أدب الرعب والعام

صراع العروش .. الجزء الرابع

بقلم : Samer Salah – here
 

صراع العروش .. الجزء الرابع
 أفاقت “نرمين” من غفوتها و علمت أن “القاهر” و “الحسام” وجهان لعملة واحدة

بعد أن غادر الملك “القاهر” الجناح الأميري تركت “نرمين” فراشها و نزلت إلى القسم الخلفي عند البحيرة و أثناء سيرها وجدت الحراس ينقلون جثث الخدم الذين لقوا حتفهم البارحة في زنازين القصر ، و هالها عدد القتلى، لقد قرأت في كتاب أن عددهم كان أقل بكثير مما تراه، لم تعلم هل كذب المؤرخون أم أن وجودها قد غير التاريخ و أحداثه!

لم يطل مقامها عند البحيرة فقد ساءها ما شاهدته فعادت إلى الجناح الأميري لتجد الملكة “مريان” تنتظرها:
ـ اجلسي أريد التحدث معك قليلاً
ـ أمرك يا مولاتي
ـ عندما كنت في مثلك سنك كانت والدتي تصر على تعليمي بنفسها رغم انشغالها بمشاكل البلاط الكثيرة.. و يؤسفني أن والدتك قد توفيت و لم تتمكن من القيام بذلك معك و لذلك عذرت جهلك عندما علمت ما حصل في الجناح الأميري البارحة.. و قررت بدل عقابك أن أجلس معك و أقوم خطأك إكراماً لخدماتك التي قدمتيها لي و لولدي “لقاهر”.

اسمعيني جيداً يحتاج الملك الآن إلى زوجة نبيلة من عائلة عريقة تسانده في ملكه و تقوي شوكة حكمه و تحميه من الدسائس و المؤمرات و أنت و إن كنت قد ساعدته فيما مضى و إن أحبك قلبه لا تتوفر فيك للأسف هذه الشروط الهامة التي بدونها لا يتم الزواج الملكي.. إن كانت مشاعرك نحو الملك قوية و حقيقية ستساعدينه على حماية عرشه و ستشجعينه على الزواج بمن تتوفر فيها الشروط ، سأدعمك كمحظية ملكية و سأحميك كذلك و ما دام قلب الملك في يدك فلا أهمية للزواج 

جرحت كلمات الملكة “مريان” مشاعر “نرمين” و لكنها حاولت استغلال موقفها فأجابتها :
ـ لا داعي للقلق يا مولاتي فأنا لن أقدم على تهديد مستقبل جلالة الملك حتى أنني فكرت في الرحيل عن القصر إن كان وجودي عقبة في طريق جلالته.. و كنت أتمنى أن تساعدني جلالة الملكة في ذلك
ـ أقدر خدماتك يا “زين الحسان” ليت كل الخدم كانوا بمثل ولائك

خرجت “نرمين” من عند الملكة “مريان” و تنوي هي الرحيل عن القصر بأي ثمن كان فقد ضاقت ذرعاً بما يحصل في كواليسه المظلمة ، و لكنها أحست و هي تسير في الرواق الشرقي المتواري عن الأنظار بمن يتبعها عن كثب. التفتت ورائها فلم تجد أحداً حثت الخطى مبتعدة و قبل أن تبلغ الجسر الصغير المعلق في الجانب الشرقي سحبتها يد قوية من وراء الشجيرات ، لقد كان رجلا مقنعاً يرتدي رداء و قلنسوة سوداوين :
ـ من أنت و ماذا تريد مني
قدم لها الرجل خاتم الملك “الحسام” :
ـ أنا من طرف الملك “الحسام” و قد أرسل معي رسالة لك إنه يقول : “لم يفت الأوان بعد لتثبتي له ولاءك و أنك لم تخونيه”
ـ ما الذي تقوله؟
ـ خذي.. (و سلمها قارورة صغيرة).. ضعي منها قطرات قليلة في ماء استحمام الـ “قاهر” إنها أوامر الملك “الحسام” إنه يطلب منك الثأر للملكة”صبح” لقد قتلت البارحة في زنزانتها
ـ هل توفيت الملكة “صبح”!
ـ لقد تم تسميمها من قبل أعوان “الولاس” (القاهر) و والدته “مريان”
و انسحب الرجل و كأنه قد تبخر في الهواء و بقيت “نرمين” تقلب القارورة الغامضة بين أصابعها.

** * **

خارج القصر، واصل النبلاء و الأثرياء ممن نجوا من انقلاب “ذئب القصر” تنفيذ خط الوزير “جلنار” و تأليب أتباعهم ضد الملك الجديد و نقل أخبار الملك الأسير و استدرار عطف العامة و زاد الطين بلة بوفاة الملكة “صبح” في السجن بعد فترة وجيزة من حبسها ، فبدأت العامة تنتفض خارج أسوار القصر و أعلنت بعض المقاطعات في المملكة عصيانها خاصة تلك المتاخمة للحدود و البعيدة عن العاصمة ، فأصبحت الأوضاع في القصر أكثرة حدة و فوضى ، و وجد الملك الجديد نفسه أمام خطر ثورة داخلية عاصفة فلجتمع بوالدته عله يجد عندها الحل .

ـ لقد نصحتك بقتلهم عندما سنحت لك الفرصة و لكن ترددك أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن
ـ كيف تفكرين يا أماه إن كانت تنحية “الحسام” عن العرش قد أحدثت كل هذه المشكلات فكيف بقتله.. لقد كنا على وشك إخماد غضب العامة لولا أن أمرت بقتل والدة “الحسام”
ـ أتلومني على رغبتي في حمايتك من دسائس “صبح”؟ إنها و شقيقها السبب في ثورة النبلاء و العامة و إن لم أقتلها لكانت أطاحت بك
ـ كل ما ألومك عليه هو تسرعك في القيام بذلك ، حياتهم الآن ضمان لنا و ورقة ضغط هامة
ـ لم يفت الأوان بعد على تدارك الأمر
ـ ماذا تعنين ؟
ـ لديك وسيلة للتغلب على “الحسام” إلى الأبد
ـ و ما هي؟
ـ تحالفات المصاهرة

ـ توقفي هذا الموضوع ليس مطروحاً للنقاش
ـ و لكنه أملك الوحيد لقد أجلته طويلاً متى تنوي إستخدامه؟ لقد كلفت نفسي بالتفاوض نيابة عنك مع كبير نبلاء المملكة “المهند” و قد وافق على التحالف معنا و مساعدتنا إن تزوجت ابنته الصغرى بل و قدم استعداده التام لتقديم المساعدات المالية و السياسية و من بينها السيطرة على نبلاء العاصمة و المناطق الكبرى شرط أن لا تتزوج مرة ثانية حتى تنجب ابنته وليا للعهد
ـ لن أستخدم زواجي في صفقات الحكم
ـ ليس أمامك غير هذه الخطوة لا تنسى بأنك ملك فتصرف بناء على ذلك و دع عنك تلك الأفكار الرقيقة التي ستودي بنا إلى الهلاك.. فكر بالأمر بعقلانية إن لم نضم النبلاء إلى صفنا فسوف يقضى علينا بالتأكيد
ـ قلت إنسي الموضوع .. ماذا عن دعم عسكري من جدي الملك؟
ـ أتريد إخضاع رعيتك بقوة السلاح و سلاح خارجي؟ هل تعتقد بأنهم سيذعنون لحكمك أم تظن بأن جدك الملك “بران” سيترك أعمال مملكته و يمنحك جيشه و عتاده لتفرض بها حكمك؟

** * **

رجع الملك “القاهر” إلى جناحه الملكي، و جلس يفكر فيما قالته له والدته ؛ لقد كان كلامها صائباً و لكنه لم يستطع تقبل ما تطلبه منه ليس بعد أن قطع وعود الزواج لـ “زين الحسان”. و لكنه لم يجد طريقة أخرى للخروج من هذا المأزق سوى ما اقترحته عليه والدته.

في هذه الأثناء كانت “نرمين” تحضر الحمام الملكي كما اعتادت منذ انتقلت رفقة الملك “القاهر” إلى الجناح الملكي.. و خطر على بالها ذلك الرجل الغريب و زجاجته الغامضة ، لم تتوقع يوماً أن يقوم “ذئب القصر” بقتل زوجة أبيه ظنت بأنه سيعفو عن الملك السابق و عائلته أو يسجنهم على الأقل أما القتل فلم تظن بأنه قادر على اجتراحه، لقد أصابتها الحيرة و لم تعد تعلم من المخطئ و من المصيب ، من المجرم و من البريء .

قبل “القاهر” فانحنت “نرمين”:
ـ لقد جهز حمامك يا جلالة الملك
اقترب منها الملك و ربت بيده على خدها:
ـ شكرا لك يا “زين” .. شكراً لوجودك بجانبي و مساعدتي
ـ العفو يا جلالة الملك

خرجت “نرمين” من الحمام الملكي و أغلقت الباب ورائها، و بدأ الملك يتجرد من ثيابه عندما داهمه رئيس حراس الجناح الملكي يجر في يده “زين الحسان” صارخاً :
ـ جلالة الملك تريث أرجوك مياه المغطس مسمومة
غطى “القاهر” جذعه العاري برداء الحمام صارخاً :
ـ ما الذي يحدث؟ من الذي سمم المياه ؟
ـ إنها خادمة الجناح الملكي (و رمى الحارس “نرمين” عند قدمي الملك)
ـ ما الذي تقوله أيها الضابط ؟
ـ لقد علمنا من عيوننا أن الخادمة الملكية قد التقت رسولاً من طرف الملك “الحسام” و قد سلمها قارورة سم و كلفها بتسميم مياه استحمام جلالتكم
ـ لا أصدق كلامك أين دليل إدعاءك
ـ الجاسوس الذي راقبها موجود هنا يا جلالة الملك و لديه الدليل القاطع
ـ أدخله إذاً 

لم تفهم “نرمين” ما يحدث حولها، لقد تخلصت من القارورة فور عودتها إلى مخدعها كيف علم الحراس بأمرها
دخل الجاسوس و انحنى قبالة الملك :
ـ هات ما عندك و لكن اعلم أنه إن كان ادعاءك كاذباً فسوف أقطع عنقك و عنق رئيس الحرس و كل من شارككما

ـ يا جلالة الملك لقد شاهدت رجلاً غامضاً يغطي رأسه بقلنسوة سوداء و يرتدي رداءً فاحماً في القسم الشرقي من القصر شككت في أمره فتبعته ، إختبأ وراء الشجيرات و بعد وقت قصيرة أقبلت الخادمة الملكية و تحدثا و سلمها قارورة صغيرة خبأتها في ثيابها و قد تمكنت من سماع نزر قليل من حديثهما لما زحفت نحو مكانهما و كانا يتهامسان حول اغتيال جلالتكم بتسميم مياه استحمامك بمحتوى القارورة ، و قد راقبت الخادمة الملكية بعد أن افترقا و لدي دليل تورطها

ـ و ما هو؟

ـ إنه خاتم الملك السابق “الحسام” أرسله كضمان لها و أخفته في خزانتها ، كما أنها قد خبأت قارورة السم في صندوق صغير دست مفتاحه بين ثيابها
لم تستطع “نرمين” نفي الأمر فكل ما قاله الجاسوس صحيح فقد خبأت الخاتم و القارورة و لكنها لم تسمم مياه المغطس كما يدعي.
قرر الملك التأكد من كلام الجاسوس بنفسه فرافق الحراس و الجاسوس إلى مخدع “نرمين” و وجد ما قاله عن القارورة و الخاتم صحيحاً ، و لكنه عجز عن تصديق أن “زين الحسان” قد تقدم على خيانته و التآمر مع “الحسام” ضده و تحاول قتله.
أسرعت “نرمين” إلى الملك تتوسله:
ـ إنها إدعاءات كاذبة
ـ و القارورة و خاتم “الحسام” كيف وصلا إلى مخدعك ؟
ـ قد أعطاني إياهما رجل غريب لا أعرفه و لكني لم أستعمل السم ، لقد خبأتهما خشية أن يستعملهما أحد كحجة ضدي يا جلالة الملك
صمت الملك فيما صرخ الضابط :
ـ و لماذا لم تخبري أحداً عن الرجل أو تسلمي القارورة و الخاتم لجلالة الملك ما دمت لستِ شريكة في المكيدة ؟

لم تجد “نرمين” ما تدافع به عن نفسها فقد كانت المؤامرة محاكة حولها بدقة
بينما أشاح الملك عنها و أمر الجنود بأخذها.
في جناح الملكة “مريان” تسلل الجاسوس في وقت متأخر إلى مخدع الملكة يطمئنها :
ـ لقد نجحت الخطة يا مولاتي و أمر جلالة الملك بحبس الخادمة الملكية
ـ جيد انصرف أنت

إبتسمت الملكة إبتسامة نصر و تمتمت:
ـ الآن سيفكر في اقتراحي بجدية .

رمى السجان “نرمين” في زنزانة و غادر و بقيت هي وحيدة في الظلام لا يؤنسها سوى ضوء القمر الخافت.
سرت في السجن أخبار الخادمة الملكية التي حاولت اغتيال الملك “القاهر” و وصلت إلى الملك السجين فسأل السجان المسؤول عنه:
ـ ما إسم الفتاة المتهمة بمحاولة قتل الملك؟
ـ تدعى “زين الحسان” و كانت الخادمة الملكية لجلالته.. حفرت قبرها بيديها رغم أن الملك كان يفضلها على جميع الخادمات و المرافقات و يثق بها ثقة عمياء إتق شر من أحسنت إليه
ـ هل نجت “زين” من الإبادة ؟ … تمتم “الحسام” ..

** * **

قرر الملك “القاهر” الموافقة على الزواج من إبنة كبير النبلاء و التحالف معه لإخماد الثورة في أرجاء المملكة ، كما أصدر قراراً بالعفو على أخيه “الحسام” و أخواته الأميرتين “نوران” و “نهوند” بعد تجريدهم من الألقاب الملكية و وضعهم تحت الإقامة الجبرية في أجنحتهم الأميرية.

أوفى كبير النبلاء بوعده و تدخل للسيطرة على النبلاء و جعلهم ينسحبون من تحالفهم مع الملك الأسير “الحسام” خاصة بعد أن نفي الوزير “جلنار” إلى ما وراء البحار و تفرق شمل رجاله ، فلم يبقَ لدى “القاهر” عذراً لتأجيل الزفاف الملكي.

بدأ التجهيز لزواج الملك فيما مازالت “نرمين” قابعة في سجنها فلا هي حوكمت و لا هي برئت و أطلق صراحها.
علم “الحسام” بأن “زين الحسان” قد سجنت بتهمة التآمر معه و بلغه أمر الخاتم و القارورة فأدرك بأن الأمر مكيدة لإتمام صفقة الزواج و لإخماد معارضة أتباعه في المملكة و عزم على تقويضها و خاصة عندما عرف ما يكنه أخوه “القاهر” من مشاعر نحو زين”، التي ستكون مفتاح استعادته لعرشه المسلوب. فطلب مقابلة الملك “القاهر”.

و بعد محاولات كثيرة وافق الملك على زيارة أخيه في جناحه :
ـ لقد ألححت في طلب مقابلتي فماذا تريد؟
ـ لقد مر وقت طويل منذ آخر لقاء بيننا ، كنت عندها ملكاً و أنت أمير هارب و الآن نتقابل ثانية و قد انقلب الحال.. غريبة هي أقدارنا يا جلالة الملك.
ـ ما الذي تريد قوله ليس لدي اليوم بطوله
ـ الصبر أهم مزايا الملك الجيد يا جلالة الملك .. أتذكر ما قلته لي يوم استوليت على عرشي؟
لقد قلت لي بأنه عندما يكون الملك فاقداً للأهلية يصبح الانقلاب عليه واجباً ، فما قولك في ملك ظالم ؟
ـ احذر أن تتجاوز حدودك في حديثك معك و انتقي كلماتك بعناية؟
ـ كيف تتوقع أن تقود المملكة بينما تعجز عن إختيار أفراد حاشيتك و ثقاتك ؟ كيف تدعي بأنك ملك فيما يقودك أتباعك بمؤامراتهم و يفرضون عليك قرارتهم ؟
ـ ما الذي تعنيه ؟
ـ المؤامرة التي جعلتك تقبل الزواج من إبنة كبير النبلاء
ـ توقف عن إلقاء الألغاز و تحدث مباشرة
ـ لقد أوهمك أتباعك بأنني قد كلفت خادمتك بقتلك حتى تنفذ ما يريدون ، و الحقيقة أنني و الخادمة بريئين من تلك التهمة
ـ هل تظن بأني سأصدقك إدعاءك هذا ؟ مؤامرتك ساذجة جدا يا أخي الأكبر.. لا تليق بذكائك .. هل تظن بأن محاولتك هذه ستدفعني إلى إلغاء الزواج و خسارة دعم النبلاء و منحك فرصة للملمة شتات حلفائك من جديد؟ احذر أيها “الحسام” فعودتك للعمل السياسي تمنحني الحق في قتلك.

ـ معك حق يا جلالة الملك إن كنت في مكانك ما كنت اهتممت بحياة خادمة وضيعة ما دمت سأضمن الجلوس على العرش ، و لكن الفرق بيننا أنني سأكون صادقاً مع نفسي لن أخدعها أو أتظاهر بأني خدعت و انطلت علي مؤامرة غبية تلك ، إن أردت التمسك بالعرش و التحالف مع النبلاء فاعترف بأنك فعلت ذلك عمداً لا تتدعي البراءة.
لا تكذب على نفسك و على غيرك لأنك في صميمك (و ضرب بكفه على صدر “القاهر”) تعلم جيداً بأنني لم أتصل بالخادمة و بأنها لم تسممك ، كن شجاعاً و اعترف أيها “القاهر”.. اعترف لأنك إن لم تعترف فعندها ستكون جباناً لا تصلح للحكم

ـ بإمكاني قتلك بسبب كلماتك الوقحة

ـ و هل تظنني أخشى الموت يا أخي؟ أنت تخشى موتي أكثر مني ، تعلم بأنني إن سقطت فتلحق بي سريعاً ، فمصائرنا متداخلة، و لكن ليتك تكبح جماح حاشيتك قبل أن يجروك إلى حمام دم لا ينضب و يورطوك كما فعلوا في حادثة قتل الملكة “صبح”.. سأسدي إليك نصيحة المُلك المخضب بالدماء ينهار سريعاً سريعاً جداً .

أثر كلام “الحسام” في نفس أخيه “القاهر” فلقد وقع في قلبه موقع الرجا و تمنى أن يكون ما سمعه منه صحيحاً فيتحقق أمله في تبرئة “زين”. فهو منذ وقعت الحادثة، فقد لذة العيش و متعته و بات يقضي لياليه في سهاد طويل يمزقه الشك و يضنيه الرجاء ، فأمله فيها كان كبيراً و خيبته أكبر.

لم يكن أمامه وقت و لكنه قرر مع ذلك قطع الشك باليقين فاستدعى أحد أتباعه الثقاة و رفيق طفولته و أوكل إليه مهمة مراقبة الجاسوس الذي وشى بـ “زين” و الحراس الذين قبضوا عليها.. و لم تمضِ أيام معدودات حتى جاءه التابع بالخبر اليقين:
ـ جلالتك لقد تتبعت الأمر كما أمرتني، و اكتشفت أن الجاسوس قد غادر القصر بعد تلك الواقعة و لكنه أنشأ عملاً كبيرا في المدينة، و بعد مراقبته عرفت بأن له علاقة بمستشار الملكة “مريان” فهو يتردد عليه بانتظام و بينهما أعمال سرية جميعها انتهت باغتيالات لأفراد الحاشية و بعض الخدم أو التابعين و استيلاء على أملاك بعض النبلاء
ـ و الحراس؟
ـ لم أجد غباراً على سلوكهم لقد تحركوا بناء على وشاية من الجاسوس و أوامر من مستشار الملكة “مريان”
ـ حسناً .. أحضره إلي و لكن احذر أن يعلم أحد بالأمر
ـ أمرك يا سيدي

بدأ الملك “القاهر” يصدق كلام الأمير “الحسام” عن مكيدة اغتيال و أوقن بأنه قد ظلم “زين الحسان” بشكوكه فيها و بسجنه لها.
أحضر التابع الجاسوس و أشرف الملك بنفسه على استجوابه في أحد أقبئة القصر و سرعان ما اعترف بكل ما في جعبته:
ـ الرحمة يا مولاي لقد كانت أوامر مستشار الملكة “مريان” و هو من دبر المكيدة برمتها و أرسل أحد أتباعه بالخاتم و السم إلى الخادمة قائلاً بأن لديه معلومات وثيقة بأنها جاسوسة لأخيك “الحسام” و يجب علينا الإيقاع بها
ـ و هل الملكة “مريان” على علم بمكيدتكم هذه؟؟
ـ لا أعلم يا جلالة الملك لم أقابل الملكة يوماً صدقني أرجوك الرحمة يا مولاي الرحمة
ـ الرحمة و أية رحمة تطلبها بعد ما فعلته.. تتآمر على الملك و تطلب الرحمة !
قبل أن يغادر القبو أمر الملك جنوده بقتل الجاسوس، فيما أسرع إلى زنزانة “زين”.

أمر الملك “القاهر” السجان بفتح باب زنزانة “نرمين” و دخل وحده طالباً من مرافقيه الانتظار خارجاً .. كانت الفتاة متكومة على حصير من السعف البالي فوق الأرض القذرة تسعل بين الحين و الآخر ، انحنى الملك عليها و هزها بلطف:
ـ “زين”.. “زين” هل تسمعينني
رفعت “نرمين” عينيها المرهقتين لتجد الملك بجانبها فأجابت بضعف :
ـ جلالتك!
و فقدت الوعي فحملها الملك مسرعاً إلى جناحه و طلب لها طبيبه الخاص الذي سهر على تطبيبها أياماً طويلة فقد كانت تعاني الحمى و زاد هزال جسمها الطين بلة فوقعت فريسة السعال.

علمت الملكة بعودة الخادمة “زين” إلى الجناح الملكي فتملكها الحنق و حاولت استعجال الزواج و لكن الملك “القاهر” أخذ يماطل متعللاً بمشاكل الحكم و مؤمرات العرش.. و بدأت تساوره الشكوك حول حقيقة مشاركة أمه في مكيدة السم.

** * **

بعد أيام من العلاج و الراحة في الجناح الملكي استعادت “نرمين” بعضاً من عافيتها، و لكنها كانت مجروحة فألم شكوك “القاهر” فيها كانت أشد من آلام المرض الذي ألمّ بها ، لقد كسرتها قسوته عليها و شكه فيها ، أوجعها أن لا يصدقها و يعاقبها على ذنب لم تقترفه و دون أن يمنحها الفرصة للدفاع عن نفسها .. 

بعد حادثة السم ، أفاقت “نرمين” من غفوتها و علمت أن “القاهر” و “الحسام” وجهان لعملة واحدة ، و قد اتخذت قراراً بأنها لن تكون لعبة في يد أحد منهما بل ستعمل جدياً للعودة إلى حياتها و إن تعسر ذلك فتهجر القصر و تبحث عن حياة آمنة خارجه.

و ذات يوم دخل “القاهر” جناح “نرمين”، و جلس قبالتها قائلاً :
ـ لقد أخطت في حقك يا “زين”.. و لكن عليك أن تعذري خطئي.. لم أعد أثق بنفسي حتى تساورني الشكوك في نوايا المحيطين بي حتى والدتي و شيقيقاتي لم أعد أأتمنهن ، إنه ثمن التاج الذي أرتديه، إنه يثقل على رأسي يوماً بعد آخر.

لم تجبه “نرمين” فتيقن بأنها غاضبة منه فقال:
ـ أنا مستعد للتكفير عن ذنبي إطلبي ما تشائين هيا
ـ طلبي الوحيد من جلالتك أن تسمح لي بالرحيل عن القصر
ـ الرحيل!.. أنا أضع نفسي و ملكي بين يديك و أنت تطلبين الرحيل!
ـ لا أستحق كرمك هذا يا مولاي
ـ توقفي عن العناد أرجوك لقد تعلمت الدرس.. (هب القاهر من مكانه).. أتعلمين سوف أثبت لك ذلك سأرسل في طلب الكاهن الآن و سأعقد قراننا فوراً
ـ توقف أرجوك يا جلالة الملك
ـ ماذا هناك أما عدت تريدين الزواج بي؟

أحجمت “نرمين” عن الرد خوفاً من غضب الملك
ـ أنت ترفضين الزواج بي.. (اقترب من السرير حيث تجلس “نرمين”).. إنه ليس طلباً بل أمرا ملكياً و ستنفذينه
ـ إن الأمر يتعدى رغبتي و يفوق قدراتنا يا مولاي، ما كان كان لا يسعنا تغييره أو محوه .. لقد خطت الأقدار و رفعت الأقلام و ما علينا سوى الإذعان.
ـ ما الذذي تقولينه؟؟
ـ إن عاندنا مصائرنا سنجلب الخراب و لا شيء سواه.. قدرك أن تتزوج من اختارها قدرك لا قلبك يا جلالتك الملك
ـ أنا الملك و ليس لأحد علي سلطان و أنت ملكي و سأحصل عليك غصباً عن الجميع

أسرعت “نرمين” و أمسكت سكين تقطيع الفاكهة و جرحت المنطقة العليا من رقبتها و الملك “القاهر” واقف أمامها في ذهول و قد أخرسته فعلتها، لكنه سرعان ما أسرع نحوها و سحب السكين و صفعها:
ـ توقفي.. و أخذ يمسح الدماء و يضغط عن الجرح و كأنه يريد محيه
ـ لقد أخبرتك يا جلالة الملك بأني لا أصلح زوجة لك لست قدرك ..(عرفت “نرمين بأن الملك لن يصدقها إن روت له قصتها كاملة).. قلت لك بأني لست كاملة كما تظن و بأنه لا تتوفر في شروط الزوجة الملكية و لكنك كنت تغمض عينيك عن ذلك و تصر على أني الكاملة و المثالية و المناسبة أرجو الآن أن هذا الجرح أثبت العكس

ـ شوهت نفسك كي لا تتزوجني أبلغ كرهك لي هذا الحد!
ـ لقد جرحت نفسي لأنقذك من خطأ كبير كنت ستقترفه يا مولاي.. أسديت لك معروفاً ستشكرني عليه في قادم الأيام
ـ أهنئك فقد حققت مرادك و بسبب هذا الجرح في جيدك فرقتنا الآن و بسبب هذا الجرح في قلبي (و قرع صدره بيده) فرقتنا إلى الأبد.

و خرج “القاهر” من مخدع “نرمين” و قد عقد العزم على إتمام صفقة الزواج من إبنة النبيل كما دبرت والدته و مستشارها.

أقيم حفل الزفاف الملكي كما خطط له و اجتمع في القصر نبلاء المملكة ممن تحالفوا مع والد العروس الملكية و أفراد حاشية الملك “الولاس” و عائلته للاحتفال بالزواج و بالتحالف بين القصر و النبلاء ، و لم يغب عنه سوى الأمراء و الأميرات المعاقبون.
وقفت “نرمين” وراء أحد أعمدة المعبد العملاقة في الطابق الثاني تراقب “ذئب القصر” و هو يتقدم نحو المذبح مع زوجته المستقبلية.. إنها تعيش التجربة للمرة الثانية ! تذكرت عندما اختبأت خلف كواليس زواج “سائد” و شيعته بقهر و هو يراقص زوجته.. ربما ليس مقدراً لها بأن تكون عروساً في كل حكايات حبها ..

إقتربت إحدى شقيقاتي الملك من والدتها و أشارت بخفة إلى حيث تختبئ الخادمة “زين” و همس:
ـ إنها هنا.. ترفض الزواج به ثم تذرف الدموع لرؤيته يتزوج
ـ لم أثق بهذه الفتاة مطلقاً هناك أمر مريب بشأنها..
ـ لا أعلم يا أماه و لكن أظنك أخطأت الحكم عليها إن كانت كما تقولين لكانت تزوجت أخي الملك “القاهر” عندما خطبها و لكنها بدلاً عن ذلك استغلت قانون الزواج الملكي و أجبرته على التخلي عنها
ـ يا لك من ساذجة يا “ربى الجمال”.. لقد فعلت ذلك لغاية عظيمة في نفسها
استغربت الأميرة من جواب أمها الغامض:
ـ و ما هي غايتها في رفض الزواج الملكي؟
إنحنت الأميرة الكبرى “ندى الصبح” على شقيقتها الصغرى هامسة و كانت تسترق السمع إلى الحوار:
ـ إلى متى ستبقين ساذجة يا “ربى ” قانون الزواج الملكي يمنع الملك الأعزب عند تتويجه من الزواج بفتاة تعاني عيباً أخلاقياً أو إجتماعياً أو جسدياً كذلك الجرح العميق الذي أحدثته الخادمة الملكية في رقبتها ، و هذه شروط لا تنطبق إلا على الملكةالأولى أما بقية زوجات الملك الأخريات فلا مانع إن كن يعانين بعض العيوب.. و تلك الخادمة “زين الحسان” من الدهاء بحيث ترفض أن تكون الزوجة الأولى حتى يتسنى للملك التحالف مع النبلاء و إمساك زمام الحكم بيده و عندها تعود هي إلى حياته مجدداً كزوجة ثانية تجمع غنائم نصره مستغلة حب شقيقنا الملك لها.

إبتسمت الملكة معجبة بما تفتقت عليه قريحة ابنتها الكبرى و قالت:
ـ أرى بأنك يا “ندى الصبح” سريعة التعلم عكس شقيقتك فهي لا زالت تحتاج إلى الكثير
ـ و لكن هل ستدعينها تتلاعب بالملك و العرش هكذا ؟
ـ لا تقلقي يا “ندى الصبح” فأنا أجهز لها خطة دسمة محكمة لن تفلت منها أبداً 

** * **

بينما القصر غارق في الزينة و الاحتفال بزواج الملك “القاهر”، كان أخوه الملك المعزول “الحسام” مجتمعا بشقيقتيه “نوران” و “نهوند” في جناحه:
ـ لا أصدق ما يحدث معنا (صرخت نوران بحنق) .. هل سنسمح له بسرقة العرش و حلفائه أيضاً ؟
ـ يبدو بأننا سننهي حياتنا سجناء في أجنحتنا إلى أن نموت ملطخين بالخزي و العار.. قالت “نهوند” بيأس
كان “الحسام” كعادته ينصت بصمت لتذمر شقيقتيه:
ـ لما أنت صامت يا أخي هل استسلمت ؟ هل ستدعهم ينجون بقتل والدتنا و حبس خالنا و سرقة عرشك !
ـ و من قال بأنني استسلمت؟
ـ و لكنك لا تفعل شيئاً
ـ لأن الانتقام طبق يؤكل بارداً
همست الأميرتان بلهفة :
ـ هل تعني بأنك تخطط لأمر لا نعرفه؟

هز “الحسام” رأسه مبتسما بخبث ، و سحب من تحت ردائه مروحة هوائية وضعها على الطاولة أمامه:
ـ مروحةالملكة الأولى!
ـ بلى
ـ و ما معنى ذلك ؟ هل تنوي الإيقاع بها عن طريق مروحتها الملكية
ـ فكرة جيدة و لكن علي الانتظار حتى نسترجع العرش أولاً
ـ هل تقصد يا أخي بأنها تساندنا الآن؟
ـ تأملي هذا.. (فتح “الحسام” المروحة )
تأملتها “نوران” و “نهوند” دون أن تفهما ما يعنيه “الحسام” و عندها أشار الملك إلى نقوش صغيرة على الألواح التي تجمع قماش المروحة :
ـ أهذه النقوش رسالة من الملكة “ياقوت”
ـ أحسنت يا “نوران” وصلتني المروحة قبل أشهر و احتجت إلى بعض الوقت قبل أن أكتشف رسالة الملكة”ياقوت” ..إنها تعرض علينا التحالف معها ضد “القاهر” و والدته بل و تعرض خدماتها لمساعدتنا في استعادة العرش مقابل استعادة امتيازاتها السابقة التي جردتها منها “مريان” و الدة “الولاس” حليفها السابق

انتفضت “نهوند”:
ـ نتحالف معها بعد أن أوصلت “ذئب القصر” إلى العرش و تآمرت مع “مريان” و والدها ضدنا ؟
ـ اهدئي يا “نهوند” في السياسة لا وجود لحلفاء أو أعداء دائمين .. الجميع محكوم بمصلحته.. تحالفنا معها الآن مهم لنا كما هو بالنسبة لها و و لذلك قبلت أن نضع أيدينا في يدها ضد “الولاس” و أمه
ـ و ما أدراك بأنها ليست مكيدة أخرى للإيقاع بنا و التخلص منا بتهمةالتمر ضد الملك ؟
ـ يسوؤني ظنك بي يا “نوران”! و هل أنا غر أو ساذج حتى أقوم بخطوة عظيمة كهذه قبل أن أتأكد من صدق الملكة”ياقوت”
ـ و ما ضمانك

ـ لملمت شتات رجالي الأفياء ممن كشفت أزمتنا عن ولائهم الكامل لنا و بثثتهم عيونا لي في القصر لأسابيع و تأكدت من أن الملكة “ياقوت” تعني ما قالته ، كما تعلمان لقد انقلبت “مريان” على أعقابها بعد تحالفها مع نبلاء المملكة و جمدت نفوذ الملكة الأولى و نقلت سكنها إلى خارج الأجنحة الملكية إمعانا في إذلالها و هكذا تقاطعت مجدداً مصالحنا
ـ كعادتها تستمتع بتعذيب أعدائها و خيانة حلفائها كوالدها .. كيف وقع والدنا في فخها و زرعها في خاصرتنا رمحاً مسموماً ؟
ـ لا تقلقي فـ “طباخ السم يتذوقه” كما قال الأسلاف
همست الأميرة “نوران” :
ـ و ما الخطة التي تعتزم تنفيذها يا أخي
ـ خطتي يا عزيزتي شارفت على النهايةو قرب وقت جني ثمارها و عندها لن أرحم أحداً كائناً من كان ..

يتبـــع 

 

تاريخ النشر : 2017-12-01

guest
40 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى