أدب الرعب والعام

ثمن الخلود

بقلم : هايدي – اليمن السعيد

ثمن الخلود
خرجت من البركة نفس الفتاة التي رآها بالأمس

في إحدى وديان بابل القديمة المليئة بالعشب الندي والحقول الخضراء, كان (تاودين) الراعي الكهل متمدداً على ظهره ينظر إلى السماء الصافية , يقرع سنه ندماً على ما فات من عمره بدون مال أو ولد, فعندما توفيت زوجته بينما هي في مخاض الولادة, ترك عمله في الحانة الصغيرة, وعاقر الخمر الى أن باع بيته لدفع ديونه, وأصبح أجير يرعى الغنم ببضع دريهمات لأحد أغنياء المدينة, بالكاد تكفيه قوت يومه أو أجرة مسكنه ..

ما إن أنهى عمله اليومي حتى كان قرص الشمس قد هبط, أخذ أجرته عائداً الى غرفته الصغيرة في المدينة, وبينما هو في طريقه عابراً من نهر (دورا) المتفرع من الفرات سمع صوت امرأة تستغيث , فتتبع (تاودين) الصوت إلى أن وجد مصدره بين الأشجار الكثيفة للغابة, امرأة فائقة الجمال كانت إحدى قدميها عالقة بين صخرتين تبكي من الألم , وما إن رأت (تاودين) حتى قالت باكية :
– أرجوك ساعدني أيها الشيخ الجليل

تقدم (تاودين ) من المرأة الشابة واضعاً عصاه بين الصخرتين يحاول دفع الصخرة الصغيرة إلى الأعلى علها تطلق سراح قدمها الدامية و يهدئها قائلاً :
– لا تقلقي يا ابنتي , سوف أخرجها ولو استغرق بعض الوقت.
لتقول بفزع : 
– لا أرجوك أيها الشيخ الجليل أفعل ما بوسعك ,فليس لدي المزيد من الوقت .. فقد وقعت قدمي وعلقت بين صخرتين, عندما فررتُ من بعض قطاع الطرق, بالتأكيد هم خلفي يتتبعون أثري الآن .
– حسناً سأفعل ما بوسعي .
ليحاول مراراً وتكراراً بجهد مضاعف, وبينما أنهكت قواه المحاولات المتكررة لمساعدتها , سمعوا صوت شخصين يقتربان وفي تلك اللحظة بالذات, ينجح الكهل في تحرير قدم الفتاة لتقف بصعوبة , سمع صوتاً خلفه تماماً وما إن التفت , حتى رأى اثنان من الرجال اللذان يوحي منظرهما أنهما من قطاع الطرق كما قالت الفتاة, عاد بنظره إلى حيث كانت, و انتبه أنها قد اختفت, تعجب بشدة فوضعُ قدمها لا يسمح لها بالتحرك خطوة فما بالك بخطوات , انتبه (تاودين) على صوت أحد الرجلين سائلاً :
– ألم ترى فتاةً هنا قبل قليل أيها الكهل ؟
– لا يا بني لم أرَ أحد في هذا المكان المقفر سواكما .

ذهب الرجلان في طريقهما, وعاد (تاودين ) إلى بيته متعباً .

***

اليوم التالي :

بينما (تاودين ) عائداً من عمله توقف على ضفاف نهر (دورا ) وسط الغابة الجميلة وأضطجع على ظهره متأملاً جمال الطبيعة الأخاذ , تفاجأ برؤية طير لم يرَ مثيلاً له أبداً .. فله ألوان فريدة, صوت شجي يأخذ الأنفاس, منقار ذهبي, وأجنحة كذيل الطاؤوس يحلق بها مسافات بعيدة , ويعود ليغطس في الماء النقي في النهر ويهبط الطائر بجناحيه الجميلان بالقرب من (تاودين), و يتوغل في الغابة بخطوات بطيئة كأنه ينتظر الراعي الكهل أن يلحق به, وهذا ما حصل..

تبعه (تاودين) بخطواتٍ ثقيلة إلى داخل الغابة الى أن اختفى الطائر من ناظريه, وما إن هم (تاودين ) بالرجوع حتى سمع صوت خلاخل وغناء وضحكات, فقرر الذهاب إلى حيث الضجة, واقترب ليختبئ خلف إحدى الشجيرات الكبيرة, ليرى العجب .. 
حسناوات مما لا عين رأت من قبل يستحممن في بركة صغيرة, والبعض منهن يستمتعن بالغناء والرقص, وأجملهن والتي تطربهن بصوتها الشجي هي فتاة الأمس تدعوها الحسناوات : (اورنينا) ..

انتهت من الغناء والفتيات من الاغتسال , فخرجن من الماء و ارتدين معاطف كانت معلقة على الشجر , وما أن هممن بارتدائها تحولن إلى تلك الطيور الأخاذة التي رأى أحدها على نهر دورا, فحلقن مبتعدات, اقترب (تاودين ) من البركة متعجب منها ! فالبركة صافية نقية إلى درجة رؤية كل شيء ينعكس عليها بوضوح المرآة , مال قليلاً محدقاً بانعكاس صورته, ليرى شاباً وسيماً, التفت خلفه وعاد بنظره مجدداً , لم يصدق عيناه , فانعكاس الشاب ليس سوى انعاكسه !

مد يده في البركة يتلمس الماء , وما إن رفع يده عالياً رأى مالم يكن في الحسبان , يده التي أغطسها في الماء عادت فتية لا تجاعيد فيها, بيضاء نضرة, فقرر أن يغتسل في البركة .

خلع ملابسه كلها ونزل إلى البركة وغطس مرات عديدة ليعود له شبابه الضائع , وما إن أكمل حتى عاد شاباً وسيماً في عقده الثاني , لم يصدق ما حدث معه, فخرج من البركة يرتدي ملابسه بغية العودة إلى العشة التي يسميها بيته ليتأكد من المرآة المعلقة فيها, وما إن أكمل ارتداء ملابسه حتى سمع صوتاً خلفه, ليلتفت إليه ويرى أنها (اورنينا), اذ يبدو أنها لم تحلق مع زميلاتها لتقول مبتسمة :

-لقد تساوينا أيها الشيخ الجليل أم علي القول أيها الشاب الفتي ؟
– المعذرة لم أفهمكِ ؟
– حسناً دعني أروي لك قصتي .. أنا إلهة الموسيقى (أورنينا) وتلك الفتيات كن وصيفاتي, بالأمس هربتُ منهن خلسة , من أحدى الأبراج التي في عالمي لأنزل الأرض و أتشكل على شكل طير من الطيور بلبسي ذاك المعطف السحري – الذي لولاه ما حلقت أبداً – لأغطس و أستحم في البركة, وما إن انتهيت حتى أتى قاطعا الطرق ليعترضا طريقي فهربتُ منهما, لتظهر أنت وتنقذني قبيل أمساكهما بي , فأردت أن أكافئك فأرشدتك لهذا الينبوع الذي يعيد الشباب, والآن أصبحنا متعادلين .

– شكراً لكِ, سيدتي الجميلة, لن أنسى معروفكِ أبداً, فقد منحتني فرصة أخرى للعيش .

– آه نسيت أن أخبرك, إن مياه هذه البركة أعادت لك شبابك, ولكنها لن تمنحك الخلود, إذ أنك ستعيش حياتك المتبقية فقط ولكن كشاب, ولن يزيد في عمرك شيء.. فقد سمعت تحسرك على مضي عمرك بلا مال أو ولد والآن بعد أن عدت شاباً لم يتبقى لك سوى أن تصبح غنياً .

مدت يدها إلى عنقها وسحبت قلادة كان بها الكثير من الأحجار النفيسة وقالت متبسمة : 
– أيها الشاب (تاودين ) لا تقل لأحد عن هذا الينبوع أو تحضر أحداً إلى هذا المكان, فهو ملكٌ لي, فاذا تكلمت عنه لأي كان سوف تعود كهلاً مجدداً .

مدت يدها وأعطته القلادة الثمينة, لم تترك (أورنينا) (تاودين)حتى أفهمته عن الينبوع و أن لا يذكر لأحد أنهُ (تاودين) الراعي الكهل حتى لا يثير التساؤلات, ووعدها بدوره بحفظ السر .

أنطلق (تاودين) إلى عشته ونظر إلى المرآة ولم يصدق عينييه , فقد عاد شاباً في العشرينات من العمر, إلا أنه في الحقيقة في الواحد و السبعين , أي أن عمره لم يتغير ولكن شكله أصبح جميل كطلعة الورد , ذو جلد منبسط, يتخلله سمرة نضرة, وجسد مفتول.
فرح (تاودين) وجمع حاجياته التي أراد الاحتفاظ بها, وخرج من بيته الذي لن يعود له أبداً.

***

بعد عامين :

تزوج (تاودين) من إحدى جميلات المدينة ( باهرا ) , و رزق بطفل جميل يدعى (اوكين) و لديه من الأملاك عدة قصور وجنان, تنتشر في بقاع بابل, وأصبح من علية القوم ذو أهمية يحسب له ألف حساب بينهم , وله من التجارة و المال ما يصل اليمن و الشام .

كان يومياً يذهب الى البركة ليغتسل بعد أن يفرغن منها وصيفات (أورنينا) لا لشيء إلا لحبه الشديد للبركة التي كلما اغتسل عادت بشرته نضرة جميلة يحسد عليها .

***

اقترب (تاودين) من البركة متعجباً من تأخر الوصيفات في البركة على غير عادتهن , و بينما هن هناك منتظرات قدوم (أورنينا) سمع الوصيفات يتحدثن عن الخلود , و أنهن يتمنين لو يكن خالدات كسيدتهن , و أنه لا ينبغي لأحد إلا الآلهة, ولا يوجد طريقة ليحصل الفانين على الخلود لأنها تعتبر خطيئة إذ لا يتوجب عليهم الحياة الأبدية.. وأنه حتى ينعم الإنسان بحياة أبدية هناك طريقه واحدة فقط حتى يعيش الفاني الخلود , ألا وهي أن تحبه إحدى الآلهة وتتعلق به , فإذا أحبته وهبت له الخلود وذلك عبر إعطائه كأس من شراب (أمبروسيا) , الذي يعتبر أكسير الحياة.

وما إن قدمت (أورنينا) على شكل الطائر الجميل حتى توقفت وشوشات الوصيفات.

عندما سمع (تادوين)هذا الكلام, لمعت في رأسه فكرة الخلود, وطمع بالمزيد, خاصة عندما لاحظ تراجع صحته في الآونة الأخيرة, فلم يعد يقوى على القيام بأي مجهود, فأصبح يتحين الفرصة ليستفرد بـ (أورنينا) , و ما إن غادرت الوصيفات, وفرغت (أورنينا) من استحمامها حتى ظهر لها (تاودين) .

– مرحباً بالشاب (تاودين) كيف أنت ؟ إلى ما آلت أمورك بعد غيابك عامين ؟
– في أحسن حال , فقد بعت عقدكِ الثمين و أصبحتُ من أغنى أغنياء البلاد , وتزوجت إحدى جميلات المدينة , و أصبح لدي طفل, أموري في أحسن حال , بيد أن حياتي ينقصها شيء لم تعوضني عنه العائلة أو المال .
– متفاجئة : و ما هو ؟
– الحب , فقد أيقنتُ أني منذ عاميين مضت وقعت في الحب.
– و من هي ؟ ولماذا لم ترتبط بها ؟
– هذا ما لا أستطيع البوح به .

انتهى حديثهما الطويل بعد أن استسلمت (أورنينا) من محاولتها ليخبرها (تاودين) عن الفتاة التي هام عشقاً بها.
ويذهب كلاً منهما إلى داره .

أصبحت قدم (تاودين) تجره إلى البركة يومياً لينتظر قدوم (أورنينا) مرت الأيام , الأسابيع و الشهور ببطء على لقاءاتهما السرية والتي كان يتغزل بجمالها وروعة غنائها وأسلوب كلامها حتي أيقن أن (أورنينا) أعجبت به أيما أعجاب .. حينها فقط أعترف لها بحبه قائلاً :
وما كنتُ ممن هوى جمال الوجه قلبه ولكـنكِ روحٌ تَـزيـنُ بـجمالها الاوجـهَ
أحبـبـتـكِ.. و الحـب شـيء أسـتجير بـه من رمــضة القلب في جـسدٍ أُلِـــــمَ به
ليــت الزمــان توقـف لـحـظـة عــزفـهـا مـعزوفة العـــشق الـجـمــيل أســاسـه

ففرحت فرحاً لدرجة أن (تاودين) رق قلبه حزناً عليها, ولكن لابد من إكمال الخطة المرسومة في رأسه الجشع.

وبعد عدة أيام من اعترافه, تأخر عن لقائها متعمداً.. و بعد انتظار طويل يأتي (تاودين) متثاقلاً لتسأل (أورنينا) بقلق:
– ما الذي أخرك يا عزيزي لهذه الدرجة ؟! نفد صبري إذ حسبتك لن تأتي .
– لا شيء , إنها وعكة صحية بسيطة , ولكن ما إن رأيتكِ عزيزتي حتى أصبحتُ أفضل .
– هل ذهبت إلى الطبيب ؟
-ضاحكاً : لا.. هو من قدم إلي ؟
– ما الذي قاله ؟
– ليعود للجدية : لا شيء مهم.
أصرت (أورنينا) على معرفة ما قاله الطبيب, وهددت بأن تقاطعه إذا لم يخبرها .

فقال برضوخ مصطنع : لم يبقَ الكثير لأعيشه , فقد وهنت أعضائي وتلفت أمعائي و اقترب ميعادي .
لتذرف الدموع على حالة (تاودين)و يهدئها : تمنيت لو كان هناك ترياق أو أكسير ليبقيني إلى جانبك إلى الأبد , لكن ما باليد حيلة .
-توقفت (أورنينا) عن ذرف الدموع كأنها تذكرت شيئاً فجأة وقالت : 
– حسناً.. هناك طريقة حتى تحصل على الخلود 
– بصوت ضعيف متوسل : أخبريني أرجوكِ.
– إنهُ (أمبروسيا) شراب الآلهة للحياة الأبدية , ولا ينبغي أن يعطى للبشر لأنهم يعاقبون الإله الذي يهب هذا الشراب.
– رقق (تاودين) صوته بتوسل : إذاً أرجوكِ لا تحضريه حتى لا تقعي في المشاكل فأنا بدونكِ سأموت .
– فرحت (أورنينا) لسماع هذا الاعتراف, فأيقنت أن (تاودين ) يحبها بجنون : 
– سأحضره لك لا تقلق لن يعلم أحد سوانا.

همّ بالاعتراض.. لكنها كانت قد اختفت لتحضر الشراب.
ابتسم (تاودين) فرحاً فخططه على وشك الاكتمال, وما هي سوى دقائق حتى ظهرت( أورنينا) من العدم كما اختفت محضرة كأس شراب (أمبروسيا) .
– لكن اولاً عليك أن تعدني أنك لن تخبر أحداً من الفانين عن هذا الشراب, فالآلهة يمكنها سماع أحاديثكم فإذا علموا أنك شربت شرابهم سوف يعلمون أني من أحضرته لك, فأعاقب أشد العقاب, أما وأنت معي يمكنك الحديث عن أي شيء فكوني أحد الآلهة فحديثنا محجوب عنهم .

وعدها (تاودين) مذكراً أياها أنهُ أمين إذ أنه لم يذكر سر البركة لأحد طيلة العامين , فسلمته الشراب بكل حبٌ وسعادة, وما أن تسلمه حتى شربه جرعة واحدة, شكرها ممتن وذهب عائداً إلى حياته .

***

مرت الأسابيع دون أن ترى (أورنينا) (تاودين) أو تسمع عنه شيئاً , وقد زاد شوقها وتوقها لرؤيته, قررت لبس معطفها السحري فتتحول لذاك الطائر الجميل, وتذهب إلى قصره..

وما إن وصلت إلى أحد بساتين قصره, حتى رأت (تاودين ) يلاعب ابنه (أوكين ) وزوجته الجميلة (باهرا) , رأتها (باهرا) فأشارت بيدها :
– انظر يا عزيزي الى هذا الطائر الجميل.
-التفت (تاودين) إلى الطير لتتغير ملامحه وتصبح قاسية, ويصرخ في حراسه ليقبضوا على الطير قبل أن يهرب ليكون غدائهم .

تألمت (أورنينا )على رد فعله ودمعت عيناها, وعرفت أن (تاودين )كان فقط يتلاعب بها لينال الخلود.. وما إن ناله حتى أراد قتلها, لكن غاب عن ذهنه : أن الالهة لا تموت.

شعرت (أورنينا ) بالغضب الشديد وحررت نفسها من معطفها لتعود لشكلها الحقيقي وسط اندهاش الزوجة والحراس, وما إن اقترب منها الحراس منبهرين و منجذبين لجمالها حتى بدأت بالغناء بصوت عذب ليقع جميع من في الحديقة من حراسه وعائلته الصغيرة تحت سحر أغنيتها, وأصبحوا يتألمون ممسكين رؤوسهم يتقلبون يمنة ويسرة , حينها حاول (تاودين) مساعدة زوجته وطفله بينما قطرات الدم تتسلل من أذنيهما, وما إن فرغت أورنينا من الغناء حتى كان جميع من في الحديقة جثثاً هامدة.. ما عدا (تاودين) الذي أنهار باكياً أمام جثث أحبائه.

ضحكت (أورنينا) قائلة : هل تعرف ما اسم هذه المقطوعة يا عزيزي ؟ اسمها (العشق الجميل) ..

لبست معطفها وطارت بعيداً.

***

مرت الأيام و (تاودين) يصارع مشاعره بين : ندم, وألم وحزن, ورغبة جامحة بالانتقام, وقرر أخيراً أن الوقت قد حان لتنفيذ انتقامه الأخير .

أقام (تاودين) حفلاً ضخماً في أحد قصوره في مركز مدينة بابل , ودعا فيها كل أعيان المدينة من أغنياء ووزراء, حتى الملك نفسه , وبينما الحفل مازال في أوله, سأله أحد الحضور عن سر شبابه و أنهُ يبدو في العشرينات من عمره وكأنه لم يكبر من حين تعرف عليه , ليصيح بعلو صوته بعد أن شرب حد الثمالة قائلاً: 

– يا أعزائي لقد كنت قبل عاميين كهلاً ضعيفاً, أرعى الغنم عند أحد أغنياء المدينة, إلى أن وجدتُ البِركة التي تعيد الشباب, وقام بسرد قصته مع (أورنينا) كاملةً, وأنهى القصة بما حدث لزوجته (باهرا) وطفله (أوكين), وما إن نطق الكلمات على الملأ حتى بدأ هرج ومرج ممزوج بصرخات الرعب التي ملأت الوجوه في قاعة الاحتفالات ليس من تصريحاته المثيرة للجدل إذ كان ثملاً , ولكن المفاجأة كانت التغيرات التي حلت على مظهره فقد عاد كهلاً في الثالثة والسبعين من عمره.
وهذه كانت ضريبة ذكر بركة (الشباب الدائم) .. و انتهت الحفلة بالخبر الصاعق الذي سرعان ما أنتشر في المدينة.

ذهب (تاودين) في الليلة نفسها بصعوبة متكئاً على عصاه بينما ضوء القمر المكتمل يضيء دربه إلى البركة, ويقترب ليرى ما أراد رؤيته و توقعه, أراد القصاص من (أورنينا) لما حدث لعائلته, وحتى إن كان على حساب عودته كهلاً.

وجد البركة متجمدة في غير فصل الشتاء, اقترب لينظر بداخلها فتقع عيناه على( أورنينا) محبوسة في الماء تحاول باستماته كسر الجليد الذي يمنعها من الخروج من البركة وتصيح فيه ما أن تراه :
– أرأيت ما فعلته بي يا عجوز النحس والخيبة, فقد سمعتك الآلهة فعوقبت بحبسي هنا .. هل هذا جزاء إحساني إليك ؟

– ضاحكاً على منظرها : و أكثر.. فقد سلبتِ مني عائلتي التي لا ذنب لها في ما فعلت, لو عاقبتني أنا على أفعالي لكنا انتهينا ولكنكِ تماديتِ كثيراً في العقاب.
الآن أظن أن العدالة حلت على كلينا وتساوينا , فقد عدتُ كهلاً ضعيف البنية وسأعيش هكذا للأبدية في هذا الجسد المتهالك , بينما أنتِ سوف تعاقبين و تحبسين في الجليد إلى أبد الأبدين .

هوى (تاودين) من شدة التعب ساقطاً على وجهه, وهو يتمتم :
ظلمتُ نفسي ظلماً لا عِماد له وظـلمتكِ ظـلماً عـظيماً معتدي
فقـتلتِني وقتـلتِ نـفســكِ قبله فعـقابكِ لي بَـغيٌ تـعدّى طـاقتي
واليوم جـسدٌ هـالك أُسـجن به ولكِ في الجليد مـستقرٌ ومسـكنـي

– أوَتعرفين (اورنينا )ما اسم هذه الأبيات؟ ..اسمها (العدالة).

لتتجمد (أورنينا) كالتمثال في وسط البركة .

للفائدة .. معاني الأسماء البابلية :  تاودين : شكر
                                           أورنينا : إلهة الموسيقى للبابليين والآشورين
                                           دورا : نهر في بابل متفرع من الفرات
                                           باهرا : نور  ، ضوء
                                           أوكين : قديس ، وحيد
                                           أمبروسيا : شراب الآلهة في الأساطير
 

تاريخ النشر : 2017-07-22

هايدي

اليمن
guest
58 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى