الجزيرة الموعودة
تشبثنا بسارية سفينتنا الكئيبة علنا نصل إلى تلك الجزيرة الموعودة |
الرحمة يا رب .. سترك يا رب
…………
استيقظنا في ذلك الصباح المشؤوم على ضرب الرعد وأضواء البرق في وسط بحر هائج بدون بوصلة أو إحداثيات بعد صراع ونزاع , بين أخذ ورد مع تلك الأهوال في تلك الظلمة الحالكة من الليلة السابقة نحاول فيها استرجاع سارية سفينتنا الكئيبة التي ما بقي منها إلا ما حاولنا الحفاظ عليه لسيرها ، وهو ما تبقى منها لنتشبث به على أمل أن يأخذنا المد والجزر لتلك الجزيرة الموعودة ….!
– استيقظ … استيقظ يا رفيقي !
بالكاد استطعت فتح عيناي ورفع رأسي الذي كان يطمره الرمل بعدما خارت قواي ، استجمعت رباطة جأشي وقمت لأنظر إلى جزيرة غاية في الجمال والغرابة ، كثيفة الأشجار والاخضرار تعج بالأنهار ، كانت تلك أسعد لحظة في حياتي ولمَ لا ! فلم أكن أتوقع أن أرى النور أبداً بعد تلك الحادثة والمأزق الذي وقعنا فيه …
كنت أنا وثلاثة من رفاقي فقط مما نجا من الطاقم على ساحل تلك الجزيرة ، و لم يبقَ من حطام تلك السفينة إلا ساريتها التي كانت ملاذنا ومنقذنا الوحيد طبعاً ، لا مؤونة ولا ذخيرة ، لم يبق شيء نسد به رمقنا أو إسعافات نعالج بها أنفسنا .
في تلك اللحظة التفتنا إلى بعضنا البعض ليس بالكثير من السرور ، وإنما كانت نظرات ارتياب وارتباك ، كنا نعلم أن القادم أصعب ، تقدم نحوي “جوليان” وكان أكثرنا شجاعةً واندفاعاً قائلاً :
– ما بالكم ! هل أكل القط ألسنتكم ..؟ هيا بنا نصعد ذلك التل علنا نرى مأوى أو ملجأ نحتمي به هذه اللية .
هذا ما كان من أمر جوليان ، أما “آندرو و أنتوني” فاقترحا أن يتعمقا في الأدغال علهما يجدان شيئاً نسد به رمقنا ، وهذا ما حصل بالفعل .
اتفقنا على أن نلتقي في نفس المكان قبل غروب الشمس ، ومن تلك النقطة افترقنا ، انطلق آندرو وأنتوني إلى ناحية أحد الوديان ، وسرت أنا وجوليان صعوداً قاصدين أعلى قمة بالجزيرة ، كنا محتارين أو بالأحرى مرتعبين من المجهول ، لم نكن نملك شيئاً لندافع به عن حياتنا ويعزز ثقتنا بأنفسنا ما عدا سكين صغير كانت أهدتني إياها خطيبتي للذكرى ، وما أروعه من تذكار ، فذلك هو كل مافي حوزتنا من عتاد !
جوليان : هيا تحرك أسرع … لانملك اليوم بأكمله
– حسناً …حسناً أنا قادم “
وصلنا أخيراً لذلك الجرف المهيب ، التفتنا يميناً وشمالاً أملاً في أن نرى سفينة مارة أو ملجأ ما ، و سرعان ما خاب ظننا وأصابنا الإحباط ، استرحنا قليلاً وبعدها نزلنا لنلتقي برفاقنا في نقطة اللقاء ، ومن حسن حظنا الهزيل أنهما وجدا بعضاً من ثمار جوز الهند وملأنا بعضها بالمياه العذبة ، في تلك الأثناء كانت الشمس تبزع ، جمعنا الحطب وأشعلنا ناراً اجتمعنا حولها ، كان الجو بارداً وكان الجوع أَلَدَّ عدو في تلك الأثناء ، اقترح جوليان أن نطهو قبعاتنا المصنوعة من جلد الراكون على النار لنخمد بها جوعنا ، ففعلنا ذلك حقاً ومضغنا تلك الجلود في حالة يأس منا ، أكلنا كذلك جوز الهند ، وكأننا كنا نجتمع على عشاء فخم …!
***
استيقظنا في اليوم التالي في وضع مثير للشفقة ، كنا مرميين على ذلك الشاطئ الساحر كأننا قمامة .
قام جوليان مسرعاً يصيح بطريقة هستيرية :
– أين ..أين هما …أين اختفى “آندرو و أنتوني” ؟!
كانت صدمتنا كبيرة ، والأكثر من ذلك أننا وجدنا معطفيهما في مكان نومهما ، وكانت هناك بقع دم متناثرة هنا وهناك , صاح جوليان في وجهي صارخاً :
– أهذه هي جزيرتك اللعينة الموعودة التي قدتنا إليها وقادك طمعك من أجل صندوق كنز لا وجود له إلا في مخيلتك المريضة .. لقد أهلكتنا جميعاً .
اندفع نحوي مهاجماً ، فالتقطت السكين بسرعة وأشرت به ليهدئ من روعه :
– جوليان صديقي هدئ من روعك ، سنبحث عنهم ، سنجدهم أعدك بذلك .
جوليان : حسناً لا بأس عليك ، سأهدأ وسنبحث عنهم ، لكني أعدك إن لم نجدهم سالمين سأقطعك بتلك السكين التي في يدك .
فجأة سمعنا صراخاً مخيفاً يقشعر له البدن ..أصوات رجاء واستنجاد ! انطلقنا بسرعة ناحية النداء وسط أحراش كثيفة نجري نحو المجهول ، و إذ بمغارة كبيرة تلوح لنا من بعيد ، تقدمنا بحذر وتكاد أنفاسنا تنقطع من شدة الهلع ، لم أصدق أن جوليان مرتعب لتلك الدرجة ، لكنه كان خائفاً جداً ربما أكثر مني ..
حدقنا في بعضنا بصمت وأشرنا لبعضنا بالدخول في حالة مبتذلة منا ، أخرجت سكيني وسرنا في ذلك الظلام المعتم, كانت رائحة الدماء وجثث الحيوانات تعم المكان ، كنت أنا وجوليان نمسك بأيدي بعض لكي لا نضيع ونفترق .
فجأة سمعنا صوتاً
– أنقذوني ..النجدة إنه ! كم هذا مؤلم إنه يلتهم بطني ..يا إلهي .
تقدمنا مسرعين فلاح لنا انعكاس ضوء بأحد جوانب المغارة , اختلسنا النظر فرأينا المسكين “آندرو”ممزقاً و مرمياً ، و “أنتوني” المسكين ينازع وفوقه مخلوقان يمزقان بطنه ، كاد أن يغمى علي من هول المنظر .
كانت مخلوقات قمة في القرف والبشاعة ، عارية الأجساد تشبه البشر ، ذات أذان طويلة وأنياب وعيون بين السواد والبياض ، كانت هناك إناث وذكور تتقاتل على أصدقاءنا المساكين ، عندئذٍ حاول جوليان كعادته وعفويته الدفاع عن أنتوني فمنعته من الحركة …كان قد فات الأوان بالنسبة له ، فتلك المخلوقات القبيحة تناولت بما فيه الكفاية فعلاً من رفيقنا ، فيما البقية الضعيفة منهم كانت تقتات على الأعضاء المتبقية من أمعائه ومفاصله .
أما بالنسبة لي ومن جانبي ، فأكثر شيء بطولي فعلته هو أني رميت بحجر على جموع تلك المخلوقات المتوحشة لتبتعد عن رفاقي أو مابقي منهما …لم يحدث شيء ولم تلتفت إلينا أبداً ، كأنها عمياء !
عم الهدوء المكان ، وتوقفوا عن الحركة ، لم نرَ منهم إلا رؤوسهم تتحرك يميناً وشمالاً ، وأذانها المشوهة ترتجف ، رميت بحجر آخر علها تبتعد وتفسح لنا مجالاً للخروج فلم يتحركوا .
أدركت فعلاً أنها مخلوقات ليلية عمياء ، لا ترى ، تستعمل فقط أذانها للتحسس
جوليان : ما الحل .. ما العمل ؟
أخبرته بأننا يجب أن نقرر إما نقاتلها أو نهرب بسلاسة !.قال لي بنبرة حادة :
– كيف ذلك أيها الوغد الحقير ؟ ألم ترى كيف فعلت بأصحابنا ومزقتهم بفمها وأيديها !
كنت أحبو على أصابعي ويدي بحذر ، أحاول الخروج من تلك المتاهة الدموية ، فيما تعالت أصوات جوليان بعدما فقد أعصابه خوفاً وغضباً مني ، يلومني فيما حدث ، فزمجرت تلك المخلوقات وأحاطت بنا من كل جنب ، تتحسس المكان الذي كنا فيه ، وهنا انتهى كل شيء بالنسبة لي ..
قطعنا أنفاسنا وتجمدنا في أماكننا كأننا موتى ، كانت تمشي فوقنا وتشمنا وتدفعنا هنا وهناك .
بلمحة بصر التقط مني جوليان الخنجر وضرب به أحد الوحوش وكانت الضربة في عنقه أسقطه صريعاً ، و سرعان ما أحاطت به بقية المخلوقات لتنقض عليه .. كان يصرخ بأعلى صوته وهي تنهش بطنه ووجهه ، كانت من أرعب الميتات تهويلاً .
لم يكن بيدي حيلة ، بعدما كان جوليان من أعز أصدقائي أصبح بالنسبة لي مصدر إلهاء لإبعاد الوحوش عني ، وبطاقة خروجي من هناك …اغتنمت الفرصة وقمت على قدماي لأنطلق بأقصى سرعة أتتبع فيها بصيصاً من الضوء ، إلى أن خرجت دون أن ألتفت ورائي ، أكملت الجري بين الأحراش والأدغال إلى أن وصلت لسارية السفينة ، ويالتها كانت علقت مع السفينة وغرقت وغرقنا معها بدل الجحيم التي أوصلتنا إليه .
دفعتها إلى البحر وأنا في حالة هستيرية من الصدمة والهلع ، تشبثت بها جيداً وجدفت بيدي لأبتعد عن تلك الجزيرة الملعونة قدر ما استطعت ، لعلني أقضي مصيراً أقل وحشية مما حدث لرفاقي المساكين .
تاريخ النشر : 2017-08-03