أدب الرعب والعام

الدم الأسود

بقلم : رائد قاسم – السعودية
للتواصل : [email protected]

الدم الأسود
قالت لمياء بثبات : ليس لدينا الوقت للحصول على دليل ، لذا أنا موافقة

كانوا قبل عدة أيام أكثر من ثلاثين عضو طاقم سفينة فضاء ما بين رجل وامرأة ، إلا أن عددهم أصبح الآن أقل من عشرة أعضاء فقط ، منذ أكثر من يومين وهم محاصرون في هذه المركبة الفضائية العتيقة …
عضو : سنموت إن بقينا هنا.
عضو : وسنموت إن خرجنا من هنا.
عضو : إذن ماذا سنفعل ؟

يقف قائدهم كامل بكل قوة وثبات .. ينظر لهم تارة ثم يتطلع إلى الخارج بتأمل وهدوء قائلاً :
– انظروا إلى هذه الطبيعة الغناء ، من كان يظن بأنها طبيعة قاتلة ؟
لم أرَ في حياتي كلها طبيعة فاتنة كهذه ، لقد سافرت كثيراً وزرت أبهى المناطق على الأرض إلا أن طبيعة خلابة ساحرة مثلها لم أرَ أبداً 

عضو : عندما نزلنا على سطح هذا الكوكب وشاهدنا طبيعته الفاتنة ، اعتقدنا بأننا وصلنا الى الجنة ، لا إلى كوكب صغير بحجم القمر .
عضو : ليس على سطح هذا الكوكب سوى الأعشاب الخضراء التي تغطي حتى جباله ، لا توجد على أرضه صحراء أو مناطق برية ، كل سطحه مغطى بالنباتات الملونة والأشجار العملاقة والحشائش الخضراء ، وهواءه المنعش وطقسه المعتدل ، كل هذا يجعله جنة حقيقية .

فجأة تطل عليهم زميلتهم لمياء … تتقدم منهم وهي بحالة من الضعف والفتور..
ينظر لها كامل بتركيز شديد ، ثم ما يلبث أن يقف بمحاذاتها ..
يحملق فيها من رأسها حتى أخمض قدميها… يلمح قطرات دم تنسكب من بين رجليها..
يجلس القرفصاء ويلمس بإصبعه بضع قطرات من دمها المتدفق ثم يخاطبها قائلاً :
– يا لسواد قطرات دمك .
لمياء : إنها دماء اللعنة الأزلية .
كمال : إن دمك هذا المنسكب سيكون ديباجة لمسلسل الدم .
عضو : ماذا تعني ؟

يتطلع كامل في لمياء بعمق مرة أخرى .. سرعان ما يتحلق حوله الجميع…

يخاطبهم كامل بكل ثقة قائلاً :
– ألا ترون ما نحن فيه ؟
منذ يومين وتلك الطيور تحوم حولنا دون انقطاع .
ثم يلتفت كامل إلى لمياء سائلاً :
– منذ متى وهذا الدم الأسود يخرج منك ؟
لمياء : منذ يومين .
كامل : أرأيتم ، دماءها السوداء منذ يومين ، وهذه الطيور تحوم حولنا منذ يومين أيضاً .
عضو : وماذا يعني ذلك ؟
كامل : لا شك أن هذه الطيور شمت دماءها ، ولن تغادر حتى تغنم عضها.

يصاب الجميع بحالة من اليأس والقنوط..

يستأنف كامل كلامه :
– كان أكبر خطأ ارتكبناه في حياتنا هو نزولنا على سطح هذا الكوكب.

عضو : ولكننا كنا مضطرين ، فلقد كانت سفينتا تعاني من أعطال ، وهذه السفينة المهجورة فيها قطع الغيار الملائمة لها.

عضو آخر : وها نحن نعيش الرعب الدموي والهلع القاتل منذ ذلك الحين .

كامل : انظروا الى هذه الطبيعة الغناء التي تحيط بكم !! 
هل كنتم تتوقعون أنها تحمل الموت الأحمر ؟
لقد شمت منار زهرة فماتت من فورها.
وعندما جرحت شوكة صغيرة سمير مات بعد عدة دقائق.
وعندما شرب عادل من مياه ذلك النبع الصافي توفي من ساعته.
وعندما أكل باسل من تلك الثمرة الحمراء اليانعة أصيب بغثيان لم يمهله سوى ساعات قليلة حتى قضى نحبه.
كل شي على سطح هذا الكوكب الحالم ليس سوى موت مدقع .

كوكب أخضر جميل ، الذي يهبط على سطحه لا يشك بأنه بلغ الفردوس ، كل بقعة فيه تمجد الجمال وتبشر بالسعادة الأبدية ، ولكنه يخفي في باطنه ما يفوق عذاب الجحيم.
انظروا إلى هذه الطيور البديعة ، تمعنوا في ألوانها الزاهية ، استمعوا إلى زقزقاتها العذبة ، انصتوا إلى تغريداتها المطربة ، إنها آية من آيات الجمال في الكون ، ولكن عضة واحدة منها تؤدي إلى موت ماحق .

عضو : إن عضتها تحمل سماً ناقعاً يتدفق بسرعة مجنونة يصل إلى القلب في أقل من ثانية ، متفوقة بذلك على أفعى الكوبرا التي تمهلك ثوانٍ قبل أن تموت.

يلتفت كامل إلى لمياء وينظر لها بحدة..
لمياء : ما بالك تنظر لي بهذه الريبة ؟
يعرض عنها ثم يلتفت إلى الطبيعة الخضراء من وراء النافذة الزجاجية الكبيرة ، ثم يعاود الالتفات لها قائلاً :
– قريباً جداً ، ستنفذ مؤونتنا ، وإن بقينا هنا سنموت ، وإن خرجنا ستكون هذه الطيور بانتظارنا لتقضي علينا ، أنتِ وحدكِ من يستطيع انقاذنا.

لمياء (بذهول) : كيف ؟

– لا شك عندي أن هذه الطيور تشم رائحة دمكِ الأسود ، وأنكِ مطلبها الوحيد دوننا .

يدنو منها ويمسك بكتفيها..
– إنها في شوق عارم لعض جسدك الغض يا لمياء ، ستكونين الضحية التي تقبل عليها بشبق لم يسبق له مثيل.

عضو : ما تقوله مستحيل ، إنه منتهى الجنون.

كامل مخاطباً الجميع بلهجة حازمة :
– إن لمياء أيها السادة هي الوحيدة القادرة على إنقاذنا ، حالما نخرج ستهاجمها تلك الطيور الفاتنة ، حينها سنتمكن من الوصول للمركبة والانطلاق بها بعيداً عن هذا الكوكب الملعون .

يلتفت كامل إلى لمياء ..
– لا بد أن تضحي يا لمياء من أجلنا ، نحن إخوتك وزملاؤك ، إننا كل شي بالنسبة لك هنا.
أنتِ قربان خلاصنا من هذه الطيور الملعونة.

تبكي لمياء وتستلقي على الأرض … يدنو منها كامل : 
-عندما نعود إلى الأرض سوف نثأر لك ولكل زملائنا ، سننتقم لكم من هذا الكوكب اللعين.

تنظر له باهتمام بينما تابع قائلاً :

– سندمر هذا الجمال القاتل ، سنهاجمه بكل ضراوة لنحوله إلى صحراء جرداء ، سأمسك بكل طير من هذه الطيور وأخنقها بيدي هاتين انتقاما لكِ ولكل من قتلتهم بعضاتها المجنونة.
وعلى الأرض ستكونين من الخالدين ، ستذكرين إلى الأبد ، والذكر يا لمياء عمراً لا نهاية له وحياة لا موت بعدها.

عضو : إنك تكلف لمياء ما لا تستطيع .

يقف كامل وقد ارتسم الغضب على وجهه قائلاً :
– إنها الطريقة الوحيدة أيها السادة ، إما أن يموت أحدنا وإما أن نموت جميعاً ، إما أن يضحي أحدنا بحياته من أجل إنقاذ حياة الآخرين ، وأما أن يموت الجميع ، إنها معادلات لم نكتبها بل كتبت علينا.

تقف لمياء بثبات قائلةً :
– أنا موافقة.

ينظر لها الجميع بذهول ..

لمياء : منذ يومين وأنا أشاهد الطيور تحوم حول هذه السفينة الخربة ، بالأمس عندما وقفت أمام النافذة الزجاجية ، ما إن رأتني حتى بدأت ضرب الزجاج وأصدرت أصوات جميلة وكأنها تناديني لأخرج لها.

عضو : إنه ليس دليلاً كافياً على صحة ما يقوله كامل.

لمياء : ليس لدينا وقت للحصول على دليل .

**

يقضي الطاقم أوقاتاً عصيبة ، يجن الظلام على أرجاء الكوكب ، تتلألأ النجوم في سمائه ويخيم الهدوء على أصقاعه ، ينامون بصعوبة بالغة ، يهل عليهم الصباح على تراتيل الطيور وشدوها الصداح .. يرتدون ملابسهم ويستعدون للمغادرة ، لمياء تطل عليهم وقد صبغت وجهها وبعض أجزاء جسدها بدمها الأسود ..

عضو : لمياء !! ما هذا الذي أراه منك؟

لمياء(بيأس) : حتى تنتهي هذه الحقبة المرعبة من حياتكم بسرعة .

عضو : إنك تؤلميننا يا لمياء.

لمياء : ستزول آلامكم عندما تغادرون هذا الكوكب الرجيم .

يخرجون من السفينة بحذر مشوب بخوف… يتحركون ببطء بينما انفصلت عنهم لمياء لتغدوا بمفردها ، السفينة لا تبعد عنهم سوى مسافة قصيرة .. يستمرون في المشي بخطى ثابتة وبصمت مطبق..
الطيور تحلق فوقهم عالياً … يقترب الطاقم من السفينة إلا أن الطيور تهاجمهم وتبدأ بعضهم
يتساقطون واحدا تلو الآخر … تشاهد لمياء زملائها وهم يسقطون صرعى والطيور تغرد وتزقزق وتتسابق في عضهم عضات الموت بلذة عارمة ، تركض بأقصى سرعتها باتجاه السفينة التي تدخلها وهي مرعوبة فزعة ودموعها المنهمرة تغسل جسدها من دمها الأسود ، تضع الرقائق الالكترونية في محرك السفينة ، ثم تتجه بأقصى سرتها وهي في أنين وبكاء ونحيب نحو قمرة القيادة ..

تنطلق بالسفينة ، إلا أنها تنظر إلى الطيور البارعة الجمال وهي لاتزال تعض جثث زملائها.. تسلط عليها أشعة ليزر لتتحول الطيور والجثث إلى كتل متفحمة ، ثم تغادر الكوكب الذي لم تشاهد مثله في حياتها ، إلا أنها تظل حائرة فالطيور ، اختارت زملاءها كقرابين بدلاً عنها ، ولكنها عندما وصلت إلى الارض اكتشفت الحقيقة الرهيبة..

الطيور في ذلك الكوكب لا تؤذي الكائنات الجريحة ولا تقترب من أجساد تنزف دماءً سُفِكَت من قِبَل غيرها .
 

ملاحظة : القصة منشورة سابقا في مواقع أخرى لنفس الكاتب

تاريخ النشر : 2017-06-07

رائد قاسم

السعودية
guest
21 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى