أدب الرعب والعام

قصة حب

بقلم : أبو الحسن ماجد – العراق

كل وقتها كان للقراءة .. كانت تبدو أنها ليست من هذا الزمن

منذ أن كان عمرها خمسة عشر سنة كانت تأتي لهذه المكتبة القديمة مواظبة على شراء الكتب ، إنها هيلين .. هي الآن تبلغ الخامسة والعشرين ، لم تتزوج بعد ولم تعشق أحد ،
حياتها ضيقة جداً مثل غرفتها الصغيرة المليئة بالكتب المنتشرة على سريرها وعلى الطاولة وحتى داخل خزانة الملابس الخالية من الملابس ! 

حياتها روتين مكرر من منزلها إلى مكان عملها في دائرة البريد ، لم تكترث لأمر الملابس أو أي شيء عصري ، لقد كان كل وقتها للقراءة ، كانت تبدو أنها ليست من هذا الزمن .

يرن صوت المنبه ، إنها الساعة السابعة صباحاً ، حان موعد الدوام .. تنهض من السرير وتزيح الكتب عن جسدها الناعم ، تجلس لبرهة على حافة السرير تطفيء المنبهه .
تتوجه نحو خزانة ملابسها تفتحها فتجد الملابس المبعثرة بأكوام دون ترتيب ، تأخذ ملابس عملها الغير مرتبة وتتوجه نحو المغسلة تغسل وجهها الوردي وتنظر في المرآة التي لا يُرى فيها شيء لكثرة الغبار عليها ، وهي صغيرة بحجم الوجه .

تأخذ بيدها رشفة ماء وتضعها على شعرها البني وترتدي نظارتها الطبية التي تخفي جمال عينيها الصفراوتان .

منذ خمس سنوات في كل يوم تقف على رصيف ركن الشارع العام بجانب إشارة المرور ، وكان على الرصيف المقابل لها رجل كبير صاحب عربة يبيع بها الساندويتش ، ويقع خلفه البحر حيث أصوات البواخر والنوارس وأمواج البحر ..

يصل الباص تصعد هيلين وتجلس على أول كرسي بجنب الباب ، تصل إلى دائرتها وتدخل الغرفة ، تضع الأوراق التي كانت تحملها على سطح مكتبها بجانب الكمبيوتر وبعد مدة عمل كانت هيلين منهكة عندما سمعت أصوات طرق خفيف على مكتبها ، ترفع رأسها بهدوء تشاهد المدير واقفاً مبتسماً وكان يضع يديه خلفه ، كان يخبيء شيء ما .. و ها هو يظهره .
إنها جائزة القلم الذهبي لأفضل موظف مع مبلغ مالي ، تنهض هيلين من مكانها مع تصفيق جميع الموظفين والمدير وتستلم جائزتها التقديرية ، و لازال الموظفون يصفقون بحرارة لهذه الموظفة ..

تدخل بيتها عائدةً من الدائرة ، تضع جائزتها بجانب الجوائز الأخرى – لم تكن هذه المرة الأولى لها – وتلقي نفسها الحريرية على أريكتها وتأخذ كتاب وتبدأ تقرأ .. أنها الهواية الأروع والأفضل .

يرن صوت الهاتف وترفعه ، إنه أحد أصحاب المكتبات يخبرها بوصول الكتاب الذي طلبته منذ مدة مضت ..
صار العصر الآن ، تأخذ المبلغ الذي أعطاها إياه المدير وتتجه نحو السوق حيث المكتبة القديمة ، و ها هي تدخل السوق الذي لا ترى فيه أي محل سوى المكتبة .. كل شيء مظلم في السوق إلا المكتبات ، كل محلات الملابس والاكسسوارات والماكياج ممحية من قاموسها .
تأخذ حبيبها الكتاب من صاحب المكتبة وترجع لمنزلها ، كانت زبونة جيدة و رائعة .

كان الطقس بارداً هذا اليوم جداً ، وكان صباحاً ثلجياً والسرير دافىء والغرفة مظلمة بهدوء البرد ، ولكنها الساعة السابعة .. العالم كله سيتحرك للعمل والعلم .
تقوم وتنحِّي البطانية وتظهر ساقيها اللماعتين الدافئتين وتضعهما على الأرض وتقوم من سباتها ، تخلع قميص نومها الأبيض من جسمها وترتدي كسجيتها اليومية ، و ها هي تخرج والبرد يكاد يجمد كل شيء متحرك ، إنه يوم مختلف عن كل يوم ، هكذا أحست هيلين .. تقف في الركن جنب إشارة المرور تنتظر الباص ولكنه تأخر قليلاً ، و لاتزال تقف وهي تحتضن نفسها من الرد وفجأة يهب عليها هواء من ناحية البحر من خلف صاحب عربة الساندويتش فتنظر إلى تلك الناحية .

تصطدم عينيها الصفراوتين بعيون زرقاوتين براقتين ، إنه رجل جميل وسيم جداً جالس على أريكة خشبية بجانب صاحب العربة دون حراك ، وهو يطالع هيلين بنظرات عاشق متيم ، لم تهتم هيلين لأمر هذا الرجل بعد أن وقف الباص أمامها وحال بينها وبينه ..
لقد كان هذا اليوم منذ بدايته مختلفاً

تصل هيلين إلى دائرتها وتبدأ العمل ، وبعد ساعة رفعت رأسها من التعب فنظرت من النافذة نحو السماء ، وقد كانت صافيةً زرقاء ، فتذكرت تلك العيون الزرقاء .. لقد أصبح كل شيء أزرق له ارتباط بذاكرتها ، و ما إن تذكرته حتى شغلها .. لقد مر بخيالها برهه شغلها يوماً كاملاً فتقاعست عن أداء عملها لهذا اليوم ، لذلك أجلته ليوم غد .

والآن صباح يومٍ جديدٍ ، هيلين تصل إلى مكان وقوفها عند إشارة المرور التي ستكون شاهدةً على انتهاء حياة وبدء حياة ..

لقد جاء ذلك الرجل الوسيم مرتدياً اللباس الأسود الكامل ، وجلس على الأريكة وبدأ ينظر نحو هيلين وكأنه يعرفها ، وتزداد هيلين غرقاً بعينيه وتكثر أحلامها وتتولد أوهامها ، هذه المرة لم تتجاهله ، بل بدأت تسأل نفسها .. لماذا ينظر إلي ؟ ومن هذا الرجل و ماذا يريد ؟

لقد اصبحت تتصرف دون إرادتها ، فهذه الأسئلة هي تحقيق الحب مع القلب ، ولابد للحب أن يتنزع الاعتراف من القلب شاء أم أبى ذلك .

تصعد هديل الباص وهي تحس أنه لايزال يطالعها ، نعم بدأت تحس وهذه مرحلة من مراحل الحب الذي يرميها بالقلب قبل أن يأت بصورته المزلزلة والواضحة

تصل إلى مكان عملها بكسل ، تجلس على كريسها أمام مكتبها وتبدأ تسرح وتلعب بالأشياء التي تمسكها بشرود ، لقد أصبحت تشعر أن الوقت بدأ يتباطأ وهذه من ويلات الحب ، حيث يشعر المحب بطول الوقت إذا كان بعيداً عما يحب ، ويصبح الوقت أسرع حينما يكون بجنب الحبيب ..

يمر شهر كامل على هذه الحالة ..

كانت هيلين واقفة بغرفتها تطالع أرجاءها المبعثرة والمتسخة ، وتتوجه نحو المرآة الصغيرة وتنظر ، لا ترى وجهها فتمسح المرآة بيدها فتتناثر حبات الغبار الذهبية فوق الكتب بعد أن كانت تستوطن المرآة الفضية ، فبدأت أشياء تلمع لم تكن لها وجدود وبدأت أشياء تنزوي بعيداً ..

إنه يوم الجمعة ، تقوم هيلين من مكانها وتتوجه نحو السوق ، لقد بدأت تشتري الفساتين والاكسسوارات والماكياج وتلبس الملابس الجذابة ، تصل إلى غرفتها المرتبة الجميلة والزاهية ، تتوجه نحو خزانة الملابس تفتحها وكانت مرتبة بروعهة ومعلق بها أرقى الفساتين والبدلات ، فتضيف لها الملابس الجديدة ، بعدها تأخذ حذاءها القديم وتتوجه إلى السطح هنالك حيث غرفة المخزن القديم ، تفتحها وترمى حذاءها بجانب الأحذية القديمة والكتب .. نعم الكتب لم يعد لها ذكر أو وجود في الغرفة ، بل رميت بالمخزن بجانب الملابس و الأحذية القديمة .

إلى الآن لا تريد هيلين الاعتراف بأنها واقعة في الحب ، فبدأت التساؤلات بنفسها .. ما الذي فعل بي كل هذا ؟ هل هو ذلك الرجل ؟ لا لا لا أنا ….
لم تجد جواباً لنفسها
فتصعد بتخبط للمخزن وتجلب كتاباً لتقرأه محاولة الرجوع لوضعها الطبيعي ، ولكن لا فائدة ، فالحب قد تملكها .

في الصباح تدخل أشعة الشمس إلى الغرفة فينعكس ضوء المرآة على وجه هيلين ، تنهض من مكانها بسرعة وتتجه نحو خزانة ملابسها وتختار أجمل فستان وتقف أمام المرآة ولكنها ليست تلك الصغيرة بل هذه مرآة بحجم الجسم ، المرآة الصغيرة هناك في المخزن بجانب تلك الحياة القديمة التي تقبع فوق السطح ..

ترتدي الفستان تلو الآخر أمام المرآة ، وتبدأ بالنظر وأي واحد يظهرها أجمل ، وبعد أن ارتدت الفستان النيلي المذهب
توقفت وقالت .. لماذا أفعل هكذا ما الذي أصابني ؟!
وبعدها تسير لنفس المكان عند إشارة المرور ، لقد رأته ، إنه ذلك الرجل الوسيم وكانت نظراته أكثر حناناً وغراماً بعد أن تجملت هيلين .

وقد جاء الباص .. تصعد هيلين ، لم تجلس بالكرسي التي تجلس به كل يوم بل جلست بصف الكراسي المقابل بجانب النافذة ، وبدأت تطالع الرجل الوسيم ، عندها اعترفت بحبها وعلمت أنها مهما ستكابر لن تؤذي أحداً غيرها ، فقررت أن تذهب إليه وتصارحه بحبها مهما كلف الأمر .

تصل إلى مكان العمل ، تجلس كالعادة ولم تستطيع التركيز في العمل ، لقد بدأت مرحلة القلق قبل المصارحة ، وهذه من حلقات الحب الأكثر جنوناً لمن يعرف الحب .
بعد ساعه جاءها المدير ينذرها بأنها مقصرة عن العمل وسيتم فصلها إن بقيت على هذا الحال ، لكنها لم تهتم للمدير ، بل كل تفكيرها كان عند ذلك الرجل فقط .

اليوم الموعود إنه يوم المصارحة ..

نهضت من مكانها صباحاً وارتدت أجمل ما عندها بخوف وقلق شديدين ، وارتجاف باليدين والقدمين ، وخفقان حد الجنون للقلب ، وخمول العقل ونسيان الكلام ومرارة الفم ..
تتوجه نحو إشارة المرور وهي مطأطئةً رأسها إلى الأسفل خوفاً من رؤيته ، وها هي ترفع رأسها فلم تجد ذلك الرجل الوسيم موجوداً ، فتتعجب وتزداد تخبطاً ، فلم تطق صبراً ..

ولأول مرة تعبر الرصيف المقابل حيث صاحب العربة فتتوقف عنده وتسأله عن البواخر وعن السفن محاولةً التمهيد للسؤال عن ذلك الرجل الوسيم ، فكان صاحب العربة يجيبها على كل أسئلتها ، وبعدها سألته :

– يا عم ، هل تعرف الرجل الذي يجلس بجانبك هنا كل يوم
– أي رجل تقصدين ؟ فهم كثر
– الرجل صاحب العيون الزرقا…..
– أوه أتقصدين مارلو الرجل الوسيم 

وفجأة يقدم عليهم الرجل الوسيم ، إنه مارلو .. وأخيراً عرفت اسمه ولكن الأمر المروع أنه لم يطالعها برغم أنها كانت بجواره ! بل جلس على الأريكه التي يجلس عليه كل يوم وبدأ يطالع إشارة المرور ، بعدها تقدم نحو صاحب العربة الذي قال له :
– هل أنت جائع يا مارلو ؟ سأعطيك ساندويتش
– نعم أنا جائع فهم لا يعطونني

كل هذا حدث أمام أنظار هيلين التي كادت أن تموت ، فقال صاحب العربة :
– يا ابنتي هذا مارلو وهو مجنون.. قبل خمس سنوات كان يحب فتاة وقبل أن نذهب للحرب أنا وهو كان ينتظرها هنا بهذا المكان الذي يجلس فيه ليودعها ، فجاءته من ذلك المكان وتحديداً عند إشارة المرور تلك ، فسقط عليها صاروخ وقتلها ، فأصبح مارلو مجنون منذ تلك اللحظة ، كنت أنا صديقه ، التحقنا سوياً بالخدمة ورجعنا سوياً ، وبعد انتهاء الحرب بقيت أنا هنا أبيع وهو ينتظر حبيبته التي كان اسمها هيلين .

عندها جلست هيلين بجانبه على الأريكه وبدأت تطالع معه نحو إشارة المرور ، فنظرت بجنب الإشارة فتاة تطالع مارلو ، يبدو أنها وقعت بحبه منذ أيام ، فصعدت الباص ورحلت وجاءت أخرى و أيضاً يبدو أنها وقعت بحبه منذ أشهر ، لأن هيئتها تبدو أكثر جمالاً من الأولى .

عندها نهضت هيلين تاركةً مارلو يطالع الإشارة وتوجهت صوب البحر …

تاريخ النشر : 2017-09-03

guest
24 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى