أدب الرعب والعام

أصحاب الأحلام

بقلم : أبو الحسن ماجد – العراق

أصحاب الأحلام
بدأت أحسدهم أولئك الذين ولدوا دون طموح .. دون حلم

بدأت أحسدهم أولئك الذين ولدوا دون طموح ، دون حلم ، لا تفكير بالمستقبل ولا خوف في الحاضر ، فالتفكير بكثرته مضر مثل التدخين ..
هكذا كنت أعيش أياماً أحمل أوراقي في حقيبة ظهري ، وأجوب بها دور النشر ، إن أوراقي تلك هي كل ثروتي   ملايين من الكلمات ، عصارات دماغ شاب لم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره .

كنت أحمل رواية ومجموعة قصصية رقدت على مكتبي لسنين بجانب أقلامي التي جف حبرها منذ زمن وخرجت لأنشرها ، فتفاجأت بالرفض من كل دور النشر .
أنا كاتب مغمور ومبتدئ ، من يجازف بنشر روايتي ! لقد صدمت بالرفض وأصبحت أحلامي خطأ لا يغتفر .

لقد مضت سنة على تخرجي من الجامعة و راحت تلك السنة ومضت معها حب حياتي ، الفتاة التي عرفتني أن للحب وجود وليس أسطورة .

رغم مضي الأيام وطول البعاد عنها ، إلا أني كنت أراها أين ما أحل ، وكان عندي أمل كبير جداً أني سألقاها يوماً ، وقد قرأت روايتي التي كتبتها لأجلها .

أجلس في غرفتي الصغيرة الباردة ، تتهافت علي الأفكار ، أحاول جاهداً تدوينها حتى أكتبها على شكل قصة أو حتى رواية .
إلا أني أتذكر رفض دور النشر فيخيب مسعاي وأرمي قلمي جانباً ، و يبدأ التفكير يأكل مخيلتي حتى يجعلني أغفو على مكتبي ..لقد أصبحت أسوأ لحظاتي حين يسلمني الوقت لمخيلتي

………..

في الصباح أنهض من النوم وأتوجه نحو عملي ، أنا عامل بناء في شركة تبعد عنا ساعة ، أستقل القطار فهو كان الوسيلة الجيدة لتوصيلي ، كلما كنت أذهب نحو المحطة أنتظر القطار ، يبدأ عازف الناي يئن ، إنه رجل كبير وأعمى يجلس عند المقاعد ويعزف بآلته المفضلة ، الناي ، وكانت حزمة أوراق تحت قدميه لا أحد يعرف ما بها .

كنت أستمتع بعزفه ، فقد كان شجي و بإمكان شجون أنفاسه أن تتكلم قصة حزينة تحت هذا الجسد الخاوي .

أترك صاحب الناي بعد أن يصل القطار ، و ها هو القطار يعلن عن قدومه من بعيد ، يتوقف أمامي و يبدأ الناس بالصعود .

لم يكن يومي بالعمل شيء جيد ، فلا أريد ذكره .. بعد الانتهاء من العمل أعود لمحطة القطار ، وفي طريقي أصادف رجلاً كبيراً لديه شعر طويل ، كثيف و أبيض كأنه شلال ، يضع النظارات على عينيه ونظارات أخرى متعلقه برقبته ، يجلس في كشك خشبي صغير ، وكانت الأوراق تملأ أرضية ورفوف ذلك الكشك .

كنت واقفاً في باب الكشك وأنظر إلى حالته ، يبدو أنه مجنون بالكتابة أو أنه لم يحالفه الحظ بتحقيق حلمه بالكتابة ، فأصبح مجنوناً هكذا .

لقد خلق هذا خوفاً في داخلي إنه يشبهني ..

أتركه وأتوجه لأركب القطار ، أعود لغرفتي وأوراقي ، ذلك المكان البائس .
كان الناس في صمت دائم وهم يدفئون أجسادهم ببعض ، وأنا جالس أطالع من نافذة القطار وعقلي ليس هنا ، بل مع حبيبتي التي لا أعلم مصيرها ، وأحلامي التي أصبحت تؤرقني كثيراً بسبب ذلك الرجل صاحب الكشك .

وقبل أن أصل إلى المحطة كنت أراقب متى يصل القطار إلى المحطة وها هو يصل .. فأنزل مع تدافع الناس وقد اخترق صوت الناي مسامعي الجامدة ، ودخل إلى خيالي المتهالك .
فأذهب دون شعور أجلس بجنب عازف الناي الحزين ، أنظر إلى وجهه وقد لوثت التجاعيد صفاء بشرته ، وجسمه الذي بدا مثل أعواد القصب ، وعينان مغمضتان بقوه لا تريدان أن تريا قساوة هذا العالم ، وشفاه قد نبت بها خشب ناعم من أثر الناي ..

فسألته : (ما قصتك) ؟
أنزل الناي من فمه وقال بصوت حزين منخفض : (عاشق)

فتراجعت وتفاجأت أنه يشبهني ، يا إلهي ! هل العشق يؤدي لهذا الحال ؟!

رجعت مطأطئاً رأسي إلى البيت ، وأنا كنت قد رأيت نفسي بالرجلين الكاتب والعازف ، يا إلهي .. لا أريد أن تكون نهايتي مثلهما .. 

وصلت لبيتي وقابلتني أمي ، ارتميت بحضنها ، تمنيت لو أرجع طفلاً لا طموح و لا حب .. صعدت بائساً كئيباً إلى غرفتي ، وحين وقفت ببابها تهيأ لي ذلك الكشك ، وذلك الرجل المجنون ، فأصابني الخوف ، وتراجعت .. لقد أصبحت غرفتي مخيفة ، أرى نفسي بها إنسان مجنون منسي ، لا محل له من الإعراب .

دخلتها وكانت أوراقي وأقلامي تناديني ، فالغبار قد ملأها والغبار دليل الهجران ، لقد بدأت بالعزوف عن الكتابة ، و أصبح القلم مثل سلاح ارتكبت به جريمة .. يجب أن أصحح الوضع قبل أن يسحقتي الدهر بأقدامه و يمضي …

الليل قد حل وصديقه النوم لم يأتِ معه ، الأرق قد جلس جنبي ، فلم أنم هذه الليلة ، وقد أدركني الصباح فاستفاق نور الشمس على بصري ، وزقازيق العصافير على مسامعي .. وهذا يوم جديد كئيب كالعادة .

نهضت من السرير ، تناولت وجبتي الصباحية و لاتزال حبيبتي في رأسي تدور وتلعب بذكرياتها ، وأنا أتفرج بأوهامي بعيداً عن الواقع المر .
كنت أسير للمحطه وقد استقبلتني أصوات الناي من بعيد هذه المرة ، فالهواء عاصف ، جلب الصوت لأبعد مسافه ممكنة .
و بعد السير وصلت لذلك العازف ، و ها هو يعزف وسط الناس ولا أحد يهتم أويسمع مهما كانت أنفاسه شجية ، أردت سؤاله حول حبيبته وأين رحلت ، لكن هذه المرة جاء القطار مبكراً فلم أستطيع سؤاله .

رحلت عنه و توجهت لمكان عملي في الشركة ، مررت بذلك الكشك فوجدت الرجل الكاتب واقفاً في الباب وفاتحاً صدره للهواء العالي ، وشعره الأبيض الطويل يتمايل في الهواء كأنه الغيم ، مع ابتسامة على وجهه ، وفاتحاً ذراعيه للهواء .
فتركته ومضيت ..

لقد استلمت أجرتي وحان وقت الرحيل للمنزل ، رجعت كالعادة فوجدت بذلك الكشك الكثير من الناس المتجمعين ، فركضت نحوهم لأجدهم يتفرجون على ذلك الرجل الكاتب ، وقد انتحر بشربه لعلبة حبر كاملة ، حتى خرج الحبر من عينيه بشكل دموع تسقط على الأوراق البيضاء التي كان يحتضنها ، فأمتلات الأوراق من دموعه حبراً !

لم أتمالك نفسي فأجهشت بالبكاء حين قرأت على ورق الكارتون الذي كان بجنبه مكتوباً :

(لقد كتبت الكثير ولم يقرأ أحد ، اقرؤوا وصيتي ونفذوها
..اتركوا الكشك مفتوحاً ، ودعوا مؤلفاتي فيه ، فإن لم يقرأها أحد صباحاً ، فليسرقها اللص ليلاً .. و يا أيها اللص ؛ اسرق أدباً تكن مؤدباً)

فققرت و أنا بغضبي أن أذهب لغرفتي وأحرق كل ما كتبت و أغير مصيري .. ركضت مسرعاً نحو المحطة والهواء بدأ يعصف بشدة ، والبرد أصبح قارصاً ، ودموع تجلدت على وجنتاي ، وقد ركبت القطار والأفكار بدأت تتخبط بخيالي ، واختلطت مشاعري ، وتذكري تلك الحبيبة وكيف ستقراء ماكتبته لها .

وصلت أخيراً للمحطة وبقلبي سؤال أراد أن ينفجر لذلك العازف ، توجت نحوه فوجدت مجموعة من الناس وقد اجتمعوا بمكانه ، والغريب أنه لا يوجد نفساً شجياً ، وأنا أترقب الناس وأقترب نحوهم فجأة أسمع (احملوه …احملوه)
لقد حملوا جثته .. إنه العازف ، لقد مات ، وحين رفعوه تدلت يده ، فرأيت مطبوعاً على أنامله ثقوب الناي ، لقد تيقنت أنه ذلك العازف العاشق ، وقد رحل على كفوف الناس بعيداً تحت أنظاري ، فرجعت للبيت حزين وبقلبي هم كبير وحزن ، فالحبيبة اندثرت والأحلام الآن سأحرقها .

صعدت لغرفتي متثاقلاً وفتحت بابها ، لممت كل الأوراق وكل الأقلام ، أخذت كل ثروتي التي ولى زمنها ، وأنا الآن في الليل فوق سطح منزلي استمتع بحرق أوراق وكتاباتي .
و أخيراً الدخان الأبيض آخر أنفاس النار يخرج ، وأصبح كل شيء رماداً ، لقد تبخرت كل أحلامي .

أخذت الرماد وخرجت في الليل أرمي به في النهر ، وأنا أسير نحو النهر اقتربت من المحطة ، كان الليل أسود ونجومه لم تظهر ، وإذ بي أسمع صوت أنين ناي يعزف بغضب وتخبط ، صوت مخيف قادم من ربوع المحطة ، فأستغربت ! إنه صوت الناي ، لابد وأن ذلك الرجل قد…..
لا…لا..لقد مات

عندها نثرت الرماد في الهواء العاصف ، وركضت بقوة نحو صوت عزف الناي ، ودخلت المحطه المضيئه وأنا أقترب أكثر وأكثر من الصوت ، وكنت أقترب لمكان ذلك العازف وأخيراً وصلت .. وجدت الناي وبعض الأوراق والكثير من الورد بمكان ذلك العازف ، و أن من يعزف هو الهواء يدخل من ثقوب الناي ويرقص بعشوائية ، ويخرج من أين يشاء ..

و بقي الناي يعزف كلما هبت ريح ، معلناً أن الحالم والعاشق لا يموتان أبداً ، فتلك الدموع التي تساقطت حبراً على الأوراق الفارغة من الكاتب تدل على أن المسيرة مستمرة لكل كاتب ، وذلك العاشق أنفاسه بقيت تعاتب الزمن و لا تندثر إلا أن يندثر جميع قصب الدنيا ..
عندها علمت ذلك ، وندمت على حرقي كل ما كتبت .

تاريخ النشر : 2017-08-05

guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى