أدب الرعب والعام

جثة حية

بقلم : البراء – مصر
للتواصل : [email protected]

جثة حية
لم تعرف الشرطة كيف سيتعامل الرأي العام مع هذه القضية

دائماً ما كنت أعتبر عملي شيئاً مملاً ، ذلك الشعور بأنك قد أتممت كل شيء في حياتك وأنت الأن في مرحلة مياه المستنقع الراكدة ، قد صرت تعرف كل شيء عن أي شيء و لم يعد هناك شيء يدهشك ، لا تتحرك من مكانك ما لم تكن هناك حاجة للتحرك ، هذا لا يعني أنني أمقت عملي ، أنه فقط فخ الرتابة الشهير، فقط أجلس طوال اليوم في المعمل أحلل العينات التي تصلني ، قد سمعتم عن الأدلة الجنائية التي تقود الشرطة للمجرم ، كنت أنا الشخص الذي يحللها ، أنا البطلة وراء الستار كما يقولون ، لم أتوغل يوماً في عملهم ولم أطلب تفاصيل أكثر عما يحتاجونه ببساطة لأنهم لا يريدون ولا يريدون ذلك .

هو شيء كما أعتقد يخص قضية منظومة العمل المتكاملة ، كلٌ يؤدي جزئه الخاص من العمل ولا يسأل الآخر لماذا يفعل هذا ولماذا لا يفعل ذاك ، كان شيئاً جميلاً من ناحية أن لا أحد يتدخل في عملي ، أفعل ما يحلو لي بالطريقة التي أريدها ، المهم هي النتائج وفي نفس الوقت كان شيئاً سيئاً من ناحية أنني لن أحصل علی أي إثارة كتلك التي أسمع عنها كثيراً ، ظننت أن هذا ليس بالأمر الجلل ، فبقائي علی قيد الحياة كان يجعلني سعيدة ، وطالما أنا سعيدة فلا بأس إذن ، بالطبع كان هذا في البداية ، قبل أن أشعر أن حياتي صارت مثل الدائرة وأنني صرت مثل الروبوت ، كان لابد من وقفة ما.

أتتني عينة دم تلك و المطلوب مني أن أعرف صاحبها ، في العادة أتسلم تلك الأشياء من صبري ، صبري هو محقق متدرب ، وكلمة متدرب في أي مكان تعني الخادم ، والقصة أن صبري ظل متدرباً للعام الثالث علی التوالي ، يرى المحققون الكبار أن الفتى ميؤوس منه فعلياً في أن يكون أي شيء في مجال التحقيق ، لكنهم في نفس الوقت يرون أن صبري لا يتذمر ويرون أنه يقدم لهم خدمات عظيمة بالفعل في عملهم ، ستكون مصيبة إذا لم يجدوا من يبحث لهم عن بعض الملفات من المخزن أو من ينظم لهم مكاتبهم وكذلك بالطبع من يحمل العينات للمعمل.

– إذن لمن هي تلك العينة يا صبري؟

يصمت قليلاً ، يتنهد ويعارض ، لكنه في النهاية يخبرني : العينة مأخوذة من زقاق ما في المدينة ، مأخوذة من جثة مشوهة الجسد والوجه ويريدون أن يعرفوا لمن تعود الجثة .

– أي نوع من التشويه أذن يا صبري؟

يصمت قليلاً  ويريني ملف القضية ، كنت أظن أنني رأيت من الدماء ما يكفي لجعلي منيعة ضد أياً من تلك الأشياء المرعبة المتعلقة بالدماء ، لكن هذه المرة انقبض قلبي ودق بعنف ، أن من فعل ذلك ليس إنساناً بل ليس كائناً حياً من الأساس ، نحن بشر بالقلب وليس بالجسد، ، كثيراً ما حدثوني عن كوني أنثى و ليس من الجيد أن أعمل في مجال يحتوي علی الكثير من الدماء ، لكنني كنت دوماً أظن أنني قوية للغاية ، متماسكة أكثر من المعظم ، لكن لماذا الأن أشعر أنني ضعيفة وخائفة ؟!

الحقيقة أن ما رأيته جعلني أصر علی أن أعرف القصة الكاملة حول الجثة ، علي أن أری وجه ما فعل هذا ؟  ليس من ، لأنني لا أستطيع تخيل صورة واضحة في عقلي ، ثم كان طريقي هو تحليل العينة ثم مقارنتها علی الحاسوب في المعمل لأعرف من هو صاحبها ، وهنا رسمياً كنت قد بدأت أخالف شروط عملي ، لكن كنت أقول أنا بخير طالما لم يكتشفوا أي شيء ، ثم إذا شعرت بالذنب فذريعة الغاية تبرر الوسيلة ستقوم بالواجب ، العينة لشخص يُدعى محسن و صورته ومعلوماته كانوا علی الحاسوب أمامي ، عرفت أنه شاب عشريني يعمل مديراً لقسم الأبحاث في شركة شهيرة ، يسكن في وسط المدينة ، لا توجد سوابق له ولا أي شيء يمكن أن يجعله يُشوه ويُقتل في زقاق ما ، هو نقي مثل السماء ، تلك الحقيقة جعلتني أعترف لنفسي أن الإثارة الحقيقية تكمن في الخارج بعيداً عن الأجهزة كما يقولون.

لم أخبرهم بالنتيجة التي توصلت لها ، كذبت وقلت : أنني لم أنتهي بعد من العينة ، لن يحدث شيء إذا أخرتهم ساعتين فقط ، ساعتين أخرج فيهما كمحاولة مني لقتل الفضول بداخلي ، وقررت بالفعل أنني سأبدأ في تجربة جو المحققين عن طريق الذهاب إلی عنوان محسن ، سأذهب هناك لأرى أين كان يعيش الضحية ، منزل متواضع في منطقة لا تعج بالسكان مثلما توقعت ، هناك منازل قديمة أخرى لكن يبدو أنها مهجورة ، إذاً كان كل شيء يسير بصورة طبيعية فمن المفترض أن يكون المحققين ورجال الشرطة مكاني الأن ، لكن لابأس فالغاية دوماً تبرر الوسيلة ط

وقفت في الخارج لفترة أتأمل المنزل وأفكر في الشيء الذي من الممكن أن يكون قد فعله محسن ليجعله يستحق ما فُعل به ، هل عبث مع إبليس نفسه ؟! أم أنه بالفعل يوجد أشخاص يحملون كل هذه القسوة في قلوبهم ؟! يمشون بيننا ، و نتحدث معهم ويتحدثون معنا ، قطع حبل أفكاري خروج شخص ما من المنزل ، المنزل الذي من المفترض أنه يخص محسن الميت أو المقتول ، لكن المفاجأة لم تكن في هذا ، المفاجأة كانت أن هذا هو محسن نفسه ، نعم إنها نفس التفاصيل التي رأيتها في الصورة ، الحقيقة أن الشك يجعل من كل شيئاً ممكناً ، وما أن مر بجانبي حتی أخرجت هاتفي ووضعته علی أذني ثم قلت محسن وأنا أنتظر رد فعله ، التفت ونظر لي قبل أن يدرك أنني أتحدث في الهاتف ، ظن أنه ليس هو المقصود ، ولكن حتماً هو المقصود ، طالما أنه التفت بهذا الشكل فهذا يعني أن اسمه محسن ويعني أيضاً أن هناك خطأ كبير لا أعرفه ، رحل محسن وبقيت أنا أفرك جبهتي براحة يدي في دهشة.

بالطبع ثمة خطأ ما هنا ، فكرت لثانية أنني قد أخطأت في التحليل ، لكن صدقاً فرصة أن يكون الفتي قد عاد من الموت أفضل من فرصة أنني قد أخطأت في عملي ، لكن كنت أعود وأقول : في النهاية أنا من البشر وما بعد ذلك واضح.

بعد ذلك ندمت علی الوقت الذي قضيته في مراجعة ما قمت به ، أن تلك الدماء التي سحبوها من الجثة المشوهة تعود حتماً لمحسن ، ما لم يكن هناك شيء غير طبيعي أو صدفة خارقة قد أدوا إلی استبدال دماء الجثة بدماء محسن ، كان هذا يعني أنه حان وقت التعاون مع صبري ، وقد كان دوري لكي أدرك لماذا فقد المحققون الأمل بشأنه ، لقد كان الفتى غبياً فريداً ، هناك الكثير من الأغبياء لكن هذا الغباء من النوع النادر، النوع الذي استلزمني ساعة كاملة لمحاولة شرح الأمر بكامله ، لم يستوعب قط جملة العينة تعود لشخص مازال حياً ، حتي حينما فهم الأمر كان يتصنع الغباء أو عدم التصديق مما زاد معاناتي في شرح له نقطة أننا لم يعد لدينا الوقت وأنه يجب عليه أن يقودني للمشرحة كي أری الجثة بنفسي وأخذ العينة بنفسي من هناك ، نظراً لأن المعجزات والصدف الخارقة تحدث في بعض الأحيان

 ما أسعدني بعد ذلك أنه كان يعرف بالضبط طرق حصولي علی ما أريد ، فترة عمله هنا قد جعلته خبيراً في تلك الأشياء ، مثلاً يعرف عم ممدوح الذي يعمل في المشرحة منذ عشرين سنة و يعرف كذلك أن سيجارة وورقتين نقديتين كافيتان لجعلنا نتفحص الجثث بشكل غير رسمي ، أضف لهما ورقتين أخريين وستتمكن من الحصول علی عينة من أي جثة نريدها ، وهكذا ستكون قد كونت صداقة عتيدة مع عم ممدوح تفيدك في أي محاولات جريئة أخرى

للمرة الثانية في يوم واحد وفي أقل من ثلاث ساعات أتلقى صدمة قوية ، العينة التي أخذتها بيدي من الجثة أمام أعين صبري الأحمق تعود لمحسن ، لا توجد مصادفات كونية هنا ولا توجد أخطاء بشرية ! كل هذا يعني أن علي أن أبتعد وأترك الأمر للشرطة ، هناك أوقات في الحياة تدرك فيها أنه عليك أن تتوقف وتترك الأمور تسير في مجراها الطبيعي ، وقد كانت هذه اللحظة من تلك الأوقات ، لكن هنا كان لا بد من بعض الأسئلة المهمة ، وضعت نفسي مكان المحققين ، إذا أخبرني المعمل أن العينة المأخوذة من جثة ما تعود لشخص لا يزال حياً هل سأصدق المعمل حقاً ؟ يومها صارحت صبري بالأمر فقال لي : أنهم بالفعل لم يصدقوا النتائج وأرسلوها لمعامل أخر والنتيجة هي نفسها

 شعرت ولا أدري إذا كان هذا ممكناً بمزيج من الغضب والفرحة ، غضب غير مبرر من أجل عدم الثقة بي وفرحة لأنهم عرفوا أنني محقة ، لم أتوقف عن تلقي الأخبار من صبري ، كما ترون صبري وبرغم غباءه قد يكون مفيداً للغاية في بعض الأحيان ، المرة الأولى أفادني في المشرحة وهذه المرة يفيدني في التزود بمعلومات القضية ، أخبرني أن الشرطة قد قبضت علی محسن وأن الفتى يقسم أنه لا يفهم عما يتحدثون ، شعرت بالشفقة علی المحققين ، مطلوب منهم أن يحققوا في قضية جثتها لا تزال حية ، لابد من أنهم لا يدركون حتی ما الإجراء الواجب اتخاذه في مثل هذه المواقف

كان عالم محسن مختلفاً بعض الشيء عن المألوف  ، شاب في عمره لا يجب أن يلقى أو یعيش كل هذه النجاحات التي يلقاها هو الأن ، الفتى يعمل في شركة من أكبر الشركات عالمياً ، عرفت هذا قبلاً لكن لم أفكر جدياً في تلك النقطة ، كان هذا مثل ذلك الشيء الذي تراه فتعرف أن هناك شيء ما خاطئ ، تلك اليد التي تجدها في صورة جماعية ولا تعرف لمن هي ، هذه اليد أو الفقير المتسول الذي يحمل هاتفاً ، ظننت أن هذا سيكون خيطاً جيداً للبدء به ، ما طبيعة علاقاته حقاً ؟!

بالطبع قادنا هذا للتوغل أكثر في حياته ومعرفة ما يثير الاستغراب أكثر ، هو وكما يقولون مقطوع من شجرة ، لا أب و لا أم و لا أقارب ، سوى أخ قد هرب منذ فترة طويلة ، القصة تقول أنهم كانوا عائلة صغيرة ومحبة حقاً ، ثم توفي الأب ، كُسرت السلسلة ، غاص أخاه البائس في عالم المخدرات و فطن إلی أن بقاءه في المنزل لن يفيده في تحقيق غايته الأسمى التي هي بالطبع المزيد من المخدرات ، فطن لهذا وهرب من المنزل محاولاً إيجاد حياة جديدة ، ربما أفضل وربما أسوأ ، المهم هنا أن الأم فقدت أعصابها و خسارتها لاثنين من أهم ركائز حياتها جعلاها مختلفة ، لم يتحمل عقلها كل هذا وأصيبت بأمراض نفسية جمة

 أخبرنا محسن : أنه في البداية أعتقد أنه يمكنه أن يتعامل مع الأمر ، أن يتعايش معها متقبلاً الواقع ، لكن مع مرور الوقت أدرك أن هذا سهل ظاهرياً و مستحيل عملياً ، هي تحتاج لرعاية لن يستطيع تقديمها ، لا هو ولا حتی أباه لو كان لا يزال علی قيد الحياة ، ذهب بها إلی مكان معروف متخصص في رعاية مثل هذه الحالات شديدة الحساسية ، معاش والده كان كله لها ولرعايتها فقط ، مصاريف الدار واحتياجاتها الشخصية ، يزورها محسن مرتين يومياً ، سألوه لماذا مرتين يوماً ؟ ألا يعد هذا كثيراً ؟ لم يجاوب قط لكنني عرفت الإجابة ، ألا يمكن أن يكون فقط يحبها بهذا القدر؟! أليس ذلك مسموحاً به ؟!

يقول محسن : أنه بعد أن انتهى الأمر واطمئن علی أمه بدأ رحلة بحثه عن عمل ، وعن طريق الصدفة وجد تلك الشركة أمامه تستقبل المتقدمين ، تقدم وتم قبوله عن طريق الصدفة مرة أخرى ، عمل جاهداً وحصل علی ترقية كبيرة تقديراً علی جهوده ثم حصل علی ترقية أخرى بعد أن توفي رئيس القسم الذي كان يعمل به وحل محله ، وكل هذا في غضون سنتين فقط ، وهنا كان بيت القصيد ، أن كل هذا يتعدى الصدف حتماً ، لكن الفتى لا يزال يؤمن أنها مجرد دعوة من أمه فقط لا أكثر ، حديث كثير عن التيسير والتوفيق ، بعدها ظننت أن الشرطة استسلمت ، هم لا يجدون دلائل علی أي شيء حرفياً ، عادة حينما يكون هناك غموض شديد يكتنف قضية ما لفترة طويلة من الوقت فإن الشرطة فقط تغلق ملف القضية وينتهي كل شيء بالنسبة لهم ، في فترة ما ظننت أنهم سيفعلون هذا ، وبشكل مثير للسخرية سيكون ملف القضية فارغ ، لن يجدوا ما يكتبونه سوى أقوال محسن ، لربما كان الملف ليزيد صفحة أو اثنتين لو كان له أقارب ، لكن عدا عن هذا لا شيء.

لم أعش كثيراً كي أصبح حكيمة أو ما شابه ، لكن من أهم الأشياء التي تعلمتها في حياتي أن الأيام تملك القدرة دوماً علی إدهاشك ، مهما ظننت الرتابة قد تقودك إلی توقع ما سيحدث تالياً وهو اللأ شيء ، تُفاجئ دوماً أن هناك شيئاً ما لا يزال مختبئاً ، هو فقط ينتظر اللحظة المناسبة ، تلك التي ستفقد فيها إيمانك بحدوث شيء ما ، و ما أن تأتي هذه اللحظة يظهر ذاك الشيء كي يخبرك أنك لاتزال مجرد بشر ، عرفت هذا وتيقنت منه في مناسبات عديدة ، ولكن صدقاً لم أتوقع أن المفاجأة قد تأتي علی هيئة موت محسن نفسه ، هنالك سخرية واضحة منا هنا.

ميتة شنيعة أخرى فقط مثل الجثة السابقة ، أو محسن السابق إذا أردنا الدقة ، الفرق أن محسن تمكننا من التعرف عليه ، لم يكن مشوه الوجه مثل الجثة الأخرى ، لكن مشوه الجسد بصورة أكبر بكثير، صبري يقول : أنه تقيأ حينما رأي المنظر ، لكن لم أكذبه أو أشعر أنه يبالغ قط ، رأيت الجثة السابقة وأعرف إلی أي مدی قد يصل الاشمئزاز والرعب فقط من مجرد جثة ، المثير للسخرية أن محسن قد قتل في نفس الليلة التي تركوه فيها ، كان من المقرر أن يبدؤوا في مراقبته لفترة ، وبالفعل الشخصين اللذان كانا سيراقبانه كانا سيبدآن فوراً لولا أنهما تأخرا قليلاً ، فقد ظنوا أنه لا ضير من مراقبته بدءاً من بيته وليس بدءاً من خروجه من هناك ، فلنقل أنهم لم يتوقعوا أن يحدث شيئاً ما بهذه السرعة ، التفسير الوحيد أن القدر سخر منهم أيضاً.

لم يعرف أحد ما يجب فعله حقاً ، معظمهم كان يشعر بالغباء لأنهم تركوا محسن يذهب حراً ، البقية كان يحاولون التصرف بذكاء ، يبنون بعضاً من النظريات السخيفة عن أن محسن هو من قتل رئيسه في العمل كي يحل محله ، بعد التفكير يدركون أنها ليست سخيفة حقاً ! لكن هذا لم يكن يفسر شيئاً بل ربما يعقد الأمور أكثر ، ظننت وقتها أن كل هذا الكلام كان لإخفاء حقيقة مهمة ، هم يرفضون الاعتراف بأنهم حمقى وأن محسن مات بسبب إهمالهم ، إذن الخطة البديلة فلنقل أن محسن كان شريراً وأستحق ما حدث به ، وهكذا تُحل كل الأمور ونخفي حقيقة أننا متخاذلين ، كانت الأمور معقدة في مقر الشرطة ، حلت الفوضى هناك وتعالت الأصوات ، يومها زارني صبري في المساء أخبرني أنهم كانوا يفكرون في استدعاء محقق مهم لاستلام القضية ، كان اسمه المستعار هو القبعة السوداء ، لم يعرفوه بغير هذا لأنه لم يخبر أحداً باسمه الحقيقي ، قال لي صبري وهو يحك ذقنه بأصابعه:

– حينما سمعت الاسم تذكرت علی الفور تلك القضية الشهيرة ، أذكر أنها كانت عن ذلك الرجل الثري الذي تم قتله في ظروف غامضة ، وحينما أرسلوا اثنين من أشهر المحققين لتعقب الفاعل قتلوا هم كذلك في ظروف أكثر غموضاً ، وقتها كان السؤال الذي أرق الكثير من المحققين ، لماذا لم تقبضوا علی ذلك الوغد بعد؟

صمت صبري قليلاً ثم عاد يكمل:

– حينها استدعوا ذاك الملقب بالقبعة السوداء ، لم أعرف التفاصيل بالضبط ولكن ما حدث أنه منذ أن أستلم القضية وتوقفت تلك الجرائم ، بالطبع يقول البعض أن الرجل مخادع ولم يفعل شيئاً بالمرة ، ولكن الحقيقة هي أنني قد قابلت الرجل مرة ، لم يبد أنه مخادع قط .

سألته وأنا أعبث في بعض العينات أمامي :

– إذن هل تعتقد أنه جدير بالثقة ؟.. أعني متأكد من أنه ليس كما يقولون ؟

– نعم بالطبع ، فقط عليك أن تقابليه وتتحدثين معه كي تعرفي ما أقصده.

هنا صمتت وأنا أفكر فيما يعنيه صبري حقاً.

بجميع الأحوال أخذت الأمور ببساطة ، لدينا قاتل هنا وهذا القاتل تسبب في ترك جثتين احداهما تعود لمحسن والأخرى بمعجزة ما تعود لمحسن كذلك ، أذن لدينا لغزين ، لغز القاتل ولغز الجثة ، لكن ماذا لو أن الجثتين ليستا لنفس القاتل؟ ماذا لو أن هناك قاتلين هنا ؟!

لم أخبر أحدا بخواطري عن الأمر ، لست في المكانة التي تجعلهم يهتمون لكلامي ولا لظنوني ، آمنت دوماً بأن أفعالي تكون في نطاق عملي وخصوصاً في المجال الذي أعمل فيه ، كبرت القضية أخيراً وأخذت حقها ، ستكون هناك جدية أكثر الأن ، ولن يتم التخاذل مثل المرة السابقة ، البداية كانت عن تحديد المشتبه بهم حقاً ، التي هي ببساطة كل شخص يعرفه محسن جيداً ، عرفت أنه سيكون هناك الكثير من ” أين كنت وقت الجريمة ؟ ” أو من.. “هل هناك أعداء للقتيل ؟”

كل شخص سيدلي بتفصيله و تفصيله ستقود إلی أخرى مع التجميع ومع القليل من الحظ ستنكشف معلومات مهمة في القضية ، بالطبع كانت هذه هي استراتيجية المحققين بالطريقة التقليدية.

لكن أحداً منهم لم يتوقع أن يكون محسن علی هذه الدرجة من الخفاء أو علی هذه الدرجة من عدم الاجتماعية إذا جاز الوصف ، و بالرغم من أنه كان يشغل منصباً كفيلاً بجعله اجتماعياً أكثر من اللازم إلا أنه كان دوماً يحب أن يحافظ علی المسافة بينه وبين من لا يعرفهم وقد كان ذلك بشهادة الجميع ، بعبارة أخرى لا يوجد مشتبه بهم في القضية لأن لا أحد يعرف محسن جيداً ، كما أنه لا يملك أي عداوات مع أحد ، كان هذا يعقد القضية نوعاً ما ، أعني أكثر من ما هي عليه من تعقيد في الأساس

 تكونت فقاعة إعلامية لما حدث ، ظلوا يصيحون ليلاً ونهاراً عن الشرطة التي لا تستطيع القبض علی قاتل متحجر القلب ، لم يتحمل المحققون الضغط وتم اتخاذ الإجراءات القصوى ، حينما أخبرني صبري بهذا ، سألته : عن معني الإجراءات القصوى ؟ بعدم فهم أخبرني : أن هذا معناه أنهم قد استدعوا المحقق الشهير إياه ، فكرت وقتها مجرد فعلهم لهذا لا يعني سوى شيئاً من أثنين ، إما أنهم يعترفون بأنهم أغبياء ولن يستطيعوا القبض علی المجرم بأنفسهم لذا سيستدعون شخصاً أكثر ذكاءً ليفعل لهم هذا ، أو أما أن هذا الشخص مميز للغاية.

ثم خطر في بالي خاطر عجيب ، خاطر من نوع ال-ماذا لو ، فقط فكرة عابرة ، ماذا لو أن البيانات علی الحاسوب خاطئة وأن هناك من تلاعب بها ، بشكل أكثر بساطة حينما يخبرني الحاسوب بأن نتائج التحليل تخص محسن فإنها في الحقيقة لا تخص محسن ولكن تعود لشخص آخر ، هذا سيفسر لماذا كانت الجثة الأولى  تحمل الحمض النووي لمحسن ، لكن السؤال هنا لماذا ؟!.. ما الذي سيستفيده أي شخص من فعله لذلك ؟! أعني تغيير بيانات الحمض النووي لشخص ما ليجعلها تشبه بيانات الحمض النووي لمحسن ؟ ولماذا محسن بالذات ؟! أيضاً هذا يعني أن النظام الأمني للشرطة غير آمن وقاعدة البيانات معرضة للتعديل طوال الوقت ، وهذه كارثة بحد ذاتها ، وأثرها أكبر بكثير من مجرد قضية قتل.

سألت صبري بحذر عن ما إذا كانوا قد أخذوا عينات من جسد محسن ؟ نظر لي نظرة حذرة هو الآخر وقال ما معناه : أنهم لو كانوا قد فعلوا لكانوا قد أرسلوها للمختبر إليّ ، وأضاف أن سبب الوفاة واضح ، فقدان الكثير من الدماء وعدم عمل بعض الأعضاء الضرورية ، إذا كان صبري محقاً فهذا يعني أنهم لا يعلمون حجم الورطة التي هم فيها.

لم أكن أملك الصلاحية لأخبرهم بما يجب أن يفعلوه ، كما أنهم لم يكونوا ليصدقوا ، وفي نفس الوقت لم أكن قادرة علی السكون ، كان عليّ أن أفعل شيء ما ، لكن ما هو ذلك الشيء ، لم أعرف قط !.

في اليوم التالي لم يزورني صبري كالمعتاد ، كان يزورني كي يعطيني عينات وما شابه ، وقد كنت أستغل وجوده لأسأل عن مستجدات القضية ، فقط أرسلوا لي شخصاً آخر يحمل العينات المطلوب تحليلها ، سألته عن صبري ، فقال لي : أنه لم يأت للعمل ، بالطبع لم أجرؤ علی سؤاله عن أي شيء يخص القضية ، من المفترض أنني لا أعلم أي شيء عن ما يحدث.

في نهاية اليوم وأنا عائدة قررت المرور مجدداً علی المنزل ، أحسست أني سأجد شيئاً مثل المرة السابقة ، وأمضيت نصف ساعة كاملة أحوم حول المنزل بدون جديد ، كان الوقت متأخراً لذا قررت أن أعود لمنزلي وأنام ، فقط سأنتظر الجديد الذي سيقدمه لنا المحقق الشهير الذي جلبوه ، وقتها كنت مشغولة بالتفكير في كل تلك الأحداث ولم أنتبه لصوت القدمين القادم خلفي ، ربما لأنني كنت غير مركزة علی الإطلاق و ربما لأن الشخص القادم خفيف الحركة بشكل كبير ، ثم سمعت صوتاً يقول من خلفي :

” الاستراتيجية هي تخديركم ثم تعذيبكم حتی الموت في زقاق مهجور”

بعدها لم أملك الوقت الكافي كي أنظر خلفي ولا لكي أتحرك من مكاني من الأساس ، فقط أحسست بقطعة قماش وضعت علی أنفي عنوة ثم أحسست بخدر ثقيل في جسدي كله ، و قبل هذا في عقلي ، ثم بدأت أهوي في بقعة سوداء للغاية وكأنها تبتلعني ، آخر ما فكرت به هو أن ذلك الصوت ليس…..

ولم أكمل خاطرتي لأنني كنت قد فقدت الوعي بالفعل.

استيقظت علی صوت بعض الأشخاص يتحدثون فيما بينهم ، لم أركز فيما كانوا يقولونه ، كنت أجاهد كي ألتقط أنفاسي مع ذلك الصداع الرهيب الذي كان يعصف بي ، نظرت حولي في دهشة محاولة أن أفهم أي شيء ، انتبه أحدهم فقال:

– أهلاً بالهاربة من الموت.

كان لساني ثقيلا للغاية فلم أتحدث ، فقط نظرت له في عدم فهم ، ومن الطريقة التي بادلني بها النظر عرفت أن أمامي قصة طويلة كي أفهم ما حدث.

إذن القاتل كان شخصاً نعرفه ولكننا لم ننتبه له أبداً ، أعني من كان ليتوقع أن القاتل ليس سوى والدة محسن نفسها ، اندهشت للغاية حينما أخبروني بهذا ، لكنهم ظلوا يفسرون الأمر.

سلامة عقل والدة محسن كانت تنحدر بشكل فظيع للغاية ، يعتقد المحققين أنه كانت لديها رغبات دفينة بالقتل ، لكنها كمعظم الناس من هذا النوع كانت تحتفظ بهذه الرغبات بداخلها ، وكمعظم الناس من هذا النوع كل ما يتطلبه الأمر بالنسبة لهم كي تستيقظ هذه الرغبات هي صدمة شديدة ، تمثلت هذه الصدمة معها في موت زوجها وهروب أبنها الذي هو أخو محسن ، هنا بدأت تشعر بالجنون حقاً ، وبدأت شخصيتها الحقيقية بالظهور، كانت تتحدث كثيراً عن القتل والدماء ، أشياء من المفترض ألا تخطر ببال امرأة في الأربعينيات من عمرها ، فقط تخطر في بال سفاح محترف يتلذذ بالدماء ، ذاك الذي يعيش بمبدأ القتل من أجل القتل ولا شيء آخر

 كانت تتحدث عن الانتقام من أخيه الذي هرب وتركهما ، ظلت تقول : أنها ستقتله وما شابه ، عرف محسن هذا وأدرك أن والدته ليست بخير، أدرك أنه لن يستطيع أن يعيش معها أبداً ، لابد من أن تدرك هذا بعد أن تستيقظ من نومك في يوم من الأيام لتجدها واقفة تمسك بسكين وتنظر لك بحذر، هنا بالذات ستعرف أن الحياة معها مستحيلة ، وكان هذا هو ما لم يخبرهم به محسن و ما عرفوه من مذكراته بعد أن حصلوا علی مذكرة تفتيش البيت ، لم يرد محسن أن يخبرنا أن أمه كانت تمشي بامتياز نحو طريق الجنون ، فقط قال : أنه لم يكن ليقدر علی رعايتها ، تأكيد آخر علی أنه كان يحبها حقاً.

هربت من المصحة ليلاً وبحثت عن ابنها الآخر ، أخو محسن ، لم تبحث كثيراً في الواقع وجدته مرمياً في زقاق من أزقة المدينة بعد أن أفلس تماماً بسبب إدمانه ، يبدو أنها كانت تعرف أنه سيكون هناك بالفعل ، لديها سكين خبأته معها ، ثم وهكذا لا يستطيع الفتى مقاومة أمه بسبب أنه في حالة سيئة للغاية ، لم يتعاطی مخدراته منذ فترة ، تنهي العمل وتعود للمصحة وكأنها لم تفعل شيئاً ، وبالطبع لكي يكتمل الأمر لم يلحظ أحد غيابها طوال الساعتين التي خرجتهما ، وعلي ما يبدو فهي قد أحبت الأمر كثيراً ، رأت أن قتل الأحبة له طعم خاص بالفعل ، لكن محسن لم يزرها في اليوم التالي ، تتصل به وتعرف أنه في مقر الشرطة وسيخرج حينما ينتهي التحقيق معه ، لا بأس ستنتظره ، لن يطول التحقيق أبداً ، سيخرج حتماً وحينما يخرج سوف….

بالتفكير في الأمر لا بد من أن الأمر مثل صدمة حقيقية بالنسبة لمحسن ، هو بالطبع لم يتوقع أن تصل الأمور بينه وبين أمه لهذا الحد ، أعني تلك القضية بالكامل وما حولها ، إن هذا لا يحدث كل يوم.

بعد ذلك جاء دوري كي أعرف مدی حماقتي ، لقد نسيت حقيقة من أهم حقائق الجينات والأحماض النووية ، الحمض النووي للتوائم متطابق تماماً ، مما يعني أن توأم محسن المقتول في المرة الأولى يحمل نفس الحمض النووي لمحسن ، و لأن أخا محسن لا يملك سجلاً في قاعدتهم لأنه يُعد عاطلاً ومتشرداً وما إلی ذلك فالجهاز لم يظهر سوى سجل محسن نفسه ، فسر هذا لهم كل شيء ولي أيضاً ، لم أتوقع ذلك أبدا فمحسن لم يخبرنا أن أخيه هو توأمه ، ولكن أعتقد أنه لم يظن أن الأمر قد يكون مهماً ، وهكذا بكل بساطة طارت نظريتي عن الشخص الذي يتلاعب بقاعدة بيانات الشرطة ، لكن سؤالي الأهم كان.. لماذا مازلت حية إلی الأن ؟!

علی ما يبدو أن المحقق الذي جلبوه عرف بطريقة ما أن القاتل هي والدة محسن ، لكنه لم يعرف قط كيف سيثبت التهم عليها ، خصوصاً أنها لم تترك أي دليل في مسرحي الجريمة ، وعرف بطريقة ما أخرى أنها ستبحث عن شخص جديد لتقتله ، وكان حله أن يراقبها بنفسه ، هكذا ظل يراقبها مع شخص آخر في كل مرة تتسلل فيها من المصحة ، ثم لاحت له الفرصة حينما رآها تخدر تلك المرأة المريبة التي ظلت تحوم حول منزلها لفترة من الوقت ، بعدها جرتني نحو الزقاق المجاور للمنزل ، المكان المثالي لترتكب الجريمة بدون أن يراها أحد ، وهكذا يقفز هو والشخص الذي معه لينقذاني في اللحظة المناسبة ، التفاصيل الأخيرة لم أعرفها منهم بالطيع بل عرفتها من الشخص الذي كان مع القبعة السوداء نفسه ، صبري.. الشخص المناسب لكل شيء ، عرفت حينها لماذا لم يذهب للعمل؟  كان يساعد القبعة السوداء.

حينما أخبرني صبري بكل هذا عرفت لماذا اعتبروا أن ذلك المحقق هو الإجراءات القصوى.

أعني أنا قد سمعت كثيراً عن قتلة يترصدون الضحايا حتی يجدون الفرصة المناسبة للانقضاض عليهم وقتلهم ، لكن لم أسمع قط عن محقق يترصد المجرم كي يجد الفرصة المناسبة للانقضاض عليه والقبض عليه متلبساً ، بدا لي هذا مربكاً بعض الشيء ، وبالطبع بمرور الوقت الذي كنت أستوعب فيه كل هذا كان القبعة السوداء قد رحل بالفعل ، ثم تذكرت آخر ما خطر في بالي قبل أن أفقد وعيي ، كنت أفكر في أن ذلك الصوت ليس لرجل ، أنه لامرأة حتماً.

كانت قضية عجيبة أذهلتني لفترة من الوقت وحازت علی تفكيري ، كيف يمكن للأم التي من المفترض أن تحمي أولادها أن تقتلهم ؟! وتقتل ذاك الأبن الذي أحبها حقاً ، بالطبع توجد ، لكل قاعدة لها استثناءات ، لكن حتماً هذا الاستثناء هو الأكثر استثناءً.

لم تعرف الشرطة كيف سيتعامل الرأي العام مع هذه القضية ، لذا لم يكشفوا قط عن الحقيقة ، فقط قالوا : انهم قبضوا علی القاتل وأنه في سبيله للمحاكمة علی أفعاله ، الطريف أننا لم نعرف من هو الطرف الذي سيطلب العدالة ، لن يكون هناك أحد ليطالبهم صارخاً في المحكمة أن يقتصوا للقتلى ، لكن ربما أحد الذين شاهدوا بشاعة الجثث سيفعل .

تمت

تاريخ النشر : 2018-01-06

البراء

مصر - للتواصل: [email protected]
guest
40 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى