أدب الرعب والعام

خلاص الأرواح – ج2

بقلم : كووبر حكيم – المغرب
للتواصل : [email protected]

خلاص الأرواح - ج2
أما وجهها فكان مستديراً وشعرها أسود طويل يصل حدود خصرها المثير

انتهى صوت الأغنية المتحدثة عن جمالية وأناقة الحب , بينما أنا جاثٍ على ركبتي ودموع الخوف تلتقي عند ذقني , اكتفيت من الغموض و الالتباس ، و وضعت يدي في جيبي الداخلي وأخرجت قلادتي الجالبة للحظ أملاً بقواها أن تخلصني من ليلة العذاب تلك, فقد أهدتها لي أمي يوم عيد مولدي السادس ..

كانت قلادة من فضة منقرضة في أيامنا الحاضرة ، تحمل نجمة خماسية كتب على أطرافها خمسة أحرف , أوصتني أمي يوم أكملت العاشرة بأن أحملها معي أينما ذهبت ، وألا أفقدها مهما حدث ، و أضافت بنبرة حادة أن حبها لتلك القلادة يضاهي حبها لي ، فقد ورثثها عن أمها وهي بدورها ورثتها عن أجداد أجددها 

أتذكر أنني سألتها عن معنى الأحرف فأجابت أنها أحرف لاتينية تشكل كلمة واحدة لا يجب أن أرددها كثيراً إلا في أوقات عسيرة كليلة الظلام والعناء تلك , أما الكلمة فآسف ، لا أستطيع ذكرها لكم لأنها سر بيني وبين أمي و باقي أفراد عائلتنا ، لدرجة أنه من المحرم أن ننطقها علناً أو خفيةً إلا في حين الضرورة القصوى .. ثم إنها قد تستعمل في غير موضعها وقد تجلب البلاء والمعاناة لمن لا يحسن استعمالها , فهناك أشياء لا يستطيع أحد حي إيقافها لأنها تنتمي لعالم الأموات لا الأحياء … 

أخرجت القلادة وتمسكت بنجمتي كما كنت أتمسك بها في صغري ، و في ليالي لا تحصى من الخوف والمرض ، ورددت في نفسي دعاء الكلمة ذاك , وما هي إلا لحظات حتى اختفت زرقة عيون القطة السوداء التي كانت تراقبني وتسحرني من النافذة , وفجأة سمعت صراخاً من الدور السفلي , صراخاً متكرراً و مألوفاً جداً , لم أستطع النهوض , صرخت بدوري وبأعلى صوتي , لا أحد يستجيب , لم أستوعدب حقيقة ما يحدث بالضبط ! ظللت أردد كلمة النجاة وأنا مستلقٍ على أرض غرفتي الباردة ، ودموعي لا تتوقف كنهر يكسر كل الأشجار الساقطة في طريق جدوله نحو البحر , ومع رعشة خوف أرجع إلى الماضي , إلى ذكريات الطفولة السوداء .. إلى كلام الناس وأحكامهم ، إلى الحقد الدفين بداخلي ، إلى كل فكرة لم أستطع يوماً التعبير عنها ، إلى كل خطيئة اقترفتها .

أحسست بدم أسود مظلم يسري في عروقي ، ظننت أنه الموت قادم نحوي فاستسلمت وأغلقت عيوني و شفتاي ترتعش في خوف ، و كأنني أقاوم التجمد , فلم تكن مسألة صبر ورجولة وإيمان , كان قضية أكثر من ذلك , أكثر من ذلك بكثير صدقوني .. حاولت الصمود , حاولت منع تلك اللعنة من الحلول حاولت و حاولت , ااااه فشلت ومند ذلك الحين وأنا مختبئ وفاشل لا أقوى على الخروج ولا التكلم عما حدث هنالك بالضبط لا أحد يعلم , لا سماء و لا أرض ، لا ريح ولا سحاب ، لا عاصفة ولا بركان , لا شيء ولا أحد .. 

أنا الوحيد الذي رأيت ما رأيت واختبرت ما اختبرت وظلت تلاحقني ذكريات الماضي وتزيد من ألمي و معاناتي ، و عمق ما أنا غارق فيه …

مستلقٍ أبكي كالأخرق فوق أرضية غرفة الطابق العلوي , فتحت الباب واقتحمت الغرفة ، رياحٌ عنيفة أسقطت طاولة الكتب و رفعت سريري ملصقة إياه بالجدار , لن أكذب اعتقدت للحظات أنه مشهد مذهل ورائع وخلاب , لكن المشهد أُتلِف وتغير نحو الأسوأ حين رأيت جسماً لفتاة في مثل سني ترتدي فستاناً أسود قوطي متشابك كذاك الذي ترتديه الأرامل في جنازات أزواجهن , أول ما انتبهت له هي تلك القبعة الغريبة السوداء فوق رأسها , دنت مني لأكتشف تفاصيل أكثر , لم تكن تمشي بل كانت تطفو ولا تلمس قدميها الناعمتين البيضاوتين الأرض , أما وجهها فكان مستديراً وشعرها أسود طويل يصل حدود خصرها المثير , لم تكن تضع طلاءً لأظافرها ولا مواد تجميلية , بالعكس تماماً كانت ملامحها شاحبة وشفتيها ذابلتين وكامدتين في لون يميل إلى السواد , تملك نفس أعين القطة اللعينة .. سحر ما بعده سحر !

انغمست لغبائي في ملامحها وهيئتها العجيبة ناسياً العذاب والألم والارتياب الذي كنت تائها فيه ، ودموعاً كنت غارقاً في بحرها ، و لكنني كنت أردد على الدوام كلمتي و متمسكاً بوصية أمي … اقتربت أكثر فأكثر لتصبح بيني وبينها خطوات قليلة , وفجأة اختفت وانطفأ نور القمر الذي كان يضيء من جديد ، وبقي الحال قاتماً لثوان إلى أن عاد ضوء المصباح لأكتشف أن وجهها المغطى بالشعر الكثيف ملتصق أمامي ، لن أقدر على وصف شعوري ، فالله وحده يعلم كم كان قلبي قريب جداً من التوقف… 

هززت يدي في حركة شجاعة ، فلم تكن المرة الأولى التي سأرى فيها جناً أو شيطاناً فطفولتي مليئة بالأحداث المماثلة ، لكنها لم تكن بهذه الدرجة المباشرة , ففي سن الثانية عشر اكتشفت أمي في أحد الأيام أنني أخرج كثيراً في منتصف الليل ، لحقت بي لتجدني ألعب لوحدي في المقبرة القريبة للكنيسة , حينما سألتني أخبرتها أنني ألعب الغميضة مع صديق لي ، للأسف اختفى منذ ذاك الحين فقد كان روحاً طيبة قتل مشنوقاً على يد أمه … ومنذ تلك الحادثة وأمي تحرسني جيداً ، فقد علمت وعائلتها أنني ورثث شيئاً من عالم آخر .. شيئاً أو صفة أو كما وصفوها لي علامةً و رمزاً ملعوناً في أرض الأحياء .

لذلك يلاحقني الأموات وأرواحهم ، فقد وجب أن أموت منذ زمنٍ بعيدٍ جداً ، لكنني نجوت جسدياً ، أما روحي فلعلها قابعة هناك مع الأموات تريد مني أن أرافقها إلى أرض العالم الآخر…

لنعد إلى المخلوقة الشيطانية الجالسة أمامي ، مخفية عني وجهها , كنت أقول أني رفعت يدي وأبعدت شعرها الأسود خلف أذنيها الباردتين , لأكتشف أنني أعرف هذا الوجه , يا إلهي أعرفه جيداً , صرخت بكل فزع :
” جاااااااااين ” 
وتمتمت بأحرف متقطعة :
” اانت ا..اانت ..أنت هنا بالفعل ؟ جاين أهذه أنت ” 

فإذا بها تحني وجهها الملائكي الذي ختم على جبينه نفس شكل النجمة الخماسية الخاصة بي نحو الأسفل ، وهزت رأسها مراراً وتكراراً مؤكدةً لي بأن الأمسية اللعينة ما تزداد سوى غرابة وشراً وغموضاً ، علمت أنه ستنتهي على نحو أسوأ مما حدث حتى الآن , لم أستطع التحكم بجسدي الذي ارتمى في عناق نحوها , عناق شديد وحضن دافئ أخفى برودة جسدها , لم أكن أنا من يتحكم في تصرفاتي ، لم أكن أنا من يعانق ويحضن ويرتمي ويفحص جسمها ، ويمسك يديها ويقبلها على خدها ، ويعاود العناق في لهفة وشوق شديد , لعلها روحي رجعت أخيراً إلى موضعها واشتاقت إلى حبيبها المنسي ..

– جاين أخبريني لماذا جئتِ إلى هنا ؟ تركتك وأمي ، غارقةً في قعر البحيرة المشؤومة في ذلك الصيف اللعين , لماذا عدتِ ؟ لماذا ؟ أنت من فعل بي كل هذا ؟ أنت من لحقت بي طوال هذه السنوات ، جاين تكلمي قولي لي , أفصحي لي عما يحدث هنا بالضبط أرجووكِ أرجوكِ جاين …

وبينما كنت أحرك جسدها الخفيف وأدفعه ممسكاً بذارعيها النحيلتين , دخلت أمي الغرفة حاملةً معها سكيناً وطرف من ثوب أزرق … صرخت في وجهها :
– أمي ماذا تفعلين إنها جاين , إنها جاين لقد عادت ألا تتذكرين ؟ أمي !

نظرت لعينيها كانتا تغليان في احمرار شديد وكأنها سفاحة تريد إنهاء ما بدأته عند طرف البحيرة ، لمَّا أنقدتني حين انقلب بي وأمي و حبيبتي جاين المركب الصغير ، وغرق وغرقت معه أميرة شبابي , كنا في السابعة عشر من العمر , حذرتها أمي مراراً وتكراراً من مرافقتي ، مخبرةً إياها أن في ذلك خطر على سلامتها وسلامتي ، فهناك من يترصدني من عالم آخر … كل اللواتي خرجت معهن كنَّ يخفن مني مع أنني شاب وسيم وعادي كباقي الشباب ، لكن ما يروى عني في ظهري كان شديد الشر و بائس الأحداث … 

فمرةً هناك في موقف السيارات الخاص بالثانوية كنا شلة من الأصدقاء ندخن الحشيش ، فجاء متنمر من طائفة معادية للأعراق و متعصبة للجنس الروسي فقط , هرب كل أصدقائي وبقيت أنا وجاين في وسط أكثر من عشرين شاباً و شابة حاملين العصي والمسدسات , كانت أول مرة ترى فيها جين قلادتي حينما أخرجتها وسمعتني أردد تلك الكلمة الشقية , رددتها معي ، كانت تظن أني أمزح معهم أو أتكلم بلغة روسية لعلهم يفهمون الموقف ويستوعبون أننا مجرد شبان طائشين يدخنون الممنوعات ويسمعون أغانٍ معادية للمعتقدات ليل نهار فيخلوا بذلك سبيلنا .

لكن ما حدث أذهلها ، فقد أجبر الشبان بدون لمس أحد مرئي لهم على السجود لنا ، وقتل كل منهم الآخر مطلقين رصاصات نحو بعضهم البعض حتى بقي آخر واحد منهم ، رفع يده اليسرى نحوي وقال لي مودعاً الحياة :
– لا تراهم إنهم في كل مكان ، ابتعد ابتعد ابتعد ..
ولفظ آخر كلماته والدم يخرج من فمه وهو يبكي ويشر إلي بكلتا يديه طالباً مني العفو والمغفرة .

حسب كل سكان البلدة أنه كان انتحار جماعي ، خصوصاً بعد مراجعة التسجيلات المصورة بكاميرات الثانوية , لكن الشرطة لم تستوعب إيحاءات الشاب الأخير الذي يسمي نفسه ” جورج الأشقر ” اسم عنصري يدل على معاداته باقي الأجناس … 

على كل حال أعجبت بي جاين ووقعت في غرامي ، وكنت أخبرها عن أسرار عائلة أمي وتاريخهم و حجم كتب أنواع السحر خصوصاً الأسود المخباة في درج الكنسية السفلي … وفي أحد أيام الصيف اخترنا الاستجمام و الذهاب في مخيم صيفي بهيج ببلدة فلورانسا الإيطالية , لنحتفل فيه بتخرجنا من الثانوية واستعداداً لبدء المرحلة الجامعية معاً … ذهبت وجااين رفقة أمي منفصلين بذلك عن بعثة المخيم إلى بحيرة قريبة من المدينة الإيطالية , واستأجرنا قارباً صغيراً لكي نشاهد المناظر الخلابة والرائعة معاً , كانت أول مرة أمسك بيدي جاين وأعناقها وأقبل خديها بلامبالاة بجانب أمي .

توغلنا في البحيرة وازداد جمال الطبيعة ونحن نجدف لوحدنا في هدوء يطمئن القلب و يفتحه عن معنى الحياة وقيمة الحب , تلاشت كل الأحداث الشريرة والغامضة ودفنت كل مخاوفي من المجهول , توضحت لي الرؤية أخيراً , فأبصرت وسمعت صوت الطيور الجميلة والعصافير المغردة ونباتات الغابة تنشر الاخضرار والصفاء ، و ما هي إلا ثوانٍ حتى سقط غراب ملعون ميت في القارب كتب على جسده بمادة تشبه الدماء ” الموت” ، هلعنا و فهمت أمي ما يجري ، فقد أمضت حياتها في ما تصفه بالترهات , ويا أمي إنها نفس الترهات التي دمرت حياتي وأخدت محبوبتي حتى أصبحت أكرهها وأكره الاستخفاف بالأشياء وإهمال تلك العلامات ، بينما اعتبرتها مجرد تفاهات … 

أشارت لنا أمي لنعود أدراجنا ونحافظ على هدوءنا لأن لا شيء يدعو للقلق و الخوف , كانت قيادة القارب الصغير سهلة جداً ولا تحتاج لربان يقودنا , ما علينا سوى التجديف بأرجلنا كاننا نقود دراجة هوائية في الاتجاه الذي نريد ..
و بينما نحن في طريق العودة و كنا قد اقتربنا من سطح التربة والخروج من عمق البحيرة, ظهرت من العدم صخرة متوسطة الحجم ، ارتطمنا بها وانقلب القارب رأساً على عقب ومعه انقلبت حياتي ومستقبلي وشخصيتي و كل ما عرفته وآمنت به وأحببته تغير في لمح بصر ..

سقطنا في الماء بشكل عادي ، كنا نعرف السباحة ونتقنها لأننا ننحدر من منطقة روسية ساحلية معروفة بجودة شواطئها ، إذ أن السباحة في بحيرة ثابثة مياهها كان أمراً سهلاً علينا , لدرجة ضحكنا وسخريتنا من الموقف لما سقطنا من القارب حيث أتذكر أن جاين صاحت لي ” هيا نتسابق عائدين ” فضحكنا وأمي , وقبلنا التحدي .

ونحن نسبح في هدوء سمعنا جاين خلفنا تصرخ وتطلب النجدة ، التفتنا لنجدها تغرق وتشير لنا أن أحداً ما يسحبها للأسفل , كان عامل القوارب بجانبنا وعدة قوارب أخرى قادمة نحونا ، فقد شاهدت انقلاب قاربنا وأسرعت لنجدتنا , أمسكت وعامل القوارب بجاين وحاولنا سحبها للأعلى رافعين بذلك يديها وكتفيها لكن شيئاً ما لم نستطع رؤيته ظل يحسبها للأسفل بقوة عنيفة وهي تطلب منه أن يفلتها , كانت تتحدث إليه بكل طلاقة ولغة مفهومة كأنها لا تخافه بل وتواجهه ! مما استحال أن يكون سمكة ضخمة أو قرشاً أو أفعى عملاقة لكونها مجرد بحيرة سياحية … 

حاولنا أن نخرجها مراراً وتكراراً ، استغرق الأمر ثلاثة دقائق أو أكثر من المحاولات التي باءت كلها بالفشل ، نزلت مراراً تحت الماء ظاناً أنها سمكة مزعجة أو شيء من هذا القبيل ، لكنني لم أستطع إيجاد شيء , أمسكت رجليها وفحصتهما كليهما فكان كل شيء عادياً كانها تتظاهر بالغرق وتريد إفزاعنا لا غير , صعدت للمرة الأخيرة وأتذكر أنها قالت لي ” أنا لك للأبد , وداعاً ” .. وتركت ذلك الشيء اللعين يسحبها بدون مقاومة ويسحب معه قلبي ومشاعري ويغرقها ويغرق في بحر من الدماء إحساسي وحياتي وروحي … 

غرقت جاين حبيبتي غرقت للأبد , أما مسؤول القوارب فأخبرني أنه رأى شيئاً غريباً في آخر محاولاتنا لسحبها , قال أنه كان ذو هيئة بشرية محضة , للأسف انتحر الأخير بعد حوالي شهرين من الحادثة مغرقاً نفسه في نفس البحيرة … كان حدثاً هز أوساط الإعلام ، فوصفه ببحيرة الشؤم والخوارق ، أما أنا فقد فقدت وعي لما سحبت جاين بقوة شديدة وتركت يدي غصباً عنها و لم تخرجني من الماء سوى أمي التي كانت تراقب الحادثة من قريب وتبكي كأنها تعلم شيئاً نجهله , ولم تحاول المساعدة ولو بالقليل …

كان أسوأ صيف على الإطلاق وأسوأ ذكرى استغرق تجاوزها لا نسيانها حوالي عام من الزمن ، وسبعة أخصاء نفسايين عالجوني بالتناوب لأن حالتي كانت متأزمة بشكل كبير… أما جاين فقد وجدت جثتها ولم ظهر في التشريح أية أعراض للسحب أو آثار عنف مسلط عليها , أغلق الملف تحت فكرة حادثة غرق واختناق عادي لمراهقة , أما الحقيقة فكانت شيئاً مجهولاً لم يستطع أحد اكتشافه أو بلوغ درجات فهمه … ودفنت في المقبرة القريبة والتابعة لكنيسة ” روح المجد ” أو كما أسميتها ” الروح الذابلة “

**      **

و بعد أن فهمتم طبيعة علاقتي بجاين , أصبحتم على استعدادٍ للفهم أكثر وضوحاً لما حدث في ليلة الشؤم تلك , كنت أسرد كيف دخلت أمي تفور غضباً , حاملةً معها سكيناً حادة و قطعة من قماش أزرق , تقدمت من الخلف وأنا أصرخ معانقاً “جاين” :

– أمي ماذا تفعلين , توقفي عندك توقفي … ” لم تكن تصغي إلي ، بدا جلياً أنها تنوي القيام بجريمة فظيعة لن نشهد عليها سوى أنا و جاين .
تقدمت نحونا , وأما جاين المسكينة ولا أعلم لمَ أقول عنها مسكينة وهي شبح لا غير , إلا أنها منذ أن عانقتني وهي تمسك بي كما يمسك الصغير بأصابع أمه عند الولادة , نهضت عن الأرض وكنت لاأزال أمسك نجمتي وقلادتي السحرية في يدي , أشرت بها لأمي وقلت لها  : 

” أمي هذا أنا , ابنك إيفان , ألا تتذكرين ؟ أفيقي أرجوك ، هذا أنا ” … لم تظهر أمي أي تفاعل معي ولا مع كلماتي الراجية منها التوقف و عدم التهور , فجأة ضرب برق ورعد شديد مرفوق برياح تسربت من النافدة المكسورة ومع كل خطوة تقدم عليها أمي نحوي وجاين يزداد التوتر و تهيج الأعصاب و تحير العقول باحثةً عن حل ، وقبل الحل على الأقل فهم ما يحدث بالضبط !

لايزال كل شيء غامض ، من المنطقي أن تغضب أمي ربما لكنني أعرفها , رغم أننا أخفينا عن بعضنا البعض رؤيتنا للأشباح وكل أحداث ما وراء الطبيعة إلا أنه اليوم واللية المناسبة لنصارح فيها أنفسنا و تنهي فيها أمي كل التشويش والالتباس الذي يحدث في حياتي ، فقد اكتفيت الغموض والأحداث المظلمة وحان الأوان كي تظهر حقيقة ما يحدث لي وعائلتي , اكتفيت وضقت ذرعاً من كل تلك الأشياء الشيطانية التي كانت تراقبني و تختبئ مني و تسبب لي المعاناة والنفور من أصدقائي وتأخد مني أحبائي وأهمهم حبيبتي التي أغرقتها أسرار متأكد أن أمي أخفتها عني …

رفعت السكين عالياً وطعنت به الثوب مرددة طلاسم و تعويذات جهنمية سببت في إسقاط جاين أرضاً فغابت عن وعيها نهائياً , بعد ذلك أخذتني أمي من يدي وأشارت بعينها إلى السرير الذي كان لايزال معلقاً مع الجدار إثر الرياح القوية التي خربت معظم كتبي و أوراقي وأغراضي الشخصية, أجلستني عليه وبدأت تحكي لي وتبكي بكاءً شديداً وتردد :

– لقد أخطأت سامحني , سامحني , أنا المذنبة , أرجوك سامحني يا ابني , أنا من سبب لك تسعة عشر سنة من العذاب الذي مررت به , أنا السبب و لكني أعدك كل ذلك سينتهي اليوم , الليلة و تحت القمر المكتمل سينتهي أخيراً كل هذا العذاب والعناء و الجحيم , صدقني يا عزيزي …

رفعت يدها عن خدي وسألتها :

– أأنت يا أمي من سبب في قتل جاين ؟ قولي الحق ولو مرة في حياتك المليئة بالكذب علي , وعدتني مراراً أن كل هذا سينتهي ، أنك ستحرقين تلك الكتب اللعينة و ستكتفين بتريبة أبناءك بعيداً عن ماضي عائلتك الأسود 

وصرخت في وجهها بكل غضب وأنا أناجيها أن تقول الحق :
– أرجووك ، هل أنت من قتلها ؟ أجيبي يا أمي أجيبي !

مسحت دموعها و بعد لحظات من التأمل في عيني ,أجابتني بنبرة صريحة تخلصني بها من شكي واضطرابي الأزلي :

– لن تفهم أبداً , جدتك أي أمي كانت من كبار السارحات في روسيا , عرفت في كل بقاع الأرض بتلك الكلمة التي أمرتك بأن ترددها , كان ذاك اسمها الحقيقي , عاشت حياة مذنبة مع الله ومع العباد , مارست كل أنواع الشعودة و السحر ,صالت مشارق الأرض وجالت مغاربها , تفوقت على كل ساحر مارد وكل ساحرة شمطاء , إلى أن وصلت إلى قبائل أفريقية عرفوا في تلك الحقبة الغابرة بـ ” الفودو ” للمارستهم لذاك السحر المظلم والشرير ..

كنت في سن العشرين آنذاك لما عادت للكنسية بعد حوالي ثلاتة أعوام من التجوال , رجعت في حالة مزرية حاملة بيدها رضيعاً في بطانية سوداء أعطته لي ، قبلتني وراحت كالعادة في سبيلها , وجدت ورقة ملفوفة تحت ظهره كتب عليها ” لا تخافي , سأحميه بنفسي ” كانت تلك رسالتها لك ولي و كنت أنت الرضيع يا بني ، لذلك لست أشقر مثلي ولستُ سوداء الشعر وسمراء البدن مثلك يا طفلي .

لطالما أحببتك وكذلك أخوالك وخالاتك ، لربما كرهك بعضهم حينما جاءت السيدة ” كاثرين مونيفيس ” الفرنسية الأصول لزيارتنا وتحمل معها أخبار وفاة أمنا ، فقد كانت صديقتها و مؤازرتها في تلك الرحلة الطويلة , بحيث وصفت لنا كيف ضحت والدتنا بنفسها فداءً لتكتشف عالم الفودو الروحي وتصبح من كبار الأرواح الحامية لسمائنا , وأكدت علينا أن نهتم بك وننجيك ونطعمك ونؤويك ونعاملك كأخ وطفل وفرد متأصل ومنحدر من عائلتنا , فقد كنت هدية الأرواح لجدتك و مكافأة لها على تضحيتها و درجة علمها و يقينها و تنبؤاتها في عالم السحر والشعودة .. حملت بك وأنجبتك من دون علاقة جسدية أو بشرية ، كنت بالفعل مولود الأرواح السوداء” … لذلك يا بني لم أكن أنا مصدر الأحداث الغريبة و البؤس والاضطراب الذي نشأت فيه أنه القدر لا غير , لكنني سأعوضك يا حبيبي ، أعدك الليلة سأعوضك …

لم أستطع أن أوقف دموعي عن الهطول كقطرات مطر غزير , وشتاء قاحل و صحراء ذهبت رمالها واكتشفت أن باطنها تربة منحلة وسخة لا غير ، فحزنت على مدى الكذب والنفاق اللذان عاشت وعانت بسببهما…عانقت أمي في شغف وفخر بما قدمته لي وسألتها و أنا أبكي في حضنها وحتى إن تغير الزمن والهيئة فأنا لازلت نفس الطفل الدي يعود لحضنها باكياً حينما يسخر مني أحدهم في الشارع أو يصفني بالشيطان الملعون :

– أمي أرجوك أخبريني من أغرق جاين في البحيرة ؟ أكنت أنت أم جدتي ؟ 

أنزلت يدها عن كتفي وأبعدتني عن حضنها وقالت ممسكة ومداعبة وجنتاي وجوف عينيها يغزر دموعاً : 

– صغيري , لطالما أحببت جاين , راقبتكما طوال الوقت , سمحت لها بالدخول لحياتك وحياتنا , لطالما كان مرحب بها , ذكرتماني بقصتي وأباك , حبكما خالص ونقي كقلبيكما , لكن الأمور تدهورت بعد حادث الثانوية ذاك , علمت جاين أكثر مما كان يجب أن تعلم , فعقدت و العائلة اجتماعاً روحياً اتصلنا فيه بجدتك , أخبرتنا أنها ستقتل جاين ، فسرك يجب أن يبقى خفياً وأن لا يعلم به أحد من الأحياء وإلا قد تقتل أو يعاقبوك بالشنق أو الحرق نتيجة لما فعلته جدتك أي أمك الحقيقية من أفعال شنيعة في معظم الأوطان ..

فإسمها ظل ملعوناً وملاحقاً , و إن نطقت به جاين أمام أحدهم قد تفضح قصتنا و نذهب كلنا ضحايا ماضٍ مشؤوم و مسود , لذلك ارتأينا أن نخلصك منها ومن شر ما قد ينتج عن علاقتكما ، فقد تتعذب هي الأخرى وتلاحق من السحرة الذين يريدون الانتقام منك و من جدتك , لم تمتلك جاين نجمة مثلك ولا حصانة وحماية روحية كتلك التي خصصناها لك كي تشعر بالأمان , أنا آسفة يا عزيزي لكن و في بعض الأحيان على المرء أن يتعلم كيف يضحي و يتنازل من أجل النجاة , أنا آسفة لكنني حدثتك بالحقيقة و سنجد حلاً أعدك يا صغيري .

وقعت كلمات أمي كالصاعفة في نفسي ، فأخيراً أخيراً فهمت وقارئي ماهية ومصدر وطبيعة ما يحدث لي ، سالت أمي عن قصة الثوب و السكين وهل قتلت جاين مجدداً ؟
فأجابتني ممسكة يداي و مطمئنة لي : 

– جاين نائمة لا غير 

أخرجت قطعة الثوب من خلفها وأتممت :

– إنها قطعة من قماش جميل كانت جاين تحلم بارتدائه يوم زفافكما , خبأته طوال سنين عمرها فقد كان هدية من أمها الراحلة , تعلم أن جاين عاشت مع أبيها في ذلك المنزل الكبير , لذلك اعتبرتني أمها وأطلعتني على أسرارها وأنا أيضاً أطلعتها على مدى حبك لها وعن عشقك اللامتناهي نحوها … 

يوم جنازتها أخبرت أباها أنك خجلت من أن تطلب ثوب زفافها كعربون صداقة وذكرى أيام وحب لا ينسى , فقبل الرجل الطيب منحي الثوب بشرط أن أحسن الحفاظ عليه … قطعت بكل عناية هذه القطعة بشكل غير واضح و أخفيت القصة عليك يا بني , أنا آسفة كان ذلك لحمايتك ، فعلمت أن حبها لك قوي وستعود لتأخدك مني … آسفة على إخفائي كل هذا وأكثر عنك يا صغيري ، لكنني سأعيد لك محبوبتك وسأنهي كل هذا العناء وكل الغموض والذكريات الشريرة والحزينة ..

لم أصدق أن تلك المرأة البسيطة و الودودة والطيبة قد تخفي بكل إتقان هذا الحجم الكبير من الأسرار والكم الهائل من الأحداث والأحزان ، لم أشاء أن أزيد الطين بلة وأعاتبها عن أفعالها فهذا ليس وقت العتاب خصوصاً وقد أفاقت ” جاين” واستعادت وعيها ، وكم حلمت وترجيت أن تستعيد معه نبضات قلبها النقي والحنون … أفاقت “جاين ” مذعورة وخائفة ، فرغم أنها مجرد شبح لشخص ميت إلا أنها لم تفقد نفس العطف والحنان والسلام الذي كانت عليه فوق الأرض الفانية .

أخبرنا جاين أننا معها ، وأن امي ستساعدنا في استعادة حياتنا وقصتنا الجميلة كما كانت ، وأن كل شيء سيعود إلى طبيعته , فرحت جاين واطمئنت ولو أن الأمر بدا غريباً في الواقع ، فليس دائماً ما نتجول في البيت رفقت الأشباح خصوصاً أشباح أولائك الذين أحببناهم وأمضينا أجمل اللحظات برفقتهم … ونحن نازلين من الغرفة نحو قبو الكنيسة لإقامة طقوس لا تعلم بأمرها و طبيعتها سوى أمي , 

سألت جاين عن الحياة بعد الموت وكيف هي الأشياء هناك ، وهل من وجود جنة و جحيم , فأجابتني أنها لم تصل لتلك المرحلة الشبحية بعد , فهناك درجات ومع كل درجة يتطور الشبح وتتطور مداركه كالحياة تماماً ، بعد كل سنة ينضج المرء و يوسع أفكاره ومعلوماته , إلا أنها تقضي معظم نهارها في التجوال عبر القارات والكواكب التي لم تجد بعد حياة متطورة على اي منها ، لكنها اكتشفت حياة بكتيرية بدائية في معظمها , أما على الأرض فأحبت مساعدة الناس وأحياناً تخويفهم واللعب معهم من خلال لمس أجسادهم فيشعرون بالحكة تارة وبالقشعريرة تارةً أخرى ، وأخبرتني أن أعظم ما تعشق فعله هو مداعبة الرضيع في أشهره الأولى لأنه يكون لايزال يرى بدون حجاب عوالم الكون ومخلوقاته الأخرى ، فيتفاعل كشخص مرئي معها ويذكِّرها بلحظات عمرها المنتهي سلفاً .

كما تعشق أن تتحول عند منتصف الليل لهرة تراقبتي و أنا أنام من نافذتي المكسورة , حين أفصحت لي عن هذا الجزء تحديداً حاولت تقبيلها لكن وجهي اخترق وجهها الصغير الشفاف ، فضحكنا ، إلا أن أمي أمرتنا بالتزام الصمت لأن أبي وأخي ينامان …

يتبـــــع …

 

تاريخ النشر : 2017-08-16

guest
9 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى