أن تبصق في وجهي طبعاً !

مسحتُ وجهي – غير سعيدة – ونزلنا من فورنا نتفقد الأوضاع مع باقي الجيران.. وكم التاع قلبي لما علمتُ أن مصدر الصرخة كان بيتك المُضاء ، وكنتَ أنت تواصل صراخك لا تزال ، وتنشج نشيجاً سالت له أدمعي خوفاً وفرقاً ..
حاولت جدتي فتح الباب بأصابعها النحيفة فلما عرضتُ عليها المساعدة لكزتني بمرفقها حتى لقد كادت تثقب صدري !
وكان ما رأيت عند انفتاح الباب هو منظرك منطرحاً على الأرض في وضعية غريبة !.. تنظر باتجاه النافذة بعينين جاحظتين ، ولما سألتك جدتي عن سبب كل هذا الصراخ الذي أيقظها أشرتَ إلى السرير.. ولم يكن ثمة حيث تُشير شيئاً ذا بال ، باستثناء النافذة المفتوحة والستار الذي تعبث به الرياح !

تجمّدتُ مكاني وضممت إليّ جناحيّ من الرّهب والبرد الذي يهب.. ولولا أن جرتني جدتي وهي تقرصني بأصابعها المعوجة لبقيت هناك للأبد !
ثم عدنا نعدّ أدراج السّلم وجدّتي لا تكفّ عن قولها (جُنّ الولد.. جُنّ الولد !)
ما بك يا نبيل ؟ هل جننت فعلاً ؟.. »

* * *

لازلتُ أكتبُ.. وقد اقتربتُ من إنهاء جوابي على الرسالة..

* * *

« نبيل.. أعرف أنك تُعاني.. لكن بم ؟
كل ما فيك يشي بمعاناة نفسية عنيفة .. لكن ما تكون ؟
هل تريد أن تعرف بعض أخباري ؟.. أنا أدرس بالسنة الثانوية الأخيرة ، أعيش مع جدتي هنا لأن قريتنا ليست فيها ثانوية.. ليتك ترى كيف أعيش معها يا نبيل.. أسوأ عِشرة قد تخطر على بالك ، حتى أنها لا تناديني إلا إذا أتبعت اسمي بسُبة معتبرة !
إني أموت كل يوم هنا يا نبيل.. ولو شئت أن أهرب معك لأي مكان آخر فأنا .. موافقة .
(أرجو أن تترك لي رداً أسفل المزهرية..)

ر . ر

* * *

أنهيتُ جواب الخطاب أخيراً .. وكان فيه :
«قرأت رسالتك.. وليس ما ذكرتِ فيها من شأني ، و لا أحبك».
و السلام

* * *

                    – 5 –

العد العكسي

بقيَ يومان على الموعد الموعود !
كنتُ أرى في الليالي الأخيرة أحلاماً وكوابيس غريبة ، هي مزيج من الحبّ والرّعب ! رقية تحمل قطاً ميتاً تُقدّمه لي عربوناً لحبها !.. قطّ يلبس بذلة ويحمل في يده باقة ورد ، يتقدّم لخطبتي !.. مُراد صاحب الدكّان يسرق ضمّادات مُتّسخة من القُمامة ! الشمطاء تعترف لي – وهي تبكي – أنها تُحبّني بجنون !.. وأشياء غريبة من هذا القبيل .

المفروض أن هذه الأحلام هي الشيء (الفانتازي) الوحيد في حياتنا الروتينية ، إذ لا يُمكنك أن تقفز من أعلى الدرج إلى سفحه بخطوة واحدة إلا في الأحلام.. لا تستطيع أن تتواجد بأمكنة وأزمنة مختلفة إلا هناك.. في الأحلام.. لا تجرؤ على السقوط من حالق – من غير سبب واضح – أو أن تسبح في السماء بسعادة شاعراً بدغدغة محببة أسفل بطنك إلا في مملكة الأحلام..
وإني أعتقد أن رسالة رقية لي هي الدليل الماديّ الوحيد الذي يُثبتُ فزعي وصراخي تلك الليلة و إلا لشككتُ أن القصة من بدايتها أضغاث أحلامٍ ليس إلا !

وأيّا كان تفسير الأحلام الفانتازية التي تُعرض لبني آدم ليلاً فهي تبقى متنفساً مُريحاً غالباً ، ما لم تنتقل بعض هذه (الفانتازيا) لعالم الواقع كما حدث معي .. وهذا – صدقوني – غير مريحٍ ألبتَّة !

* * *

صادفتُ رقية هذا المساء و أنا خارج من الدكّان أحمل خبزتين في يدي ، فحدجتني بنظرةٍ ناريةٍ مخيفة ، و رفعت أنفها في استعلاء مضحك.. ثم إنها صرخت في وجه مراد – صاحب الدكّان – كأنما تصرخ في وجهي..
– أنت !.. أعطني خبزاً وعلبة طماطم.. تباً !
فغر مُراد المسكين فاه متعجّباً ثم حوّل نظره إليّ في عدم فهم ، فابتسمتُ وأشرتُ لنفسي – من طرف خفيّ – أريد أن غضبتها عليّ أنا وليست عليه ، فابتسم بدوره لمّا فهم..

عجيبةٌ أحوال هذه النسوة وكيف يُفكّرن ! فإما أن تُحبّها بجنون وتنتحر من أجلها.. وإما أن تكون أسوأ كائنٍ على وجه الأرض و أحقرهم !

وبعد لحظات من هذا السخف كنتُ في البيت أمضغ شيئاً يُمضغ وأنظر بثبات إلى خزانة كتبي ليتمثّل بذهني القرار التالي : 

سوف أحرق هذه الكتب اللعينة !

ولم أتوانى كثيراً ، فسرعان ما جمعتها في صندوق وهبطت السلم من فوري محاذراً لئلاً أسقط فيُدقّ عنقي ، فبعض الدرجات متآكل ههنا و..
ما هذا ؟!
تعثرت رجلي بشيء ما على الدرج ، فتماسكت بصعوبة لأنجو من سقطة مريعة ! أزحتُ الصندوق الضخم عن وجهي قليلاً لأرى الشيء الذي اصطدمتُ به .. ثم صرخت صرخةً مدوّية !
لقد كان القطّ إياه يقف بين قدميّ ويرفع رأسه ناحيتي ، ينظر لي بثبات و (براءة) مخيفة !

ألقيتُ الصندوق فزِعا وعدتُ القهقرى دون أن أفارق القط خشية أن يقفز على وجهي فيمزقه.. ثم تعثرت فسقطتُ لتستقبل يداي المبسوطتان الدرج البارد..
صوت باب يُفتح فوق.. ثم صياح الشمطاء المعروف :
– تباً لكم يا أوغاد.. يا قليلوا التربية ، ألن تكفوا عن الصراخ في بيوت الناس عليكم لـ…
طبعاً هي حسبت أن صرختي دعابة من دعابات عصابات الأطفال تلك التي تصرخ في كل درج وتقرع جرس كل باب تُصادفه..
سمعت صوت غلق الباب الحانق ، وأنا أواصل زحفي البطيء نحو الأعلى ، اقتربتُ من قمة السلّم وعيناي لا تفارقان تلك العينين المشقوقتين اللتان تشعّان وسط الدّرج المظلم ظلمة رمادية خفيفة زادت من هلعي..

الكتبُ قد تناثرت من الصندوق وتبعثرت على الدرج..
ثم – بعد ثوان قليلة – دار القط الشيطاني على عقبيه فجأة منصرفاً بهدوء وحكمة بعد أن بلّغ رسالته بوضوح !

لا يمكنني إحراق الكتب.. قُضي الأمر !

* * *

كنتُ في حاجةٍ ماسّةٍ لأن أكلّم أحدهم في الموضوع وأفضي إليه بما ينتظرني بعد يومين من الآن.. لكن الأمر كان سرياً للغاية ، وقد حُذّرتُ من إفشائه.. وهكذا وجدتُ نفسي في موقفٍ لا أحسدها عليه مطلقاً !

وقد ندمتُ أشدّ الندم على اليوم الذي اقتنيتُ فيه أول كتاب من تلكم الكتب الملعونة ، وليلتها – أي الليلة – حملتُ القلم لأكتب هذا الذي كتبتُ وأكتبه الآن ، وهو الحل الوحيد الذي بقي لي لأرثي حالي وأبكيها.. فكتبتُ كثيراً على ضوء الشموع حتى إذا ما وصلتُ إلى الفصل الرابع الذي أسميته (ورقة التوابل) أخرجتُ الورقة المطوية من درجي وفردتُها أمامي لأنقل لكم ما فيها.. والذي أثار انتباهي – لأول مرة – هو خطّها.. كيف لم ألحظ من قبل كم أن هذا الخطًّ جميل أنيق ؟ كيف لم أنتبه إلى جرعة الصّدق العالية في كلماتها ؟ كيف لم أفطن إلى القسوة البالغة التي كتبتُ بها جوابي لها !
أنّبتني مطارق الضمير كثيراً ، حتى كدتُ أكتب لها رسالة اعتذار ، لكن هيهات.. فجروح القلب ليس لها التئام كما يقولون !

وهكذا اكتفيتُ بأن تنهّدتُ بأسى وهمستُ :
فلتسامحيني يا رقيّة !

* * *

بقي يومٌ واحد !
اليوم سبت ، وهو يومُ عطلة.. وقد رأيتُ أن أمضيه خارج البيت لاحتمال أن يكون آخر يومٍ عادي أو آخر يوم بحياتي على الإطلاق !
عرجتُ عند أسامة.. وأقول «عرجتُ» بالمعنى الحرفي هنا فقد كان كاحلي يؤلمني من أثر سقطتي بالدرج.. ثم توجهنا لصيد السمك كعادتنا .

يوماً ممتعاً كان ، باستثناء ذلك القط الذي ظهر بين مجموعة القطط التي نعرفها تطوف علينا في كل مرة ، تطلب لقيمات تسد رمقها .. رمى لهم أسامة بعض السمك الصغير وبقايا الطعم الذي اصطدنا به فأكلوا بشراهة وتشاجروا ثم انصرفوا جميعهم إلا ذاك القط.. فما أكل وما تشاجر وما انصرف ، وإنما ظل مكانه ينظر لي بثبات..
لم يلحظه أسامة ولم يكترث لأمره ، وإنما لحظته أنا ، وسمعتُ قوله أنا !

كان يذكرني بميعاد يوم غد !

* * *

لم أخبر أسامة بشيء من ذلك كله ، فقط بلعتُ ريقي وأنا أجمع حاجياتي مغادراً الصخر الذي كنا نقعد عليه.. هناك نبهني أسامة – مستغرباً – إلى يدي التي ترتعش !

كان يوماً ممتعاً باستثناء ساعة يدي الإلكترونية التي بدأت من تلقاء نفسها العدّ العكسي للدقائق المتبقية على الموعد ! لكني أعتقد لحدّ الآن أني من شغّل ذاك العدّ بشكلٍ ما.. نعم هذا وارد كل الورود ، أليس كذلك ؟
ولكنه كان يوماً ممتعاً على كل حال.. كنتُ أحسبُ نفسي نشطاً حيوياً وإن كان رأي أسامة أني كنتُ مذعوراً جداً ! ولا أدري كيف ذلك ؟ أعتقد أن رأي الناس فينا – أحياناً – يكون غريباً بعض الشيء !

كنتُ – عند نفسي – قد قضيتُ عطلة نهاية أسبوعٍ مذهلة.. وإن قال لي مراد صاحب الدكان مساءً أنه يبدو كأنما سيُغمى علي !
تباً .. لماذا يذكرونني وأنا أحاول التناسي ؟..
كنتُ سعيداً – إلى حدّ ما – وأنا أصعدُ الدرج ، وإن كان أُغمى عليّ عند عتبة الباب قبل أن أولج المفتاح في القفل !

* * *

                    – 6 –

طباخة ماهرة !

الأحد..
بقيت خمسُ ساعاتٍ تقريباً على أذان العصر ، ثم يحين الموعد الذي تعرفون .
مساء أمس ، لمّا أغمي عليّ قرب الباب ، وقعت مصادفة غريبةٌ بعض الشيء.. فقد كان آخر ما علق بذاكرتي هو منظر الباب ويدي التي تحمل المفتاح تحاول معالجة القفل.. ثم الضباب على عيني ، فصوت ارتطام زلزل رأسي ، فألمٌ حادٌّ بصدغي الأيمن.. ثم الظلام .

فتحتُ جفنيّ مقاوماً ذاك الخَدَر الثقيل ، فإذا بي في غرفةٍ لا أعرفها.. كانت هناك لمسةٌ أنثويةٌ واضحةٌ بالمكان ، ورود وخيوط ملونة تتدلى من الأركان.. رائحة بُنٍّ قوية ، أصوات نسوة تأتيني من كل مكان.. فلما أصختُ السمع ميّزتُ صوتَ شابة رفيع ، وصوتَ امرأة أخرى تكلّمها قدّرتُ أنها عجوز !

تلمّستُ رأسي فوجدته مضمّداً ، فزاد تعجّبي وتساءلتُ أيّ شيء حدث لي ؟.. ثم حاولت الاعتدال ، فجلست ُ، فانتبهتُ أول مرة إلى السرير المتواضع الذي أضطجع فوقه و إلى ملاءته البيضاء النظيفة ، بل إني انحنيتُ أشمّها فوجدتها معطّرة ! وقبل أن أستنتج شيئاً دخل آخر شخص أتوقّع دخوله.. رقية !

تجمّدتُ لمّا تراءت لي بقامتها المتوسّطة الممتلئة بعض الامتلاء ، وكانت تلبس لباساً فضفاضاً محتشماً أكثر مما عهدتُه بها.. وأذكر – فيما أذكُرُ – أنها كانت تبدو فاتنة جداً ، أنثى جداً !
– مــَ.. ؟
قالت مُجيبة وابتسامة خفيفة على ثغرها :
– صه.. أنت في منزلنا ، فقد وجدناك مُغمى عليك على عتبة بابك ، والحمد لله أنك بخير وعافية.. ثمّة هناك جُرح صغير بصدغك الأيمن لكني اعتنيت به ، فلا تخف..
سكتتْ برهة تنظر لي بشرود باسمة ، وسعادة كبيرة تُطلّ من عينيها ، كأنما انتظرتْ هذه الفرصة طويلاً .. انتظرتْ أن يُغمى عليّ !

وهل تُراها نسيت جوابي لخطابها ؟ وزال حقدها عليّ وضغينتها ؟.. ما أسرع تبدّل أحوال هذه النسوة !
أذكرُ عينيها الواسعتين الآن جيداً وهي ترمقني بصمت.. كانتا تقولان أشياء كثيرة لا أفهمها. ربما أنا عرفتُ شيئاً من لغة الجن لكني لم أعرف لغة النساء بعد !

ثم إنها استطردت لمّا انتبهت إلى مبالغتها في الشرود :
– على كل حال.. أنت هنا منذ حوالي ساعة تقريباً ، هل تذكر ماذا حدث ؟ هل تشعر بالجوع ؟
ارتبكتُ ولم أعرف أيّ سؤال أجيب ، فقلتُ شيئاً قريباً من :
– نعم، أقصد لا.. لا أذكر الذي وقع ، ونعم.. أشعر بجوع ، أقصد.. لا بأس.. يمكنني أن..
ضحكت ودارت ضحكتها ثم قالت :
– لا تخجل ، انتظر.. ستذوق طبقاً مذهلاً حضّرته لك..

و انصرفتْ بخفَّة !

* * *

بقيَتْ ثلاث ساعاتٍ تقريباً على.. خراب بيتي !
كانت هذه الحادثة ‹المرعبة› ليلة أمس السبت – أقصد حادثة الاستيقاظ في بيت رقية ! – أما اليوم فالجو غائم ولونُ السماء رمادي مُبقّع ، والرياح تتحرك في كل مكان كأنما تحذر الناس من خطب جلل.. أم لعلّها تحذرني أنا بالذات !
أسمع زئيرها بالخارج من مكتبي العتيق هنا ، بجانب مصباحي العجوز ، مقوّس الظهر الذي ينقطع ضوءه في كل مرة حتى أخبطه بكفي فيمتثل لي ويذعنُ مُرسلاً شُعاعه الأصفر الدافئ..

كنتُ أكتب رسالة لا أدري لمن !
قلتُ في مطلعها :

« بسم الله الرحمن الرحيم .. إلى كل من يقرأ هذه الكلمات ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الحمد لله والصلاة والسلام على محمد رسول الله.. أما بعد..
اعلم – غفر الله لي ولك – أني تورّطتُ في أمور خبيثة ، وركبتُ هوى نفسي إلى أبعد مدى ، وفرّطت في جنب الله كل التفريط حتى لم يبق بيني وبين اليأس الخالص إلا قاب قوسين أو أدنى .. ذلك اليأس البارد الشرير الذي يغرينا الشيطان لنلقي بأنفسنا في عُبابه.

إنما أكتب لكم – أيّا ما كنتم – رغبة مني ومحاولة لترك صوتي الأخير مُسجّلاً – فمن المتوقّع أن ينقطع صوتي للأبد بعد ثلاث ساعات من الآن – فلذلك أسجلّه لعلّه يجد عيوناً قارئة وقلوباً حاضرة وعقولاً رشيدة.. ورُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه ، كما يقولون !

إن مصيبة الجنس البشري – فيما أرى – هي ثقته العمياء في نفسه ، هذه الثقة البغيضة التي هي عند الناس محمودة ، يُفخر بها.. نثق في أنفسنا فنعصي الله ! نثق في أنفسنا فنشعل الحروب العالمية ، نثق في أنفسنا فنأكل أموال الفقراء ، ونرمي بالباطل أقواما أبرياء ، ونزوّر ونغش ونمكر.. نفعل كل ذلك ونحن (نثق في أنفسنا) !
لو كانت نفوسنا تستحق هذه الثقة وهذا التبجيل ، فلماذا يا تُرى نعيش في الشقاء ؟ لو كانت نفوسنا كما نظن بحيث تستأهل هذا التقديس فلمَ أرسل ربنا الأنبياء ؟ ولماذا نستفتي العلماء ؟ وفيم تضرّنا رُفقة الخبثاء ؟

إن هذا الغرور الذي نسمّيه (ثقة) هو ما سبب لي كل الشرور ، وجعلني أردّ النصائح وأصرّ على غيي وضلالي البعيد .
كنتُ أهوّن من أمر الشيطان اللعين ، وأضعّف كيده حتى أجعله أسفل حذائي ، ناسياً احترافه مهنة الوسوسة ، وفنّ التكفير ، ومهارات الدعوة للشرك والبدع التي دمّر الله بها القرى منذ فجر التاريخ ..
أَوَ تظنون – يا من تثقون بأنفسكم القوية – أنكم بمأمن عن الشرك والكفر ؟ أتظنون ذلك حقاً ؟ إذاً فأنتم مخطئون يا أصحابي ، مخطئون لحدٍّ مخيف ! »

* * *

عليّ أن أعترف أن رقية طباخة ماهرة.. فقد التهمتُ الطبق الذي جلبته لي بوحشية ما إن اختليتُ به ، بعد أن غادرتْ هي البيت بخطى سريعة خجلى !
أيّ بهارات استعملت هذه العبقرية ؟ إنها ما نسمّيه عندنا (بسطيلة) ، وهي فطيرة رقيقة محشوة بأنواع اللحم والأرز وأشياء أخرى.. وكانت التي أكلتُ محشوّة بقطع لذيذة من السمك ، مذاقها يشبه خليطاً من الجبن والعسل واللحم والمثلجات ، إن وُجد خليط مثل هذا !

ما لم أنتبه له إلا متأخراً هو أنها كانت تطلّ عليّ بعين لا ترمش من فتحة الباب.. إذن فقد رأت مقدار وحشيتي وأنا آكل.. رائع !
قمتُ بعدها مترنحاً وشكرتُ لرقية وجدّتها الشمطاء العابسة صنيعهما.. وقد حاولت رقية أن تستبقيني – طبعاً – بدعوى أني لا أزال مُتعباً ، لكني رأيتُ بزاوية عيني الشمطاء وهي تقرصها لتكفّ عن لطفها !
دخلتُ بيتي.. ولم أجد القط يقف على فراشي كالآدمي ويتهدّدني بالقتل والذبح ! وهذا في ذاته حدث غريبٌ يحدث لي اليوم ! فمنذ متى لم أجد ذلك القط الشيطاني أمامي ؟.. إن هذا حقاً غريب !

* * *

«… يا أيها المتعجرفون الذين يثقون في أنفسهم الثقة العمياء ، لا تتبعوا خطوات الشيطان كما فعلت ، ولا تقربوا العالم الذي دخلته وتورطتُ فيه فعلقت.. إني لكم ناصحٌ أمين .
يا أيها الناس احرقوا كل كتب السحر والشعوذة.. ابتعدوا عن عتبة الجان فإن ما وراءها مروّع لا تريدون رؤيته أبداً ..
لا تقرؤوا تلك التمائم والتعويذات الشيطانية في بعض الكتب ، فقد تطلبون الحصول على (جنسيتهم) أو (اللجوء السياسي) عندهم وأنتم لا تشعرون !…
يا أيها الناس… »

توقفت عن خطبتي المحمومة ، وهدأت يدي عن الكتابة بسرعةٍ كالمجنون ، وأنا أكاد ألهثُ من فرط الإجهاد النفسي ، ثم نظرتُ ببلاهة للساعة التي نسيتُ أنها (تتكتك) فوق رأسي دون توقف..

يا للهول.. بقيت نصف ساعة !

* * *

                    – 7 –

الكرسي والمرآة !

أين يكون المرء وهو يكتب ؟!..
نظرتُ للساعة على الحائط في رعب مستطير وقد رُدّت عليّ حواسّي فجأة.. فسمعتُ غليان الماء فوق الموقد وقد نُسّيته ، إذ كنتُ أودّ شرب كأس أو كأسين من الشاي الرديء الذي ألِفته ، لكن لا وقت الآن لمثل هذا الترف !
مستعجلاً ، منفعلاً ، مرتجلاً – وقل ما بدا لك بعدُ من هذه الأوصاف – قمتُ أركض نحو المطبخ لأطفئ الموقد و أنا أُسقِط كل ما في طريقي كثور هائج لا يلوي على شيء..
ألهث وأركض وأتعثر..
أتعثر وأركض وألهث..

بقيتْ سبع وعشرون دقيقة على الموعد ، وعليّ الخروج حالاً ..
وضعتُ بعجالة في حقيبة الظهر السوداء خاصتي أشياء متفرّقة كنت أعددتها من قبل.. مسجل صوتي ، خنجر طويل ، مصباح يدوي ، بطاريات احتياطية ، غطاء ، قارورتا ماء – ملأتهما من الصنبور طبعاً – عُلب سردين «معلبّ» وأشياء أخرى من هذا القبيل !.. ألستُ ذاهباً إلى بلاد الجان ؟

كدتُ أصطدم بالشمطاء في الدرج وهي تصعد مقوسة الظهر ببطء مثير للأعصاب..
– تباً لك أيها المنحوس.. ما الذي يُثير عجلتك إلى هذا الحد ؟ هل صرت عفريتاً من الجن ؟
– تقريباً..
قلتُها ولم ألتفت لنظرتها من فوق كتفها وقد أثار حفيظتها ردّي الوقح..
– اذهب ، أنا أريد لك كسراً في…
ولم أسمع تتمة دعوتها الخبيثة فقد كنتُ خارج البناية أشير إلى أول سيارة أجرة لاحت لي بلهفة كأنما هي آخر سيارة في العالم..
قلت وأنا أدلف السيارة بعنف:
– غابة (بوسكورة) من فضلك.. الآن !
– ولكني لستُ ذاهباً…
– الآاااااان !

* * *

غابة (بوسكورة) هي واحدة من الغابات الكبيرة في المغرب.. تقع في مشارف مدينة الدار البيضاء.. وهي مزار للعائلات في نهايات الأسبوع ، إلا أنها كثيرة الأدغال ومن السهل أن تتيه وسط أحراشها المتشابكة ، وهي مكان جيد لمن أراد قتل أحدهم و إخفاء جثته !

توقفت السيارة ونزلتُ بثورةٍ كما دخلتُ غير عابئٍ بشتم السائق وتذمره.. رميتُ من نافذة الباب ما في جيبي من مال دون أن أنظر كم كان ثم انصرفت ، ولاشك أنه كان أكثر من الأجرة بكثير إذ أن وجه السائق استبشر وتهلّلت أساريره ثم انطلق بعربته البيضاء لا يلوي على شيء !
تبا لكم ولماديّتكم البغيضة !

نظرتُ في ميناء ساعتي.. ستّ دقائق متبقيّة !
أخرجت المسجل من محفظتي بلهفة.. وبدأت أركض ، لا أدري إلى أين ، إنما كنتُ أبذل قصارى جهدي كي لا أخلف الميعاد ، فلا أذكر أني تخلفّت عن موعد في حياتي أبداً !
أركضُ وقد توغّلتُ وسط الأشجار الكثيفة.. رأيت أناساً هنا وهناك ، أغلبهم كانوا يستعدون لمغادرة الغابة بعد نزهة يومٍ ممتعة..
موائد من خشب ، سطول قمامة ، أحجار متكتلة وسطها حطب محروق ، حيثُ أنضج الأهالي طعامهم.. ليتني جئت هنا للنزهة مثلكم !

لازلت أركض وأرى الأشجار تركض باتجاهي هاربة من شيء ما !.. أتلفّتُ يمنة ويسرة وأنظر في ميناء الساعة كل عشر ثوانٍ تقريباً ..
ضغطتُ زر المسجّل الأحمر وبدأت أصف ما أشاهده بصوت لاهث راجف..
« أتوغل الآن أكثر.. لم.. لم أعد أرى بشرياً .. المكان موحش.. جداً ! »
وهكذا لم أتوقف عن العدو ، ما دمتُ لم أصل الساحة الكبيرة وسط الغابة التي (وصفها) لي !

الصمتُ صار كثيفاً ، صرت أسمع صوت خطواتي على الأوراق اليابسة أكثر وضوحاً ، حتى زقزقة العصافير المنعشة توقفت.. والأشجار كأنما ازداد طولها !
توقفتُ ألهث.. وأنا مُنثنٍ على نفسي ، أقبض على ركبتي..
بقيتْ دقيقةً واحدة ! بل أربعون ثانية على وجه التحديد.. الآن تسعة وثلا.. ثمانية وثلاثون !
« أنا أريد لهذا أن ينتهي.. لا.. لا مزيد من الرعب في حياتي ، إما أموت هنا أو أعود سالماً لبيتي.. لا أريد جنسيتهم، لا.. لا أريد خدمتهم ، لا أريد كتبهم.. أعوذ.. أعوذ بالله من شرهم وكيدهم ! سـ..»

وهنا.. سمعت صوت الركض من خلفي !
تصلّبت عيني على حشائش الأرض ، وتوقفتُ عن الكلام في المسجّل ثم التفتُّ ببطء أنظر أسفل إبطي !.. لا شيء هنالك سوى جذوع الأشجار الغليظة الواقفة وقفتها الأبدية..
وبعد قليل لمحته ! كأنه قزم ذو شعر طويل !.. ركض بسرعة لا تصدّق وتوارى خلف جذع من الجذوع.. هل كان لونه أسوداً ؟
اللعنة ! السائل الدافئ إياه يسيل بهدوء على ساقيّ.. أدنيتُ المسجّل من فمي بيد راجفة وأنا منحنٍ لاأزال ، وقلتُ بصوت خافت جداً :
« رأيتُ جنيا.. رأيته الآن،.. إنه وراءي ! »

* * *

صوتٌ خشن من خلفي قال بالدارجة المغربية أن «تقدّم» !
لم ألتفت وتقدّمتُ وأنا أتوقّع «الوفاة» في أيّة لحظة من فرط الرّعب.. جو شيطاني مريع يملأ المكان.. إنها نهايتي بلا شك !
وبعد مدة لا بأس بها وأنا أخطو بتهالك وأعصابي مجمدة تماماً ونفسي مضطرب.. رأيتُ الساحة التي كنتُ عنها أبحث..
ساحة شاسعة مليئة بالحشائش الصفراء اليابسة ، تُحيط بها جيوش الشجر في دائرةٍ كبيرة.. وفي جنباتها كتل من العظام والأحجار مشكّلة رموزاً عجيبة.. عرفتُ بعضها فيما قرأته في تلك الكتب !

وسط الساحة كان ثمة كرسيّ أخضر عتيق من تلك الكراسي المبطّنة المريحة ، وكانت عليه مرآة ذات إطار مذهّب !
أي شيء هذا ؟..
توقفتُ عند مدخل تلك الساحة لا أقوى على إدارة رأسي إلى أي اتجاه.. خصوصاً اتجاه الخلف ، حيث يقتادني ذلك الشيء !
ربما تكون هذه محكمة من محاكمهم.. هذا قد يفسّر الكرسيّ بالوسط ، فلعلّه يخصّ القاضي !

ثم بدأت أرى أشياءً تتحرك على جنبات الساحة.. أقزام سود مثل ذاك الذي رأيت تخرج من بين الشجر وتتقدم بخطوات عجيبة إلى وسط الساحة..
ارتجف قلبي وكاد يبلغ مني الحلقوم.. ولما رأيتُ غاية ما أتحّمل.. بطونهم الملساء التي لا عورة فيها ! والشعر الطويل والمخالب ، والوجوه.. لما رأيت كل ذلك الهول ، أغمضت عينيّ بقوة !
عرفتُ أن ركبتاي قد تتخليان عني في أية لحظة.. وبدأت أعتصر المسجل في يدي كأنما أعتصر قلبي.. ليت هذا المسجل يسجّل الصور أيضاً !

يقول لي الذي خلفي تقدّم فأتقدم بخطى مترددة وأنا مغمض العينين.. هذا ليس عدلاً ، لا ينبغي أن أرى هذا.. كنت أتوقع قططاً فإذا بي…
« تقدّم »..
تعوّذتُ بالله في سرّي فصرخ الذي خلفي بجنون..
« أسكُت ! »..
إذا فهم كُفّار.. قاتلهم الله ! وهل تكون مثل تلك الكتب إلا لكفّار ؟
وهنا.. وسط جحيم الرعب هذا الذي أُساق إليه كالشاة الذبيحة حدث أغرب شيء وآخر ما أمكنني توقّعه..
صوتٌ مألوف قادم من وراءي.. يتلو القرآن !
أسامة !

* * *

ارتفعت تلاوة أسامة المتقنة للقرآن وهو يقترب من جهة الخلف.. ولما استدرتُ لم أجد الذي كان يقتادني ووجدتُ أسامة يمشى نحوي مهرولاً بين خيالين.. خيال رجل ضخم وخيال جسد قصير ممتلئ.. فأما الضخم فرجل لم أعرفه وأما القصير فكان بنتاً لما حققتُ النظر أكثر.. كانت رقية !

ما حدث بعدها.. عجيبٌ غاية العجب ! هرب (القوم) الذين جاؤوا بسرعة لا تُعقل وهم يولولون.. واهتزّ الكرسي مكانه وانقلب ، وسقطت المرآة – التي لم أعرف ماذا كان المراد منها لحد الساعة – واشتعلت النيران في الكرسي.. حتى تفحّم بالكامل !
– أعوذ بالله من شرّ ما خلق.. أعوذ بالله العلي العظيم..
– بسم الله الرحمن الرحيم..
– هل أنت بخير يا بني ؟
قال هذه الرجل الضخم ذو الكرش الناتئ والشارب الكثيف :
– نعم.. نعم بخير، شكراً ، شكراً ..
– لا تبك فقد انتهى كل شيء..

مسحتُ عينيّ اللتان سالتا لوحدهما بالدموع تعبيراً عن الفرحة الكبيرة.. فرحة النجاة..
كانت رقية ممتقعة الوجه ، تمسك بثياب الرجل الضخم لا تفارقه..
– كل شيء بخير يا ولدي.. أقدّم لك نفسي ، أنا مصطفى ، عم رقية..
صافحت ذو الكرش وقلتُ له كلاماً مرتبكاً لا أذكره..
ثم تساءلت لما استفقت من صدمتي شيئاً قليلاً :
– ولكن كيف ؟!
وقاطعني أسامة الذي كانت علامات الخطورة باديةٌ على وجهه :
– هيا نغادر هذا المكان اللعين حالاً .. نتكلم فيما بعد..

وفي سيارة العم مصطفى فهمت كلّ شيء..
بالأمس لما وجدتني رقية مغمى عليّ قرب الباب والمفتاح ملقى بجانبي.. نادت عمّها مصطفى الذي حلّ عندهم ذلك اليوم فحملني إلى بيتهم ليُعنوا بي ، ونزلت بعد ذلك حاملةً المفتاح لتدخل البيت في غيابي.. وهناك اكتشفت قصتي كاملة في الأوراق على المكتب ، ولا شك أنها قرأت (اعتذاري) الذي لم أبعثه إليها ، وهذا يوضّح ارتياحها و(مسامحتها) لي ..

ثم راقبتني – كأي ّ بنت في العالم – إن كنتُ سأخرج للموعد المشؤوم أم لا.. قالت لي فيما بعد أنها لم تتوقع مني كل هذه (الشجاعة) ، إذ قدّرت أني لن أذهب.. لكنها كانت أعدّت الخطة (باء) – كأي بنت في العالم أيضاً – وأخذت رقم أسامة من هاتفي للطوارئ ، بعدما عرفت من يومياتي أنه صديقي الوفي.. وأنه كان رقاني في ما سبق .
وما إن رأتي اليوم من نافذتها أركضُ ملهوفاً في الشارع كي أوقف سيارة الأجرة وسمعتني ألفظ اسم الغابة حتى فهمت كل شيء ، واتصلت بأسامة على الفور..

وجاء هذا على الأثر ليجد سيارة العم مصطفى (أبو كرش) تنتظر.. وكان الفرق بيننا حينها حوالي نصف ساعة !
قلتُ وأنا في المقعد الخلفي للسيارة :
– أشكر لكم جميعاً .. أنا فعلاً ممتن لجميعكم ، وخاصةً رقية.. أشكرها خالص الشكر على فضولها الكبير ، فلم أتوقع يوماً أن يكون فضول النساء مفيداً إلى هذا الحدّ !

و ضحك الجميع..

* * *

« أتوغل الآن أكثر.. لم.. لم أعد أرى بشرياً .. المكان موحش.. جداً ! »

– أغلق هذا الجهاز اللعين.. ألن تنسى بعد كل هذه السنوات ؟

قالتها لي رقية وأنا ممدّد على الفراش أمسك جهاز التسجيل العتيق بين يديّ أتأمله بسهوم.. ثم قلتُ دون أن أزيل ناظري عن الجهاز :
– تذكرين ذلك اليوم يا حبيبتي ؟
التفتت باسمة من مكانها – أمام مرآة الزينة – وتساءلت:
– أي يوم تقصد ؟
– يوم كنا في السيارة مع عمك مصطفى..
تنهّدت وعادت بوجهها إلى المرآة وهي تقول :
– طبعاً.. أذكره جيداً ..
– لما نزلنا قرب منزلكم وبقينا لحظات صامتين ، ثم رأيتك تضغطين على يد عمك ليتنحنح ويقول: « هل أنت خاطب يا ولدي ؟»
– ههه.. نعم، نعم.. أذكر .
– هنا احمرّ وجهك وأنزلت بصرك للأرض كأنك تطلبين منها أن تبلعك..
– ههه.. تقريباً
– فقلتُ أنا وقد فهمتُ كلّ شيء: «كلا لستُ خاطباً لكن يبدو أني سأخطب للتو..»

وسكتُّ برهة وأنا أبتسم متذكراً ، ثم استطردتُ وأنا أرفع حاجبي الأيسر ساخراً :
– أوَ تدرين السبب الرئيس وراء زواجي منك يا رقية ؟
التفتت ممسكة أحمر الشفاه بيدها وهي تقول :
– ما هو ؟
– تلك البسطيلة العبقرية التي أعددتها ذلك اليوم..
ثم أقبلت تضربني بدلالٍ وهي تضحك..

تمت
و الحمد لله .

رفعت خالد المزوضي
07 / 04 /  2016

ملاحظة : القصة منشورة سابقاً في مدونة للكاتب 
 

تاريخ النشر : 2017-05-02

guest
38 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى