اساطير وخرافات

بجماليون .. أسطورة الحب الذي صنع الحياة

بقلم : اياد العطار

بجماليون .. أسطورة الحب الذي صنع الحياة

اسطورة بجمليون .. اوحت بالكثير من الاعمال الادبية والفنية ..

قبل قرون طويلة ، حينما كانت النفوس صافية وأحلام البشر بسيطة وساذجة ، عاش في قبرص نحات إغريقي يدعى بجماليون . كان بارعا في فنه إلى درجة أن التماثيل التي ينحتها تكاد تنبض بالحياة ، لكن رغم شهرة أزميله ورواج حرفته فأن بجماليون عاش وحيدا لم يتزوج قط . كان لديه نفور عميق ومتأصل من النساء ، ظن بأنهن مصدر جميع البلايا ، وأن البعد عنهن غنيمة لأنهن مخادعات عديمات الوفاء ، فعاش بمفرده لا يؤنس خلواته سوى طرقات أزميله الوفي .

من المؤكد أن نفور الإنسان من شيء يكون مبني على تجارب شخصية سلبية ، والأسطورة تخبرنا بأن كره بجماليون للنساء كان سببه احتكاكه بالعاهرات المحليات في مدينته .. ربما ظن بأن جميع النساء رخيصات على هذه الشاكلة ، وبأن جميعهن بلا وفاء ينتقلن من حضن لآخر مقابل المال ، ولهذا قرر أن يصنع نسخته الخاصة من المرأة ، نسخة نقية خالية من الشوائب والعيوب التي رآها في النساء الأخريات ، وهكذا أطلق العنان لأزميله ليخلق منحوتة لم يرى العالم مثيلا لها من حيث الروعة والجمال .

بجماليون أفرغ جميع ما جعبته من فن وحرفة على هذا التمثال الذي صنعه من العاج وأطلق عليه أسم جالاتيا ، وحين انتهى أخيرا من صنع تحفته الرائعة وقف يتأملها طويلا ، وكلما تأملها أكثر كلما أزداد إعجابه وافتتانه بها حتى أصيب أخيرا بالداء الذي طالما فر منه وحاول تجنبه .. أصبح عاشقا .. والمفارقة أنه عشق التمثال الذي صنعته يداه ! .

تعلق بجماليون بتمثال جالاتيا ازداد يوما بعد آخر ، أصبح يداعب وجهها بأصابعه ويقبل شفتيها ، يكسوها بالثياب الفاخرة ، يجلب لها الهدايا والأزهار ، يكلمها ويناجيها وتفيض عيناه بالدمع حين يفضي إليها بلواعج قلبه المغرم .. لقد ملئت جالاتيا عليه حياته وأصبحت الهواء الذي يتنفسه وصار العيش من دونها ضربا من ضروب المستحيل .

مسكين بجماليون … كم تمنى في خلواته أن تتحول جالاتيا إلى امرأة حقيقية .. كم تضرع للآلهة أن ترحم قلبه العاشق الولهان  فتبعث الحياة في هذا الجسد الصلد القاسي ..

ويبدو بأن بعض تلك التضرعات والابتهالات قد طرقت أسماع الآلهة فرقت لحاله وعملت على تحقيق رغباته .

في يوم الاحتفال بعيد ربة الحب افروديت (فينوس) ، حمل بجماليون قربانه إلى المعبد ورماه في النار المقدسة فشاهد ألسنة اللهب ترتفع عاليا ثلاث مرات ، كان ذلك دليلا على قبول قربانه وإشارة من السماء لأمر لم يدركه بجماليون على الفور .

في تلك الليلة عاد بجماليون إلى منزله وقام بتقبيل تمثال جالاتيا كما أعتاد أن يفعل لدى عودته إلى المنزل ، لكن هذه المرة أحس بشيء مختلف ، كانت شفتا جالاتيا أكثر طراوة ، وجسدها أكثر لينا وحرارة . لقد استجابت افروديت لتضرعات بجماليون فنفخت الحياة في جسد جالاتيا وغدا التمثال أخيرا امرأة حية من لحم ودم .

الأسطورة تنتهي بزواج بجماليون من جالاتيا . وبحسب الشاعر الروماني أوفيد الذي نقل لنا الأسطورة فأن جالاتيا أنجبت لبجماليون ولدا أطلق عليه أسم بافوس ، وهو أسم حملته لاحقا مدينة افروديت المقدسة في قبرص .

أسطورة بجماليون لها مغزى جميل ، فهي تخبرنا بأننا متى ما أحببنا شيئا من صميم قلبنا فأننا قادرون على أن نبعث فيه الحياة وأن نحوله لشيء عظيم . فالحب يصنع المعجزات ، ليس فقط الحب بين الرجل والمرأة ، بل حتى حبنا لدراستنا أو عملنا أو هوايتنا … كل ذلك يمكن أن ينتهي إلى نتيجة عظيمة متى ما أقترن بالصدق والتصميم .

أسطورة بجماليون الإغريقية تم تناولها من قبل أدباء معاصرين بصورة أكثر واقعية ومنطقية . فالكاتب الايرلندي الساخر جورج برنارد شو كتب مسرحيته الشهيرة "بجماليون" عام 1912 بوحي من الأسطورة الإغريقية . بطلة المسرحية هي فتاة فقيرة تبيع الزهور في الشارع تدعى إليزا ، يراهن أستاذ الأصوات هنري هيغنز على أنه قادر على تحويلها إلى سيدة مجتمع راقي من دون أن يلحظ أحد ذلك ، وبالفعل يقوم بتدريبها وتلقينها لعدة شهور ، بالنهاية ينجح في مهمته نجاحا باهرا ، لكن المسرحية لا تنتهي بسعادة كما الأسطورة ، فالأستاذ هيغنز (بجماليون) الذي حول إليزا (جالاتيا) من فتاة معدمة مغمورة إلى سيدة مجتمع راقي لا يتزوح في النهاية مما صنعت يداه ، بل تتمرد إليزا على تسلط وعنجهية الأستاذ فتتركه لتتزوج من شاب فقير مثلها .

الكاتب المصري الكبير توفيق الحكيم ألف أيضا مسرحية بعنوان "بجماليون" وقد كان في كتابته أكثر مقاربة والتزما بالأسطورة الإغريقية من مسرحية برنارد شو . مسرحية توفيق الحكيم تمضي بنا مع الأسطورة وصولا إلى استجابة الآلهة لتضرعات بجماليون ونفخها الحياة في جسد جالاتيا ، ما يحدث بعد ذلك هو أكثر تعقيدا مما قدمته لنا الأسطورة وأكثر واقعية ، فالحياة لا تمضي سعيدة على الدوام ، وعلاقات الحب مهما كانت قوية لابد أن يعتريها بعض الفتور بمرور الزمن وتساورها بعض الشكوك والظنون والمخاوف .. وهكذا نرى بأن بجماليون في المسرحية يرتاب في تصرفات زوجته الجميلة جالاتيا ويظن بأنها تخونه مع صديقه نارسيس ، فيطلب من الآلهة أن تعيدها إلى تمثال كما كانت ، لكن الآلهة تعمل على كشف براءتها ورأب الصدع بين الزوجين ، وبالرغم من ذلك يصر بجماليون على أن تعيدها الآلهة إلى هيئتها الأولى ، أي إلى تمثال ، والسبب هو أنه لم يعد يرى فيها الجمال البارع الذي خلقه أزميله ، لم تعد سوى امرأة عادية ، تمسك المكنسة وتطهو الطعام .

الآلهة تستجيب لطلب بجماليون فتعيد جالاتيا إلى تمثال ، لكن بجماليون لا يلبث أن يشتاق لزوجته فيتضرع للآلهة مجددا أن تحول جالاتايا إلى امرأة تنبض بالحياة ، لكن الآلهة ترفض هذه المرة ، وفي فورة من الغضب يقوم بجماليون بتحطيم التمثال ثم يموت من الحسرة عليه .

أظن أن العبرة أو المغزى في مسرحيتي كل من برنارد شو وتوفيق الحكيم هي أن الوصول إلى الكمال شيء مستحيل ، لا توجد امرأة كاملة مثلما لا توجد حياة مثالية لا تنغصها المصاعب والمتاعب .. السعادة الدائمة والحب الأبدي والمدينة الفاضلة لا وجود لها إلا في عقول الواهمين ، مجرد أساطير شأنها شأن أسطورة بجماليون الإغريقية .

المصادر :

The Myth of Pygmalion and Galatea
Pygmalion (play)
مسرحية “بغماليون” لتوفيق الحكيم

تاريخ النشر 14 / 12 /2014

guest
63 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى