أدب الرعب والعام

خلاص الأرواح – ج1

بقلم : كووبر حكيم – المغرب
للتواصل : [email protected]

خلاص الأرواح - ج1
أخرجني من تساؤلاتي صوت قطة سوداء واقفة على زجاج نافذتي المكسر

في ليالي الشتاء الباردة و بجانب سريري البائس و الوحيد , وضعت فوق طاولتي الخشبية العتيقة التي ورثها أهلي عن أسلافهم القدماء كتاب “أحزان الورود ” ، كنت قد أنهيت قراءته , نظرت من النافدة القديمة والمكسر زجاجها إلى ذلك القمر المكتمل بإشعاع يضيء على عوالم السماء والأرض , غطست في تأمل بعيد فيه وتمنيت لو أنني أعيش تلك القصة التي عاشها “البرتو ” في روايته (أحزان الورود ) مع حبيبته , حيث أحبها رغم أنه كان فقيراً وهي فاحشة الثراء ، فضحت بكل ما تملك و تحدت عائلتها ومجتمعها الطبقي من أجله ..

كباقي الشباب في التسعة عشر من عمري ، تمنيت لو أنني أعيش الحب والدفئ ، و ألمس خلود المشاعر بأصابع ذهبية ولو للحظات قليلة في تلك الأمسيات الباردة و المتجمدة , رجعت من أحلامي إلى واقعي القارس , فنهضت عن سريري الثقيل حافي القدمين ، فتحت باب غرفتي فإذا به يلطم و يسد وراء ظهري بقوة رهيبة ، ظننت أنها الرياح فأكملت سيري نحو المطبخ , فأنا أنام لوحدي في الطابق العلوي بينما أفراد عائلتي من أبي وأمي وأخي الصغير ذو التسع سنوات يشغلون الطابق و الدور السفلي ، بحيث يعملون أيضاً فيه ..

 

 فمنزلنا عبارة عن ملجأ يستقبل فيه الفقراء و المتشردين و عابري السبيل تابع لكنيسة بجانبنا سميت في عصور الظِّلام الأوروبي بـ ” روح المجد ” ، أما الآن فهي مهجورة و منسية أحب تسميتها ” الروح الذابلة ” بمظهرها المتوسط الحجم والمحاط بسياج خشبي متهالك لا تعبر للناظر سوى عن معاناتها وشقائها ومدى وحدتها , كانت تسبب لي اكتئاباً شديداً حين المرور بجانبها ، كما تضفي على قلبي غماً وحزناً عجيباً كأنما بها فتاة مكتئبة تناديني لأنقدها من إهمالها و عذابها .

كنت أسرد عن وكيف لُطِم الباب بعد خروجي من الغرفة ، كما قلت سابقاً ظننت أنها قوة وغضب رياح فصل الشتاء فأكملت طريقي بكل لامبالاة نازلاً عبر الدرج البني , لأسمع صوت أخي وهو يناديني ” إيفان – إيفااااان … ساعد…” بنبرة متقطعة اسمعه يناجيني ، فركضت عبر الدرج و نزلت مسرعاً نحو غرفته الملتصقة بغرفة والدي ، لأجده يغط في نوم عميق بتقلبه المألوف ، تارةً يمينا وتارةً شمالاً .

دنوت منه ، قبلته على خده وأفصحت في أذنه بكل هدوء كي لا يفزع ، فهو هلوع بطبعه ” هذا أنا .. أناديتني ؟ ” حركته قليلاً ففتح إحدى عينيه وصرخ بأعلى صوته مزلزلاً المنزل و موقظاً والديَّ من سباتهما الدافئ :
– يا أيها الخواف هذا أنا أخاك, و أصلاً أنت من ناديتني ، قلت في نرفزة خفيفة , وما هي إلا ثوان ليفتح باب الغرفة فإذا بأمي وأبي يطمئنان أن ما من شيء يدعو للقلق ، ليعودا في تثاقل و كسل نحو غرفتهما , أما أخي فنهض عن سريره و ناولني قنينة مياه كانت بجانبه وقال لي 
– ” اشرب وعد لغرفتك فلم يناديك أحد يا صديقي “
–  لكن ؟ لكنني سمعت صوتك أنا متأكد من ذلك “
أجابني 
– ” لعلها آثار قلة النوم ، فأنت تبذر ساعات طويلة في السهر ، انظر إلى وجنتيك ، لم أرهما يوماً بهذا الرق ، ثم إلى هذا السواد الداكن أسفل عينيك ، إنك تعاني من قلة الراحة يا أخي .

صدقت كلامه ، فقد بدا لي منطقياً ولو من طفل صغير في مثل سنه ، ثم أنه على حق ، فأنا أعطي وقتي الكامل للمطالعة والقراءة ، وفي فصل كالشتاء يحتاج المرء إلى كامل طاقته وسعراته الحرارية للاحتفاظ بمجهوده كي يزاول أنشطته اليومية ..
– حسناً سأعود لغرفتي , ليلة هنيئة أيها المشاكس .

التفت بسرعة خارجاً من الغرفة لأشاهد ظلاً غريباً يميل إلى شكل ثوب طويل واقفاً هناك في جمود لا يتحرك , لم أستطع ملاحظة رأسه أو جسمه ، كل ما شاهدته كان ظلاً لثوب أو شيء من هذا القبيل , أرجعت النظر إلى أخي لأجده منقلباً على بطنه و مطبقاً عينه في سكينة تامة , ظننت أنه شاهد ما رأيته بدوري ..

تحركت ببطء شديد نحو الباب لأرى نفس الظل وهو يختفي شيئاً فشيئاً وراء الباب ، كلما قمت بحركة تحرك هو أيضاً بنفس سرعة حركتي ، يا إلهي لا تخالون مدى خوفي ومدى الرعب الذي سيطر على فؤادي , أمسكت قفل الباب وفتحته على مصرعيه في حركة جريئة مني , لم يكن هنالك أحد أبداً ، لا ظلال ولا هم يحزنون ! مجرد فراغ بارد وجوع يزمجر في أمعائي .

خرجت من الغرفة وتوجهت سريعاً للمطبخ الملتصق بالمرحاض الوحيد في منزلنا , فهذا الأخير ليس بكبر ما تتخيلون أو ما ترون في المشاهد السنمائية لأفلام الرعب ’ دخلت المطبخ ، فتحت الثلاجة وأخدت قنينة لعصير فواكة ممزوج بقدر صغير من الكحول يحافظ على سخونة أجسامنا وطراوة أذهاننا في فصل الشتاء القارس .

على كلٍّ ، حملت القنينة و لبست في رجلي شبشب من فراء رقيق وصعدت نحو غرفتي , وأنا أفتح بابها لاحظت وجود ظل آخر لقطة سوداء خلفي أظنه كان يتبعني منذ أن خرجت من غرفة أخي أحمد , فزعت فأسرعت في فتح الباب الذي ولأول مرة منذ ولادتي أواجه مشاكل في فتحه , لا يهم .. ضغطت عليه بخشونة برجلي فاقتحمته رغماً عن أنفه وإن لم يكن له أنف فهو مجرد باب , أحسست أنه كان يقاومني ، أحسست وكأن بأحدٍ وراءه يدفعه وأنا أحاول فتحه , لم أبالي مرة أخرى لقلة فطنتي ودهائي ، للأسف ظننت أن كل ما حدث كان مصادفة لا غير , ولم أنتبه للعلامات لم أنتبه… يا لحسرتي الآن و قد فقدت بسذاجتي كل شيء كل شيء (أمي , أبي , أخي , عائلتي … والأهم من هذا فقدت نفسي وروحي وإيماني وطمأنينتي ) .

بعد سنوات طويلة من حادث تلك الليلة المشؤومة خرجت بخلاصة دقيقة أود لو أنقلها لكم و أنصحكم بها كأخ أو صديق , فأرجوكم انتبهوا انتبهوا للعلامات , انتبهوا لها , فالغربان وإن ارتطمت بنوافذكم فاعلموا علم اليقين أن الموت الجاحد قادمٌ نحوكم وأهلكم لا محالة ، فانتبهوا لما يخفيه محيطكم من علامات , تجاهلوها مثلي لتصبحوا يوماً على فعلتكم نادمين ، ولن ينفعكم آنذاك لا غني ولا فقير ، لا مبصر ولا كفيف , فقد يكون الأوان قد فات على تصحيح ما قد يصحح ، لست أهددكم ، لكني أبصرت الجحيم و ظلام العالم السفلي , لسنا وحدنا نضحك ونبكي هناك من يراقبنا و يضحك أشد منا , لكنه حينما يبكي بجانبنا ففي ذلك الحين يكون قد فات الأوان….

دخلت الغرفة لأجد كل في مكانه لم يتغير أي شيء سوى نفسيتي التي دخلت -ولقلة إيمانها – في شك غريب , أصاب جسمي شيء من البرودة والتصلب الغير متوقع ، أحسست بالتعب يغزو معظم جسدي ، فأمسكت قنينة العصير الكحولي ، وضعتها على الطاولة بمحاذات كتب عديدة و مجلات , وأنا أضعها شعرت برغبة ملحة لإعادة فتح رواية “أحزان الورود ” التي كنت قد تحدث عنها لكم مسبقاً , فتحتها وبدأت أتصفح الأوراق ، بدا لي كل شيء كما ترتكه ، حتى بلغت آخر صفحة قد كانت من قبل فارغة وبيضاء ناصعة ، لأجد فجأة عبارة ” أتقاوم الحب ؟ ” مكتوبة بخط قوطي أحمر أنيق وبلغة انجليزية واضحة !

فزعت مجدداً لكني وهذه المرة لم أرتبك ولم أفقد صوابي ، بل ركزت وظهرت على محياي ابتسامة غليظة واجبت ” أحب الحب وأكره العشاق ” ، نظرت إلى سقف الغرفة المصفر إثر انعكاس ضوء المصباح عليه ، و صمت وتأملت , لربما كان مفعول الخمر قد بدأ يهدئ أعصابي أو لربما هي مجرد مشاعري ، و قريني يلوح في الأفق محاولاً أن يطرد شر ما يترصدني … لكن لمَ سأعتبره شراً ؟ لمَ أخاله ظلاماً وعذاباً ؟ لمَ ولمَ ولمَ ؟ كلها أسئلة راجت بسرعة فائقة في ذهني المستسلم لغرابة الموقف , لم يوقظني من تلك الحالة الخردة سوى صوت قطة سوداء واقفة على زجاج نافذتي المكسر , أتذكر أن مواءها كان متواصلاً لا ينقطع بصوت مرتفع ويميل إلى نبرة بشرية ، بعينين زرقاوتين ثاقبتين تذكران المرء بزرقاء اليمامة إن كنتم سمعتم عنها .

نهضت عن سريري ولا أعرف ماذا سأفعل بالضبط ؟ علماً أن لدي خوف شديد من القطط السوداء يضاهي حبي وولعي بها , كانت أمسية التناقضات بالفعل , تقدمت نحوها بخطوات واثقة وأنا اردد في سريرتي ” الرب معي الرب معي …” وما هي إلا ثوانٍ حتى فُتِح باب الغرفة ورائي و أغلق بنفس السرعة , أصيب المصباح بخلل ما فانطفأ نهائيا وتركني لحقارته منتشياً لوحدي تحت ضوء القمر المكتمل , أما أعين القطة المجهولة التي لم تشأ أن تبارح مكانها ,كان بوقوفها هناك تحد لي واختباراً لمتانة صبري .

لم أستطع أن أرى شيئاً في ذلك الظلام الدامس سوى تلك الأعين وهي تجذبني في سحر غامض نحوها ، بينما يداي وجسدي وروحي ترتعش فرائصها مضفية علي شعوراً يميل إلى البكاء …

انطفأ كل شيء حولي وكأن بالكون والوجود قد توقف لبرهة ، لم أسمع حينها وأنا جاثٍ على ركبتي أبحث في أركان الغرفة عن ولاعة أو شيء ما أضيء به هذه اللعنة التي حلت عليه سوى دقات قلبي الخافقة مثل تلك التي تساور المرء حين تقبله حبيبته مرفقة بأغنية ” my love has come along ” للفنانة ايتا جيمس , كانت أغنيتي المفضلة أما الآن وفي حاضري و بعد سنوات من تجربتي هذه أصبحت أغنية ملعونة أصاب بالهوس والخوف المرضي كلما سمعتها ، لن تفهموا لماذا ؟ إلا و إن أتممتم الانتباه و التحليل وليس مجرد القراءة لكل ما حل بي في تلك الليلة الشتوية المليئة بالأحداث الغير مفهومة وبالحب الغير مرغوب فيه …

يتبـــــــــع ..

تاريخ النشر : 2017-08-14

guest
17 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى